|
الوفاة
نبيل جديد
الحوار المتمدن-العدد: 3850 - 2012 / 9 / 14 - 15:55
المحور:
الادب والفن
قبل جفاف المكالمة الهاتفية مع والدي ، كنت ألهو ضمن صفحات رواية في الحافلة ، فهي المرة الوحيدة التي يصر بها ويؤكد ثم يلح على ضرورة حضوري مراسم الدفن ، فقد جرت العادة على أن يمثلنا –كامل أولاده- خلال الأفراح و الأتراح ، وبدا لي تمسكه بتواجدي مخيفا إلى درجة جعلتني أتوه في التخمينات . - ابن عمك توفي ... وأنا أعرف أنني أكبر سنا من أولاد عمي ، وليس بينهم من هو في سن الوفاة ؟! سخرت من هذا الخاطر واستفسرت : - أيهم ؟!.. - أبو أحمد ..زميلي في الدرك .. أدركت عندها مقصده : أحد الأقرباء ، فسارعت إلى السفر مع معرفتي باستحالة وصولي في الوقت المناسب ، لكي أبدو مثل من قام بكل ما عليه ، إرضاء لرجاءات الوالد ، بينما تتنازعني مشاعر الغضب من هذا الواجب الثقيل الذي سيرهقني خلال السفر و الجنازة ، ومشاعر الحزن على أبي الذي بدا كأنه يدعوني إلى جنازته وهو يراقب أوراق الأصدقاء تتساقط سريعا ، ومشاعر الاكتئاب لطريقتي الحيادية في استقبال نبأ الموت ؛ كأننا سكان المدن الكبيرة نفتقد لحلاوة معنى القرابة ؛ ولأن الرواية تتحدث عن موضوع مشابه ، حاولت استغلال الضوء المتبقي من النهار في تقليب صفحاتها ، حتى باغتتني العتمة ، فوضعتها جانبا ، ورفعت نظارات القراءة لأراقب قليلا الفلم ، فلم أستمتع ، مسحت رؤوس الركاب أمامي متخيلا وجوههم ، ثم ألقيت نظرة على من يشاطرني المقعد ، وكان منشغلا بأحداث الفلم المصري ، التفت نحوي ، فتظاهرت بمحاولتي رؤية الطريق من خلال الزجاج ، لكن العتمة الخارجية حوّلت النافذة إلى ما يشبه المرآة ، فاستطعت تحديد درجة اسمرار الشاب ومدى اتساع صلعته و سماكة نظارتيه ، ثم أشحت وجهي باحثا عن جميلة بين الركاب تلهب خيالي ، فأثار انتباهي شعر أشقر منسدل طويل على بعد مقاعد من الصف المقابل ، حاولت تخيل ملامحها ففشلت ، وتسليت بمشهد حركي على التلفاز أثار موجة من الضحك بين الركاب ، ثم سويت مقعدي ليناسب النوم ، لكنني لم استطع الانشغال عن مشاعري المتناقضة ، و التي زادت إرباكا بدخول مسحة من الرضا على نفسي لتصوري مدى سعادة الوالد لاستجابتي له ، فارتحت لابتسامته التي ستبدو غريبة ضمن أجواء الكآبة في القرية ، وتخيلته يفخر بين الأقرباء بحضور أولاده جميعا حتى أبعدهم ، و بافتقار مشهد الفخر هذا إلى مكان ريفي حاولت استكماله ، فتتالت ومضات قريتي ، كأنها نداء حار ينساب عبر العقود ، فعلاقتي معها علاقة ذاكرة متقطعة ، أرى في ذهني دروبا لا تؤدي إلى مكان ، وتحفظ مخيلتي أمكنة لا أعرف طريقا إليها ، و الوجوه تبدو غائمة لا تنتنمي إلى أسماء ، وأسماء الأشخاص – حتى الفتيات – شاردة صعبة التجسيد ، فمنذ كنت في العقد الأول تهتكت الحبال بيننا ، لأن وظيفة " الدركي " جعلتنا كالبدو نبحث عن الكلأ في الأصقاع ، فنبتعد عميقا في الصحراء حينا ، ثم نجمع أمتعتنا ضمن شاحنة لنقترب من البحر حينا آخر ، لكن هبات الصيف –حيثما صرنا- كانت تحملني إلى أحضان قريتي لشهر أو شهرين ، فأختمر عنبا و تينا ، وتملؤني جدتي حبا وحنانا – رحمها الله – وليبقى وجهها في الذاكرة الوحيد الذي ينتمي إلى اسم ، وهاهو يجلدني بسياط تأنيب الضمير لعدم حضوري جنازتها ، فيظهر الألم قلقا يثير انتباه جاري : تسوية الجلوس ، محاولة النوم ، اتكاء جانبي لتفحص الممر الطويل ، مراقبة الشاخصات التي تمرق خطفا عبر نافذته ؛ فأشعر بالارتباك لنظراته ، وأتشاغل عنه ، لكنه سرعان ما يتأبط الفلم الكوميدي الطويل في تلفاز البولمان ، بينما تأخذني الوجوه الريفية إلى بداية عقدي الثاني حيث صرت أرى في استمرار لهوي – صيفا - مع زملاء المدارس في تلك البلدات الصغيرات المتباعدات إغراء أكثر من حجارة قريتي الناتئة و حاكوراتها المتطاولة ، وتحول اللهو فيما بعد عملا في العاصمة باعدني حتى عن عائلة البدو الرحل التي استقرت أخيرا في اللاذقية ، على امتداد الأزرق دائم التموج ، كحقل القمح أمامي الذي تسبح فيه الأصابع اللدنة ، مما أظهر جزءا من الخد ينسجم في اللون مع اليد الطرية ، فقررت استكشاف وجه صاحبته عند أول توقف للحافلة ، لأن مشكلة الوجوه تغزوني بدءا من الركاب الذين لا أرى منهم إلا قمم الرؤوس المشعرة أو الجلحاء ، و انتهاء بعجزي عن تذكر ملامح ابن العم المتوفى ، الذي أجد فيه ضرورة ملحة ، ففلسفة الوجه مهمة لنا كثيرا نحن سكان المدن ، من خلاله نحدد الصلة بيننا ، فهذا وجه زميل عمل ، وهذا وجه جاري المقابل ، أو هو وجه الطابق الخامس ،أو الثالث ، وهكذا تستطيع القول : صباح الخير جار ، أو السلام عليكم زميل ؛ وعندما تفشل في سياسة الوجوه ستبدو انعزاليا مترفعا ، والمصيبة الأكبر في القرية ، فهم لا يكتفون بتصفح الوجه ، بل يلامسون الدم و الخلايا و الصوت و الرائحة ، وهكذا يحددون لك من تصافح ومن تحتضن ومن تقبل ، وبذكر القبلات اندفعت أتمرغ في مرج الذهب المتموج أمامي ، وأسترق النظر من جاري خشية قراءته أفكاري فألحظه يكبح ضحكاته ، ويرتسم شارباه الأسودان الكثان كنقيض صارخ لخيوط الشمس المنسدلة على فسحة الخد القمرية ، فمسدت براحتي شاربي الأصهبين ، لأجد فيهما صلحا للألوان المتباعدة ، بينما نظرات ابني الجامعي تشي برغبته امتلاك شاربيّ فيقول : - سأذهب إلى المزين و أطلب منه صباغة شعري بهذا اللون التائه ما بين الليل والنهار . فأبتسم له و أعيده إلى محور صراعنا الذي بدأ منذ إحالتي على التقاعد وإعلاني الرغبة في استيطان اللاذقية قرب أهلي : - السباحة البحرية هي من صنع مزيج الألوان هذا . فيحتج مع شقيقته على ترك دمشق : - لن تقنعنا يا أبي ... لقد ولدنا وشببنا هنا ، ولن نستطيع العيش في مكان آخر . - مسقط رأس والدك وجدك في اللاذقية ، وهناك ستكون قبورنا ... - أما نحن فمن دمشق واليها ... - ألا تقومان بواجب زيارة قبورنا في صباحات العيد ؟... - بعد عمر طويل ... - والسفر إلى اللاذقية مربك وطويل ... - لا يهم الميت مكان القبر ، فلتكن القبور هنا ... - ومراسم التشييع من يقوم بها ؟! .. أين متعة الجنازة الكبيرة ؟! من سيعزيك في غربتك ؟.. - المعزون هم المعارف ، وأصدقائي وعلاقاتي هنا ، وليست هناك ... - يا بني يقول المثل : أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب ... - ويقول المثل أيضا : رب أخ لم تلده أمك ... ثم لم هذا الإصرار بالحديث عن النهايات ؟! فلنتكلم عن البدايات ، فلتفكر بجمالية انتشار سلالتك في دمشق ... وهنا يطل فخر والدي بإنجابهما لكل واحد منا في بلدة مختلفة ، ثم توزيعنا بحكم الوظيفة على مدن أخرى ، في حلب وحمص ودمشق وطرطوس و اللاذقية ، فباتت لقاءاتنا تقتصر على الاطمئنان الهاتفي ، أو مصادفة الإجازات في بيت العائلة باللاذقية ، أما الحبل السري مع القرية فقد حافظ عليه العجوزان ، وهاهما يحاولان تسليمه لنا ، وأزعجني خاطر "التسليم والاستلام " هذا لايحائه بقرب نهايتهما ، ثم هل تكفي زيارة واحدة لاستلام الراية ؟ أم أن الوالد سيجدها مناسبة ليطلبني في الأعراس أيضا ؟! لأكرر وقوفي تائها في " مركز الانطلاق" كما الآن ، مترددا بين التحرك إلى القرية مباشرة ، أو اللجوء إلى منزل العائلة في اللاذقية لقضاء هذه الليلة ، الاحتمال الذي يفقدني إيجابية : طاعة الوالد ، فحسمت الأمر ، وطلبت من سائق العربة الصغيرة إيصالي إلى القرية ، محاولا الاستفادة من العتمة للابتعاد عن استجداء معرفة الأقارب ، ورغما عن أجواء الحزن داخلني شعور من النشوة لمعرفتي الغريزية بعض الوجوه التي احتشدت حولي ، وساعدني اصطفافهم للترحيب و تقبل التعازي في التمييز الهادئ بينهم ، والتحضير لنوعية السلام المفترض ، فبعد تقبيل يد أبي ، رفعت كف عمي لتقبيلها لكنه قاومني واحتضنني لتبادل القبلات ، بينما عيناي تسترقان النظر لاستكشاف التالي ، برز وجه مألوف تماما بشاربيه الأسودين الكثين وبشرته السمراء ونظارتيه السميكتين وصلعته الواسعة ، وكأن عمي يسلمني لجاره قال : - وصل ابن عمك من دمشق منذ لحظات ، ألم تلتقيا ؟! .. مد الآخر كفه للمصافحة ورفع ذراعه الثانية للاحتضان ، ضممته إلى صدري وهمست خجلا : هل يبقى الأمر سرا ؟!.. أجابني ونحن نبادل الخدين : خطيئتنا متبادلة . أمسكته من كتفيه : كم تغير المدن ملامح الوجه !! وبلهجة من عركته الحياة تساءل أبي : والنفوس أيضا؟! أما أنا لا أدري كيف توقعت بأن شقراء البولمان ستكون بين الحشد فتطاولت أبحث عنها ؟!..
#نبيل_جديد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكامل
-
مجموعة ق ق ج
-
اغتيال خائن
-
الاختيار - قصة
-
حياة مواطن- ق ق ج
-
الاحفاد- قصة
-
اللائحة السوداء- قصة
-
البريق - قصة
-
استمرار الهروب_قصة
-
الكنز
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|