|
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 4
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3843 - 2012 / 9 / 7 - 13:35
المحور:
الادب والفن
2 لا شك في أن مقابلته الأخيرة مع پيترا قد ثبطت عزيمته ، فقد أجّل إنجاز أعماله ، و توقف عن اتخاذ القرارات . و اعتادت أمه الاستفهام قائلة :"أستخرج اليوم ؟ لا ، انك لن تخرج .. أليس كذلك ؟ " فيرد عليها متسائلا : "هل نفد السمك عندك ؟" فتجيبه أمه : "لا ، ليس لهذا سألتك الخروج ،" و تلتزم جانب الصمت . نعم ، إن السمك لم ينفد في الدار ، و لكنهما كانا بأمس الحاجة إلى القليل من الدقيق ، و إلى شيء أو أكثر من الصابون و القهوة و زيت الإنارة و الحطب و الزبد و الشخاط و الشراب و غير ذلك من المستلزمات الضرورية . أما النجار ماتيس ، فقد كان مشغولاً ببناء بيت له . لا شك انه كان يفكر في مستقبله . و في أحد الأيام ، ذهب أوليفر لزيارته و هو يضلع ؛ فتجاذب معه أطراف الحديث و هو يتعمد إدارة الخاتم في إصبعه ، و لم يحصل أي شجار بينهما. قال له أوليفر :"لديَّ بابان أعددتهما للمشتمل الجديد ، و قد صنعا في ورشة معلّمك ." "ما زلت أتذكرهما ،" قال ماتيس ،"كان ذلك في الشتاء الماضي ." "تستطيع ابتياعهما مني ، و تركيبهما هنا ." "أتروم بيعهما ؟" "نعم . فليست بي حاجة إليهما الآن بعد أن غيرت رأيي ." "ما زلت أتذكرهما جيداً، لقد صنعتهما بنفسي ،" قال ماتيس . "لقد غيرت رأيك إذن ، أليس كذلك ؟ و ظروفك ؟ ألا يحتمل أن تتحسن في المستقبل ، ها ؟" "ليس في الوقت الحاضر ." "كم تريد ثمناً لهما ؟" و اتفقا على السعر بسرعة . لم يكن البابان جديدين بلا ريب ، كما كانا غير مطليين بالدهان ، و إن كان أوليفر قد زودهما بما يستلزم من أقفال و مفاصل ، و لهذا فقد حصل على الثمن الذي أراده . و هكذا لم يبق لديه ما يمكن أن يباع ، إذ تعذر عليه بيع سلالم المشتمل . و أمضى وقتاً يتمتع هو و أمه بمبلغ البابين ، حتى لاحت تباشير الربيع . و على الرغم من أن أوليفر كان شاباً في مقتبل العمر ، فان ملابسه كانت بالية . و لو استطاع الحصول على ملابس جديدة ، لأمكنه توليد انطباع أفضل عن نفسه . و لأن إصابته قد حولته إلى ساكن بر لما تبقى من حياته ، فقد تاق إلى الحصول على قبعة قش تقيه لفح الشمس في أثناء صيد السمك . و اقترحت أمه - التي باتت تنظر إلى المستقبل بقنوط متزايد - أن يسعيا لإجارة المشتمل أيضاً ، و لم يكن أوليفر ليمانع في ذلك . "نعم ، غير أن الغرفتين قد أصبحتا الآن بلا أبواب ." فكر لحظة ، ثم أجاب بغير اكتراث :"أبواب ؟ إنني قادر دوماً على أن أحصل على بابين لهما ." هزت أمه رأسها و هي تقول : "كما لا توجد هناك أية مواقد أيضاً ." "مواقد ؟ و ما الذي سيفعلونه بها في صميم الصيف ؟" "لا بد أنهم سيحتاجون إلى طبخ طعامهم ، و سيلزمهم الموقد للقيام بذلك ، أليس كذلك ؟" كان واضحاً أن شيئاً ما قد أُنتزع من أوليفر ، و لم يعد عقله يشتغل مثلما كان من قبل . و راح يجرجر خطواته مرة أخرى إلى بيت ماتيس ، فتجاذب معه أطراف الحديث طويلاً هناك ، ثم عرّج إلى مراده بهذا الاستهلال :"حسنٌ ، إنني أتسائل : ما وراء كل هذا البناء و الطلاء و تركيب الأبواب و الشبابيك ، أأنت مزمع على أن تتأهل ؟" "لست ادري كيف أجيبك عن هذا ،" قال ماتيس ؛"و لكنني لم أغمض عيني تماماً عن مثل هذا الاحتمال ." "إنني أفهمك !" أومأ أوليفر برأسه ، و هو يواصل النظر إليه ، في حين استمر النجار يزاول عمله . لم يحصل بينهما أي شجار حتى الآن . يواصل أوليفر كلامه : "حسنٌ ، بغض النظر عمّن هي خطيبتك ، أو من يمكن أن تكون ، فإنها ستحصل بلا ريب على منزل ممتاز معك . ما الذي أردت قوله - هل اشتريت الخاتم ؟" "الخاتم ؟ لا ." "هكذا ! حسنٌ ، تذكّر أنني أمتلك واحداً إذا ما عقدت العزم على الشراء ." "دعني ألقي نظرة عليه ،" قال ماتيس ، "أليس اسمك منقوشاً عليه ؟" "أجل ، و لكنك تستطيع محوه بالمبرد ." فحص ماتيس الخاتم ، و وازنه بكفه ، و قدّر قيمته ، و انتهى إلى ابتياعه . ثم قال :"شرط أن يناسب إصبعي فعلاً ." أما أوليفر ، فقد أجابه بعبارة ذات مغزى :" تلك هي آخر همومي ، إن كنتُ أفهم جيداً. " القي عليه ماتيس نظرة خاطفة ، و سأل : "ماذا تقصد ؟" "ماذا أقصد ؟ أقصد أن الموضوع لم يعد يخصني بشيء ، و سأحصل على فرصتي أنا الآخر ، فانا لما أمت بعد ." "بلا شك ، " وافقه ماتيس . "طيب ، و ما هو رأيك أنت ؟" سأله أوليفر طرباً ،"أستسنح لي الفرصة في يوم ما ؟" "لا بد أنك تمزح يا أوليفر ؛ إن فرصتك ليست بأقل جودة مني . " و أبدى ماتيس إرتياحاً ظاهراً . ثم تبادل الرجلان عبارات الإطراء ، و تجاذبا أطراف الحديث بلا تحفظ ، رغم غياب الثقة المتبادلة بينهما . "ما الذي حصل على وجه الدقة فسبب لك تلك الإصابة ؛" سأله ماتيس ، "هل هويت إلى الأرض ؟" "أنا ؟" صاح أوليفر شامخاً بأنفه ،"إن لي من المراس الطويل ما يعصمني من السقوط ." "و هذا هو رأيي الجازم أيضاً ." "كلا ، إن ما حصل كان بسبب إحدى الموجات ." "أراهن أنها كانت موجة عالية ، فقد كادت أن تقضي عليك- ها؟" "لقد كانت بحجم أكبر موجة من أمواج الله العظمى يمكن أن تشهدها عين ،" قال أوليفر متفاخراً؛ "كسحت بقوتها البضائع المشحونة على سطح السفينة ، و رمتها في اليم . و كان نصيبي منها برميلاً من زيت الحوت قذفته خلل الهواء نحو حجري و كأنه كرة مدفع ." "خلل الهواء- واو!" "بعدئذ طرقت مسامعي الصرخات المريعة التي راح يطلقها بقية البحارة ." "و أنت، ألم تصرخ ؟" "و لماذا أصرخ ؟ ما جدوى الصراخ في مثل هذا الموقف ؟" هز ماتيس رأسه وابتسم قائلا : "آه ، لله درك من رجل !" نعم ، لقد شعر ماتيس بالارتياح الواضح ، و سَرّه أن يبرم الصفقات مع أوليفر . و هل بمستطاع أحد أن يكون أكثر تعاوناً من هذا الرجل ؟ كان قد فقد نصف منطقته السفلى ، و خسر كل شيء ، و لكن ما تبقى منه كان بعظمة نابليون ! ضعه في عربة مشرعة المآزر ، و سيبدو رجلاً كامل الأوصاف .. عاش أوليفر و أمه برهة من الزمن في بحبوحة صغيرة ، بل و لقد خرج أيضاً لصيد السمك ، فاستطاع توفيره لوجباته هو و أمه و القطة ؛ في حين وفر ثمن الخاتم الدقيق و زيت الإنارة للبيت . و بذلك لم يتبق لديه ما يستطيع بيعه ، إذ ما كان بالمستطاع بيع المدخنة الكائنة فوق السطح . أما أمه ، فقد أصبح مزاجها أكثر كآبة : لا يمكن للوضع أن يستمر على هذا المنوال . ابتدأت أول الأمر بالتلميح إلى ضرورة عمل شيء ما ، ثم تجرأت بعدئذ على إظهار القليل من عدم الرضا . كانت خزانة البيت فارغة تماماً . "ربما كنتَ قادراً على صنع شباك الصيد ؛ من المؤكد أنك تستطيع ذلك ، أليس كذلك ؟" غير أن أوليفر لم يكن قادراً على فعل شيء ، و لم يتعلم أي شيء ، بل و لم يهتم بتعلم أي شيء – لقد ركب البحر بدلاً من تعلم صنعة ما . "إنني بأمس لحاجة إلى مغرفة حساء ،" أطلعته أمه ."بمستطاعك صنع واحدة لي لتقليب الحساء لو كنت رجلاً ماهراً ." إلا أن أوليفر كان يفسر هذه الأقوال بأنها ضرب من العبث والمشاكسة من جانب أمه ، فيرد عليها معلقاً :"لا بد أنك ستطلبين مني بعدئذ صنع القفازات أيضاً !" و راح يقلب الفكر ، و يزن الاحتمالات كافة . لا بد من عمل شيء بالتأكيد . و استمر يوازن مختلف وجهات النظر . لم يعد ممكناً بيع أي شيء آخر من البيت الذي كان مرهوناً منذ وقت طويل عند المحامي فريدركسن . صحيح أن المشتمل الجديد لم يكن مرهوناً ، و أن أوليفر كان قد قدم حال عودته طلباً إلى فريدركسن لتسليفه قرضاً ثانياً بضمانة المشتمل ، إلا أن طلبه المذكور قد جوبه بالرفض البات . المشتمل ؟ كان فريدركسن يعده نوعاً من التوثيق الإضافي للقرض . "و ماذا عن السقف الجديد ؟" سأله أوليفر . "محض صيانة !" و عندما نوَه أوليفر باحتمال ذهابه إلى مكان آخر للحصول على القرض الذي يريده بضمانة ذلك المشتمل ، هدده المحامي بإنهاء أجل الرهن فوراً ، و بعرض البيت للبيع في المزاد دون مناقشة . و تخاصم الرجلان على هذا الأمر أو ذاك حتى فاجأه المحامي بالقول :"هل تدنت بك الحاجة إلى هذه الدرجة ؟" "أنا ؟" إستنكر أوليفر و هو يمثل دور الشاب العظيم الشأن . آه ، كان ذلك هو اعتقاد المحامي . و لما كان المشتمل والسقف الجديد يمثلان الضمانة الضرورية لمال فريدركسن ، فقد تعين على أوليفر التوقيع على إقرار بأن الأقسام الجديدة من البيت مشمولة هي الأخرى بالرهن الأول - هل سيوقع أوليفر مثل هذا الإقرار بوصفه رجلاً شريفاً ، و شخصية محل التقدير المعتبر في المجتمع ؟ و هكذا فقد وقّع على الاتفاقية الجديدة ، خصوصاً و انه كان عائداً من السفر متعباً ، و اعتاد عقد الصفقات السريعة المكشوفة في الموانئ ، و لأنه كان رجلاً لين العريكة . ثم افترقا هو و المحامي كأعز صديقين . كان ذلك هو شعوره وقتئذ . و كثيراً ما ندم بعدئذٍ على تجشمه عناء القيام بتلك الزيارة التي لم يعد ممكناً تصحيح النتائج المترتبة عليها ؛ أم أن بالمستطاع تحقيق ذلك ؟ هل يستطيع أن يبيع البيت ببساطة ، و يسدد لفريدركسن ماله ، فيتخلص بذلك من براثنه ؟ هل سيكفي ثمن مبيع الدار لتحقيق هذا المراد ؟ كان الشيء المؤكد الوحيد هو أنه سيصبح مشرداً بلا مأوى . وازن بين مختلف وجهات النظر ، و راح يتأمل وضعه . و مرت عليه أوقات داعبت فيها خياله فكرة التحول إلى رجل متدين ؛ و ربما الحصول على كرسي متحرك للمشاركة بجولات مواكب المصلين . و تأتي أمه إلى البيت من المدينة ، و تسر إليه بهذا الخبر أو ذاك ؛ فقد كانت تسنح لها الفرصة لسماع الأخبار أكثر منه ، فتلتقط النتف من الشوارع أو عند المضخة - شائعات و حوادث و حقائق و أكاذيب - فتعبها ، و تأتي بها إلى البيت . أحياناً ، كانت تبقي تلك الشائعات مخزونة في رأسها بلا استثمار ؛ غير أن نتف بعض المعلومات العرضية يمكن أن تثبت فائدتها أحياناً . و هذا ما حصل عندما أطلعت أوليفر على خبر توقيع "أدولف" ابن كارلسن الحداد - و كان شاباً معروفاً لديهما - عقد الخروج إلى البحر . "أين تعاقد على العمل ؟" إستفهم أوليفر . "على متن المركب الشراعي العائد لهايبرگ . و يقولون انه خرج لتهيئة صندوق مناسب له . " بعد برهة ، أومأ أوليفر برأسه ، و قال :"بوسعه شراء صندوقي ." "حتى هذا أيضاً ؟" تحسرت أمه . "و أي فائدة أرتجي منه الآن ؟ لقد أبحرتُ به إلى البحر ، و أعدته إلى البيت المرة تلو الأخرى ، و ها هو يقبع الآن بلا حراك هناك . كلا ، اذهبي ، و احضري أدولف ليشتريه - إن مشهده يقزز نفسي ." كان واثقاً بأن أدولف سيسعد بالحصول على صندوقه الذي ارتحل معه طويلاً ، و اعتاد البحر : ذلك الصندوق المجرب جيداً ، و جالب الحظ السعيد . كان أوليفر يحس بالحنين الحقيقي إلى صندوقه قبل كل سفرة . و من الطبيعي أن الصندوق لم يكن شيئاً حيَاً ، إلا انه كان رفيقاً و خادماً - بل كان صديقاً صدوقاً أيضاً . حسنٌ ، حظاً سعيداً له ، فليطلق سراحه الآن ! لقد أتعبه كثيراً في رحلة إيابه الأخير من ايطاليا بعد أن أصبح معقداً ، و غير قادر على السيطرة عليه . و في القطار ، وجب عليه دفع أجور إضافية على وزنه الزائد . انه ينتزع المال من فمه و يعتاش عليه ، هذا الوحش- تباً له ! آه ، و لكن أوليفر لم يكن غير مبال تماماً عندما عادت أمه إلى البيت مع أدولف . كان صندوقه قابعاً هناك ، قبيحاً و ثقيلاً في كل الاعتبارات ، إلا أنه مفيد . إنه يقبع هناك ، مثخناً بالجراح الظاهرة على طلائه الأخضر . و كان غطاؤه قد استخدم لعدة أغراض أخرى ، بضمنها تكسير أوراق التبغ - و لكن بحق الله ، أي يد ماهرة صنعت ذلك الصندوق ! "إنه تماماً مثلما تراه ،" قال أوليفر لأدولف :"و هو لم يتزلف يوماً للربابنة أو السماسرة أو القناصل . لقد تمسك بمكانه ، و لم يتحرك قيد أنملة إلا بالقوة ." إبتاع أدولف الصندوق ، و مكث للإصغاء إلى كلمات أوليفر الحكيمة . كان بوسع البحّار القديم إطلاع الفتى على نوع الحياة التي سيمارسها قريباً ! نعم ، إنها حياة حرة تتفجر صحة و عافية ، غير أنها ليست مصدراً للفخر في كل مناحيها . إثم و فسوق و إسراف في إجازات على سواحل في بقاع و بلاد غريبة . و ليس الأمر – و لا فخر – أن الحظ لم يسعفه دوماً بلقاء حبيبات رائعات في الموانئ ، و لكن تلك الأيام نادراً ما كانت تنتهي من دون عراك أو قتال . و لا يتطلب الأمر أكثر من القبض على عنق الغريم بيده ، و على وسطه باليد الأخرى ، و تهشيم الشباك بالتطويح به من خلاله – واحد ، إثنان ، ثلاثة ، و إلى الحمأة ! أوه ، لا . إنه لم يكن دوماً محض رجل معاق يجلس على الكرسي . و راح أوليفر يتفلسف . كان حديثه عن ماضيه فارغاً و مبتذلاً ، مثل حديث غيره من البحارة القدماء ، لا أحسن و لا أسوأ . مزيج من الحقائق المكتنفة بالتبجح و الدجل و الأكاذيب البيض . و أسهب في ذكر الإغراءات المتاحة ، منزلقاً إلى التلفظ بكلمات انكليزية . كما حذر أدولف من الخمر ."إنك ترى الآن يا أدولف الحالة التي عدت بها إلى البيت ، و هي غير ممكنة التصديق تقريباً ، فهل يتبادر إلى ذهنك أنها قد حصلت بسبب الخمر و الفسوق ؟ إنك صاح الآن تماماً ، و ليبارك الله روحي ! إن الذي سبب لي تلك الفاجعة هو المحيط العاصف ، فما هي ذنوبي ؟ إذن ، لا تستسلم إلى الخمر أبداً مثلما يفعل الكثير منهم ، و اقبل بمشيئة الله ، فلا حول لك إزاءها . و عندما تظهر لهم حقيقة امتلاكك النقود ، و يشاهدونك و أنت تخرج الجنيه الانكليزي الذهبي من جيبك ، فسيلاحقونك عندئذ ملاحقة النوارس للأسماك الصغيرة – و لهذا يتعين عليك أن تخيط جيباً خاصاً في الخصر قبل الإبحار. "و هل كنت تملك مثل هذا الجيب ؟" تقاطعه أمه . "ألم أكن أمتلك واحداً بالفعل ؟ " يفتح أوليفر بعض الأزرار في سترته ، فيكشف عن عدم وجود جيب خاصرة فيه . "لا بد أنه في ملابسي الأخرى ، ملابسي الخاصة بالإجازات على السواحل ، " يقول . "ملابسك الخاصة بالإجازات على السواحل ؟"تسأل أمه . يتجاهلها أوليفر ، و يواصل :"أينما يكن ، يكن ! لقد جاء الشاب أدولف هنا ليهتم بالصالح ، لا بالطالح ! حسنٌ ، و الآن عليك أن تركز التفكير فيما قلته لك من قبل يا أدولف ، و أن تضع الله في ضميرك عندما تكون في خفارتك الليلية ، أو عندما تقف وراء الدفة . و ستتعلم هناك كيفية التحدث بالانكليزية و التعبير عن نفسك بتلك اللغة في أي مكان تقصده في أرجاء العالم كافة ، و سيفهمونك جيداً سواء ذهبت إلى المشرب لتتناول قدحاً من الجعة أم إلى الكنيسة أو القنصلية . خذ الآن صندوقي و عامله بالحسنى طوال حياتك فهو لم يعرف معاملة أخرى قط !" "أية ملابس خاصة بالإجازات تلك التي تتحدث عنها ؟" تسأله أمه ، "هل لديك ملابس أخرى غير هذه التي ترتديها الآن ؟" "من قال أنني لا أملك ملابس أخرى ؟" يرد عليها أوليفر بخشونة ، " لقد كانت مصنوعة في ايطاليا ؛ ما أغرب كلامك !" و لكن أمه – التي تتشجع عندما يوجد بينهما طرف ثالث – تكتفي بإصدار شخير قصير . أوه ، إن الخزانة أصبحت جرداء تماماً . و الآن ، ما عاد يمتلك ما يمكن بيعه : كان الصندوق البحري آخر مقتنياته ، و لم يستطع جمع ما يكفي لشراء ملابس جديدة أو قبعة من القش . إلا أن الأيام كانت تمضي سراعاً ، و بدا أنه قد انتبه إلى الوضع الذي آل إليه ـ فلمّح ، في أحدى الصباحات ، إلى احتمال قيامه ببيع الزورق . "الزورق !" صرخت أمه . كبح جماح نفسه ، و غيّر مجرى الحديث . لا ، أن الزورق ليس معروضاً للبيع ، إذ لن يحصل منه على شي ، فهو محض حوض عتيق لا تمنعه من التداعي غير مشدات القار الكائنة بين ألواحه ، و هو لم يكلفه أصلاً سوى القليل من المال . "أتصور أنني سأضطر إلى محاولة الخروج بالقارب إلى البحر ، و التجذيف بنفسي ، " تهدده أمه ، " ما دمتَ قد تخليت عن ذلك ." يتناول أوليفر عند ذلك عكازه ، و يخرج قازلاً إلى الشارع ، مبدياً عدم الاهتمام و الاحتقار التامّ لكلمات أمه . كان الجو لطيفاً ، فتنشق عبير البحر . حطت مجموعة خافقة من الحَمام على الشارع ، في حين راح الأطفال يلعبون بحبل القفز مثلما كان يفعل هو مرة فيما مضى . و عكف على القيام بجولات على الحوانيت التجارية ."أنت غريب فعلاً ، " قال له الناس في كل مكان ، مبدين عطفهم عليه و هم يهيئون له شيئاً للجلوس عليه . و قد اضطر إلى قص حكاية إصابته المرة تلو الأخرى ، فأصبح بمرور الوقت راوية متمرساً ، يزوّق حكايته باستمرار ، مع إضافة رتوش متنامية و رائعة عن مدى الشهرة التي حازها في المستشفى – و مثل ذلك من الحكايات التي ما كان بمستطاع أحد من رفاقه على متن السفينة "فيا" تصحيحها عند عودته إلى البيت . و لم تمانع إحدى الممرضات في ذلك المستشفى في قبول الزواج به . "حسنٌ ، و لماذا لم تغتنم تلك الفرصة للزواج بها ؟" "ماذا ؟ أتريدني أن أذهب فأغيّر مذهبي ، و أصبح كاثوليكياً ؟" غير أن أصحاب الحوانيت توقفوا تدريجياً عن إكرام وفادته ، فقد اضمحلت جِدة حكاياته ، و وجب عليه آن يذهب بنفسه لإيجاد قفص للجلوس عليه ، أو تحمل مشقة البقاء واقفاً يتعكز على مرفقه خلف النضد . و لم يعد يستفهم منه أحد عن تلك الممرضة . و بمرور الوقت ، تناقصت زيارته للحوانيت ، وعاود صيد السمك . كان جونسون صاحب المرفأ قد طلب منه أن يبيع له كل السمك الفائض عن حاجته ."حسنٌ ،" قال أوليفر متجنباً التلفظ صراحة بكلمة : لا . إن جونسون يعرف جيداً أساليب المخاتلة ، فهو من صنف ملاك السفن الذين يعيدون البحارة مشوهين إلى بيوتهم ليستخدموهم على متن قوارب الصيد بعدئذ . و لكن لا ، شكراً . إن أوليفر يأكل سمكه بنفسه ! و التقى السماك يورگن على مياه الخليج ، فوضعا قاربيهما الواحد جنب الآخر ، و راحا يثرثران . فيم يثرثران ؟ في الجو و الصيد و الكسب . كان يورگن يعمل بجد فظيع . "ما الذي يضطرك للبقاء في مياه الخليج ؟" سأله أوليفر ، " لو كان زورقك الرائع هذا عندي لذهبت أبعد في عرض البحر . كم تكسب في اليوم ؟" كان الكسب يتفاوت كثيراً بين يوم وآخر . فهو وفير أحياناً ، و شحيح أحياناً أخرى ، فهناك أيام صعبة ، و أخرى طيبة . "إسمح لي بأن أقول لك يا يورگن أنك تتمسك بالبقاء في مياه الخليج على شاكلة الصيادين الهواة من أمثالي . إنني لا أضع نفسي إزاءك - ما أنا إلا رجل معقد لا فائدة ترتجى منه – و لكنك إن خرجت أبعد إلى البحر ، فستستطيع صيد أسماك الهلبوط ، و غيرها من الأسماك الكبيرة ." "نعم ، ثم سنصطاد بعدئذ بعض حيتان البال ، " وافقه يورگن . و ضحك كلاهما ، إذ لم تكن فكرة الخروج إلى عرض البحر سوى نكتة ، و نوعاً من تبادل الأحاديث من جانب أوليفر ، ليس غير . فيورگن لم يكن يمتلك نوع القارب ، و لا العدة المطلوبة لمثل هذا النوع من الصيد ؛ فهو محض صياد سمك يعمل بمفرده . "إفرض أننا وحّدنا جهودنا ، و حصلنا على قارب مجهز للخروج إلى البحر ،" قال أوليفر على سبيل المزاح . و مثل غيره من الناس ، كان يورگن يجامل رفيقه المعاق . و راح يناقش معه مختلف الأفكار :القارب المجهز للخروج إلى البحر العميق- لم لا ؟ و عدّة الصيد الثقيلة بالعتلات ، و حبال الصيد في أعماق البحر . و سيكون بمقدورهما اكتساح السوق بالأسماك . كان أوليفر هو الذي يقدم الأفكار الجديدة التي كانت تومض في ذهنه دون أن تكون لها أي فائدة . لقد سافر إلى بلدان أجنبية ، و سمع و رأى أشياءً عجيبة كثيرة – و امتلك عقلاً مدبراً في رأسه . "ها أنا أجلس هنا مثرثراً ، " قال أوليفر "و كل ظني أنني سأنتهي إلى محاولة تجريب العمل كمستخدم في فنار السفن ." "انك قادر حقاً على انجاز أعمال أصعب من ذلك ،" ردّ يورگن . "لست أدري . كل ما أدريه هو ضرورة ممارسة الرجال المعاقين لعمل ما ." "رعاية المصباح ، و مسك سجل بأسماء السفن المارة ، و قيادة المبحرين ليلاً . انه عمل جيد . و لو كنت تعرف شخصاً من المتنفذين للتوسط لك .." "من المؤكد أن بمستطاعي دفع العجوز جونسون إلى التوسط لي . حسنٌ ، أ نجذف الآن عائدين إلى البيت ؟" "لا ، إن عليّ البقاء مدة أطول ، فقد وعدت القاضي بكمية كافية من السمك لوجبة الغذاء ، و لم يتسن لي حتى الآن سوى صيد عدد قليل من الأسماك ." "كم يدفع لك القاضي لقاء وجبة جيدة كهذه ؟" ذكر له يورگن متوسط السعر . هز أوليفر رأسه لتفاهة المبلغ ، ثم جذف بعيداً، و واصل الصيد لحسابه . جلس ساعة ، ثم جذف للعودة إلى البيت . كان تجذيفه سريعاً مثل أبطال الرياضة ؛ و لعله أراد التباهي ، و إبهار يورگن بقوة ذراعيه ، و قد أفلح في ذلك . و الحق فقد بدا أوليفر رجلاً قد خُلق - أو بالأحرى أعيد خلقه - للعيش على قارب صيد . جلس ماسكاً بالمجذافين مثل ثقل راكز يتحرك بثبات إلى الأمام و الخلف ، و قد منحه الله كل القوة التي يحتاج إليها . و لعل هذه الحقيقة قد أشرقت داخل نفسه بعد ذلك بأيام قليلة عندما أصبح مواظباً على الصيد صباح كل يوم ؛ و راح يواصل الجلوس في قاربه طوال النهار ، مجذفاً أبعد فأبعد في كل مرة ، و مكتشفاً أمكنة صيد جديدة . ثم يعود إلى البيت بخيطين أو ثلاثة من السمك ، فيبيع بعضه في المدينة ، و يدخر مردوده النقدي . "انك تجذف مثل باخرة ،" قال له يورگن . و أمّن على قوله هذا مارتن : مارتن ساكن المرج ، و أكبر الصيادين عمراً. "هذا إذن هو رأيك ؟ آه ، حسن - إنها الحقيقة . لقد أبحرت إلى معظم بحار العالم ، و تعلمت هذا الشيء أو ذاك ." فأجابه يورگن بمقولته المأثورة :"إن الطبيعة مليئة بالأسرار التي نستطيع التعلم منها ." "إنه لشيء رائع أن يكون باستطاعتي التجذيف ، فقد خططت للقيام بسفرة بعيدة في يوم من الأيام ." لم يفصح عن المكان الذي يروم الذهاب إليه ، في حين كان مشروعه يفتقر إلى المشروعية في بعض جوانبه . لقد قرر الإبحار بقاربه لجمع البيض من الجزر الصغيرة ، و لإخلاء بعض الأخشاب المنجرفة أيضاً ، و نقلها إلى البيت . كان المشروع ذا شقين ، تغطى فيه عملية جمع البيض غير المشروعة بالبحث المشروع عن الأخشاب المنجرفة .
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 3
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 2
-
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
-
الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
-
مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 4
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 3
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 2
المزيد.....
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|