|
الكامل
نبيل جديد
الحوار المتمدن-العدد: 3849 - 2012 / 9 / 13 - 21:24
المحور:
الادب والفن
دوت الطلقة ، فقفز سائق الجرافة هاربا ؛ ومع صوت الطلقة الثانية ، تجمع عمال الورشة و مهندسوها بعيدا عن آلاتهم خلف زاوية منزل " ديبو " ، بينما انتصب العجوز فوق كومة أحجار ، يرقب بتحد الذعر المتفجر ، و يتشاغل بتلقيم بندقية الصيد طلقتين أخريين ، ثم صاح : - اتركوا القرية كلها وإلا اصطدتكم طعاما للعشاء فتسللوا فرادى يتتبعون الطريق الإسفلتي الذي أنشأوه في الوقت الذي ظهر فيه فارس يمتطي حصانا ويأخذ تعليماته من العجوز : - اتصل بهذين الحيوانين وأخبرهما أن السيل بلغ الزبى ... وعندما انطلق الجواد بالعم حبيب مغرّبا ، نزل كامل آغا بحذر عن تلته يتعثر بغضبه و شتائمه على الأولاد العاقين الذين سبق له و أخبرهم بمخطط الطريق الذي يزيل القصر وساحته ، لكن ولداه ( العميد مالك و الدكتور المهندس أحمد ) نصحاه بعدم الاكتراث للخرائط ووعيد مهندسي البلدية ، وانهما سيسيران بالإسفلت كما يشاء ، ومع هذا بقيت الآليات تتجه نحوه بإصرار لتقتلعه وقصره ، حتى اللحظة التي تحطمت بها البلاطة الأولى من الساحة ، عندها لم يكن أمامه إلا أن يتناول البندقية لاعنا الزمن الذي ألجأه لتنفيذ أعماله ، إذ اعتاد الفعل عبر رجاله ، فكانت ابتسامته أو همسته أو تجهمه بل حتى تشنج سبابته أوامر مفهومة و كافية لينطلق الرجال بعد إلى تجسيد رغباته تلك و تحقيق مشيئته ، منذ كان رجاله أشقاؤه الأربعة ، وحتى حين استبدلهم فيما بعد بمن هم أفضل طواعية و أكثر شراسة من أقربائه الفلاحين ؛ و ما كان ليشترك في تنفيذ أمر صدر عنه إلا في المنعطفات الهامة من حياته ، فهو لا يستطيع نسيان " معركة القوزلّي " والتي خطط لها وشارك فيها بغية القضاء على شفيق آغا في صراعه معه للسيطرة على القرى العشر المجاورة ؛ ففي عيد " القوزلّي " جرت العادة أن يجتمع سكان القرى كبيرهم وصغيرهم عند مزار قريب ، وبين أشجار السنديان و البلوط العتيقات ، ينسون الضغائن و الأحقاد ، ويقدمون الأضاحي ، ثم يحتفلون بقية النهار ، ويتفرقون وقد تصالحوا وصفت القلوب وغفرت الخطايا ، ليبدأ عام جديد وذنوب أخرى ، وفي ذلك العام ورد إليه أن شفيق آغا خطط لقتله وأشقائه ، لكن بالمخاتلة والمداورة و حنكة التخطيط استطاع استلهام روح "القوزلّي" : كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ،فحقق نصره ... ونتيجة لخرق شفيق آغا تقاليد العيد انتقل الشيخ سعيد إلى صفوف كامل آغا فكانت الضربة القاضية للأول و الانطلاقة المفتوحة للثاني فأتم الإحكام على ريفه الجبلي ، أحس بالتالي بحاجته الماسة للحصول على مكافأة الانتصار ، فأشاد قصره الفسيح بشكل يتوسط القرية التي أحاطت به كسوار محكم الإغلاق ، معبرا عن غريزة قائد عسكري ، ولما أتم البناء ، انتصب يرقب إنجازه ، ويستمع إلى مباركات الشيخ سعيد الذي ختمها بقوله : قصر كهذا يحتاج إلى سيدة تتستت عليه ، فاجتاحته رغائب الزواج ، وجمع رجاله مصطحبا الشيخ سعيد معه ليطلب " زريقة " من تلك القرية الجنوبية البعيدة ، مع تصميمه المسبق على إحضارها إلى قصره بأية وسيلة كانت فقد أثارته الحكايا عنها لدرجة عشقها غيابيا ، و آخر أفعالها كانت إنقاذ قريتها من التدمير والحرق أمام حملة تركية تأديبية ، فبلجوء الرجال إلى الشعاب والغابات ، جمعت نساء القرية ليحملن الأعلام البيضاء ، ويحرقن البخور ، ويرددن الأناشيد الدينية : طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ... فأعلن القائد التركي العفو وحوّل حملته إلى قرية مجاورة ليبيدها ، وقد وجد كامل في زريقة المرأة الوحيدة القادرة على التستت في قصره ، وسرعان ما أسرته حكاياتها التي لا تنتهي ، ونصائحها التي لا تخيب ، و أوامرها الحازمة للرجال والتي لم تكن لتتكرر ، وحققت له كل ما يشتهي ، إلا أنها عجزت عن إنجاب الذكور فبقي نداء الصبيان يغلي في عروقه ، ولم يهدأ هذا الغليان رغم معرفته الأكيدة أن لديه ولدا ذكرا ، وان حميدان هو ابنه الوحيد ، بل كان ذلك يزيده اضطرابا لإحساسه أن امتداده سيكون " حراما " ، وعصفت به رغبات قتل حميدان ، إلا أنه امتنع مرارا عن ذلك خوفا على نسله المهدد بالانقراض ، و لم يشعر بالراحة التي تشبه التخلص من خصومه إلا عندما تمكن من التوصل إلى فكرة اخصاء حميدان – ليمنع امتداد تلك السلالة غير الشرعية – فنفذها فيما بعد ، عندما شعر بمنافسة حميدان له على زوجته الثانية ، والتي استطاع الشيخ سعيد وصفها له ، وتأكيده على إنجابها الذكور : نحيلة ذات عينين سوداوين ، وبشرة بيضاء صافية يشوبها أعلى الأنف نمش أشهب خفيف ، فانطلق العم حبيب في مهمة البحث السرية بعيدا عن "عيون" زريقة ، التي لم تشعر إلا والضرة تحتل غرفة في القصر ، إلا أن السيدة الجديدة كانت من الضعف بحيث بقيت خانعة " لست القصر " .. و مع أنها استطاعت إنجاب ذكرين متتاليين ، إلا أنها لم تعرف كيف تتقي هزائمها المتتالية أمام " الست " و التي بدورها استحوذت على الصبيين و أنشأتهما كطفلين لها ، أما كامل آغا فقد كانت سعادته بخضوع الواحدة للأخرى تكاد تتساوى مع سعادته بمالك وأحمد ، فترك أمرهما لزريقة عن طيب خاطر ، آملا في استعادة ثقتها ومحبتها ، ورغبة منه بأن يكتسبا بعض قوتها وذكائها ، بالإضافة إلى عدم إمكانية ملاحقة أمور البيت و الأولاد نتيجة توسع أعماله ، خاصة في التبغ ، الذي أدخله إلى قراه كمحصول رئيسي للزراعة ، واعتبر مجيء " مالك وأحمد " بمثابة مكافأة إلهية له رافقها الرزق الحقيقي عبر تكدس الأموال ، واتساع اتصالاته مع الفرنسيين الذين تفهموا حاجاته ومتطلبات ريفه ، واستطاع بمجهود شخصي منه و بمعونة الحكومة وسخرة الفلاحين –إيصال طريق لعربة الخيول ينتهي عند باب قصره ، وعلى نفس الطريق عبرت سيارة صديقه القائد الفرنسي الذي قال : عند هذا الباب غاية الجبل ومنتهاه ، ومع زهو ّكامل آغا بهذا الكلام آنذاك ، إلا أنه يرى في الطريق -الآن – نقمة عليه ، فما حدث من تطورات و أحداث وتأميم للريجي وغيرها ، ومطالبة القرى التالية و الأكثر إيغالا في الجبال بطرق وكهرباء وماء ، بالإضافة إلى رغبة ابنه العميد مالك في الوصول المريح بسيارته الحديثة كارجة على الإسفلت ، جعلت من الطريق المرصوف حجارة و المعبد بالحصى موضة قديمة ، وتلك المقارنة بالذات بين ما عجنت يداه و ما يريده أولاده من تحديث أرعن ، فجّرت ذاكرته على تلميحات حنونه من " الولدين " لإعادة تخطيط القصر وبنائه بشكل فذ ، فانتهكته الشكوك بتآمرهما عليه مما دفعه للهياج في وجهيهما ، والضغط بكل قوة عليهما ، لترك الإسفلت ينساب ملتفا حول القرية ، لكن المهندس المنفذ ارتأى الاستفادة من جودة صنع الطريق القديم حتى المتر الأخير منه ، ثم المتابعة عبر القصر والخروج من القرية في " السهلة " وتجاوزها ، منقذا في نفس الوقت سوار البيوت المحيط بالقصر من الهدم ، ومع إصرار المهندس على أن الطريق ( فنيا ) لا يمكن أن تغير مسارها ، وأمام مقاومة كامل آغا وتهديده لحياة العمال ، لجأت البلدية إلى حماية الشرطة والعودة إلى إكمال الطريق ، لكن الجميع فوجئوا بفصيلة عسكرية مسلحة قدمت من دمشق ، قد أحاطت القصر في مواجهة الشرطة ، وقدّم قائدها لرئيس المخفر برقية تنص على " اعتبار القصر وملحقاته أثرا وطنيا تابعا لدائرة الآثار والمتاحف لا يجوز المساس به " ، وأوضح قائد الفصيلة : أن كامل لم يهدد أحدا ولم يطلق النار باتجاه بشري ، بل كان يقصد بضع حمامات تنقر الحب المنشور على السطح ، والدليل هو تأكيده على الاصطياد لطعام العشاء ، ومن غير المعقول أن يكون من أكلة لحوم البشر !!... أما الآغا فكان يرتشف القهوة على ( المضلة ) وهو يراقب الآليات تتابع شق الطريق بشكل قوس حول القصر ، وتأكل أمامها مساطب البيوت القريبة ، بينما ابتسامة راضية غامضة تغزو عينيه ، وسبابته ترتعش معلنة الحياة .
#نبيل_جديد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مجموعة ق ق ج
-
اغتيال خائن
-
الاختيار - قصة
-
حياة مواطن- ق ق ج
-
الاحفاد- قصة
-
اللائحة السوداء- قصة
-
البريق - قصة
-
استمرار الهروب_قصة
-
الكنز
المزيد.....
-
مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على
...
-
مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح
...
-
كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو
...
-
ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
-
الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا
...
-
بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب
...
-
مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب
...
-
فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
-
من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة
...
-
إطلالة محمد رمضان في مهرجان -كوتشيلا- الموسيقي تلفت الأنظار
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|