طيب تيزيني
الحوار المتمدن-العدد: 1120 - 2005 / 2 / 25 - 07:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يجيء البحث الذي بين أيدينا للأستاذ شاهر أحمد نصر، في وقته. فهو يسهم في إثارة قضايا مهمة في راهنيتها وحساسيتها النظرية والسياسية في الفكر العربي عموماً، كما في الفكر السوري على نحو الخصوص. فقضايا "الدولة والديموقراطية والمجتمع المدني" ـ وهو عنوان البحث المذكور ـ لعلها أن تكون في مقدمة الاستحقاقات، التي تواجه المجتمعات العربية، كلّاً وجزءاً. ويلاحظ أنّ هذه الاستحقاقات كانت قد أفصحت عن نفسها خصوصاً مع بدايات السبعينات من القرن المنصرم، أي مع عقابيل هزيمة الـ 67 وبروز "النفط السياسي"، وبداية التحول العميق الذي سيجتاح البنية السياسية والثقافية والاجتماعية للنظام العربي. لكنّها (أي الاستحقاقات) ستصبح ـ مع غيرها مما يستجد ـ أكثر حضوراً واشتعالاً، خصوصاً بعد احتلال العراق واستباحة بغداد.
لقد تعاظمت الإملاءات الأمريكية على البلدان العربية باتجاه المطالبة بإنجاز "إصلاح ديموقراطي" في دواخلها ـ وهي كلمة حق أريد بها باطل ـ في وقت تحافظ فيه النظم العربية على مكابرتها وإصرارها على رفض القيام بإصلاح فعلي يشمل الاقتصاد والسياسة والتعليم والقضاء وحقوق الإنسان وغيره؛ مِمّا عمل على التأسيس لإشكالية عظمى في الحياة العربية الراهنة تتمثل في الامتناع عن تناول النظم العربية لأهم سلاح يمكن أن توظفه في مواجهة التدفق الأمريكي الصهيوني، وفي إحداث تغيير عميق في بلدانها، نعني بذلك الشعوب العربية. وقد تتبلور تلك الإشكالية بصفة التساؤل التالي: هل هنالك من النظم السياسية ما يرفض الاستقواء بشعبه في وجه تحديات هائلة تتحدر من الخارج؟ وكما قد يكون بيّناً، فإنّ مثل ذلك الرفض من شأنه أن يفصح عن نفسه، حيث يكون النظام السياسي المعني ربما ضالعاً مع "الخارج" بكيفية أو أخرى. وهذا، بدوره، يجعل الإشكالية المعْنية ذات أبعاد يجدر بالباحثين أن يتبيّنوها.
في هذه الوضعية المركبة والمعقدة، تظهر كتابات يصح النظر إليها بمثابتها علامات على طريق يعبّد للدخول في حوار عقلاني وديموقراطي ونقدي حول المهمات الاستراتيجية المطروحة أمام الفكر العربي الراهن. من هذه الكتابات هذا البحث الذي أنجزه المهندس الأستاذ شاهر أحمد نصر. والحق، إنّ ما يميز البحث المذكور أنّه أتى في عنوان يشي بالمحور أو بالمحاور الكبرى، التي يعالجها بمثابتها تلك المهمات الاستراتيجية أو بعضها أو أهمها، نعني: الدولة، والديموقراطية، والمجتمع المدني.
ومع التعامل مع النص الذي يقدمه المؤلف خطوة فخطوة، يمكن ملاحظة كم من الجهد المركز والاجتهاد الرصين بذله باتجاه الوصول إلى نتائج يصح أن يكون بعضها منطلقاً لبحث جديد آخر. وإذا كانت بعض الأحكام والرؤى التي وردت في البحث ربما تمثل في كونها أحكام قيمة ذاتية مفعمة بالأسى والأسف أو بالتبجيل والاحترام، فإنّ ذلك إنْ هو إلاّ تعبير عن موقف يؤرخ لهول الحدث الذي تم مع تفكك الاتحاد السوفيتي وظهور النظام الدولي الجديد المؤمرك، الذي يملأ العالم بؤساً وتدميراً وظلماً وتعسفاً.
أما محور "الدولة" فيتناوله الباحث بكيفية نقدية ربما تحتاج مزيداً من التعمق التاريخي والنظري والتطبيقي. فلقد كشف زيف منظّري "دولة الرفاه" الرأسمالية بوصفها الإجابة عن مشكلات التفاوت الاقتصادي والتهميش السياسي والاجتماعي. كما وضع بين قوسين ما ظهر من الأدبيات السياسية للاتحاد السوفيتي السابق تحت مصطلح "دولة كل الشعب"، حيث رأى في ذلك نمطاً من أحلام أيديولوجية غير مطابقة لواقع الحال، في حينه. وبالاستناد إلى بعض الدراسات، وضع الباحث يده على ضرورة التمييز بين "السلطة" و"الدولة"، حيث رأى في الأولى أحد مكونات الثانية، وليس مرادفاً لها. وبملاحظة شفافة، ركّز المؤلف على مبدأ "التداول السلمي للسلطة"، بوصفه أحد الأسس الكبرى للدولة القانونية. ولا بد أنّ المؤلف استمد هذه السمة ليس من بحث سوسيولوجي سياسي نظري فحسب، وإنما كذلك من ملاحظات ميدانية مشخّصة في المجتمعات العربية.
وبعد تقصّ مرهف لمحور "الديموقراطية"، يقف الباحث أمام الحيثيات التي أحاطت بـ "الجمعية التأسيسية"، التي كانت محور صراع بين البلاشفة قبل ثورة أكتوبر وفي سياق قدومها، وبين مجموعات سياسية عديدة مثلت الأكثرية في هذه الجمعية، التي أتت نتيجة انتخابات مفتوحة. ويرى الكاتب أنّ لينين في تأكيده على ضرورة إعادة انتخاب أعضاء الجمعية التأسيسية، التي ظهرت في صيغتها الأولى بأكثرية كبرى حيال البلاشفة، وبسبب من "عدم التناسب بين الانتخابات إلى الجمعية التأسيسية وإرادة الشعب"، إنما هو تعبير أولي عن حرصه على وجود مؤسسات ليست برلمانية الطابع البرجوازي، ولكنّها تتمثل فضائلها الممكنة. إذ ربما كان ذلك أحد المداخل إلى ديموقراطية تقوم على الإقرار بالتعددية السياسية والحزبية، لكن ذلك لم يأخذ حيزاً حاسماً في الفعل السياسي في حينه. وتظهر لغة المشخَّص العربي، حين ينعطف الباحث نحو رصد جملة من التطورات السياسية في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، وبشكل خاص في التاريخ السوري.
ومع تأكيد الكاتب على أنّ الديموقراطية أسلوب حكم سياسي يمكن تطبيقه في جميع المجتمعات، يكون قد وضع يده على عمومية المسألة، إنما دون الإشارة إلى بعض الخصوصية، التي يمكن أن تظهر في التركيب السياسي والاقتصادي والسوسيوثقافي لبعض البلدان في مرحلة ما أو أكثر من تاريخها. ولكنّه أدرك بوضوح أنّ وضع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية في علاقة واحدة، أمر لا يستقيم، بحيث تغدو الديموقراطية سلاحاً يدافع به من يقعون فريسة الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد السياسي. وهو في هذا وذاك، استطاع أن يشخّص ـ بدرجة ملحوظة ـ أهمية مجموعة من الخطوات التي لا بد من إنجازها على طريق الإصلاح والتغيير في العالم العربي، منها تجميد قوانين الطوارئ والأحكام العرفية، واستصدار قانون ديموقراطي للتعددية الحزبية.
أخيراً يواجه الباحث محور "المجتمع المدني"، فيضع يده على عدة نقاط تأسيسية تقع في مقدمتها:
1) التشكيك في صدقية "التعارض بين الدولة ومؤسسات المجتمع المدني.
2) التمييز بين "المجتمع المدني" و"المجتمع الأهلي" حيث يلاحظ أنّ الثاني ينتمي إلى ما قبل "المجتمع الوطني".
3) رفض القول بأنّ ظهور جوانب سلبية في ممارسة الديموقراطية والمؤسسات المدنية، يشكك في جدوى الحالتين. ومن المعروف أنّ نظماً سياسية عربية تشكك فيهما معاً من موقعين اثنين، يبرز أولهما في الاعتقاد بأنّ الديموقراطية والمجتمع المدني كليهما استجلبا إلى العالم العربي من الخارج؛ مما يعني رفض الإقرار بهما كنسقين منهجيين في عملية الإصلاح والتغيير العربي. والطريف أنّ هذا الموقف يأخذ به ممثلون لتلك النظم العربية ومجموعات في الإسلام السياسي المعاصر. أما الموقع الثاني فيفصح عن نفسه بالقول بأنّ شعباً يمثل 60% من أفراده حالة الأمّية، لا يمكن أن يجد في الديموقراطية حلاً له (ولعلنا هنا نقول إنّ الأطروحة المناقضة لتلك إنما هي القادرة على التأسيس لشعب يمتلك الوعي والعلم والحرية وإمكانات التحاور والتصارع).
وبقي أخيراً أن نشير إلى أنّ الأستاذ نصر وإنْ لم يمنح مفهوم المجتمع السياسي أهمية كافية في سياق التأسيس للمجتمع المدني نفسه، فإنّه كان قريباً من ذلك بقوة. وهو ـ بهذا ـ يكون قد أنجز مهمة نظرية ذكية وبارعة باتجاه الاستحقاقات العربية الراهنة في مرحلة يُراد فيها للعالم العربي أن يُستباح كلّاً وجزءاً.
ـــــ
(*) مقدمة الدكتور طيب تيزيني لكتاب: شاهر أحمد نصر (الدولة والمجتمع المدني) إصدار دار الرأي للنشر www.daralrai.com ـ دمشق 2005 ـ الإخراج الفني عائدة سلامة، تصميم الغلاف: همام أيمن بهلول ـ توزيع: دار الحصاد ـ دمشق تليفاكس 2126326 ـ دار السوسن ـ دمشق ـ تليفاكس 6623027
#طيب_تيزيني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟