|
رواية – الإرسي - لسلام إبراهيم: نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق -3 -
سلام إبراهيم
روائي
(Salam Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 3847 - 2012 / 9 / 11 - 18:38
المحور:
الادب والفن
رواية – الإرسي - لسلام إبراهيم: نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق -3 -
# الاستخدام الموفق للغة العامية: ——————————– لقد حاول الكثير من الروائيين العراقيين والعرب استخدام اللغة العامية في نصوصهم السردية مشفوعين بدوافع فنّية وجمالية ونفسية تعبيرية. لكن الكثير منهم فشلوا في توظيف المفردة العامية . كانت المحاولة الأكثر فشلا تلك التي قام بها الروائي “يوسف القعيد” حينما كتب رواية كاملة باللغة العامية. فحين يلجأ السارد إلى استخدام المفردات العامية ينبغي أن تكون هناك ضرورة ووظيفة تعجز عنها مفردات اللغة الفصحى. لكن في هذه الرواية ، تأتي المفردة العامية متلألئة متألقة وضاجة بالشحنات التعبيرية : -(وجدت نفسي تزداد ضعفا أكتمه في سرّي ، وأفضي به في أغباش بيوت الله المبعثرة .. أبوح به نائدا مرددا ديمومته الراسخة في الأعلى – ص 22). وقد كان "سلام" موفقا جدا في اختيار الحوارات والتعبيرات العامية المناسبة لمستويات شخصياته التعليمية والثقافية. فمن غير المعقول أن تضع تعبيرات عالية الشعرية بالعربية الفصحى على ألسنة أناس بسطاء وخصوصا في لحظات الاحتدام العاطفي. خذ مثلا الموقف الذي يأتي فيه "سلام" إلى بيت عمّته بعد خمس سنوات من الفراق المحزن والانتظار المرير الممزوج باليأس ، فتنتفض العمة المحبّة من سكونها الموحش : (.. راحت تتلمس جسده بأصابعها قطعة.. قطعة وكأنها تريد الوثوق من حضوره الساخن، ناحبة مرددة : -عمّه .. إنت حي عمّه .. إنت حي .. قالوا إنت مفقود يا عمّة .. يا بعد روحي يا عمّة – ص 36) . ولو استخدم سلام مفردة (عَدِل) المرادفة لصفة (الحي) في اللغة العامية العراقية لكان تقطيع القلب أكثر دقة. # ومن المستحيل على أي متلقي يقرأ رواية - سلام ابراهيم - بهدوء ودقة ومشاركة انفعالي مبرّر ، خصوصا من القراء العراقيين أولا ، وممن مزقت أرواحهم ويلات الحرب – ولا أعلم ، كيف يموت المؤلف والقارئ حسب الأطروحة البنيوية المعروفة – ثانياً ، أن لا يتوقف عند زعقات الاستغاثة التي كان يطلقها المقاتلون الذين أصابتهم الأسلحة الكيماوية. هذه استغاثات مازالت تدوّي في الوجدان والروح والذاكرة ، سمعناها ونحن في خنادق الحرب في مجنون، وهم – رفاق سلام الضحايا في الشمال – فانرعبنا وصرنا نتوسل بالحمامة البيضاء العزلاء الصغيرة أن تكتشف بوادر الضربة الكيماوية قبل وقوعها ! أما سلام إبراهيم – والحكاية حكايته – فقد “ذاقها” ، وكان ضحيّتها : - يمّه تعالي ابنك عمه (يمكن أن تكون لفظة “يمّه” العراقية هي أعظم نداء أمومي في التاريخ فهي تندفق من قعر سويداء القلب ، في حين تخرج لفظة “ماما” من طرف الشفتين الجاف!! هل هذه عنصرية ؟!) -يمّه راح أموت وما أشوفك -بويه وينك بويه تعال -يا بويه عيوني -يا ياب احترقت .. ولك ياب طفّيني -أنعل أبو اللي ورطني بالكفاح المسلّح -ولكم الهوه .. يا ألله الهوه !! # أو وهو يستذكر لحظة ارتياده المبغى لأول مرة حين كان طالبا في سنته الجامعية الأولى ببغداد . تعود واحدة [ بغي] وتسحبه من ذراعه المستسلمة. ستقول له جملة لم يدرك معناها : -إذا تريد أعطيك من وره بربع دينار – ص 142) . # وأتذكر أن الموسيقار اللبناني “إلياس رحباني” قال لإحدى المتسابقات في أحد البرامج الغنائية : (عندك جمال بيوجع) أمّا - سلام إبراهيم - فقد نقل لنا عبارة عامية عراقية أكثر بلاغة وستسير مثلا موجزا بين المتلقين ؛ عبارة يعجز عنها حتى الشعر ، وذلك حين وصفت زوجته جمال بنت عمته الوحشي بالقول : (هيـﭼـي جمال ما ينراد !!) # إن أفعالا وأسماء عامية أو أنها تُعد عامية بفعل استخدامها السوقي وضياع أصلها الفصيح مثل : أتبرغث.. انهضمت .. تخرط .. تلبد .. تشرد .. طبّة .. العافطة .. ردفين مدملجين .. إلخ .. جاءت في مواقعها الدقيقة والمعبرة .
# بين لغة الشعر ولغة الحكاية : —————————— هذه الملاحظة تحيلنا إلى قضية خطيرة تتمثل في الموازنة بين لغة القص ولغة الشعر. فمن وجهة نظر بعض النقاد وأنا منهم ، يجب أن تكون للحكاية لغتها الخاصة ، مثلما للقصيدة لغتها الخاصة بها أيضا ، وعندما تتداخل اللغتان ، ينبغي أن يكون هذا التداخل محسوبا بدقة لأن الإفاضة المفرطة فيه سوف ينتج عنها جنس هجين لا هو بالحكاية ولا هو بالقصة .. مرّروه أمام أنظارنا تحت شعار “تداخل الأجناس” ، وحال هذا المصطلح كحال مصطلح “التناص” ، فهما من نتائج الفلسفة المادية الغربية التي بدأت حداثتها بإعلان موت الله على لسان نيتشه ، وانتهت في ما بعد حداثتها بإعلان موت الإنسان على لسان فوكو ثم تفكيكه على يدي دريدا !! وفي رواية – سلام إبراهيم - هناك لحظات محتدمة ومواقف عارمة لا يمكن التعبير عنها إلا بالشعر . وقد ذكرنا عنها أمثلة كثيرة في سياقات الاقتباسات السابقة . لكن هناك إفاضة تجعل اللغة الشعرية عبئا على النص وتشوّش إدراكات المستقبل، مثل ” سماء الثقب – يقصد ثقب الباب – ، و ” النتوء العنيد الرامح ، خارق الحيطان والظلال والتائق إلى التماهي ” ويقصد قضيبه ، وغيرها الكثير. والمصيبة أن مدّ الواقعية السحرية الذي أغرقنا به الأخوة الساردون من أميركا اللاتينية جعل حتى المومس الأمّية تحكي شعرا أبلغ من اشعار السيّاب ونيرودا، حتى أصبحت ملاحظة القاص محمد خضير عن أن أدب ماركيز يفتقد البرهانية صحيحة ودقيقة.
# الحجر والتحجّر : ———————– وارتباطا بالاستخدام اللغوي المقتدر ، فهناك ما أسميته بـ “اللازمات اللغوية”. فحين تقرأ نصا قصصيا يتكرر فيه الفعل “جعل” – جعل يركض .. جعل يشهق .. – فهو على الأكثر لفرج ياسين .. وعندما تقرأ رواية يتكرر فيها، ولعشرات المرات – وصف “صدرها العالي .. أو نهداها العاليان” .. فهي لفؤاد التكرلي على الأغلب. أما القسم الأول من رواية سلام إبراهيم “في برزخ الإرسي” فلازمته المميزة هي مفردة “تحجر” وما يشتق منها. هذه المفردة تتكرر عشرات المرّات (في الصفحة 99 تكررت سبع مرات). ويأتي اختيار اللازمات اللغوية محكوما بقصدية لا شعورية من جانب، وبوعي تسوقه الأجواء الانفعالية المحتدمة التي تثيرها الثيمة المركزية في نفس الروائي من جانب ثان مكمل. فالشخصية المحورية "سلام" في مخبأه السرّي كان في الواقع “يتحجر” مشاعرا وأفكارا وسلوكا. هذا ثمن العزلة الباهض .. تبليد المشاعر بمرور الزمن بعد تأججها .. وقولبة السلوك في النوم والجلوس- stereotypy.. وتخافت احترام الذات وتضاؤل الاعتزاز بها من خلال عملية الهروب ذاتها .. والتصرفات العادية والتافهة التي تأخذ طابعا مهينا الآن .. فهو يتبرّز في أكياس النايلون .. ويبول في قناني بلاستيكية .. وبسبب الحرمان الحسّي الذي اشرنا إليه والذي بإمكانه تحويل الإنسان إلى “آلة” صغيرة تؤدي أفعالها بميكانيكية مغثية – من شاهد منكم فيلم “الفراشة” ؟ – وكان هو نفسه يرصد تدهور حاله المؤسف هذا، وانحدار شخصيته نحو هاوية “التحجر” : (يظاهر الجدار الأصم وساقاه ترتكز أصابعهما على حافة الجدار المقابل بفتحاته الأربع. يحملق بمخاريط الضوء الساقطة جواره وحوله وعلى جسده الخامد. ينصت لتخافت بقايا ضجيج ماكينة الخياطة التي هدأت منذ هنيهة ، سبقها انقطاع لغط النسوة اللواتي تخافت خطوهن المصحوب بخفق عباءاتهن السود ، في سكونه المتحجر .. في معناه الجديد شديد البدائية حيث استحال وجوده إلى مجرد غزال مذعور في غابة.. ضاق معنى الحياة إلى مجرد رغبة في البقاء وعبّ الهواء. اكتشف أن العديد من طباعه قد تغيرت. أكسبه طول المكوث في الحلكة والصمت طباع حجر الجدار المنخور . سكون وعطن .. خواء وتآكل .. تأرجح على حافة الانهيار .. وعدم الرغبة في التحرك حتى أنه عاد لساعات طوال يتحجر تحجر آجر مفخور. يحملق بيده الملقاة جواره، بثنية ساقيه، بفتات الجص المتراكم على قميصه، وكأنها تفاصيل تعود لتمثال قديم في معبد مدفون. يتخافت خطوها الذي يعرف إيقاعه البطيء الخفيف كأنه حفيف أجنحة . إنها تتجه نحو المدخل. كفّت منذ أسابيع عن إخباره حينما تغادر. كانت تفعل ذلك في الأيام الأولى . كأنها نسيته في دوي السكون .. في تحجّره – ص 28 ).
#سلام_إبراهيم (هاشتاغ)
Salam_Ibrahim#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العراق-2-..
-
الإرسي نطقت بالشهادتين: شهادة الخراب، وشهادة إرسي عذاب العرا
...
-
مريم رواية العراقي - سنان أنطوان - العراقي جاء إلى بيْتِهِ،
...
-
رواية الإرسي - الفصل 14 الأخير - ساحة الحشر
-
رواية الإرسي - الفصل 13 - جحيم في غروب رائق
-
الإرسي - الفصل 12 - أحقاد المحبة
-
الإرسي - الفصل 11 - التسلل إلى الفردوس ليلاً
-
ندوة في القاهرة عن رواية -الإرسي- لسلام ابراهيم
-
الإرسي - في برزخ الجبل - الفصل العاشر - ذل العاشق
-
رواية الإرسي - الفصل التاسع - صرخة
-
رواية الإرسي الفصل الثامن - رؤيا الحجر -
-
رواية الإرسي - الفصل السابع - رؤيا المدينة
-
الإرسي - الفصل السادس - أخيلة الرغبة -
-
الإرسي - الفصل الخامس - نافذة المساء -
-
الإرسي - الفصل الرابع - فوهة الخلاص -
-
رواية الإرسي - القسم الأول - الفصل الثالث - العمة الجميلة -
-
رواية الإرسي - القسم الأول (في برزخ الإرسي) - الفصل الثاني -
...
-
رواية الإرسي - القسم الأول - الفصل الأول - المخبأ -
-
ولو إلى حين
-
من رسائل الكاتب نصير عواد إلى الروائي سلام إبراهيم -2 - و -3
...
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|