|
مفاهيم مظلومة- البيروقراطية: حاجتنا اليها اكثر لا اقل
سميح الصفدي
الحوار المتمدن-العدد: 1121 - 2005 / 2 / 26 - 05:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عودتنا أدبيات السياسة العربية على النقد "المتقدم" للمفاهيم، متقدم اعني بها: مبكر، لا تاريخي، وبالتالي لا عقلاني من وجهة نظر تاريخية. بالامس نقدنا الديموقراطية والليبرالية باسم الاشتراكية، ناصبنا العداء للقيم البرجوازية الحديثة باسم البروليتاريا، نبذنا القومية باسم الاممية والانسانوية..... وحالنا على الارض ما زالت تراوح مكانها: استبداد، غياب للعدالة والمساواة، "انكسارات" ما قبل قومية (طائفية، عائلية، عشائرية......). ان غياب مفهوم العقل التاريخي من وعي غالبية الشرائح المثقفة العربية قد ادى الى تناقضات جوهرية انعكست بوجود فئتين من المثقفين: - الثوريين وهم الذين يفكرون بالعقل المجرد، هذا العقل الذي يبقى صحيحا ما دام مجردا.. كما يقول العروي: "اما اذا طبق على الواقع فإنه يعطي الدليل الفوري على عجزه لأن المجرد لا يعطي مقياسا للتعامل مع الواقع، وهكذا ينشأ الارهاب. الارهاب هو اذن في العمق ارتطام العقل المجرد بالواقع الملموس". العقل المجرد يفهم هذا حق وهذا باطل، هذا صحيح وذاك خطأ، ولا يقيم اعتبارا للممكن، ومن هنا فإن احكامه قسرية، لا واقعية. - والفئة الاخرى هي فئة المنبطحين، والذين يعترفون بالواقع لكن دون اية رؤية للامكانات الكامنة فيه، وبالتالي فهم يحاولون اشاعة ثقافة استسلامية متصالحة مع الواقع كيفما كان، تارة باسم الواقعية، وتارة اخرى باسم الخصوصية الثقافية، او ضرورات المرحلة...والخوف من التغيير بحجة المؤامرات الخارجية.. ولسان حالهم: "لماذا في مثل هذا الوقت بالذات؟؟؟"... بين هذا وذاك يقف قلة من المثقفين العقلانيين "بالمعنى التاريخي" ، الذين يستوعبون الواقع ومحركاته، وفي نفس الوقت يمتلكون ارادة التغيير، ولهذا فهم في حالة بحث دائم عن الممكنات الكامنة في هذا الواقع، عن اساليب التأثير فيه ودفعه الى الامام خطوة، يفتشون دوماً عما اسماه ياسين الحافظ "الوعي المطابق" – المطابق للواقع والمناسب للهدف المرسوم. لكن امتلاك هذا الوعي ليس بالمسألة البسيطة والتلقائية، انها مهمة تقتضي مجاهدة النفس كما كان يقول الياس مرقص، ومراجعة المفاهيم وتطورها بشكل دائم ومستمر. ان المفاهيم لا زالت اشكالية في ثقافتنا، ليس هناك تحديد واضح وتاريخي للمفاهيم، ولعل محاولة "عبدالله العروي" لرسم خطوط عريضة للمفاهيم من المحاولات القليلة ان لم نقل اليتيمة في وطننا العربي. نحن نستعمل مفاهيم الايديولوجيا والحرية والدولة كل على هواه، مفاهيم اخرى كالحب والجمال تعامل كبديهيات، الديموقراطية والعدل والمساواة تخرج من سياق تطورها التاريخي وتختصر الى شعارات تتطلب التحقيق الفوري على صورة "آخر طبعة" متوفرة في السوق العالمية. استوقفني في كتاب العروي الرائع عن مفهوم الدولة معالجته "الفيبرية" لمفهوم أو مصطلح البيروقراطية، هذا المفهوم الدارج على السنتنا... سيء الصيت والسمعة... والذي يكاد يكون المفهوم الاكثر تعرضا للظلم والتسطيح من قبل المثقفين العرب، بعد قراءة العروي لا بد ان تعيد النظر بكل مفرداتك ومفاهيمك، وستتوقف عن محاولاتك لتمثل انتقادات الغربي لمفاهيمه وكأنها مفاهيمك، في اللحظة التي نحن فيها يجب ان نعامل المفهوم من منطلق وضعنا ومرحلتنا التاريخية، لا من منطلق تطور المفهوم الى نهايته القصوى في العالم المتقدم. ولا من منطلق العقل المجرد. لأن مثل هذه الاخطاء المنهجية قد تحول (على مستوى الوعي) مطلباً مهما وأساسياً من مطالب التطور التاريخي والمجتمعي والسياسي الى عائقا في وجه الاصلاح والتطوير تستوجب محاربته، وبالتالي سنشهد مظهرا من مظاهر خداع النفس وسنسقط في المثالية دون ان ندري. وهذا ما حدث مع مفهوم ومطلب البيروقراطية....
ممكن ان نقرأ في كتبنا ومقالاتنا ما يلي حول البيروقراطية:
"البيروقراطية: وهي إحدى أهم العوائق في وجه الإصلاح والتطوير, وهي من نتائج نظام الحزب الواحد, فاستبعاد ذوي الكفاءات والمهارات – تحت مسمى أنهم غير أكفاء- والتعيين والتوظيف بناء على المحسوبيات والولاء, أدى إلى وصول نوعية من الأشخاص إلى مراكز مفصلية في الدولة ممن يبدون في ظاهر سلوكهم وكأنهم يريدون خدمة الوطن بينما هم في الواقع لا يخدمون سوى أنفسهم ومصالحهم الشخصية الخاصة, مما زاد من اتساع الهوة بين المواطن والسلطة, كما ساهم ذلك في تكديس أعداد كبيرة من العمالة غير المؤهلة في مؤسسات الدولة, وأمثال هؤلاء لا تفيد معهم برامج التأهيل والتدريب لأن جلهم من الفسدة والمرتشين". الدكتور عمر فوزي نجاري (كلنا شركاء/ 18/2/2005)
أو "ان البيروقراطية المتفشية في حكوماتنا العربية تعيق التطور ولا تضع الرجل المناسب في المكان المناسب وتعامل الفرد كرقم لا كانسان من لحم ودم" من الصعب ان تسمع في مناقشات المثقفين، في ندواتهم او منتدياتهم، في الصحافة او وسائل الاعلام... استعمالا صحيحا للمفهوم، البيروقراطية تهمة جاهزة تلصق دائما بكل نظام متخلف او دولة مستبدة دون حد ادنى من التفكير.
لكن "العروي" واستنادا الى "ماكس فيبر" يقول شيئا آخر:
- "ان اجتماعيات الدولة هي وصف عملية تكون البيروقراطية، أي دراسة حركة العقلنة".
- "ان ظهور البيروقراطية في مجتمع ما له دلالة لأنه يرمز الى تحقيق: 1- موضوعية الدولة التي تفصل عن ذات السلطان. 2- موضوعية القانون الذي يفصل عن ذات القاضي او الولي. 3- موضوعية المسطرة القضائية التي تفصل عن ذات المتقاضي. 4- امكانية التنبؤ بسلوك السلطان والولي والقاضي وكل من له نفوذ. هذه هي شروط العقلنة. في اطار ظروف معينة، يعرف المرء مسبقا النتيجة، فيمكن ان يكيف الوسائل مع الاهداف المحددة".
هنا وجب التساؤل: هل نحن العرب نعاني حقا من البيروقراطية أم نعاني من غيابها؟؟!!
ويجيبنا العروي:
"لا تعني البيروقراطية مجموعة من الموظفين، كيف ما كانوا، بل تعني موظفين يعملون وكأنهم جيش مدني. ان ماكس فيبر هو الذي جعل من هذا المفهوم محور اجتماعيات السياسة وعلامة دالة على اكتمال الدولة العصرية. يقول: "ان مفهوم البيروقراطية يتفرع عن مفهوم الانضباط... وتفوق البيروقراطية في مجال الادارة كتفوق الآلة على العمل اليدوي".
"تعتبر البيروقراطية انها الطبقة الوحيدة الموجودة وتعتبر ما سواها افرادا مبعثرين يتكتلون من حين لآخر لاسباب عابرة. لا تعرف الحرفة ولا الطبقة ولا الحومة (الحارة) ولا المدينة ولا المقاطعة، تعرف فقط الفرد المنسلخ عن محيطه المحلي والعائلي والحرفي. تشتغل متمثلة خريطة يسكنها افراد منفردون تنظمهم الادارة، متى تريد، حسب قواعد معلومة. تنفذ الاعمال في اوقات وعلى وتيرة محددة، اسبابها (أي الاعمال) معروفة ونتائجها معروفة ايضا مسبقا. فهذا العمل الذي لا يعرف الخوارق ولا ينتهز الفرص العابرة والذي يحصل باستمرار في نفس الصورة وعلى نفس الوتيرة بحيث يعود من السهل التنبؤ بحصوله، نستطيع ان نسميه عقلانيا باعتبار ان العملية الحسابية، اذا عرفت فرضيتها واذا اتبعت المسطرة المعلومة فانها تاتي لا محالة بالنتائج المتوقعة. هذا ما يعنيه بالضبط فيبر اذ يقول: "ان البيروقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحويل العمل الجماعي الى عمل اجتماعي معقول ومنظم... انها تشجع طريقة عقلانية في الحياة، علما بأن مفهوم العقلانية يحتمل معاني جد متباينة" "يتميز السلوك البيروقراطي بالمزايا التالية: التفريد، التجريد، التعميم، وهي بالذات مزايا العقل المجرد، ما اسماه هيجل بالاعقال، تلك الموهبة الانسانية التي تجزيء أي كيان الى وحدات مستقلة تطبق عليها قواعد الجمع والطرح، والتي تهتم بالكم دون الكيف. لا يعني الرياضي كون الفرد أصفر او احمر، مربعا او مثلثاً، كذلك لا يعني البيروقراطي ان يكون المواطن غنيا او فقيراً، شريفاً او عامياً، صحيحاً او مريضاً، كلا الرجلين يخضع خضوعاً كلياً للإعقال".
يبدو من الصعب رفض هذه العلاقة بين الدولة الحديثة وبين عملية العقلنة، ونشأة البيروقراطية كأداة تحقيق تلك العقلنة. ان نظرة سريعة الى ما يسمى بالبيروقراطية في العالم العربي ستوضح ان: "البيروقراطية القائمة لا تجسد العقلانية بقدر ما تحافظ على العلاقات الموروثة، ما زال الناس ينظرون الى التوظيف العمومي كهبة لا كخدمة. ما زالت العلاقات بين الموظفين علاقات احسان وولاء. ما زال العامل في تحديد حجم التوظيف هو الحاجة الاجتماعية التي تنمو مع الضغط السكاني (مصر) او مع ضرورة المحافظة على التوازنات الطائفية (لبنان)، بدون التفات الى المردود المنتظر من التوظيف، لذا لم تتحقق موضوعية القانون والدولة والمسطرة. ولم يتوحد سلوك الموظفين الى حد يمكن معه التنبؤ. ما زال سلوك كل موظف مرتبطا بذاته وبشخصية من يحاوره في شأن خدمة معينة". (العروي: مفهوم الدولة)
ليست مشكلة العرب مع البيروقراطية بل مشكلتهم حتى الآن في غياب حد ادنى من البيروقراطية، كل شؤون الناس في الوطن العربي تدار بالمحسوبيات والواسطة واللفلفة وتمسيح الجوخ، لا يوجد افراد متساوون أمام المسطرة القانونية، معاملات الناس تسير حسب مناصبهم وعائلاتهم ونسبهم، تغير اوضاعهم يحسب وفق منطق المعجزة وانتهاز الفرص بشكل فردي.
لذلك يخلص العروي الى ان احد أهداف الاصلاح الاداري في الوطن العربي هو: "إنشاء طبقة بيروقراطية بمعنى عصري، أي تكوين موظفين مدربين مختارين على اساس مباراة مفتوحة للجميع، يتقاضون رواتب معلومة، ويطبقون قوانين عامة، ويخضعون لتنظيم هرمي. ينتظر من العمل البيروقراطي ان يفصل مفهوم الدولة عن شخص السلطان، ان يجرد القانون عن كل تـأ ثير ذاتي، ان يشيع الضبط والانضباط في المجتمع".
#سميح_الصفدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هوت من السماء وانفجرت.. كاميرا مراقبة ترصد لحظة تحطم طائرة ش
...
-
القوات الروسية تعتقل جنديا بريطانيا سابقا أثناء قتاله لصالح
...
-
للمحافظة على سلامة التلامذة والهيئات التعليمية.. لبنان يعلق
...
-
لبنان ـ تجدد الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت
...
-
مسؤول طبي: مستشفى -كمال عدوان- في غزة محاصر منذ 40 يوما وننا
...
-
رحالة روسي شهير يستعد لرحلة بحثية جديدة إلى الأنتاركتيكا
-
الإمارات تكشف هوية وصور قتلة الحاخام الإسرائيلي كوغان وتؤكد
...
-
بيسكوف تعليقا على القصف الإسرائيلي لجنوب لبنان: نطالب بوقف ق
...
-
فيديو مأسوي لطفل في مصر يثير ضجة واسعة
-
العثور على جثة حاخام إسرائيلي بالإمارات
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|