|
رحلة -موت العمل- بين روبنسون كروزو و-ماد ماكس-
يوسف يوسف المصري
الحوار المتمدن-العدد: 3844 - 2012 / 9 / 8 - 09:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رحلة "موت العمل" بين روبنسون كروزو و"ماد ماكس" ------------------------------------------------------------------ سألني واحد من القراء في تعليق على ما كتبته ردا على موضوعة حساب القيمة المضافة سؤالا محددا يعد على نحو ما سؤالا شائعا لدى المهتمين بقضايا الاقتصاد السياسي. فالقارئ يقول ان معدل الربح في المجتمعات الرأسمالية يميل الى الانخفاض مع ادخال تكنولوجيات جديدة الى مجالات الانتاج ثم يقدم ملاحظة صائبة عن ضرورة تبسيط الامر بنسبة فائض القيمة الى رأس المال المتغير. الا ان ملاحظته الاهم تتلخص في انه نظرا لادخال تكنولوجيات جديدة ومتطورة الى مجال الانتاج فلابد اذن من الوصول الى الاستنتاج التالي. (وسوف استخدم هنا العبارات التي صاغ بها المسألة) : "مع الانخفاض المطرد في حجم العماله تصبح الالات نفسها التي تحل محل العمال هي مصدر القيمه الزائده لانها تقوم بما يقوم به العمال ويصبح طرح الموضوع للنقاش من الاساس غير مبرر هناك بعض الصناعات الحديثه لايوجد بها غير عمال النظافه والحراسه ويصبح العمل الحقيقي هو الجهد الذهني الذي استخدم الراسمالي نتائجه لاختزال التركيب العضوي لراس المال الى شق واحد فقط وهو راس المال الثابت فهل من سبيل لاحتساب فائض القيمه هنا افيدونا افادكم الله". واشكر القارئ اولا على اهتمامه واعتذر عن تأخر الرد لانني في واقع الامر لم اقرأ رسالته الا قبل قليل واريد بالتالي ان اقول له ما اره في هذا الشأن. كما اقول له في ملاحظة هامشية ان عمالنا يتابعون ما يكتب حقا وان لدى كثيرين منهم لاسيما في القطاعات الصناعية المتطورة نسبيا ليس فقط القدرة على متابعة ما يقال ولكن ايضا القدرة على التفاعل معه. فلنعد اذن الى موضوعنا. اذا كانت الآلات تدخل الى مجال الصناعة بصورة متواترة وسريعة الايقاع حتى اننا نرى مصانع بأكملها تدار بالكومبيوتر ولا تضم بين جدرانها الا اعدادا قليلة تتراجع باضطراد مع كل قفزة تكنولوجية جديدة. فكيف اذن نتحدث عن استغلال العمال وفائض القيمة وبيع قوة العمل. ان الموضوع سيصبح غير ذي موضوع حسب افتراضه. وسأعرض هنا وجه الخطأ في هذا الافتراض طبقا للمكونات الاساسية التي تعيننا على فهم تحليل العمل المأجور وفائض القيمة ضمن اطار الاقتصاد الرأسمالي بطبيعة الحال وهي المكونات التي قدمها كارل ماركس في كتابات مختلفة. والنقطة المحورية في الرد على سؤال القارئ هي ان ماركس لم يشرح العمل من منظور الاقتصاد الجزئي (الميكرو ايكونوميكس) ولا حتى من منظور الاقتصاد الكلي الا بعد ان اوضح ان العمل – والسلعة ايضا – هي علاقة اجتماعية في المقام الاول. ويلخص هذا الفارق الاساسي بين علوم الاقتصاد كما تدرس في جامعاتنا والاقتصاد السياسي على نحو ما وضعه مفكري هذا الفرع من العلوم. بعبارة اخرى نحن لا نفكر في عامل معين يدخل مصنعا معينا ليتعرض لعلاقات استغلال ويخرج بعد ذلك ليشتري ما انتجه كي يبقى حيا ليعود في اليوم التالي. في التحليل الذي لم يفنده احد حتى الآن يقدم ماركس العمل المأجور باعتباره تعبيرا عن تقسيم العمل الاجتماعي ويقدم السلعة باعتبارها تكثيفا للعلاقات السائدة في المجتمع على نحو يجعلها تبدو دائما على نحو يختلف عما هي عليه حقا. نحن اذن - لو تمكنا من القدرة على التجريد الضروري- نخرج من اطار هذا المصنع او ذاك او هذه المؤسسة او تلك الى بحث صيرورة العمل والسلعة والتطور التكنولوجي في سياق المجتمع الرأسمالي. ولكن ما معنى هذه "الطنطنة"؟. لقد اوضح منتقدو ماركس ان قانون انخفاض الربحية لا يتسق مع تطوير تكنولوجيات جديدة. وقال هؤلاء النقاد انني لو تمكنت من استخدم آلة جديدة فسوف ازيد ارباحي وحيث ان الآلات الجديدة تدخل الى المصانع كل يوم في انحاء العالم فان ذلك يبرهن على ان ماركس كان يناقض نفسه. ولم ينصت ماركس بطبيعة الحال لهؤلاء النقاد لانه كان قد رحل عن عالمنا. ولكن اي قراءة متأنية لكتاباته في الاقتصاد السياسي توضح بما لا يترك اي مجال للشك انه لم يخصص وقتا للرد على مثل هذه الانتقادات اللاحقة ليس لانها كانت شديدة الفطنة ولكن لانها كانت شديدة الغباء. فقد اشار مرارا الى ان اول رأسمالي يطبق التكنولوجيات الحديثة سيزيد ربحه لان مصنعه سينتج اكثر ولانه سيفصل عدة مئات من العمل ممن حلت مكانهم الآلات الجديدة. الا ان هذه الحالة تكف بسرعة عن ان تكون حالة منفردة فور حدوثها. فهي سرعان ما تتحول الى قانون اجتماعي يطبع نفسه طبعا على نحو تلقائي على الجميع. ذلك ان اجور العمال تتغير بحكم اضافة العمال المفصولين الى قوة العمل وبحكم انخفاض قيمة قوة العمل في القيمة التبادلية للسلعة كما انه سيدفع الرأسماليين الآخرين الى ادخال آلات "انقح" مما ادخله منافسهم ومن ثم فانها ستؤدي مرة اخرى الى خفض الارباح بالنسبة للجميع بالنظر الى انتاج قدر متزايد من السلع بسبب اتساع نطاق تطبيق التكنولوجيات الاكثر تطورا. من هنا فان النظر الى موضوعة مثل "نهاية العمل" لو استخدمنا عنوان كتاب اميركي اشتهر في التسعينيات فاننا سنجد ان المشكلة التي تأسست عليها تلك النظرية هي مشكلة تبدو لافكاك منها في صفوف كثيرين وهي العجز عن اتباع الادوات التي استخدمها ماركس في تحليل بنية الاقتصاد الرأسمالي ومساره في الزمن. اي تحليل الظاهرة ثم تركيبها ثم تحليلها مرة اخرى لرؤية الكيفية التي تنطبق بها على الواقع الملموس. وهذه هي المشكلة ذاتها في حالة من يفترضون "موت العمل". من الوجهة التحليلية فان ادخال الآلات في هذا المصنع او ذاك سيؤدي حتما الى فصل الكثيرين من العمال. ولنفترض فقط ان كل المصانع ادخلت "الاوتوميزاشن" وتركت ملايين العمال خارج اسوارها وحيث ان هناك بشرا في انحاء اخرى من هذا العالم يحتاجون الى تلك السلع وان العالم "معولم" فان تلك المصانع تنتج لكل دول العالم الاخرى التي تتطور بدورها في هذا المسار الخطي الافتراضي حتى انها بدورها وصلت الى حد "الاوتوميزاشن" او التسيير الذاتي بالروبوت وبالتالي فانها تركت كل من يملكون في العالم خارج سوق العمل ومن ثم خارج اي سوق اخرى بالمعنى الرأسمالي على الاقل. ولكن الا يعني ذلك ان تلك المصانع لن تجد من يشتري البضائع التي تنتجها؟. ان هذه الحدوتة المسلية تليق بافلام الخيال العلمي وكنت دائما ما اذكرها في مقالات سابقة في سياق فيلم "ماد ماكس" المضحك في مغزاه رغم عنفه. فهناك في حدوتة "ماد ماكس" منتجون يعرفون كيف ينتجون المحاصيل يتحصنون في قلاع ضد آلاف العاطلين الذين يشكلون عصابات ممن يريدون الاستيلاء على تلك القلاع. ان القصة هي الامتداد المنطقي لقصة روبنسون كروزو ولكن في سياق اكثر تقدما من تخاريف تصور المجتمع الرأسمالي لنفسه. الا ان هذا لا يمت للماركسية – او للواقع – بصلة. ان اي رأسمالي موجود في موقعه الحالي ليس بناء على شطارته ولكن بناء على تقسيم عمل تلقائي يفرض ان يوجد ان لم يكن هو فشخص آخر. الا انه "علة" وجوده في هذا الموقع – وعذرا على الكلمة اذ انني لا اقصدها بمعناها الفلسفي – هي الربح. وفي اللحظة التي لا يستطيع ان يبيع فيها ما ينتج فانه سوف يتوقف ببساطة عن ان يوجد في موقعه الحالي من تقسيم العمل الاجتماعي. فاما ان يغلق المصنع ويهاجر الى شواطئ جزر البهاما او ان يغلق المصنع ويتمتع ب"ثروته" في اي مكان آخر. الا انه لن يستطيع ان يفعل اكثر من ان يستمتع بالشمس. فلن يكون هناك سلع تشترى او تباع لانه لا يوجد سلع من الاصل اذ لا يوجد سوق من الاصل اذ لا يوجد مجتمع رأسمالي من الاصل. ولن يكون لثروته هذه اي قيمة بالمرة. انها صحراء "ماد ماكس" بفتواتها مفتولي العضلات وسياراتها القديمة المستصلحة واسلحتها وعنفها البالغ. انها نهاية الحضارة. ولكن حمدا لله في عليائه ان هذه الافلام هي مجرد افلام. ان ما يشير اليه القارئ هو على وجه الحصر اهم تناقضات المجتمع الرأسمالي اي التناقض بين من لا يملكون ومن يملكون. وليس ثمة تناقض ينمو بصورة حسابية في عالم خال. انه يولد نقيضه هو نفسه خلال صيرورته. انه يولد الثورة. ولكن فلننظر الى سؤال القارئ الآن بصورة اكثر تفصيلا. انت لا تستطيع افتراض ادخال تكنولوجيات جديدة مكلفة تدفع ثمنها بسعر اليوم لتنتج كثيرا فتنخفض اسعار كل شئ بما في ذلك تلك التكنولوجيات ذاتها. فالرأسمالي لا يدخل التكنولوجيات الجديدة لانه "غاوي" تكنولوجيا. انه يدخلها لانه تزيد ربحه ةلاسباب اخرى سأشير اليها بعد قليل. وذا افترضنا ان ادخال تكنولوجيات جديدة سيؤدي الى خفض الاسعار في قطاع معين فلابد ان نفترض انه سيخفضها في كل القطاعات. فتطبيق تكنولوجيا معينة في مجال انتاج مصنع معين يفترض ضمنا اننا نرى توسعها الى مجال الزراعة ايضا ومجال البناء والمواصلات وكافة نواحي "الانتاج" الاجتماعي. ويعني ذلك ان ما ينطبق على ذلك المصنع المنفرد لابد ان يكون بدوره ظاهرة اجتماعية. اي ان آثاره في هذا المصنع هي آثاره في كافة نواحي الانتاج الاخرى. كيف يمكن اذن ان نفترض ان هذا الرأسمالي سيطبق التكنولوجيا البالغة التطور التي ستؤدي الى عجزه عن ان يعوض بالاسعار القديمة ثمن تلك التكنولوجيا ذاتها؟. انه سيتوقف عن هذا التطوير التكنولوجي. وهذا ما اشار اليه ماركس على وجه الدقة. ان الاسعار القديمة تفيد فقط اول المنتجين بها او المرحلة الاولى من تطبيقها. ولكننا لو درسناها في صيرورتها الاجتماعية فسوف ان نجد ان اولئك الرأسماليين مضطرين من الوجهة النظرية على الاقل على تحديث وسائل الانتاج الى نقطة معينة فحسب. ولكن ما الذي سيوقف اذن منافستهم الضارية على تطبيق تكنولوجيات جديدة؟. ان قانون انخفاض الربح لا يتخذ اتجاها واحدا باعتباره التناقض المركزي في مشوار حركة رأسمال. انه يحد من الاستثمار في رأس المال الثابت ويحفز هذا الاستثمار في الوقت ذاته. كيف؟. علينا ان نعود الى الكيفية التي شرح بها الاستاذ هذه الظاهرة. فرأس المال لا يلبث ان ينحو الى الاحتكار للتخلص من اعباء المنافسة ولتخفيف ثقلها على فائض القيمة. ثم انه يحث على ادخال تكنولوجيات جديدة لان الجيل الاول منها يزيد من الربح او بالاحرى يوقف التراجع المؤلم للارباح. ان سعر السلعة لا ينخفض وهي لا تزال في خط الانتاج. سعر السلعة يحدد بحكم المنافسة وبحكم العناصر الاجتماعية التي نراها بداخلها اي تكلفة وقت العمل في الانتاج واستخراج المواد الاولية وما الى ذلك. ولكن الاهم ان ماركس لا ينظر الى الاجور من زاوية كونها معادلا للقيمة باعتبارها جزءا منفصلا عن بقية اجزاء العملية الانتاجية – الاجتماعية. وهو لا ينظر ابدا الى الربح – من زاويته القيمية ايضا – باعتباره منفصلا عن فائض القيمة؟ ومن زاوية نظر المعادلات التي شرحها بعمق بالغ فان وضع طرف الاجور عند الصفر يضع طرف فائض القيمة عند الصفر ويضع معدل الربح عند الصفر. ان حجم السلع التي تنتج رهن دائما بقدرة الناس على شرائها في المجتمعات الرأسمالية. ومن الممكن ان يقول قائل "ولكن يا عم. اليس هناك عمالا وعلماء ومهندسين ينتجون تلك التكنولوجيا ومن ثم يحولون قيمة قوة العمل الى جزء من السلع التي ينتجها الروبوت؟". صحيح. الا انه صحيح في حالة الجزر المنعزلة. كأن يكون المنتجون في قلاع "ماد ماكس" وبقية خلق الله خارجها يحاولون اقتحامها كي يتمكنوا من البقاء. وحتى داخل اسوار قلاع ماد ماكس حيث الحكماء يديرون المعامل التي تنتج بذورا فلابد في لحظة من ان يقيموا مجتمعا بلا ملكية خاصة فردية لاي ادوات للانتاج والا هلكوا دون ان يهاجمهم الجوعى. بقيت نقطة واحدة قبل ان انتقل الى فحص اقرب للاجابة التي تقدمها كتابات ماركس في الاقتصاد السياسي على سؤال القارئ ان لم يكن بقية القراء قد ناموا بالفعل. تلك النقطة هي ان زيادة التركيب العضوي لرأسمال باستحداث وتطبيق تكنولوجيا جديدة على نحو ما قال الاستاذ الكبير وعلى نحو ما يحدث فعلا يتعرض للنقد من زاوية انه نظرية قابلة لان تعكس الاتجاه. بعبارة اخرى يمكن للرأسماليين ان يقللوا من معدلات تطبيق التكنولوجيات الحديثة حتى يتسنى لهم البقاء على الاقل لفترة اطول. ولكن حتى لو اصدرت الدولة الرأسمالية قرارا اداريا بتجميد التكنولوجيا الحديثة وهو امر لا يمكن ان تفرضه الا ما يسمى بقوانين السوق او بالاحرى اليات عمل النظام الرأسمالي فان ذلك لا يعني ان تطبيق التكنولوجيات "القديمة" لن يتسع لتنخفض القيمة التبادلية للسلعة الى الحد الذي يجعل انتاجها "رأسماليا" غير مبرر فضلا عن انه سيجعل من قيمة قوة العمل اكبر وزنا من ان يحتملها الرأسماليون. وفي كل الاحوال فان تلك القضية لا تزال محلا للخلاف في اوساط اساتذة الاقتصاد السياسي. وفيما يتصل برأيي كقارئ مهتم بهذا المجال فانني حين انظر الى عملية الانتاج ككل اي على اساس ان رفع التكوين العضوي للرأسمال – او خفضه – لا يحدث "منه فيه" ولكنه يحدث ضمن علاقات اجتماعية محددة فانني لا ارى ذلك انتقادا يستحق الاهتمام. ذلك ان قيمة قوة العمل بل والقيمة التبادلية للسلعة ليست مفهوما فنيا كما بدأت حديثي ولكنها مفهوم اجتماعي اذ انها تتضمن في داخلها العلاقات الاجتماعية برمتها. والآن الى نظرة اقرب وربما اكثر اتصالا بالمفهوم النظري الذي وضعه الثوري الكبير الى حكاية روبوت الانتاج و"موت العمل". ان كارل ماركس لم ينظر الى الانتاج ابدا باعتباره مفصولا عن القيمة التبادلية للسلعة اي عن مجمل احتياجات المشترين والمنتجين. بل ان القيمة التبادلية للسلعة تتحدد على وجه الحصر باسعار السلع الاخرى. فهي شئ غير قابل للقياس على ذاته. انها "تبادلية". وقيمة رأس المال تقاس على النحو ذاته اي باعتباره قد تحول الى معادل للقيمة. وعند انخفاض هذه القيمة او تلاشيها فان رأس المال ذاته لن يصبح موجودا. فصاحب المصنع لا ينتج لكي يشبع حاجاته الاستعمالية هو واسرته اذ ان السلعة تتبدى له فقط في قيمتها التبادلية. وهي تتبدى لنا نحن ايضا على نفس النحو. اي ان اعراب السلعة في نظرنا كمنتمين الى المجتمع المعني يتحول الى اعراب السوق لها. فكل السلع تنتج لاشباع حاجة استعمالية والا لما انتجت منذ فجر المجتمعات الانسانية. الا انها تنتج باسلوب الانتاج الرأسمالي من اجل الربح. من هنا فان عملية الانتاج هذه تتطور على اساس من تبني وتطوير احتياجات الناس. اي انها محكومة قسرا باتساع السوق. وقد اشار ماركس بدقة ايضا الى الميل الموضوعي لتطبيق التكنولوجيات الجديدة ليس فقط من زاوية علاقة ذلك بزيادة الربح ولكن ايضا من زاوية علاقته بتحرير عملية الانتاج من القيود التي تواجهها سواء أكانت طبيعية ام انسانية. وكان ذلك – اي التطوير التكنولوجي لوسائل الانتاج - هو المساهمة التقدمية الاعظم في تاريخ تطور المجتمعات حتى الآن اذ انها زادت من مجمل القيم المتوفرة في المجتمعات الانسانية الى حد مذهل كما انها اكسبت النظام الراسمالي مرونة كبيرة في مواجهات الازمات الدورية التي خلقها هو ذاته. ولو نظرنا الى تركيز ماركس على ان تحلل الورشة الحرفية جاء عندما تطور تنظيم العمل الى المانيفكتوره او المصنع الصغير فان ذلك ادى حسب قوله الى تبدل اساسي في تقسيم العمل ومن ثم في العلاقة بين العمل ورأس المال. فالورشة هي اضافة كمية لاساليب الانتاج القديمة. اما المصنع فقد اعاد تنظيم العمل وتقسيمه بصورة جذرية. وادى الى قابليته للخضوع لعمليات حسابية يجريها الرأسمالي لحساب وقت العمل الضروري في اجزاء تقسيم العمل المختلفة ومن ثم حساب الاجر والارباح مقدما على نحو تقريبي. وسوف نلاحظ هنا ان تطوير تكنولوجيا العمل لا يأتي فقط كحساب لزيادة الربح على الرغم من ان ذلك هو محركه الاول. فلماذ يحدث هذا التطوير في ذلك الاتجاه وليس في اي اتجاه آخر؟ لسبب بسيط هو انه نفسه نتيجة لادوات العمل السابقة عليه. انه يحاول تجاوز الاخطاء واختصار الوقت والتغلب على الصعوبات التي تعترض الانتاج. ثم انه ينفي ضمنا ادوات الانتاج الاقدم بصورة تدريجية. فنحن لم نعد نرى "ورش اصلاح سيارات" او ورش حدادة في اي مجتمع رأسمالي متقدم. ولم يكن هذا ناتجا بطبيعة الحال عن ان الناس ينزعجون من تلك الورش او ان الحكومة اصدرت قرارا بانهاء عملها. وخلال تلك العملية طبقا لماركس اي خلال تفصيلاتها الفنية لاسيما الصعوبات التي تواجه جانبا معينا من العملية الانتاجية بسبب استخدام ادوات للعمل اقل تقدما من اجزاء اخرى وهو امر يفترض مسبقا وجود تباين في مستوى ميكنة حلقات العملية الانتاجية برهن على ان ذلك بدوره يفرض منطقا مختلفا لدى الرأسمالي او مدير المصنع عند النظر الى الميكنة كمفهم اشمل. ان ذلك يضع الاساس المادي لتطوير الآلات. قصدت من ذلك ان اوضح ان تحديث الآلات والميكنة ليس عملية رقمية ترتبط فقط بمعدلات الربح كما نقول من باب التبسيط ولكنها ترتبط ايضا بطبيعة العملية الانتاجية ذاتها. ويكتشف الناس هذه الطبيعة بالتجربة في معمل الانتاج حيث يولد الفهم الكلي للعملية الانتاجية من الزاوية الفنية وحيث يتطور تطبيق الميكنة كاحتياج تبرهن عليه التجربة بل وتحدد خصائصه ايضا اولا قبل ان يتحول بالفعل ماكينة نراها امام اعيننا. من هنا فان تطور التكنولوجيا ليس عملية انتقائية او اختيارية. ان هذه الماكينة في صورتها المتطورة هي توحيد للعملية الانتاجية او تركيز لها. وهي بالفعل توازي توزيع العمل في الورشة ولكن توزيع العمل يتحول هنا الى توزيعه ليس بين العاملين ولكن بين الآلات. وحين يصف ماركس الانتقال من المعمل الى المصنع المميكن بصورة متطورة فانه يقول بوضح ان الفارق هو في تحول الانتاج في الاولي من فعل ذاتي اذ ان المعمل يفرض تقسيما مقصودا للعمل وموجها لقوة العمل الماهرة من مكان الى مكان في حلقات الانتاج الى واقع موضوعي حين تصبح الآلة في المصنع الكبير الحديث المنظم الرئيس للانتاج؟ فثمة اشخاص ينظمون الانتاج في الحالة الاولى اما في الحالة الثانية فان الانتاج يبدو كما لو انه ينظم نفسه. ويقول ماركس في هذا الصدد ان احلال الآلة الحديثة بدلا من القوة الطبيعية الانسانية واحلال التطبيق الواعي للعلوم بدلا من التقديرات التي تتأسس على الملاحظة والتجربة يجعل من عملية الانتاج في المجتمعات الرأسمالية موضوعية تماما يصبح العامل فيها جزءا ثانويا في عملية انتاجية مادية اسفرت عن جعله هامشيا. وهي حين تفعل ذلك فانها تسحق تقسيم العمل بمفهومه السابق عليها. ونتيجة هذا الاستنتاج الذي وضعه الاستاذ في بحثه للانتاج الصناعي هي الدفع نحو المساواة بين الاعمال المنفردة التي كانت تكتسب في السابق خصوصية مميزة. ولكن لنواصل هذه الرحلة الافتراضية ل"ماد ماكس" فهي مسلية اكثر. ان الماكينات تنتج في مصانع. ويمكن ايضا ميكنة المصانع التي تصنع الآلات او بالاحرى يمكن انتاج روبوت يصنع الروبوتات. ومن شأن ذلك ان يجعل اسعار الروبوتات رخيصة للغاية لاسيما ان الرأسماليين سيقبلون على شرائها جماعات. ومن الوجهة الفنية سوف نجد ان العملية تعود الى حيث بدأت وان على محور اعلى ان جاز التعبير اذ انها لابد ان تعود الى العامل الذاتي. فالروبوت الذي ينتج الروبوتات سيظل ينتج نفس الروبوتات لو تركناه وحده الى الابد اي لو تركناه للطابع الموضوعي للعملية الانتاجية الذي نشأ على نحو ما رأينا من رحم المانيفكتورة. لابد اذن من ان يتدخل "احدهم" لتطوير روبوت جديد على اساس الملاحظات على انتاج القديم. ولكن حين ننظر الى الانتاج كعملية اجتماعية فسوف نجد ان تلك القفزة التكنولوجية التي تحدث عنها ماركس لن تحدث ابدا في ظروف علاقات الانتاج الرأسمالية التي خلقتها من الاصل. وحتى في اشارة ماركس الى ان العائق الوحيد للتطور الهائل الذي يمكن ان يحدث في مجال التكنولوجيا وهو تقدم يفوق القفزة العملاقة التي احدثها المجتمع الرأسمالي نفسه في هذا الصدد اي عائق المواد الخام واستمرار تدفقها سيجد حله في تطور العلوم. ذلك ان بالامكان تغيير التركيب الجزيئي لمادة بهدف تحويلها الى مواد اخرى في معامل علمية. وهذا مثلي انا وليس مثل ماركس الذي اشار على اي حال ان العائق سيكون في تدفق المواد الخام اذ لم يكن من الممكن تصور امور كالهندسة الوراثية او كتغيير خواص المواد على نحو ما يكتشف العلم الحديث الآن. الا انه اشار ايضا الى ان العلم الحديث سيتحول مع تقدم العملية الانتاجية الى قوة مستقلة عن قوة العمل طبقا لتعريفه الكلاسيكي هو نفسه لقوة العمل في رأس المال مثلا. الا ان هذا التمييز هو تمييز نسبي كما سارع هو نفسه الى القول حين اشار الى ان العلم سيتحول الى خدمة عملية تراكم رأس المال عن طريق القيمة الفائضة اي كقوة في خدمة رأس المال. من هذه الزاوية فان التمييز بين العالم او المهندس لم يكن الا تمييزا نسبيا لجعل ما يقوله مفهوما في ضؤ تعريفه السابق لقوة العمل. الا ان ما يقول عنه الفرنسيون "ريزون ديتر" اي سبب وجود هذا المسلسل من الاصل هو العلاقات الاجتماعية التي تحكم علاقة العمل المأجور برأس المال وهي العلاقات التي تقودنا في كل الاحوال الى "ماد ماكس" مرة اخرى. ان مشكلة القارئ العزيز انه تصور ان ماركس لم يكن يبصر تأثير التقدم التكنولوجي من جهة وان "المنطق" يقود الى انه "نهاية العمل" او موته باتت حتمية. الا ان ماركس اولا لم يغفل ذلك وثانيا فان المنطق الذي يفترض موت العمل هو ذاته الذي يفترض ان مصيرنا هو مصير مجتمع "ماد ماكس". ان العمل لن ينتهي ولكنه سيتغير كيفيا ليتيح للقارئ صاحب السؤال ان يكتب ويقرأ ويرسم ويعمل ايضا. ولكن كيف سيصبح اذن المجتمع التالي على الرأسمالية؟. لا اعرف. فانعكاسات تقدم المجتمع الانساني وازمات النظام الرأسمالي اكبر من ان يرى اي شخص ما هو اكثر من القوى التي تحركها وتسببها. ليس بوسع اي مفكر ان يضع مخططا لما يمكن ان يكون. ولكن ماركس اوضح لنا جميعا القوانين التي تحكم رحلتنا الى هذا الذي سيكون.
#يوسف_يوسف_المصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سؤال لشباب اليسار : هل كان عصام العريان محقا؟
-
الموقف من الانتخابات البرلمانية المقبلة
-
ملاحظات على مداخلة الدكتور محمد عادل زكي عن القيمة الزائدة
-
ملاحظات حول سلاح التظاهر في ضؤ 24 اغسطس
-
الاخوان والليبراليون
-
كلمتين لعمال مصر
-
قصة قصيرة..حكاية العجوزان ومرسي
-
في استكمال نقد تحليلات البعض للثورة المصرية ومهامها
-
مفهوم مختلف – عن الماركسية – للثورة السياسية
-
هل سيبقى مرسي في القصر الرئاسي اربعة اعوام حقا؟
-
ملاحظات على مقال الدكتور شريف يونس عن المشهد الراهن
-
تأملات حول الحيرة الانتخابية في مصر وغياب التنظيم الثوري
-
لماذا يبدو شعار الجمهورية الديمقراطية الشعبية في طرح المثقفي
...
-
في الرد على مقال خليل كلفت عن اسطورة المرحلة الانتقالية في م
...
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|