|
مَن يلتقي مع مَن ولماذا ؟
رضا السمين
الحوار المتمدن-العدد: 3858 - 2012 / 9 / 22 - 13:36
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لابدّ أوّلا من الخروج من وَهْم أو أكذوبة أنّ بلادنا منقسمة سياسيا إلى طرفين، ترويكا ومعارضة أو إسلاميين وحداثيين، فهذا التقسيم هو ذرّ للرماد في العيون، لأنّ نظرة لأوضاع الناس في الواقع تدلّنا على كثير من التمايز والانفصال أكبر من ذلك بكثير سواء بين الفقراء والكادحين من عمال وفلاحين من جهة وبين البرجوازيين وسماسرة الرأسمال الأجنبي من جهة أخرى، بين الأرياف الحزينة وأحياء المهمشين والمحقورين في المدن من جهة وفي الجهة الأخرى السواحل والأحياء الراقية، بين خطّ الشاكرين لله على خلقه لنا وعلى نعمه الظاهرة والباطنة وبين خطّ الجاحدين الذين يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا، بين الشباب الذي يحب الحياة والاكتشاف وبين العجّز وشيوخ ليس في الإمكان أحسن مما هو كائن، بين الذين يطمحون إلى مجتمع حرّ وعادل ومختلف عن هوامات الخليج وعن الغرب في نفس الوقت وبين التُبّع الذين يستكينون في حياة خاضعة لسلف آل سعود أو فرنسا، بين الذين لا يملكون مالا ولا معرفة ولا حتى حاسوب وبين الذين يملكون الرأسمال المادي أو المعرفي أو "علاقات" في الداخل أو في الخارج، بين النساء والذكور أو بين الكادحات والمُترَفات أو بين المتمرّدات والخانعات، بين المجتهدين في الاقتصاد أو الفكر وبين الكسالى والحمقى، بين الذين لا يملكون عملا ولا بيتا ولا زوجا وبين من يملكون وظيفة وسكنا وعائلة، بين المجتمع ككلّ وبين الدساترة ومَن على شاكلتهم، بين متوسّطي الحال أو ما دون ذلك وبين عصابات نهب المال العام، بين ثقافة العمل والجهد وبين ثقافة التحايل والطرق السهلة، بين أصحاب العيون والعقول المفتوحة على العالمين وبين باعة الخوف و"اللي تعرفو خير مللي متعرفوش" و"شدّ مشومك لا يجيك ما أشوم منو"، بين الذين يريدون الحياة في مجتمع قويّ وبين الذين لا يرون الخلاص إلاّ في الهروب الفردي أو الأيديولوجي، بين الناس وبين الحكام الفعليين أو الذين ينتظرون، بين أنصار العدل وبين أتباع الظلم، بين التواقين للحرية وبين الخانعين في الأغلال... كلّ هذه التناقضات والخطوط الفاصلة وغيرها قد تلتقي وقد لا تلتقي، والواحد قد يكون في صف العدل في جهة وفي تمايز آخر في صف الظلم، أو قد يكون في جهة المحرومين في تقابل ما وفي صفّ المنتفعين في تقابل آخر، ومن الناس من هم في صف المظلومين أو الحق أيّا كان خطّ التمايز وهناك فئة من المفسدين في جهة الظلم أيا كان خط التماس، وهناك من لا يستقر به الحال بين جهة وأخرى... فالواجب الأوّل هو البدء بسؤال مَن أنا وأين موقعي وعن أيّة مصالح أدافع في جغرافية التناقضات المتعددة والصراعات ؟ الوضوح والصدق في الإجابة يجب أن يسبق عمليات البحث عن قوّة أو جبهة سياسية تختلف في نفس الوقت عن الإخوان، وعن الفلول الملثمين، وعن السلفيين الخليجيين أو الفرنكفونيين، وعن يسار المنازه وكُرّاسات شرح الشروح، وعن الليبراليين الجدد... نرى هنا خمسة مسائل تحدد من نحن وماذا نريد، من حيث الرؤية والمصالح : 1ـ ثقافة الكفاءة والرحمة وما ينفع الناس 2ـ الأيادي المنتجة والإقتصاد التعاوني الأخضر 3ـ العدل السياسي والعدل الإجتماعي والعدل القضائي والعدل بين المرأة والرجل 4ـ الوحي والعقل والإنسان الكامل 5ـ اللاسلطوية
1ـ ثقافة الكفاءة والرحمة وما ينفع الناس. نريد بناء ثقافة سياسية تمكّن دائما الجماعات الصغيرة أو الفرد من أن يخرج للشارع ويجهر بالقول أنه يرى الملك عاريا، أو يأتي من أقصى المدينة يسعى ليقول يا قوم اتقوا الله، أو يخرج على الناس ليصدم ما آمنوا به اتباعا لتقاليد أعْمَت قلوبهم، أو يخرج لمعركة يدرك أنه قد يُقتل فيها لكن يقول "هيهات منّا الذلة"... ونريد التفكير الإنساني في محيط العالمين والفعل على المستوى المحلي. نعيش اليوم مشروعية الثورة وليس مشروعية "قوانين" فالأولوية يجب أن تكون للحسّ السياسي بمشاكل المجتمع ويدور جلّها حول الكرامة والخبز والحرية وليس المشاحنات الأيديولوجية أو الهوس المرضي بالإسلام، مع العلم أنّ المرحلة الانتقالية هي صعبة ومشوّشة وهذا طبيعي، وفي الأزمات نرى الصدور تضيق ويصيب الكثير منا الهوس بنظرية المؤامرة فنحرم أنفسنا من فرصة تاريخية بعد الثورة، فرصة الاعتراف بالأخطاء ونقد الذات والتعلم من التجارب، لبناء مجتمع حديث وقويّ يشعر فيه الإنسان بالارتياح إلى وجوده في بلاد تحترمه وله فيها حقوق وعليه واجبات. إنّ الجبال تتكون من الحصى، والأنهار من قطرات الماء، والشعوب الحرة من أفراد أحرار. نؤمن بأنّ الطريقة المثلى لبناء وطن للجميع هي سيادة القانون وتفعيل دور المؤسسات القائمة واستحداث مؤسسات علمية لسياسة التنمية، وردّ الاعتبار للعمل كقيمة أساسية وتأصيل قيم الحرية والكرامة والعدل، وأنّ الشعب مصدر جميع السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام، ويتضمن ذلك حق الشعب في أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانين التي تحقق مصالحه، وأنّ المواطنة هي أساس العلاقة بين أفراد الشعب، والمساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الأهلية السياسية، وتأكيد حرية الاعتقاد واحترام الكرامة الإنسانية وجميع حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحق التداول السلمي للسلطة عبر الانتخاب والتعددية السياسية والتأكيد على احترام حرية الصحافة والإعلام، وحرية الرأي والتعبير عنه والدعوة إليه وحرية تدفق المعلومات... والحق في تشكيل الأحزاب السياسية عبر الإخطار والإعلان العام فقط، وتفعيل المؤسسات من اتحادات ونقابات وجمعيات ونوادٍ وغيرها بما يرسخ التوازن في علاقة الدولة بالمجتمع، وتجريم الاعتقال السياسي وحظر حبس أصحاب الرأي وكلّ الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان، ومعاقبة من يثبت اعتدائه على تلك الحريات وتحقيق استقلال القضاء استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية، وتكريس حياد الإدارة بالضمانات القانونية للعاملين بها بموجب القواعد المحررة في شأن مدة خدمتهم وترقياتهم وتكليفهم بالمهام الوظيفية. الخطر الذي يتهددنا يأتي من إحتمال سيطرة أقلية فاسدة من السماسرة، المرتبطة ارتباطا قويا بمصالح أجنبية معادية للمجتمع الأهلي كلّه، على السلطة، هذه الأقلية، بعد إضعاف الجميع بالفتنة، ستتفرّغ لنهب الثروات العامة والقسمة مع الشركات متعددة الجنسية، والتحطيم التدريجي وبلا رحمة لكل البنية الاجتماعية، ولإبقاء المجتمع الأهلي على حافة الفقر والخوف والتعطيل تحت مطارق الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتلاحقة... إنّ أعظم الخيانة هي خيانة المجتمع الأهلي في حرّياته أو سلطاته السياسية أو أمواله أو أعراضه، ونحن نرفض الإكتفاء بالديمقراطية الشكلية والتي ليست في الحقيقة سوى ادعاء برجوازي مزيّف سواء كان مخبأ وراء تبجّح ثوري ! أو تحت خَطابة دينية ! أو خلف قناع العلمانية وشكلانية القانون ! خصومنا هم أقلّية مركّبة تجمعها الحماسة المافيوزية والخوف من الحرية والوصاية باسم الثورة أو الأمّة أو الحداثة، والرغبة في الجلوس على كراسي السلطة، وغياب الإنسان والقرآن ومصالح المجتمع الأهلي العليا. أقلية سِمتها الاستعراض والانتهازية وتضخم الأنا الحزبية وادعاء الثورية، والاستهتار بالآخرين وحياتهم، بل الدموية والرغبة في إبادة الخصم... حتى حديثهم عن الخصم السياسي سمعناه بمفردات "أعداء الشعب وأعداء الوطن... عدوّ... عدوّ..." ولا نرى شعاراتهم إلاّ مشاريع فاشلة ومغامرات عبثية، ناهيك عن السرقة والفساد، وللشعب مزيدا من نقمة التخلف والتهميش والتراجع. نسعى للخروج من تنازع أهل السياسة الذي ينتج الغلّ والضغائن، وتشجيع التفاهم على قواعد لإدارة الخلاف تساهم في رقيّ جميع الأطراف، وبناء تنمية جدلية بين المثالي والواقعي، بين اليسار واليمين، بين النخبة والمجتمع الأهلي... بالرغم من أن كثيرا من الناس لا يحبّون الناصحين. "إنّ القلاع تؤخذ من داخلها" وكذلك تُسرَق الثورات... ومن المهمّ معرفة أنّ الصراعات الأفقية في الديمقراطية، حول البرامج والحلول للمشاكل، هي وحدها التي توفّر الشروط الضرورية للتقدّم الاجتماعي. إنّ المصلحة الإستراتيجية ودروس الماضي القريب يتطلبان عدم الرجوع لارتكاب نفس الأخطاء القاتلة عندما دخلت المجموعات القومية أو اليسارية أو الليبرالية في معارك متشنجة ودموية مع الحركات الإسلامية والتي أدّت إلى تغوّل السرّاق وقهر مجتمعاتنا بالفساد والاستبداد والتبعية. التعالي على الشارع آفة السياسيين، والانجراف وراءه دون عقلنته هو طبع الانتهازيين، وبينهما مساحة واسعة مفتقدة لتيار فاعل ايجابي يقدم البدائل. التمرّد كامن في شعبنا نتيجة إحساسه التاريخي بالعدل وبالكرامة وكرهه للشرّ، ولكن هذا التمرد الكامن أو المتفجّر عفويا بين الحين والآخر يحتاج إلى قيادة سياسية منبثقة من المجتمع الأهلي تكون عالمة وذكيّة ومتديّنة ومخلصة وصاحبة كاريزما... قيادة قادرة على هضم واستيعاب الحس الشعبي بآلامه وآماله، وترجمته بشكل منطقي ومنتظم إلى قوة فكرية تساهم في تحويله إلى هوية جماعية مبنية، جدلية أقوال وأفعال بين المجتمع الأهلي وقياداته، تساهم في بناء ديمقراطية المشاركة والتعاون والرحمة، والمحاسبة على الفعل ونتائجه، والتحالفات الواسعة... وكما أشار أحد الحكماء فالسذاجة الطفيلية بعينها هي أن تجعل من قلّة صبرك الشخصي وتسرّعك حجّة نظرية... ما سيحدد مستقبل شعبنا ليس الهدف السياسي العام فقط والذي تشترك غالبية الأحزاب حتى في مفرداته وعناوينه، بقدر ما هو شكل وطريقة الفعل وكيفية العمل على التغيير حسب متطلبات المرحلة التاريخية وقدرات الواقع. إرادة تغيير الوقائع الاجتماعية والاقتصادية، والقدرة على "اتخاذ موقف" في الصراع الاجتماعي وليس فقط فيما يخص القضايا النبيلة والعامة حول الحرية، أو الصياغة الفضفاضة القائلة بتدخل الدولة والقطاع الخاص في نفس الوقت، وكأنّ ذلك يعفي من التفكير ومن الخروج من المنابر والمقاهي للفعل الميداني مع الناس وللقراءة والبحث عن حلول علمية، أو إراحة الضمير بشعارات "التنمية المستدامة" دون تفحّص التناقضات الكبيرة بين الركائز الثلاثة لهذه التنمية أي الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. الخطر لا يكمن في القوى الإسلامية أو العلمانية بل في غياب بدائل سياسية واضحة في القطاعات المختلفة، والأخطر هو فقدان الرؤية وتحديد الأولويات. نريد ثقافة اجتماعية تكرّس التزام الفرد بالقيم المدنية من احترام للملكية العامة، وإتقان في العمل، وشفافية في التعامل مع مقومات القوة والسلطة والنفوذ، وتقبّل الاختلاف والتسامح مع الأفكار المتنوعة، والشرف في الخصومة، وتقديم المصلحة العامة على الحسابات الضيقة، والصدق في القول والأمانة في التعامل والدقة في الأداء، والرجولة والمروءة في الموقف، والتعفف عن الفواحش، وعدم السكوت عن ملفات العنف الاجتماعي وكارثة أطفال الشوارع وفساد مشهد التعليم. البطالة تتهدد المزيد والمزيد من الشباب فإذا لم نصنع ثورة اقتصادية بعد الثورة السياسية، وإذا لم ننجح في تمدين النقاش والفعل لدى مختلف مكوّنات المجتمع السياسي والخروج من الحلقة القاتلة لمصطلحات العدوّ والمؤامرة، سنعاني جميعنا فجيعة تعطيل الاقتصاد، وزيادة الهوة والفوارق الاجتماعية، وعدم الثقة في المؤسسات... وهذه مجتمعة عوامل انفجار اجتماعي كبير قد لا يبقي على شيء، فالحذر كل الحذر من الخطأ الإستراتيجي في تحديد أولويات المرحلة والأهمية القصوى لعامل الزمن في تعيين الأهداف، وضرورة مواجهة الذين يريدون بدعاوى برّاقة أن يحيدوا بالثورة عن مقاصدها التي خرج الشعب من أجل تحقيقها أو الاستشهاد...
2ـ الأيادي المنتجة والإقتصاد التعاوني الأخضر كلّما وأينما وقع الخضوع لنصائح الليبرالية الجديدة والشركات المتعددة الجنسية وبنوك الرأسمال العالمي، زاد عدد الفقراء إلى الضعفين في عشر سنوات ودون أيّ استثناء... وخسر الشعب معارك الغذاء أو الماء أو الطاقة زائد فقدان الكرامة، ولم تحقق الشعوب التي حوصرت في مختبرات الرأسمالية أيّا من أهدافها في الحصول على استحقاقاتها في : العمل، الأرض، السكن، التغذية، العلاج والصحة، تعميم التعليم وكفاءته، الحريات والديمقراطية والاستقلال، العدالة الاجتماعية والحق في السلم والأمان. نرى في بلادنا اليوم ضعف القطاعات الإنتاجية، التفاوت الحاد بين المدينة والريف وبين الجهات، تصحّر الأرياف وترييف المدن، الفساد الإداري المعمّم، الدعارة كظاهرة اجتماعية تتوسع بشكل مهول، ضعف وفقر العلاقات الاقتصادية والاجتماعية الأفقية مع البلاد العربية والإسلامية ومع بلاد الجنوب، اقتصاد الربح السريع، الخضوع للبنك الدولي والاستثمار السياحي، الخلل في النظام الاقتصادي العالمي ونتائجه الكارثية على اقتصادياتنا الضعيفة أو"المفقّرة"، ضعف القطاع الخاص لإرتباطه بالربح السريع والاستهلاك، ضعف القدرة على تحديث الاقتصاد الذي يمكّن من الدخول في اقتصاديات المعرفة المتقدّمة، ضعف الإصلاحات التنظيمية سواء في الاستثمار أو في التعليم. إنّ الدولة الاقتصادية الناجحة هي الدولة السياسية الناجحة، الدولة التي عندها القدرة على اتخاذ القرار، وتبنّي خيارات اقتصادية علمية والسّير فيها، وليس الدولة ـ المسخ التي كل همّها الاستهلاك وأمن النظام المباشر وجلب الإستثمار لتهريب الأموال ! نطالب بالمِلكية الوطنية العامة لمصادر الثروات الإستراتيجية، برامج قوية للتعاون والبناء الاجتماعي، إعادة إصلاح وتوزيع الأراضي الزراعية، تنمية الإدارة الجماعية المحلية، تأميم البنوك الكبرى، مع تحمّل تبعات هذه الإختيارات والوعي المسبق بتحديات هذا الطريق لأن خاصّة النهب وحلفائهم لن يتركوا ما نهبوه مجانا أو بدون صراع. نسعى لإفهام الجميع وبخاصة أقلية الامتيازات أنّ طريق العدالة والتنمية بعد الثورة لا رجعة عنه وأنّه لا صفقات على حساب المجتمع الأهلي ومصالحه العليا، وعدم التغافل، حسب تجارب كثير من الشعوب، أنّه كلما قامت قيادة اجتماعية وسياسية بالتقدم نحو مصالح الناس العليا كان هناك دائما شبح انقلاب عسكري وإعلامي في الأفق... مع مخاطر تعطيل الحياة وإثارة النزعات الانقسامية. نطالب بسياسة ذكية وعادلة ومفهومة مع الأرياف، تعميم الرعاية الطبية كحق عام وشامل لكل الفئات، التشجيع على الانضمام للنقابات ومجالس الأحياء والمشاركة في نشاطها، كأفضل طريقة للتعاون من أجل العدل الاجتماعي ولتنظيم الشعب لنفسه، حملة ثورية للقضاء نهائيا على شبه الأمّية، مجانية التعليم للكافة وبرنامج "وجبة غذاء لكل تلميذ" للقضاء على جوع الأطفال وسوء التغذية بتوزيعها في كل المدارس، ولتحقيق الأمن والأمان الغذائيين لا بدّ من استصلاح الأراضي وتوزيعها على الفلاحين وتنفيذ سياسة حكيمة للقروض لفائدة صغار المستثمرين في الزراعة، وخاصة لأمهات العائلات القروية، قروضا ميسّرة ودورات قصيرة للتكوين ومواشي ودواجن وحبوب حتى يكنّ مستقِلات ومنتِجات، ولتشجيع المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة. (أنظر على سبيل المثال، برنامج "صفر رِبا"« Usure zéro » في نيكاراغوا بعد سنة 2007 يموّل 45 % من النيكارغويين العاملين لحسابهم الخاص. صحيح أن البنوك والأوليغارشيا المرتبطة بالسفارات اعتبرت هذا الأمر حربا عليها ولكن في المقابل التجار الصغار وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة في الصناعة والفلاحة اعتبروا هذا البرنامج مكسبا اجتماعيا هاما.) نطالب بتشجيع دينامكية السوق المغاربية بكل الطرق الممكنة (وعلاقات جنوب – جنوب بعامة) فهي مسألة حيوية للاقتصاد وللأمن الاجتماعي، بالعمل مثلا على استحداث برنامج لتبادل السلع والمنتجات دون توسّط العملات الصعبة والنقود مما يوفر أرباحا هائلة للجميع (وليس الأمر بدعة بل هناك أمثلة ناجحة كثيرة في العالم وأحدها هو برنامج ALBA في أمريكا اللاتينية حيث يقع تبادل اللوبيا واللحم والبقر النيكارغوي مثلا مقابل النفط الفينيزويلي أو تمويل الأطباء الكوبيين لمعالجة مجانية لآلاف المرضى بتجهيزات حديثة من فينيزويلا... وقد نجحت هذه التجارب برغم الحرب الإعلامية عليها، ومعروف من يقومون بتمويل تلك الحملات ولمصلحة مَن...) هل يمكننا بناء عالم آخر ؟ إنّ خيار الرأسمالية المجرم يتهاوى أو يتشقق في جميع أنحاء العالم، أمام نضال كل المقهورين ومقاومة النساء ومحاولة تطوير شروط عملهنّ والحركات العمالية والمزارعين ونشطاء التحرر الوطني والثقافي. النظام الرأسمالي ظالم ضدّ البشر ويُفسد الطبيعة، يُعمّق الفوارق الاجتماعية الفاحشة، ينتج كوارث متلاحقة في البيئة وعلى رؤوس الفقراء، يحدث اضطرابات خطيرة في المناخ ويستبيح تنوع الحياة بإبادة أنواع كثيرة من الحيوانات والنباتات إلى الأبد، يفتعل حروبا من أجل السيطرة على النفط وقريبا من أجل السيطرة على الماء، فقد أصبح الماء العذب ثروة تقِلّ يوما بعد يوم بشكل خطير ومتواصل نتيجة تحويل وجهة الأنهار والاستهلاك المهول للمياه في غير الأساسيات، والرأسمالية تزيد يوما بعد يوم الفوارق الفاحشة بين الشمال والجنوب وبين حفنة من الأغنياء وملايين الفقراء في كل بلاد، وتنتهك بشكل خطير مقومات الحياة : الهواء والماء والشجر، وتتسبب في انتشار الأوبئة كأنفلونزا الطيور والخنازير... والقادم أخطر، والاحتباس الحراري والغازات السامة، وتخرب التوازن البيئي وتهدّد تنوّع الحياة. إنّ مواجهة "طوفان" الفقر والظلم والمرض، فريضة لازمة على كلّ مواطن ومواطنة بتنظيم جهدهم وكفاءاتهم، والتدرّب على الدّفاع المدني للكافّة، حتّى يكون كلّ فرد رجلا أو امرأة مؤهّلا ومستعدّا، إذا ما جابهتنا كارثة جديدة سواء بيئية أو اقتصادية، عدوانا أو وباءا... والوعي اللاّزم بأنّ هذا التّأهيل ليس نافلة بل واجب، جهاد حقيقي لا "حديث النّفس". بلادنا ليست معزولة عن بقية الكوكب، فالتنمية الرأسمالية في العالم وقعت على حساب "رأسمال الطبيعة" دون أن تأخذ بالاعتبار إمكانات الطبيعة وقدراتها، هذا إضافة إلى أنها لم تأخذ في حسابها "الرأسمال البشري" الواسع وحاجياته في بلاد الجنوب بخاصة والكادحين بعامة. الليبرالية المتوحشة وقوة النار الإشهارية الرهيبة التي توظفها عملت على تعميم أن الاستغلال للثروات واستهلاكها اللا محدود هو القاعدة، دون حساب محدودية الطبيعة وتزايد أعداد البشر والمشاكل الكبيرة حول مقومات الحياة نفسها مثل ندرة الماء الصالح للشرب وتخريب الغابات والشجر وتلويث الهواء وإفراغ الأنهار والمحيطات والقضاء على التوازن الحيوي فيها... ولن ينقذنا وهم التكنولوجيا كما بيّنت كل الدراسات العلمية (التكنولوجيا تخضع لعدة قوانين واضحة 1ـ المنظومة التقنية لا يمكن أن تخلق المادة أو تنتجها، 2ـ المنظومة التقنية لا تخلق الطاقة، 3ـ المنظومة التقنية لا يمكن أن تغير قوانين الهندسة الكونية...) والرأسمالية لا تدفع شيئا مقابل الماء، توازن الطقس، البحار الضرورية للحياة، تفاعل أشعة الضوء، عمل النحل... ! مشاكل محدودية الأرض والطاقة والخيرات والتي لا ينفع معها الطريق الرأسمالي أبدا، هذه المشاكل صارت اليوم، لأول مرة في التاريخ، خطيرة جدا وملحّة وتهمّ كل الناس أينما كانوا. نحن ندرك أن العلاقات الدولية في واقعها تبتعد كثيرا عن المبادئ والقيم التي تكفل التعاون والسلام والحرية لجميع الأمم والشعوب، ومن ثم فالتحدي الحقيقي هو التفاعل الناجح في الساحة الدولية بواقعية ومن منطلق قيمي في نفس الوقت، والواقعية تقتضى الكفاح من أجل حماية المصالح العليا للوطن في ظل الظروف الدولية أيا كانت طبيعتها وبغض النظر عن الموقف منها، ولا يعنى بالضرورة الاستسلام للواقع الدولي بكل آفاته، فالواقعية التي تسعى لتحقيق المنفعة الوطنية تعنى أيضا امتلاك روح المبادرة والتفكير في السبل التي يمكن من خلالها العمل مع دول وشعوب أخرى من أجل تغيير واقع دولي ظالم يضر بها كما يضر بنا، فلا يجوز مصادرة حق الشعوب في أن تحلم بواقع دولي أفضل. أمان الوطن وأمنه، يقتضي أوّلا رفض هيمنة القوى الأجنبية على صناعة القرار السياسي، والهيمنة الاقتصادية بأشكالها المختلفة فضلا عن الاستحمار الثقافي، ومن هنا نتبنى تعريفا للأمن الوطني يتضمن العمل على حماية بلادنا من كل ما يهدد استقلالها سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، وإدراكنا أن سبل مواجهة التهديدات ليست كلها واحدة، فقد يتطلّب بعضها تعبئة شاملة للمجتمع، ويتعيّن في حالات أخرى اتخاذ خطوات متعددة وصغيرة في إطار برنامج طويل الأمد، وتأتي الشراكة مع المغرب العربي والإسلامي في قمة أولويات الأمن الوطني على الإطلاق فهو العمق الاستراتيجي لبلادنا، ومن هنا الضرورة القصوى لبناء الثقة المتبادلة وإغنائها المتواصل بالمشاريع العملية والثقافية والاقتصادية، كذلك الأمر بالنسبة للمسألة الفلسطينية فهي بالنسبة لنا قضية محورية لأمننا الوطني، ونجهر هنا بتأييدنا الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين في العودة لديارهم، كما نؤكد على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل كحق ثابت لأي شعب في مواجهة الاحتلال، ونؤمن بأنّ الجنس البشري كله أبناء آدم وحوّاء وهذا معنى السلام الحق. مسيرة العولمة تسير بأربعة محرّكات: النفط، وأمن المفسدين، وتدفق الأموال، واستغلال العمال. والإمبراطورية المهيمنة على كوكبنا حاليا تحكمها "مؤسسة دائمة" هي التي تقوم بانتقاء أعضاء المؤسسة المؤقتة المنتخبة (تضع لها البرامج الاقتصادية والسياسية وتقدم لها المال لحملاتها الانتخابية، ولحروب المصادر) وهي التي تساند المفسدين في البلاد التابعة.. وأهدافها الكبرى هي خدمة المال وشركاته وفتح الأسواق في أرجاء العالم كافة بتطويع قوانين الدول والشعوب لمتطلبات تلك الشركات العابرة للقارات باسم العولمة، وعدم السماح بقيام أي مجتمع يمكن أن يمثل نموذجا ناجحا يتنافس مع النظام الرأسمالي (والذي تزعم نخبهم المسيطرة بأنه النظام العالمي الصالح لكل الدول والأفراد وفي كلّ مكان). السيطرة الامبريالية تتجسد في القوة العسكرية (تدمير المدن بالقصف الجوّي)، والدولار المحمول على بحر من النفط، وشركات التسويق العابرة للقارات (هوليوود وأخواتها ومنظمات "العمل الإنساني") والشركات متعدّدة الجنسية... وفي المواجهة التاريخية مِن واجبنا جميعا تفعيل كتلة تاريخية مسلمة تضم بين جنباتها تيارات وتنويعات سياسية وفكرية مختلفة تلتقي جميعها في العمل على إعادة بناء مجتمع عادل وهندسة الحضارة... مَنْ ذا الذي يفكّ قيدا أو يداوي جرحا أو يكشف غامضا أو يتكفّل يتيما أو يفتح طريقا أو يشقّ نفقا ؟ والبصيرة هي وضوح "ماذا تُواجه ومَنْ وكيف ومتى".
3ـ العدل السياسي والعدل الإجتماعي والعدل القضائي والعدل بين المرأة والرجل. كيف نقيم العدل في عالمنا وعلى أرضنا ؟ الأساس الصحيح هو العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل القضائي والعدل بين الرجل والمرأة. العولمة الاقتصادية الجاري صنعها من جانب القوى الكبرى هي عولمة غير عادلة، فهي تنحاز للمشروعات العملاقة والنخب على حساب صغار المنتجين والشعوب في الشمال والجنوب، وتزيد باستمرار الهوّة بين الأغنياء والفقراء. نحن مع الاتجاه الذي يعمل على فرض قيود تتعلق بضمانات حقوق العمال وصغار التجار والمنتجين وحماية البيئة. العولمة الجارية تروج لفكرة الإصلاح الاقتصادي الموجه نحو التصدير وفق تقسيم الشركات العالمية، وهو توجه إذا لم يتم ضبطه يؤدى لمزيد من الإفقار، فنحن وإن كنا مع فتح أبواب الإنتاج والتصدير إلا أننا نؤمن بأن على الدولة أن تحدث من خلال الحوافز والإعفاءات التوازن الدقيق بين إدارة العجلة الاقتصادية بهدف التصدير وبين الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطنين وخصوصا ما يتعلق منها بالإنتاج الغذائي والعلمي. النمو الاقتصادي الحقيقي يقوم على تحقيق توازن في النمو بين قطاعات الاقتصاد المختلفة كالزراعة والصناعة والبناء والخدمات، لأن هذا التوازن هو الذي يخلق قوة الاقتصاد الوطني، ومن ثم نعطي أولوية كبرى لعلاج الخلل في قطاعي الصناعة والزراعة، فقطاعا العقارات والخدمات على أهميتهما لا يمكنهما وحدهما النهوض بالاقتصاد ونرى ضرورة إعطاء أهمية خاصة لقطاع الزراعة لتحقيق الأمن والأمان الغذائيين. وتقوم رؤيتنا للنهوض بهذا القطاع أوّلا على النهوض بالمزارعين، فلا يمكن النهوض بالزراعة دون إعادة الاعتبار للفلاح وضمان الحياة الكريمة له ولأسرته، فالمعاناة التي يعيشها الفلاح هي جوهر أزمة الزراعة بل هي المسئولة أيضا عن الهجرة من الريف إلى الحضر وخلق أحزمة من العشوائيات حول المدن الكبرى، فوجب أن تقدم الدولة دعما معتبرا للمزارعين، وهى مسألة لا تتناقض مع اقتصاد السوق ولكنها جوهرية بالنسبة لضمان النهوض بالزراعة. ثانيا حسن استغلال الموارد المائية، فالاستخدام الرشيد للموارد المائية من الأولويات حسب رؤيتنا للدور الرئيسي للزراعة، وهناك ضرورة لحملة شعبية كبرى لتوعية المواطنين بضرورة ترشيد استهلاك المياه عموما، مع تشجيع البحث عن المياه الجوفية. ثالثا المحافظة على الأرض الزراعية، إذ تتعرض المساحة الزراعية في بلادنا للتآكل بسبب سوء التخطيط العمراني والتعديات المختلفة، ومن هنا ضرورة تفعيل القوانين التي تجرم البناء على الأرض الزراعية أو الاعتداء عليها تحت أي مسمى، ومن الضروري استصلاح مساحات جديدة للأرض الزراعية وتوفير الأسمدة والكيماويات بأسعار مناسبة. رابعا نؤمن بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء قضية تتعلق بأمن الوطن بشكل مباشر، ومن هنا أهمية ومحورية تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، خصوصا وأنه من المحاصيل التي لا تستهلك مياه كثيرة. نرى أيضا ضرورة تنمية الثروة السمكية والحيوانية، والثروة السمكية لا يمكن تطويرها دون تفعيل قوانين البيئة وتقديم الدعم الحكومي للعاملين في ذلك المجال، أما الثروة الحيوانية فيمكن تنميتها عبر تقديم الدعم اللازم فضلا عن فتح المجال لمراع جديدة. إنّ تركز إنتاج الغذاء، على سبيل المثال، في أيدي عدد محدود من الشركات العالمية العملاقة تحدد ما يتم إنتاجه بل وبأيّ جينات وتسيطر على بيعه وتتحكم في أسعاره مما يجعل إنتاج الغذاء مرهونا فقط بمنطق الربح والخسارة، وقد أدى ذلك لا فقط إلى إفلاس الملايين من المزارعين الصغار وإنما إلى خلق أزمة غذائية في العالم كله، فنحن إزاء فقر له أسبابه المحلية والعالمية في نفس الوقت. ترشيد علاقة التعليم بالاقتصاد، فالاهتمام بتطوير التعليم يقع في القلب من رؤيتنا الاقتصادية، إذ لا يمكن حدوث أية تنمية سياسية أو ثقافية أو اقتصادية دون اهتمام كبير بتطوير التعليم. العلاقة الوثيقة بين التنمية الاقتصادية والتعليم إنما تأتي من الدور المهم الذي يلعبه التعليم في زرع قيم بعينها تجعل الشباب فاعلا في عملية التنمية وقادرا على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق، وأهم تلك القيم هي استقلالية الفكر والقدرة على التفكير النقدي والمبادرة والعمل بروح الفريق واحترام الوقت وإتقان العمل. تطوير التعليم لا يقتصر على الاهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المعدات وإنما يتضمن خلق جيل معتز بهويته وعلى وعى بقدرات الأمّة وإمكاناتها ويمتلك من المهارات ما يمكنه من المشاركة في عملية التنمية ودفعها إلى الأمام. تراجع مستوى المعرفة والكفاءة لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وحتى طلبة الجامعة صاروا "ذاكرة" يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات ويتم تفريغها على أوراق الامتحان في نهايته، مما نتج عنه تفريغ العملية التعليمية من أي محتوى قيمي وحرم الشباب من تنمية مهاراتهم ومواهبهم، ويستحيل تحقيق التنمية دون خروج التعليم من هذه المحنة ومن هنا الأولوية القصوى لمراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته، وندرك أن تلك عملية طويلة الأمد لن تحدث بين عشية وضحاها، وتحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الخبرات من تجارب العالمين. العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية، والإصلاح لا يمكن أن يتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافه، وأية خطة مقترحة لتطوير التعليم لابد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق بكل شفافية، ويتم تعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التي يفرزها المجتمع وفي نفس الوقت إعداد الشعب لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه، فلا يعقل مثلا أن يكون النظام التعليمي يهدف للتأكيد على قيمة العلم والعمل الجاد بينما يروج الإعلام لقيم الكسب السريع والاستهلاك وينشر ثقافة توهم بأن الحظ أساس الثروة ! هناك أهمية كبرى للاستفادة من خبرات الدول التي حققت نهضة تعليمية، لكن الجوانب الفنية والمنهجية التي يمكن الاستفادة منها في تلك الخبرات لا تنهض وحدها بالتعليم، إذ أن الاهتمام بالقيم التي يبثها النظام التعليمي لا يقل أهمية عن الجوانب التقنية والفنية في إصلاح التعليم، ورغم أن هناك مجموعة من القيم الإنسانية التي يمكن أن تشترك في التركيز عليها المنظومة التعليمية في أكثر من دولة، إلا أن واقع كل دولة وطبيعة مشكلاتها يحتم التأكيد على قيم بعينها في مرحلة ما، ثم إن لكل أمة حضارتها وتاريخها الذي يمكن أن يسهم في بناء نهضتها بتمثل خاص لقيم الانتماء والمواطنة والجمال والعمل والعلم والمصلحة العامة، فلا قيمة لتعليم لا يدرك فيه النشء من نحن وما هي أهدافنا، أو لا يغرس في النشء الثقة بالذات الحضارية ويسمح بالتفاعل الصحي مع العالم دون انسحاق أمام الأقوى وبلا حساسية من الاستفادة من خبرات الآخرين، فضلا عن استعادة المعرفة والعلم باللغة العربية كمسألة حياة أو موت بالنسبة لشعبنا، وتنمية قيمة الجمال بمعناها الواسع وهو ما يتطلب اهتماما بالفنون بكافة أنواعها. ضرورة الزيادة الكبيرة في النسبة المخصصة للتعليم في الميزانية العامة لتغطية كل المجالات التي يحتاجها تطوير التعليم، وتتوزع بين إنشاء المدارس الجديدة وصيانة المدارس القديمة وتجديد مخابرها وورشها ومكتباتها فضلا عن زيادة الأموال المخصصة لمرتبات المدرسين والإداريين العاملين في مجال التعليم، ومن المرفوض أيضا أن يتحول التعليم إلى سلعة هادفة للربح على حساب مستقبل البلاد والعباد. برنامج لمكافحة التسرب من التعليم عبر تعميم الوجبات الغذائية في المدارس وإيجاد الوقت للتدريب على الحِرف إلى جانب حصص التعليم الأساسي، الأمر الذي يقلل من إخراج الأولاد من التعليم بسبب الضغوط الاقتصادية، ومنظومة من الحوافز خصوصا في الريف والمناطق الفقيرة، كالحصول على مزايا عينية أو غذائية للأسر. الحرب على الأمية بتبني مثلا حملة وطنية تستغرق فترة 3 سنوات يتم فيها الاستعانة بخريجي الجامعات والمعاهد العليا الذين يبحثون عن عمل لمدة عام أو عامين للمشاركة في محو الأمية وذلك مقابل أجر معقول يزداد وفق استعداد الخريج للانتقال إلى المناطق النائية والأكثر احتياجا. المهم أنه من الواجب تحديد مدى زمني لإعلان بلادنا خالية من الأمية وفق معايير ومؤشرات دقيقة يضعها الخبراء. في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، ليس لنا أن نحلم بتنمية حقيقية دون بشر أصحاء قادرين على العطاء، ومعنى ذلك أنه يتحتم رفع النسبة المخصصة للرعاية الصحية في ميزانية الدولة، ومراعاة عدالة التوزيع للمناطق الجغرافية المختلفة، ودعم الرعاية الصحية الأولية الأساسية والوقائية خصوصا في الأحزمة العشوائية والفقيرة فضلا عن الريف، والاستثمار في جيش من الأطباء ورفع أجورهم بشكل معقول وتشجيعهم على مهنة الممارس في الوحدات الصحية والمستوصفات في كل بقاع الجمهورية، وتطوير المستشفيات العامة وتمويلها وتشجيع البحث الطبي الميداني، وزيادة عدد معاهد التمريض والعمل على إعادة الاعتبار لتلك المهنة في الثقافة العامة فضلا عن رفع الأجور بما يضمن الحياة الكريمة، والاهتمام برفع كفاءة التقنيين وفنيي الأجهزة الطبية وتوجيه جزء من الميزانية لذلك، وتقديم الدعم لشركات الأدوية المحلية وتشجيع البحث العلمي في مجال الدواء، والاهتمام بتطوير أداء قطاع الإسعاف بكافة عناصره وأقسام الطوارئ بالمستشفيات. نرى اليوم ضعف الخدمات الصحية والتأمين الصحي خصوصا للفقراء، ارتفاع متواصل في أسعار الأدوية على نحو تعانى منه الطبقة الوسطى والدنيا، نقص واضح في نسبة الممرضين والأطباء إلى مجموع السكان، وفي أحيان كثيرة قلة الأجهزة الطبية والمستشفيات العمومية... هناك ضرورة قصوى لمدّ مظلة التأمين لتشمل كل مواطن وذلك عبر إلزام صاحب العمل بتوفير التأمين الصحي القائم على حصة يدفعها العامل وحصة يدفعها صاحب العمل، ودعم البرنامج الصحي العمومي لتشمل العاملين بالأجر اليومي الذين يدفعون اشتراكات رمزية عند طلب الخدمة والعاطلين عن العمل. تحقيق العدالة الاجتماعية بالإرادة السياسية فالسوق لا يمكنه أن يقوم بهذه المهمة وهو عاجز عن إحداث التوازن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وهى من وجهة نظرنا من أهم مكونات الاقتصاد السياسي للدولة وليست مجرد نوع من "الرعاية الاجتماعية"، كما أنّ العدالة الاجتماعية في نظرنا ليست مشكلة توزيع ورفع المستوى المعيشي لفئات الشعب فحسب وإنما هي أيضا وبالأساس مسألة تتعلق بإنتاج الثروة وإنماء القدرة على خلقها وابتكارها، رفع معدلات النمو لابد وأن يصاحبه ارتفاع محسوس في مستوى المعيشة، فلا يمكن الاعتماد فقط على معدل النمو دليلا على التحسن الاقتصادي، فمعيار التنمية الذي نتبناه يضم إلى جانب معدلات النمو إشباع الحاجات الأساسية لدى الغالبية العظمى من المواطنين والمتمثلة في المأكل والملبس والمسكن والصحة والتعليم، ومن المهم إيجاد فرص عمل تحقق ذلك الحد المطلوب للحياة الكريمة. تشجيع الاستثمار لابد أن يتم في إطار أولويات الخريطة الاستثمارية التي تحددها الرؤية السياسية وفق طبيعة المرحلة، كما نرى أن واجب الدولة أن تسعى لتنفيذ تلك الأولويات عبر الحوافز... كأن تقدم مثلا الحوافز للمشروعات الاستثمارية الإنتاجية، وأن تقدم حوافز أكبر للمشروعات ذات العمالة الكبيرة كونها تسهم في حل مشكلة البطالة. المنظومة الضريبية هي أحد أهم عناصر السياسة المالية لأنها الأداة التي تحقق التوازن بين دفع النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن هنا فالسياسة الضريبية لابد وأن تقوم قبل كل شيء على خلق مناخ من الثقة مع الممولين عبر تفعيل مبدأ سيادة القانون من ناحية ورسم سياسة ضريبية عادلة من ناحية أخرى، ولا يجوز أن تتحمل الفئات الأضعف العبء نفسه الذي تتحمله الفئات الميسورة ولذلك نرى أن يتم رفع حد الإعفاء الضريبي بحيث يشمل متوسطي الدخل مع كون الضريبة تصاعدية على دخل الأفراد والإبقاء عليها متساوية على المشروعات الخاصة كي تخلق الثقة بين الحكومة والممولين. ومن المهم أيضا أن تميز السياسة الضريبية بين المشروعات الإنتاجية والاستهلاكية عبر الحوافز والإعفاءات المختلفة، ونرى تعديل المنظومة الضريبية على نحو يسعى لعلاج الخلل الشديد في الجهات بخلق نظام ضريبي يختلف باختلاف الجهات وهدفه تشجيع الانتشار المتوازن في كل مناطق البلاد، ونرى إصدار قانون ملزم لكل من القطاعين العام والخاص بحد أدنى للأجور وربطه بمعدل التضخم والتعامل مع الفجوة الهائلة بين أعلى الأجور وأدناها. لحماية المستهلك نرى أهمية إطلاق قوى المجتمع الأهلي والسماح لها بالعمل الرقابي، فالمجتمع هو الرقيب الأهم القادر على حماية المستهلك، وعلى الدولة بمؤسساتها المختلفة أن تنفتح على كل مؤسسات المجتمع الأهلي وتشجعها وتتعامل بجدية مع الأفكار والاقتراحات التي يقدمها المواطنون بشأن التطور الاقتصادي. نؤمن بأن قدرة المجتمع على جذب الابتكارات وتشجيع القدرات الإبداعية لأبناء الوطن لا يتأتى إلا في مناخ موات يسمح لتلك الأفكار أن تخرج إلى حيز التنفيذ، ومن هنا ضرورة تفعيل قوانين وحقوق الملكية الفكرية والذي يسهم ليس فقط في تدفق الأفكار الايجابية ذات القيمة المضافة، بل يشجع أيضا على جذب الاستثمارات وتوطينها، خاصة المتقدم تكنولوجيا منها. تشجيع حرية إنشاء الجمعيات الأهلية بشتى أنواعها من شأنه أن يؤدى إلى تفجير طاقات المجتمع وإسهامه في خلق المشروعات التي توفر فرص العمل وتدعم المشاركة الشعبية في المجال العام وتسهم في تطوير الثقافة المدنية. ومن واجب الدولة والمجتمع الأهلي والمدني تكوين الشباب لمواجهة الكوارث في حالات "عدم الاستقرار" و"عدم الاتفاق" و"عدم اليقين". تحقيق العدل السياسي والعدل الاجتماعي والعدل القضائي والعدل بين الرجل والمرأة، فقد أصابتنا الكارثة، في تاريخنا، عندما أخرج "علم الكلام" العدلَ من مجالات السياسة والاجتماع والقضاء والأسرة (...) وراح يزايد في الحديث عن العدل الأخروي، وهي كلمة حقٍّ أريد بها باطل، أي السكوت لمصلحة الظالم ومن يجلدون ظهرك ويسلبون أموالك، في حين أن العدل هو أساس المجتمع القرآني في هذه الحياة، وشرط النصر في واقعنا الحاضر... إحدى أهم صور المأساة في بلادنا هي "مُجتمعٌ يُخالفُ فيه السلوكُ المعتَقَد"، نعيش ذلك يوميا وعلى جميع المستويات في سلوكنا الجماعي... فلا بدّ من تشجيع الوعي بأن أداء الواجبات هو الطّريق الوحيد للحصول على الحقوق، في هذه الحياة الدّنيا وفي الآخرة، ولا بدّ من توليد القدرة على التداول السّلمي للسّلطة الذي هو شرط الحرّية، لنبني مجتمعا يحيا بالمشاركة والكفاءة والتّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة.
4ـ الوحي والعقل والإنسان الكامل القيم المركزية في مجتمعنا المسلم هي العدل والرحمة والكرامة والحرية، وهي في نفس الوقت مطالب الثورة الأساسية لاسترجاع إنسانيتنا التي فقدناها، مع الوعي النقدي بأنّ نقطة البدء في سباق الحياة ليست واحدة من حيث الفقر والغنى والموقع الاجتماعي والثقافة ووضع الفرد في أغلبية أو أقلية، جغرافية كانت أم مذهبية، وأوّل كلمة نزلت في القرآن الكريم كانت "اقرأ"، ومفتاح التغيير في مجتمعنا هو الجمع بين القراءتين، قراءة القرآن وقراءة العالم، وشرط التقدم هو "اعملوا" ، واحترام الرأي والرأي الآخر وتسامح الزهد، وإعادة بناء حضارة "اقرأ" ومجتمع الكتاب، وحق السلم للناس كافة والعمران في الأرض وعدم الإفساد فيها. قيمة الرحمة تم حصرها للأسف في خطاب الوعظ والأخلاق وتجاهلها في الفكر والعمل السياسي أي في ساحة المصالح والتدافع والقوة والأمر والنهي والحكم، واليوم نحن في حاجة لاستعادة هذه القيمة بقوة في تفكيرنا السياسي الإنساني وكمدخل لحقوق الأقليات والحقوق الثقافية وحقوق المرأة واحترام الطبيعة والتوازن البيئي. قيمة الحرية لا يمكن أن تتحقق دون الأخذ في الاعتبار الفروق وليس المشتركات فقط، ومن هنا الحاجة لمفهوم مركب للمساواة ليس فقط للأفراد بل للجماعات الثقافية والمحلية من خلال المواطنة والتعددية الثقافية، والحرية للجميع وليس للرجال دون النساء، واعتبار الحق البيئي الذي يحترم الطبيعة ويسعى للحفاظ عليها وليس الهيمنة عليها كما أرادت الحداثة، واحترام حقوق شعوب الجنوب التي تدفع ثمن التقدم دون أن تشارك في منافعه، ونقد تاريخ الاستعمار فتقدم الغرب تأسس أيضا على استغلال الشعوب الأخرى، مع الوعي الإنساني المتزايد بقيمة رأس المال الأخلاقي والاجتماعي، ومجابهة تهديدات ومخاطر انتشار قيم السوق والربح المالي وتآكل العلاقات الإنسانية في ظل عولمة الرأسمالية المتوحشة وطغيان ثقافة الاستهلاك، ليس للسلع فحسب بل للأرض وللإنسان، تحت وقْع أدلوجة نهاية التاريخ. قيمة العدل فملايين من البشر في بلادنا يعانون حول خط الفقر، فوقه قليلا أو تحته أو في القاع، خط الجوع وخط الإهانة، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمالية المتلاحقة نتيجة النظام الرأسمالي العالمي لا تزيد خط الفصل هذا إلا ظلما وقهرا أكثر شدّة وعدوانا يوما بعد يوم، وليلة تلو الليلة، ظلمات من فوقها ظلمات... زائد التفاوت في الانتفاع بالثروات بين الطبقة الوسطى المدينية وبين الأرياف وأحزمة الفقر حول المدن، زائد التفاوت الفاحش بين المجتمع الأهلي كله وبين أقلية النهب والفساد، زائد الاستغلال المرعب لبلاد الجنوب من طرف الشركات الغربية والمديونية، حلقات تضغط بعضها على بعض وتدهس الناس أكثر فأكثر... قيمة العمل الصّالح من أهمّ القيم التي تجعل النّاس يصنعون ما يحتاجونه من طعام وشراب ومسكن، وكلّ متطلّباتهم الصحيّة والدّفاعيّة والتّرفيهيّة في إطار من الحرّيات والاستمتاع بالطيّبات... و"إدارة الصراع" ضدّ النظام الرأسمالي العالمي بتعاون كل القوى الاجتماعية والسياسية، ودعم الاقتصاد الوطني لبلادنا، وتشجيع الادخار ومحاربة الإسراف والترف، وتشجيع ثقافة مقاوِمة تنتقي وتختار أو تقاطع المنتجات الثقافية والسلع بما يناسب هويتنا أو مصالحنا. العمل قيمة ثقافية كبرى بها يتحقّق الإنسان، الجهد الذي لا يعرف الكلل ولا الإحباط في الأسرة والقرية والمدينة، وتأهيل الأفراد والجماعات لإدارة المجتمع الأهلي المعرفية والغذائية والصناعية والعلمية، وواجب تعلم الخبرة والأمانة، وتشجيع نشر الخلق الكريم وحمل همّ الفقراء والمحرومين... وردّ الاعتبار لمسألة الوقت وعدم هدره وإضاعته. نسعى عبر نشاطنا السياسي إلى هدف استراتيجي وهو المساهمة في بناء مجتمع يقوم على فكرة الالتزامات المتبادلة والعهود، أي يقوم على تصور واضح للعلاقة بين الحق والواجب والتراضي من جهة أولى، وتقبّل أسبقية القيام بالواجب على المطالبة بالحق من جهة ثانية، ونعمل على مواجهة "ثقافة" الحنث بالعهود وشهادة الزور، والرشوة والمحسوبية والسرقة والاحتيال، والنزعة المادية والاستهلاك الترفي لدى فئات غير قليلة، وزيادة معدلات الجريمة والعنف، والانتشار الواسع للتفكير الخرافي ومخاطبة الغرائز... فهذه الأمراض الاجتماعية وغيرها لا تؤدي فقط إلى اختلال ميزان العدالة وإنما أيضا إلى فوضى اجتماعية حيث تدفع المواطنين إلى اليأس أو إلى السعي للحصول على حقوقهم بالقوة أو بطرق الاحتيال والكذب... ومن هنا الضرورة الحيوية لإدماج الإصلاح الأخلاقي مع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية والاجتماعية، لأن ذلك هو الطريق الأمثل لتماسك المجتمع ولبناء الأرضية الملائمة لتقدمه، ومهما كانت صعوبة عملية إدماج الأخلاق في مداخل الإصلاح المختلفة، فإنها عملية تستحق ما سيبذل فيها من الجهد والوقت لأنها من وجهة نظرنا شرط ضروري ولازم لنجاح الإصلاح وإدراك مقاصده، ومسؤولية القيام بذلك تقع على عاتق الجميع من الأفراد والمؤسسات الأهلية والمدنية والحكومية وجمهور المواطنين، كما هي أيضا مهمة المفكرين ودعاة الإصلاح وصانعي الرأي وقادة المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته، والمطلوب أيضا صياغة ونشر خطاب ثقافي إعلامي يركز على تلك المعاني الغائبة، وليس المقصود هنا إنتاج برامج ذات طابع تعبوي خطابي ولا مادة فنية تلقي على الناس محاضرات في الأخلاق، وإنما المقصود هو رؤية إعلامية متكاملة تضع البعد القيمى في قمة أولوياتها وتبث عبر برامجها الثقافية والفنية القيم الناهضة بالفرد والمجتمع. تفعيل اللغة العربية كأداة للتواصل بين المواطنين، وللتواصل مع هويتنا التاريخية، وبناء الإنسان الكامل الذي يتكلم بمنظومة نحوية وصرفية مثل كلّ الشعوب التي تحترم نفسها وتنتج مواطنين غير منفصمين لغويا مع امتلاكهم للغات أجنبية، فمن لا ينطق بنحوٍ سليم هو مريض بعنى ما، بل وبفعل الإخفاقات السياسية والتراجعات الحضارية المتوالية صارت الثقافة العربية محل تساؤل عما إذا كانت تصلح لأن تكون ركيزة للتنمية أم لا ؟ بل وجرى التشكيك في صلاحيتها وفي قدرتها على استيفاء شروط التقدم، ونعتت بأنها إحدى مورثات التخلف، ومن هنا كانت الدعوات إلى تهميشها وتحويلها إلى مجرد فلكلور، ونحن إذ نرى خطر هذا التوجه سنعمل على كشفه ومواجهته لما يمثله من مخاطر على المصالح العليا للمجتمع الأهلي، خاصة وأنه لا تقدم حقيقي بدون استعادة الفصحى. نحن مع ضرورة مزيد من الانفتاح على الثقافات الأخرى العريقة والفاعلة مثل الآسيوية والهندية والإفريقية والشرقية وتجارب أمريكا الجنوبية الثرية والمتنوعة إضافة إلى الثقافات الغربية، ومع ضرورة تشجيع الجمعيات الأدبية والثقافية التي هي بمثابة المحتضن للشباب والإبداعات، وتوظيف إبداعاتهم في خدمة جهود التنمية في مختلف مجالات الحياة وبخاصة تشجيع الجمال والذوق الفني لدى الأفراد وفي كل جهات البلاد. الإسلام ضدّ الفقر وضدّ امتهان كرامة الإنسان أو غصب حريته، وقد جاء لتحرير عقول الناس، ولكن ما يحدث في كثير من الأحوال هو العكس من ذلك تماما، حيث يستخدم الدين كباعث على الجمود والتردي في هاوية التقليد الأعمى، واستخدامه كسلاح يشهر في وجه الآخر أيّا كان وجعله سببا دائما للشقاق والصراعات، والمشكلة تكمن في الممارسات والتقاليد غير المبرأة عن الهوى في غالب الأحيان، والتي تحجب الرؤية وتمنع الإبصار والتبصر. ما بال قوم إذا قوّمناهم في سياستهم اتهمونا في ديننا ! لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم إن لم تسمعوا ! أليست واجباتنا الأولى هي، الصّدق ضدّ الكذب، الأمانة ضدّ الخيانة، التّبليغ ضدّ الكتمان، البصيرة ضدّ الجهل، العلم والذّكاء ضدّ التّهوّر، والشكر لله ضدّ الجحود ؟ التّوحيد هو تحقيق القرآن في حياة الأفراد والجماعات ضدّ الظّلم بأنواعه وضدّ الفساد بأقنعته وأسلحته المختلفة، وإنّ كثيرا من النّاس ليظنّون بالله تعالى ظنّ السّوء !! ولا يسلم من ذلك إلاّ من تدبّر القرآن وتعرّف على آياته. الوحي جاء ليعرّفنا بخالقنا سبحانه وتعالى (لا كما تتحدّث عنه الإسرائيليّات)، وعن تجربة الإنسان كعالَم بكامله مع ربّه ومع محيطه الخارجي ومع نفسه، وعن تجارب الجماعات والأنبياء ضدّ الظالمين والمستكبرين وادّعاءاتهم الاجتماعية والتاريخية، ولم يأت كحزمة حدود ونواهي. ديننا هو إسلام العمل الصّالح لتغيير ما بأنفسنا وما بواقعنا والجهر بالقول. ليس الإيمان وراثة، فالتّكليف الإلهي هو لفرد عاقل حرّ ومسؤول وليس لصبيّ أو مجنون، أو لتابع آبائه وعشيرته فيكون مثلهم إيمانا أو كفرا، سفيها أو عاقلا، عاجزا أو قادرا. الإنسان حبيب الله وخليله، مخلوقه وكليمه، بدليل إرسال الوحي إليه، وجعله في قلب الكون، وتسخير ما في السّماوات والأرض له، وتكريمه في البر والبحر، هذا وضع الإنسان في الحياة كما بيّن لنا القرآن الكريم ليثق الناس بأنفسهم ويعرفون عظمة مكانتهم. احترام الإنسان روحًا وجسدًا، وضمان حقّه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن والمحبّة... منذ الولادة حتى لحظة الموت، لكن بسبب الاستبداد والفساد صرنا من أكثر المجتمعات التي تُعاني من التفاوت الفاحش بين الفقراء والنّاهبين، بين الجوع وعهر الاستغلال. واجبنا اليوم أن نقدّم للناس رؤية قرآنية بلا غبش، ونذكّرهم بأيّام الله، وأن نتقدّم أمامهم لمواجهة عدوّهم من ظلم وفقر وجهل. ثم التفكر والبحث عن كيف نقيم الميزان بين الواجبات وكرامة الإنسان في واقعنا المعاصر، وكيف نحقق الأنس بين حقوق الفرد والجماعة ؟ أهم أصول الإسلام : إقامة علاقة مباشرة بين الإنسان وربّه دون أيّة واسطة، فلا بُدّ من إصلاح الخلل الذي أصاب هذه العلاقة في زمننا المتأخّر، ورفع الوصايا والحواجز، سواء الموروثة أو المبتدعة حديثا. أم على قلوبٍ أقفالها ! لنكسّر الأقفال... ونحطّم كل ما يرسّخ التخلف والمرض والعهر، سواء في التعليم أو السلوك اليومي، سواء في النظر أو العمل، وكل ما يمنع العلم عن الناس أو يهدم العقل، وكل ما يمنع عنهم تعلم المداواة والبرء من الأمراض، وكل ما يمنعهم من النظافة وحسن العيش وطيّب الكلام، والتصدّي بإحسان لكلّ من يفتن بين الناس أو يسعى لتفكيك وحدة المجتمع الأهلي وشق صفوفه، وتفريق عامته وإشعال البغضاء بينهم. القرآن جاء للإصلاح في الأرض ومواجهة الإفساد فيها... ليحرر الإنسان من الأغلال "الطبيعية" أو الاجتماعية أو السياسية، ليحثنا على واجب التعاون والمشاركة في الأفكار والأموال، وليُبيّن لنا وجود قوانين لبقاء أو فناء المجتمعات وتطورها: لا يمكن وجود حياة كريمة في مجتمع مبنيّ على الهلاك، أي غياب أصل العدل فيه. وتجب معرفة الإسلام من القرآن بمساعدة معجم جيّد للغة العربية، وممّا صحّ من السنّة بدليل قطعيِّ الدلالة متّصل السند بالله سبحانه وتعالى، ومن معرفة منهجية لسيرة الصالحين ووقائع التاريخ وحوار الأفكار، وإلاّ سرنا ـ والعياذ بالله - في طريق الشيطان ونحن نظن أننا نسير في طريق الرحمان. إجتماعنا يجب أن يقوم على احترام الإنسان روحًا وجسدًا، وضمان حقّه في المأكل والمشرب والملبس والمسكن منذ الولادة حتى لحظة الموت... ودعوة العالمين للتوحيد... وحماية أمن المجتمع الأهلي الدّاخلي... وردع أيّ عدوان خارجي... والجهاد الأهلي للبناء والإعمار... والقدرة على تمثّل هموم الناس الفعلية ومصالح المجتمع الأهلي بدلا من مصالح أيّ "فرقة تسيطر"... وحشد تأييد الناس لسياسة العدل وقراءة القرآن... ولابدّ من رفض سرقة ثروات المجتمع وتبديد أمواله، والخروج من الربا المحلي والعالمي المخرّب للاقتصاد، والقضاء على الفوارق الفاحشة في الرزق بين الأغنياء ووكلائهم والفقراء وعائلاتهم، والتصدّي لأكل مال اليتامى وحقوق الشهداء وجرحى الثورة وأصحاب القدرات الخاصة، ورفض التفريط فيما بباطن الأرض للشركات المتعددة الجنسية، والاستنكار القاطع لقتل النفس بغير حق، أيّا كانت، أو تعذيبها وإيذائها، مع واجب رفض السكوت عن الظلم الواقع في فلسطين وفي بلاد الجنوب.{وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر}. النباهة والحسّ بالتاريخ يفرضان علينا تركيز الجهد في محاربة الجيمات الثلاث : الجور والجهل والجوع، باسم الله ومن أجل النّاس ومصالحهم العليا، ضدّ فرعون وهامان وقارون والنّاكثين، ضدّ الظلم والإستحمار والاستغلال والتدليس، ضدّ الاستبداد والأحبار والمترفين والمنافقين. إنّ العمل الصالح هو الذي يفتح الأبواب المغلقة، ويزيل السدود والحواجز ويرفع الحصار، فلنبني "الإرادة السّياسيّة" المشتركة، التي تدفع بملايين السّواعد العاملة والعقول المفكّرة في بلادنا، نحو الهدف الجماعي في التنمية والحرية والأمان ليدخل الناس في السلم كافة. إنّ القضايا الكبرى التي يجب أن تشغلنا هي نوع المجتمع والتنمية التي نريد والمصالح الاقتصادية، والعلاقات الاجتماعية في المدن، وقراءة القرآن والرحمة للعالمين، ومكانة الإنسان وهويته، ومسائل المرأة، وقضايا البيئة والأوبئة والتعاون، والخصوصية والعالمية، والعقل وتنازع المعاني، والفردي والعام ومسائل الحميمية، والاحتفاء بالإنسان وبالمكان وبالزمن وبالجسد وبالإرادة وبالعقل الفعال المبادر، وتوليد القدرة على تحدي الظرف التاريخي الصعب، والإيمان بقوة الفعل الإنساني ورحمة الله و"مشروعية الشعب"، واعتبار المواطنة واجبات وحقوق للتعاون من أجل نموّ الإنسان وترويض وحش الدولة، وأنّ المواطنة الحقّ هي ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام، وأحقية الرأي والرأي الآخرلتقوم مجتمعاتنا من جديد بالإبداع والمبادرة من أجل البحث عن الأفضل. الديمقراطية لا تكمن فقط في المظاهر الخارجية، من تعددية برلمانية وانتخاب وأغلبية، بل لها قيم أساسية تقوم عليها وهي الكرامة الإنسانية، ومجتمع الكفاءة، وتعزيز الثقة بالنفس لدى الأفراد وفي المجتمع الأهلي، والقناعة الفكرية بصلاحيّة الديمقراطية والتبادل السلمي للسلطة عند النخبة وفي المجتمع، واعتبار الألم الإنساني شرّا في حدّ ذاته، وأنّ العدالة هي الأصل للنموّ والتقدم والسلم الأهلي. العلمنة كانت في جوهرها نزع القداسة عن الدين وعن العالم ـ نشأة وتطورًا ومآلا ـ وإسباغ هذه القداسة على الدولة، ولأن مفهوم الدولة كان وما يزال هو المفهوم المركزي في النظرية السياسية السائدة، فقد بقيت "أسطورة" الدولة العلمانية في مجال النظرية السياسية أقوى من أن تتعرض لنقد جذري برغم تراجع العلمانية على أرض الواقع السياسي للشعوب شمالا وجنوبا، وبرغم الإشكاليات المطروحة في مرحلة ما بعد الحداثة وهيمنة الرأسمال العالمي وإحياء التديّن التحرّري المقاوم، إشكاليات مثل إعادة التأسيس للرابطة السياسية، وضمان الحريات العامة والعدالة الاجتماعية داخل المجتمع الواحد وفي العالم، وتشابك قضايا الثقافة والأخلاق والسياسة والعمل، هذا الواقع الجديد كان فرصة ذهبية للحداثة لتجديد نفسها وإنقاذ غاياتها العليا الأصلية ضدّ غلبة الجانب الاقتصادي الليبرالي على جذورها الديمقراطية، لكن هذا لم يحدث وتبقى المهمّة على سلّم الأولويات... إنّ مفهوم "المداولة" القرآني للحضارة ولأيّام التاريخ، يعني أن حركة العالم مستمّرة لا تتوقف... إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَن عليها. "اقرأ" (...) عملنا السياسي والفكري يسعى للإجابة على مسألة كيف نخرج من فاجعة الحصار، إمّا الليبرالية وإمّا إتباع الآباء ؟ في قضايا المرأة والتعددية الثقافية والأقليات، وتفعيل دور الإنسان الفرد في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحماية البيئة ونوع الحياة على الأرض، والدفاع عن حق الحياة واللغات وكرامة الشعوب ضدّ هيمنة الرأسمالية، وواجب الاستقامة في السلوك والأخلاق، وتوحيد الله وقراءة القرآن، والإبداع في تجديد العلاقة بين الفرد والجماعة السياسية، بين التنمية والحرية والعدالة، بين الإنسان والكائنات الحية والميزان، والضرورة الحيوية لاستعادة قيمة الإنسان وكرامته وتعميق الجهود في جهتين متلازمتين، جهة الإعداد الأفقي للمجتمع الأهلي والمدني، وجهة بناء الديمقراطية والإرادة السياسية. تنمية الوعي الأهلي بمسائل التّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة، وأن لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والحفاظ على الأرحام والتعاون على البِرّ، وحماية حقوق النّاس... ليتمتّع بها الجمعُ والأفراد. التّاريخ البشري هو تاريخ الصّراع ضدّ الظلم والاستكبار، بأبعاد جديدة في كلّ مرحلة، وأمام كلّ إعادة إنتاج للظّلم ونشر الظلمات يهبّ الصّالحون وأنصار العدل والتوحيد للدفاع عن المجتمع اﻷهلي ضدّ الظلمات والحصار لبناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. "لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله" تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية... تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر ومن ثقافة السحر والحظ واتباع الآباء. نقرأ القرآن ونهتدي به لمواجهة مشاكل النّاس كما هم في هذا العالم وهذا العصر (لا مشاكل عالم وعصر آخر) ونستعدّ بالقرآن ليوم الحساب، ولن تتكشف معاني الكتاب العظيم وأسراره قطّ للذين يتّخذون القرآن مهجورا، وهو يؤكّد لكلّ قارئ ولكلّ مواطن يتلوه، واجب التّفكّر، التّدبّر، التّعقّل، ويدعونا لما يُحيينا وللنظر في أنفسنا وفي كتابنا وفي العالم، ويحثّنا على الاجتهاد ورفض الشرك والأسرار والتقاليد وكل ما يُعارض التحرّر والعدل والعقل من ظلم ووهم وظن ولُبس في الرؤية، ويؤكّد على الوضوح والبيان في النظر والعمل. واجبنا الجهر بالقرآن ضدّ الظلم وضدّ الفساد، واستعادة التغيير الجذري الذي أتى به منذ كلمة "اقرأ" (...) بالإقبال على تفهّم الآيات في الكتاب وفي النفس وفي الآفاق. "اقرأ" (...) الكلمة الحضارية التي أدهشت النبي الأمّي، وحفزّت أصحابه، وأثارت عليه العالم، فنكون الأمّة الشاهدة على الناس، أي نكون شواهد على الاستقامة ومكارم الأخلاق والعدل، فالإسلام يدعو للرحمة والمغفرة والتسامح بين البشر، والله سبحانه وتعالى بَعث خاتم رسله، رحمة للعالمين، ليجمع الفرقة وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة وليتحرش الناس بعضهم ببعض، بل لتحقيق الأخوّة وليخرِج الناس من عبودية العباد والأغلال التي تكبّلهم إلى عبادة الرحمان الذي خلق كلّ شيءٍ ثم هدى. الإنسان فيه أبعاد مطلقة لا يمكن اختزالها في الطبيعة وحدها، ومن هنا ضرورة التعامل الاجتماعي والتاريخي مع متغيرات عودة الدين للمجال العام، وعودة القيم إلى المجال السياسي والاقتصادي، فالحركات الإحيائية عمت العالم كله جنوبا وشمالا، وضرورة الخروج من ثقل الإيديولوجيات الحداثوية وصناعة الأوهام، ونقد فصل العقل عن الوحي، والواقع عن الغيب، خاصة وأنّ الإسلام يمثل أفقا تقدميًّا وديمقراطيًّا.
5ـ اللاسلطوية. ما يعيقنا في مرحلتنا التاريخية وواقعنا المعاصر، ليس شبح القرون الوسطى، مع العلم بأنّ صور هذا الشبح تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، بل إنّ ما يعطلنا هو النظام العالمي الجديد بنهب شركاته المتعدّدة الجنسية وحروب تدميره الشاملة، بخطاب إنسانيته المزدوج وقدرته على التدمير والقصف، بإغراقنا بالتلوّث البيئي والسلع والأوبئة، بتغريب الإنسان وتفقير المعنى... ثمّ إنّ التجارب الجزائرية والفلسطينية وغيرها، أثبتت أنّ إيمان بعض عصابات "النخب الحديثة" بالديمقراطية هشٌّ وضحل... بل أنها على أتمّ الأهبة لاستعداء "المؤسسة العسكرية" أو أيّ قوّة خارجية ضدّ المجتمع الأهلي، للحيلولة دون وصول خيار شعبي للسلطة متى حصل على أغلبية ديمقراطية، هذا مع كثرة الأحزاب الهامشية من جهة إحداث "جعجعة" ديمقراطية دون بناءات وخيارات وقوى فعلية، كلّ هذه المخاطر لازالت قائمة خاصة وأنّ "الدولة المسخ" للنظام المخلوع قد أضعفت كثيرا وبشدة المجتمع الأهلي بخنق أي إبداع مدني في المجال المهني والعمالي والثقافي والاجتماعي والسياسي وبحصار المجتمع الأهلي في كل المؤسسات الوسيطة والمدنية، ودفع الخريجين الجامعيين إلى قيعان المدن والأرياف، وحصار أية إمكانية لميلاد الفرد الحرّ كفاعلية اجتماعية وسياسية وقانونية تبادر بالأفكار والإنتاج والفعل السياسي، ومنع ظهور مؤسسات المجتمع الأهلي الفاعلة، وقد سعت الدولة ـ المسخ لتحويل "الحُكمْ" إلى نظام إدارة الطوارئ... وسط أرياف متصحرة ومدن ريفية وأحياء مليونية للمهمّشين، وأجبرت الناس على تضييع الحياة والطاقة في التحايل على البطالة وأزماتها الكثيرة أو الهجرة والنفي.. بسبب كلّ هذا فالأولوية الحاسمة الآن حسبما نرى هي السعي لتوفير الأكل واللباس والسّكن وحقّ تكوين أسرة وحقّ العمل والحقّ في العدل لكلّ واحد وللناس جميعا، أي إعادة بناء مجتمع أهلي مقتصد ومتعاون، يؤمن بالله الخالق الكريم، يحمي الحرمات الفردية والجماعية، ويحبّ الأرض والحرية وتنوع الحياة. إنّ السعي لتجميد الصراع الاجتماعي بالتخويف من الفراغ الأمني والأزمة الاقتصادية هو استمرار في أحد جوانبه للنظام المخلوع، وسعي بتخطيط أو بدونه لتحويل "الحُكمْ" إلى نظام إدارة الطوارئ... الديمقراطية الليبرالية هي نموذج مناسب لصفقة (...) الدولة المهيمنة التي تقبل تغيّر مقاعد السلطة، لكنها لا تقبل العدل الاجتماعي ولا تحديد سلطتها في مواجهة ميلها الطبيعي للتغوّل، في حين أن المواطنة المدنية تؤمن بالتعاون وبفكرة المنفعة العامة التي "تتجاوز" مجرد قسمة مقاعد بين المصالح الفردية المتعارضة، المواطن المدني يشارك في المجال العام بهدف التعاون على البِرّ والرحمة، وينظر للسياسة بمنظور اجتماعي وحسّ ثوري بالمسئولية الأخلاقية، فيصبح الفعل الديمقراطي أقرب للديمقراطية المدنية الاجتماعية، ويستمد طاقة نوره من عقيدة الشعب ومشروعيته، مشكاة نور المواطنة لا "خطر الظلامية" كما يزعم الظالمون من الليبراليين الجدد الذين أضاعوا مفاتيح تاريخهم ويحتمون بسلطة الدولة أو حتى بالمحتلّ، والذين يريدون أن يطفئوا نور الله في الإنسان ليصبح محض مستهلك للسلعة وللهيمنة. إنّه لا دولة ناجحة بدون هوية وإدارة مسؤولة وانتماء، ولا ديمقراطية حقيقية بدون عدل وحرية، ولا إنسان بدون الرحمان. نريد تجاوز الإعاقات الذاتية والخارجية المضادة لحرياتنا، وحلّ عقد التوترات الاجتماعية والسياسية والنّفسية الموروثة عن الاستبداد، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصف أصلا بمفهوم "المشاركة" تحت سقف الجوع والحرمان من أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، ومن هنا تحديدا نرفض إسكات الصراع الاجتماعي بالتخويف من الفراغ الأمني والأزمة الاقتصادية وهروب السياح ! الإنسان في قيعان مجتمعاتنا لا يتنفّس إلاّ التّلوّث والغبار، لا غذاء لا كساء لا حبّ ولا سكن، يهلكه القرف وتكثر بداخله ومن حوله العوالم السُّفليّة، تطحنه تجارب الموت البطيء والغمّ واللامبالاة والإكراه... والحل إلى جانب قيام الدولة أخيرا بمسؤولياتها، يكمن أيضا في دعم المشاركة المجتمعية الواسعة والأفقية لحلّ المشكلات وعدم التواكل على أسطورة "مطالبة الحكومة بحل كل مآزق المجتمع"، ولمواجهة الاحتكار والقضاء على نواقض الديمقراطية في المجتمع مثل الرشوة والمحسوبية وكلّ ما يعرقل "مجتمع الكفاءة". إنّ تغيّر "ما بقوم" شرطه الذي لن تجد له تحويلا ولا تبديلا هو تغيير "ما بأنفسهم"، انتصار المجتمع اﻷهلي في هذه الحياة وانتصار المؤمن العامل في الآخرة، وكل إنسان ألزِم طائره في عنقه أي يتحمّل مسؤولية ونتائج أعماله. القطع مع أدلوجة أن الدولة هي محط كل الآمال والآلام، ونقل الاهتمام السياسي والفعل المدني من الدولة إلى المجتمع الأهلي، دون أن يعني ذلك توريط المجتمع المدني في تحمل كلّ أعباء العدل الاجتماعي الذي تخلت عنه الدولة في الحقبة النيوـ ليبرالية، والتي تغوّلت فيها سلطة الدولة وتوحّشت على حساب الناس، رغم محاولات الشعوب، سلمًا أو ثورة، في الحصول على حقها في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، فالثابت أن الدولة، أيًّا كان شكل نظام حكمها، هي في مواجهة المجتمع لإخضاعه، وفي مرحلتنا التاريخية هذه، لصالح الشركات المتعدّدة الجنسية، وتحويل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات سلعية، والإحلال الكلّي للمنفعة مقابل المَرحمة. الأسس التي ينبني عليها المجتمع الحديث هي ممارسة الحرية والوجود الإنساني في المجال العام، وأولوية المواطن والوطن ونزع القدسية عن السياسي، وإكساب الحقوق مكانة قانونية ودستورية، بدلا من التوافق التقليدي أو الغلبة، وكلّما تقلّصت "هيبة الدولة" ظهر المواطن وانتصر الناس في مواجهة قيود الدولة وسلطانها دون السعي لا لهدمها ولا للسيطرة عليها. إذا كانت الدولة هي التي تصنع تقدم الشعب في الغالب، فقد كانت عندنا فاشلة، سواء في طريقة عملها في السلطة، غياب الحريات والمشاركة، أو في إدارتها للشأن العام دون رؤية علمية ولا فعاليات اجتماعية، واكتفائها منذ عقود بوظيفة النهب وأجهزة الأمن الهمجية، مما جعل دولة المسخ معادية لكل اختلاف أو تمثيل أو إبداع ومحارِبة للمجتمع الأهلي، وما نتج عن ذلك من ظلم وشرّ. إنّ "الدولة الشريرة" ليست نتاجا لميول أفراد أشرار قد يتم استبدالهم بأشخاص آخرين، بل هي انعكاس للتناقض بين الخير والشر الموجود داخل كل فرد، وللتناقض بين المجتمع الأهلي والملأ الفاسد (قارون وهامان وفرعون)، وانعكاس للتدافع بين المجتمع المُنتج وأقلية النهب والاحتكار. إنّ لبّ مشكلنا السياسي في المرحلة السابقة هو التناقض المجرم بين الدولة والمجتمع الأهلي، فوجب "التأسيس" الفكري والثقافي بعد الثورة، لحرية التفكير والتعقّل وحفظ الكرامة والحقوق، وللعدل بين الرجل والمرأة وأوّلية الانتماء لنفس واحدة ولشعب واحد، وتشجيع المبادرات الفردية والأهلية لحل القضايا الحياتية وأمور المعاش في السلم أو وقت الأزمات. التعرّف على ماذا يملك المجتمع من ثروات ؟ وما هي احتياجات كل فئة أو جهة ؟ وتشبيك الكفاءات ودعم كل مبادرات المجتمع الأهلي والمدني في مواجهة "الدولة" و"العولمة". ابتكار الحلول لمسائل الجنس والعائلة والزواج وتثقيف المستهِلك، ودعم المشاريع الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة، ومسائل خلق الثروة، وغير ذلك من الأعمال المتعلقة بحاجات الناس، والثقافة والترفيه، والعمل الدائم على رفع مستوى الشعور بالوحدة والتعاون في وعينا وحسّنا الفردي والجماعي. مجتمع أهلي يقاوم نهب "نخب الفساد والظلم" ويقاوم "التّدمير الأجنبي"، مجتمع يأخذ كتاب الله بقوة (الإنسان القرآني الذي يجتث القابليّة للاستبداد والإفساد من عقله وقلبه وجوارحه وسلوكه) ويعدّ العُدّة ضد الظلم والفساد ويبني المدينة والدولة المدنية، فيمارس المجتمع الأهلي دور الحماية الذاتيّة لوجوده من الانهيار والتفكّك أو الاختناق والموت جوعا ومرضا، وتنظيم مقاومة مدنية فعّالة ضدّ أيّ ظلم أو فساد، ومعرفة السياق العالمي وموازين القوى فيه وحاجيّات المجتمع الذّاتيّة، خاصّة وحالنا اليوم يتميّز بغياب إستراتيجية واضحة تفصّل الطّريق وتوضّح الرّؤية في مجالات التّغذية والتعليم والدّفاع والتنمية. إنّ المصير اختيار يتقرّر في النفوس، قبل أن يحدث في الأرض أو يأتي من السماء، فـ "ما بقوم" مرتبط بـ "ما في أنفسهم"، وتغيير ما بالنفس مهمّة الإنسان. هناك أنهار من أفكار وبرامج وخبرات وتجارب وموارد وطاقات يُمكن الإفادة الكبيرة منها، في توليد الطاقات المحلية بوسائل قليلة، وحل قضايا حقيقية بتمويل محلي متواضع، وخبرات إنسانية عالمية في مناهضة "العولمة" ومناهضة الحرب، والتجارب الناجحة في الاقتصاد التبادلي غير المسعّر بالعملة SEL، وفكرة التعاون والتفاعل حول قضية معينة ومحدّدة بغض النظر عن الاختلاف الذي يمكن أن يوجد في القضايا الأخرى. يقوم المجتمع الحرّ على ثلاث منظومات مستقلّة ومتداخلة في الآن نفسه : الأولى هي دولة ديمقراطية في حياتها السياسية، مؤسسة على إجماع مواطنيها على التبادل السلمي للسلطة وفصل السلطات وحكم العدل والقانون. والمنظومة الثانية هي اقتصاد مبدع في مساره، مؤسس على المبادرة الفردية والملكية الشخصية، والتراحم الاجتماعي، والتبادل المفتوح. والثالثة هي ثقافة استقلال ذاتي، للأفراد وللجماعة الوطنية، في المجال الأخلاقي، مؤسسة على مكارم الأخلاق لدى الأفراد: ضبط النفس، احترام الآخر، طاعة القانون، والاهتمام بالشأن العام. هذه المنظومات الثلاث ينبغي أن تعمل مستقلة ومتعاونة، تراقب كل واحدة منها الأخرى وتتوازن بها ومعها. الفرد الحرّ يتطوّر بالبحث المستمرّ عن الأفضل، يتساءل من أجل الفهم )ما هذا ؟( وعن حقائق الأدلّة )هل الأمر هكذا فعلا ؟( فالحرية ليست فقط حرية الكلام أو الشتيمة ! والانتخابات الحرّة لا تكفي ! إذ لا بدّ من ازدهار اقتصادي ونموّ اجتماعي يمكّن الناس من حياة طيّبة وكريمة، وما لم تتحسّن حياة الناس فإنّهم لن يحبّوا الديمقراطية والتعدّدية ولن يروا التنمية والكرامة، والازدهار الاقتصادي يتطلب الالتزام الشخصي لملايين الناس ليأخذوا زمام المبادرة، فنعمل ونخاطر ونستثمر ونحلّ المشكلات اليومية، وننتج الوقائع والحقائق، والتعاون مع كل الذين يتوقّف عليهم نجاح أعمالنا، فالنموّ والثروات لا تحدثهما القوانين... بل المبادرة والمسعى الفردي والدعم المؤسسي والثقافة المدنية والمسؤولية الشخصية والعدل. أهداف الثورة هي الوصول إلى مجتمع حرّ ينبني على المواطنة والديمقراطية والإسلام في دينامكية لا تنفصم تؤسّس لكرامة مجتمعنا وأنواره، تنتج مؤسسات سياسية ديمقراطية، تنمّي الجهات في المجال الاقتصادي، وتبدع ثقافة الاستقلال الذاتي والتراحم والحكمة والفضائل العملية والحقّ.
#رضا_السمين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار الإسلامي وبرنامج حركة الرحمة والكفاءة
-
المعارك الحقيقية لم تبدأ بعدُ
-
نريد بلادا يحيا فيها الحُبّ وتقام الصلاة
-
الرؤية السياسية لليسار الإسلامي
-
هل من أذن واعية تسمع أو عقل رشيد ؟
-
ثورة الشوارع الغاضبة
-
اليسار الإسلامي، مبادرة لإعادة البناء الحزبي
-
النظر نحو القاع وعلى اليسار، الفقراء أوّلا.
-
ما أتعس الثورة حين تدافع !!
-
- سيّدي، لقد انتصرنا -
-
ما بال قوم إذا قوّمناهم في سياستهم اتهمونا في ديننا !
-
الثقفوت في تونس والخوف من الحرية
-
أسئلة الثورة ضدّ القلوب الباردة
-
لا للمقامرة بمستقبل الوطن
-
الجمهورية الديمقراطية لا -نظام الكمين-
-
اليسار الإسلامي واستعادة القدرة على التخيّل
-
تونس : شعبٌ صنع شمسًا من جسد
-
إنتصارا آخر كهذا وتكون الكارثة !
-
الخرق
-
امرأة الليل
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|