عبد النور مزين
الحوار المتمدن-العدد: 1123 - 2005 / 2 / 28 - 08:53
المحور:
الادب والفن
لا أحد على وجه الدقة يعرف متى غادرت الكلمات فم اقليلع . مر وقت طويل قبل أن يلحظ الجميع انه لم يعد يتكلم . صار أخرسا تماما . لكن لا أحد يعرف متى حدث ذلك . كل ما يعرف عنه أنه قناص . لم يعرف أحد مهنة له غير ذلك . يلاحق الطيور المختلفة الأشكال والألوان على مدار السنة . خاصة عند فصل الشتاء . الكل كان يعرفه . يبدو كالمجنون في رحلاته عبر مرتفعات جبال الريف عندما تبدأ تباشير أسراب تلك الطيور الغريبة تلوح في الأفق, خلال رحلتها الشتوية إلى مواطن الدفء الاستوائية . كانت تأتي من الشمال وتتجه دوما إلى الجنوب .
كلما أقبل الشتاء , يخرج عندما يهدأ المطر وتبرز أشعة الشمس خجولة كسولة ومسالمة . يهب خارجا من البيت الريفي بالقرية ويتجه صوب المروج السفلية . كانت أسراب الطيور الغريبة تطوف بالبلدة محلقة في انحناء ثم تبتعد حتى تكاد تغيب عند الأفق الجنوبي . وكلما كانت تبتعد كان ينتابه ذلك الإحساس الحزين الموجع بأنها لن تعود أبدا .
××× ××× ×××
حطت اليمامة فوق غصن شجرة البلوط . كانت الشجرة تقع فوق النبع مباشرة . شاهقة وارفة الظلال تحت أشعة الشمس الكسولة . عند جذعها يتنفس النبع بخرير مسموع مترقرق , بمائه البلوري الزلال . جثمت اليمامة على الغصن مدة ليست بالقصيرة واقليلع يرقبها في حذر قبل أن يطلق عليها . كانت يمامة غريبة بعض الشيء . لم يسبق له أن رأى مثلها من قبل . لم يكن لها من اللون الرمادي إلا رتوشات(1) متموجة عند مؤخرة الجناحين وبداية ذيلها الرشيق . أما ناحية الصدر فقد كانت تشبه صدر عذراء عار إلا من ذلك الشريط الدائري الأرجواني اللون الذي يطوق عنقها كعقد من الماس في جيد غادة . كانت تنظر إليه تارة والى النبع الرقراق تارة أخرى. وجد اقليلع في نظراتها العجيبة شيئا لم يعهده أبدا من قبل في نظرات الطيور التي اصطادها , وحتى في نظرات النساء . نداء غريب , جنسي الطباع يدعو للجنون . كانت تنظر إليه وهي ترف بجفنيها كفتاة شاردة . كطفلة ترقب قطارا يمر في البعيد . صوب البندقية نحوها وهي لا تزال تنظر إليه في ثبات . ثم أطلق طلقة وثانية . هزتها الطلقة في عنف فتهاوت إلى النبع الزلال . رفت بجناحيها في الماء ثم خرجت . نظر إليها في ذهول . لم يحول بصره عنها طوال تلك المدة وهي تتحول . كان يرقبها كأنها في حلم وهي شاخصة فيه بنظراتها ذات النداء للتيه في الجنون . وتابعها اقليلع وهي تتحول من يمامة إلى غادة ساحرة الجمال بجدائل شعرها المنساب . عارية تماما إلا من عقدها الماسي الأرجواني اللون .ظلت أمامه عند النبع بجسمها المشع وهو يعتصر لذة . وأحس بالماء الساخن يتفجر بين فخذيه . ظل جامدا في مكانه والبندقية على كتفه وهو يحدق فيها كمن أصيب بالبلاهة . مدت ذراعيها نحوه وهي تقول له دون أن تتكلم :
ـ تعال..
وبدأ يقترب منها وهو يعتصر لذة تلو أخرى حتى كاد يغمى عليه . كانت لا تزال عارية أمامه في العراء . أنثى لم ير أجمل منها من قبل . وتعجب اقليلع كيف أنه يفهم ما يدور في ذهنها . يعلم ما تقوله دون أن تفتح فمها أو يسمع أي صوت . تتكلم صامتة .
ـ انتظرت تلك الطلقة خمسة آلاف عام . لقد تأخرت الطلقة كثيرا . وأخيرا أتت على يديك . شكرا لك , فتلذذ بي ما طابت لك اللذة . انك أهل لها أيها القناص الحبيب .
أراد اقليلع أن يقول شي~ا . فتش عن الكلمات فلم يجد شيئا , وعن لسانه . كان دودتا تتلوى ولا تعرف أين تسير . منذ ذلك اليوم بات اقليلع أخرسا . لم يتكلم بعد أبدا . ظل يبكي بصمت . يضحك بصمت . يتلذذ بصمت كظل صامت . وفكر في صمت :
ـ لم أكن أريد أن أطلق الرصاص .
من سمعه . لا أحد . لكن اليمامة كانت تسمعه .
××× ××× ×××
ليت يدي شلت قبل أن تطلق عليك . لكن نداءك أغراني . لم أكن أريد .. لم أكن أريد .
هكذا كان اقليلع يحدث نفسه تلك الليلة حين أحس بوجودها داخل الغرفة . في بداية الأمر انتفض واقفا كمن يتأهب لمعركة حاسمة . لكن حضورها القوي هذه الليلة لم يكن إلا حضورا ذهنيا كالمرات السابقة . يحس صوتها وهي بعيدة لا يدري في أي الأصقاع هي . لم يعد في السنوات الأخيرة يهتم كثيرا أين توجد . كل ما كان يهمه أن تنتهي من مهمتها في أسرع وقت ممكن وتعود إليه لتخلصه . يريد أن يموت كما كل الناس تموت . ها قد مرت ثلاثون سنة على طلقته عند النبع , وكل من بلغ سن الموت مات إلا هو . لا زال حيا كصورة في إطار . حتى الصور يعلوها الاصفرار مع الزمن . أما اقليلع فقد ظل على صورته السابقة وكأن ريشة الزمن ضاعت دون أن تضيف أي خط على وجهه أو يديه , أي بياض على شعره , أي ارتعاش في يديه أو انحناء في ظهره . الشيء الوحيد الذي يؤنسه في وحدته هو إحساسه بالكبر. كان يجد نفسه هرما , شيخا طاعنا في السن . كل شيء يتلاشى في داخله كبراز يابس يتهاوى إلى قعر بركة . وحده هذا الإحساس كان يدني لون الموت منه . فكر أن يصيح في صوتها غاضبا لكنها سبقته :
ـ لا ترهق نفسك , لن يسمعك أحد .
فعاد يعاتبها :
ـ تعبت وأريد أن أرتاح ..
ـ وهل الموت راحة ؟
ـ عندما تزيد الحياة عن حدها يصير الموت راحة . لقد انتظرت طويلا .
وجاء صوته ضاحكا :
ـ طويلا .. وإذا أقول أنا عن خمسة آلاف عام وأنا أنتظر طلقتك .
ـ ليس ذنبي .. أريد أن أموت .
ـ لن تموت قبل أن أعثر على حبيبي .
ـ ومتى تجدين حبيبك ؟
ـ ما أدراني .. ربما غدا أو ربما بعد ألف عام .
ـ وأنا ؟
ـ تنتظر . ليس ذنبي إذا انعدم الحب عندكم .
ـ ولا هو ذنبي أنا . ليت يدي شلت قبل أن أطلق عليك .
ـ لقد تأخرت طلقتك , ورغم ذلك كافأتك . تلذذ بي ما طاب لك ذلك . أتريد المزيد ؟
ـ لم تعد لي رغبة في العذاب .
ـ وهل اللذة عذاب يا جاحد ..
ـ إنني هرم , لم أعد شابا .
ـ شيء بسيط , أعيد لك الرغبة والشباب .
ـ أريد أن أموت .. أين أنت ؟
و أجابت في دلال :
ـ هل تريدني حقا ؟
وعاد اقليلع ينشج :
ـ أريد أن أموت .. أريد أن أموت ..
وسط تشنجه أحس بصوتها يتلاشى , يصير ضعيفا كهمس خافت بعد أن ردت :
ـ من منا لقي ما يريد . اني في المدينة . نادني إذا اشتقت الي . تعرفني الآن جيدا , وحدي .. وحدي التي تستطيع أن تسمعك .
رحلت من جديد ورحل معها حلمه بالموت .
عاد اقليلع يعاتب نفسه وهو ينتحب . كيف لم يستطع أن يطلق عليها ثانية عندما زارته للمرة الأولى بعد رحيلها . ليته أطلق عليها ذلك اليوم . لن يغفر لنفسه ذلك الضعف أبدا . جاءته تلك الليلة دون أدنى إشارة مسبقة . كان بالخارج ينتظر . لم يعرف بالتحديد ماذا كان ينتظر . طلوع القمر أم ذاك الذي لا يأتي . وعندما دفع الباب ودخل البيت الترابي وجدها هناك . كانت عارية تماما . تجلس على حافة المضجع وهي تنظر إلى الجدار المقابل . ظل برهة يتملى جسمها المرمري بجدائل شعرها المنساب على ظهرها حتى الخصر , حيث يبدأ الحوض بالاتساع . كان جسمها يشع . يلقي باتجاهه شحنا مكهربة تهز كيانه بعنف . أحس للحظة أن المصباح يرتعش في يده . وفكر فجأة أنه ينخدع ثانية . نظر إلى يمينه حيث البندقية معلقة على الجدار . وما أن مد يده نحوها حتى بادرته :
ـ ما أقساك .. أتريد أن تستقبلني بالرصاص وأنا التي جئتك عارية مسالمة ..؟
وقفت واستدارت قبالته . زادت الشحن المكهربة قوة . وبدت البندقية بعيدة المنال كضبية في المنحدر . توقف عن التفكير وبدأ ينظر إليها كما ينظر تمثال إلى غادة تستحم في الغدير عند قدميه .
ـ تمت ــ
عبد النور مزين
#عبد_النور_مزين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟