|
الواقعية السحرية في رواية (حكايتي مع رأس مقطوع) للقاص تحسين كرمياني
سيروان رفعت أحمد الزنكنة
الحوار المتمدن-العدد: 3837 - 2012 / 9 / 1 - 07:41
المحور:
الادب والفن
الواقعية السحرية في رواية (حكايتي مع رأس مقطوع) للقاص تحسين كرمياني صدرت عن (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) ببيروت الرواية الخامسة للكاتب العراقي تحسين كرمياني وهي تحمل عنواناً غاية في الغرابة وهو (حكايتي مع رأس مقطوع). لا شك أنّ هذا العنوان الملفت للانتباه ربما يحتاج إلى تأويلات او أستقراءات معللة منطقياً كي تبرز نوع من الجدلية بين غرابة الاحداثة من الاعماق والدلالات الرمزية التي تؤشرها من السطح الخارجي، وبهذا نتمكن من فك شفرات الرواية وإقناع القارئ بتلك الالغاز التي تتضمنها، حيث أشار البعض من النقاد الى نتاجات الكاتب تحسين كرمياني بأنها فنتازية أو سوريالية أو غرائبية ... على أقل تقدير، يمكننا أن نصنّف أعمال هذا الكاتب بشكل عام، وتحديداّ هذا العمل الروائي بأنه واقعية سحرية، وفق معطيات محددة التي تؤطر هذا العمل الابداعي بأشارات تنتمي الى هذا الاتجاه، لذا لا يمكن تصنيف هذا النتاج الابداعي ضمن الاعمال الاسطورية على سبيل المثال أي انها ليست رواية أسطورية وذلك لان الاسطورة هي "قصة، بعض شخصياتها الهة أو مخلوقات اخرى اكثر قدرة من البشر، ومن النادر وجودها في تأريخ الاحداث الماضية، فعملها يحدث في عالم هو فوق الزمن العادي أو سابق له ... وكذلك هي بمثابة نموذج قصة مجردة تستطيع شخصياتها أن تقوم بما تريده"( )، ومن اهم المرتكزات الاساسية للموضوعات الاسطورية هي الاحداث التي تدور حول المسائل والقضايا الكبيرة التي لم تغيب صداها في الفكر الانساني, وباتت تلح بشكل مستمر على العقول البشرية, كقضايا الخلق والموت والحياة والبطولة والشجاعة ... وكما تعطي القصة الاسطورية دوراً مهماً الى الالهة, فأنها لا تصاغ او تعاد صياغتها وفقاً لطبيعة التطورات والاحداث والتغيرات التي تحدث في بنية المجتمع والبيئة المحيطة, ولها مهيمنات فكرية عظيمة في الفكر الانساني منذ أمدٍ بعيد والاسطورة من الناحية التأريخية تتبع الطقس الديني وترتبط به "حيث انها جزء من الطقوس، إنها القصة التي يمثلها الطقس الديني، ويقوم رجل الدين في المجتمع بأداء الطقس إما لدرء الخطر أو أستجلاب الخير، والطقس بند ضروري بصفة متكررة ودائمة، كالحصاد، والخصب البشري، ومثل تعريف الصغار بثقافة مجتمعهم، وإعداد الموتى اللائق للحياة الاخروية، ولكن بمعنى أشمل، تعني الاسطورة أي قصة مجهولة المؤلف تتناول الاسلاف، والمصائر، والتفسيرات التي يقدمها المجتمع لصغاره حول نشأة العالم وسلوك البشر، والصورة التربوية للطبيعة ومصير الانسان"( )، والاسطورة هي أيضاً "حكاية تنتقل بواسطة الرواية وتدور حول الالهة والاحداث الخرافية عند الشعوب القديمة"( ) بيد أن الكاتب الكرمياني فقد قام بتسلسل الاحداث والمواقف مستبعداً وجهة نظر مثيولوجية، وهذه الرواية تفتقر الى الاحداث الخرافية والالهية ... فهل وجدت هذه المفهومات او هذه الطروحات في هذه الرواية؟، لذا لا يمكن أن تصنف هذه الرواية ضمن خارطة التشكيلات أو النصوص الاسطورية، وذلك لان الانساق التي شكلها الكاتب في مخاض هذا النتاج الابداعي أزاء تلك الافتراضات التي يتعرض لها المتلقي هي ضمن الواقع الذي تم تضخيمه ... فهل أن الحكاية مع الرأس حقيقية أم تصورات ذاتية؟ وهل فعلاً حصلت حالات قطع الروؤس ووضع في أماكن عامة؟ وبعبارة أخرى أن الكاتب تمكن من إيقاع المتلقي في ايهام بصري وخيالي عند قرائته للنص، فالغريب في الموضوع أن الاحداث تتضمن الواقعي والفنتازي في وجه واحد، وبالتالي تظهر لنا عناصر سحرية أو سيناريوهات غير منطقية في مكان طبيعي التي لا تستند الى القوانين الطبيعية ولا الحقيقة الموضوعية من حيث بنية النص ومداولة الحوار مع رأس مقطوع، فالمشهد او الية السرد معبرة بصورة عجيبة مختلف تمام الاختلاف مع الواقع من حيث تركيب الاحداث، فالكاتب يفرز أشياء من الحقيقة، بشكل سحري يصور النصوص الواضحة من الواقع الذي يتبنى التضمينات الداخلية للعالم، فضلاً عن الايحاءات التي توحي باتحاد نظيرين متناقضين، فالاول يستند الى وجهة نظر عقلانية من الحقيقة والآخر يعتمد على قبول عالم ما وراء الطبيعة كحقيقة مفترضة، من خلال بنية العلاقات القائمة بين المفردات بعضها مع البعض الاخر، والكاتب هنا تمكن أيضاً من رصد عملية اندماج وتعايش عوالم مألوفة وغير مألوفة في عمل واحد ... في فضاءات وأنظمة مفترضة كي يخلق النظام من اللانظام والممكن من اللاممكن، ويستمر في مقاومة الفرضيات العقلانية الاساسية وذلك لشرعنة واقع من غير محددات بقصد المعالجات التصحيحية للمحاكاة التقليدية عن طريق انتهاك الضبطية العقائدية أو الشكلية، فتتمخض عنها خرق معادلة الواقع وتصبح الخيالية غير التخمينية معيارية طبيعية، وتتفاعل فيها المتضادات بين السحر والواقع داخل إطار عام في مشهد يوحي بالايهام في النص، بيد انه يعالج مشاكل المجتمع من خلال مفردات الحياة اليومية، فالشطر الاول من هذا الحديث يتناقض تماماً مع ما جاءت بها هذه الرواية من حيث موضوعية العمل وتجريد الذات، أما الشطر الثاني ففيه وجهة نظر متقاربة مع ما تهدف اليها المشاهد إزاء الاعتماد الى مفردات الحياة اليومية في كيفية معالجة الصراعات أو المشاكل المجتمعية، وفي ذات الوقت أن موضوعات العمل تتشابه مع الاساطير التي تكشف عن حقائق يتعذر أثباتها أو الاستدلال إليها وذلك لان التضمينات الداخلية والتراكيب الشكلية لا تعبر بصراحة كما وجدت في المدرسة الواقعية ولا يمكن إنكارها او كما حصل ذلك لدى الاتجاهات التي تحكي الاساطير أو الفنتازيا، فالحقيقة هنا يمكن أن ندعوها حقيقة ميتافيزيقية ما ورائية وأن صدقها لا يمكن الطعن فيه أو نفيه، وهي تطالب المؤمن بالاعتراف بها دون تقديم الادلة أو الارتكاز الى المستندات الفكرية أو العقلية . وقد صنفها البعض بأنها رواية فنتازية، فالفنتازيا توجد فيها عوالم سماوية ومثالية ورؤية مستقبلة، بالاضافة الى أشكال حيوانية مبتدعة وبيئات أفتراضية لا يمكن تحديدها أو رصد الموقع الجغرافي من حقيقة المكان فكل هذه المفردات من صنع خيال الكاتب، فعند البدء في الحديث عن مفهوم الفنتازيا لا بد من التطرق الى النصوص التي تتميز بالحالات الغرائبية والعجيبة في الانساق الابداعية, سواء كانت ذات طابع فني أو أدائي أو ديني ... وذلك لان هاتين الكلمتين تحاذي مدار فلكهما بالاضافة الى مصطلحات منها الخارق والشك والخوف والتردد, لتؤسس شبكة من المرموزات الدلالية والتي تنبثق منها الخروج عن القاعدة والمألوف, والاستناد الى كل ما هو شاذ أو مستثنى من بنية النصوص الواقعية, بالرغم من أن الفنتازيا لابد أن تنطلق من نتوءاتٍ واقعية حتى وإن كانت حُلُمياً في معظمها، وذلك أن الفنتازيا هي "الشكل الادبي الذي يعتمد تماماً على الانطلاق بالخيال دون التقييد بالمنطق أو أية قوانين معروفة, بل تدور الاحداث غالباً حول السحر والامور الخارقة للطبيعة والتخاطر..."( )، وبهذا لا يمكننا القول بأن هذه الرواية هي بمثابة نص فنتازي أو تنتمي عوالم الخيال الجامح، وذلك لان الالية التي أشتغل عليها كاتب النص تبتعد من هذه المنظومة الكتابية، ولم يتطرق الى احداث أفتراضية او كائنات خرافية او غير ذلك ... بالرغم من وجود غرائبية عالية في عنوان الرواية فهذا "يحيل على رؤية عجائبية لا يمكن تصورها في اطار فهم المفارقة الحاصلة واستيعاب ممكناتها السردية، التي لا يمكن أن تفهم في ضوء التقاليد اللغوية والتعبيرية والدلالية المعروفة داخل منظومة السياق اللساني العرفي"( ) . تعامل الكاتب باسلوب سردي مع رواية قد حدثت في الواقع تعبر عن أسرار وألغاز المجتمع، فمثل المشاهد بهيئات مختلفة ... أما من حيث توزيع المفردات وتشكيل العلاقات البنائية فأنها تعطي بعداً درامياً مثيولوجياً، فالفنان هنا يؤكد على المواضيع الغامضة، فضلاً عن أهتمامه بوضوح المشاهد والاجسام والحركات التمثيلية والديناميكية، مع خـروجه عن القواعد التقليدية أزاء توزيـع المفردات والية التراكيب الشكلية، حيث ان المشاهد تحسس المتلقي بالقلق وعدم الثبات، فالتعبير الذي تعكسها الاحداث تدل على الانفعال والغضب ... الذي تمكن الكاتب من خلق النظام من الفوضى، وأحالة المألوف الى غير مألوف والعكس صحيح، وأن يجسد المرئي في اللامرئي، بالاضافة الى تأكيد العناصر المثيرة للدهشة، والاشياء المستحيلة والاستثنائية على نحو طبيعي دون تقديم تبريرات لها، أي أنه يشخص المواقف دون تبريرها من خلال أبتكار أنساق جديدة يخوض فيها الكاتب في مخاضات غرائبية بتعالق العناصر الفنتازية والواقعية بعضها مع البعض الأخر المتمثلة في أندماج المعتقدات والخرافات بالطابع الاجتماعي في العصور القديمة . فالاشكالية في هذا العمل درامية فريدة من نوعها، والكاتب يسعى لشرعنة هوية ادبية ابداعية بأظهار الاشياء الخفية، من خلال تلاعبه بقوانين وأصول الطبيعة الا أنه أعتمد على الواقع المرئي الذي يشمل الاشياء التي يراها ويلمسها ويتحسسها كمعطى شامل ومؤامتها مع الاشياء الخيالية، فكل ما يتحسسه كصورة فهي لطرح الحقائق المتخفية خلف هذا الواقع، وأعطى مفهوماً اخراً للطبيعة تخالف ما هي عليه، والتي تعتبر بمثابة حافزاً ودافعاً مهماً لتغير نظرته تجاه الحياة الانسانية وكيفية صياغة النصوص الادبية برؤيته الجديدة للعالم، وبالتالي ولد صراعاً بينه وبين بيئته لكي يبحث في أعماق الواقع البيئي، والكشف عما يخفيه من ألغاز باطنية غير محسوسة، أو لربما تمكن القاص من الخوض في الاساطير القديمة وأستل منها البعض بما يلائم خيالاته الذاتية أزاء الموروث القديم ... فالاسطورة تتعلق بحال وأسرار القدماء التي نجد فيها الكثير من المنازع الفلسفية ... والتي لا تستند الى منظومة الحقائق، بيد أنه أخذ يؤسس لحقائق يقينية مطلقة بخلاف ما ذهبت اليها الاساطير القديمة، ومن المؤكد أن الديانات القديمة وما تتضمنها من أساطير دفعت بالراوي لأستنباط رؤية سحرية لا تقوم على أسس ونظم وقواعد المنطق العقلي الا أنها تتوافق والرؤية والمفاهيم الحديثة . لو اردنا تجنيس هذا النتاج الابداعي ضمن خارطة النصوص السريالية التي أستندت الى نظرية التحليل النفسي عن الشعور واللاشعور، التي قدمها فرويد، كمفهوم معرفي الذي يفصح عن آلية العلاقات القائمة داخل الفنان والكاتب على حدٍ سواء، بين الحالات الواعية واللاواعية ... ويعد بريتون من تخطي العالم المحسوس أو المباشر وأن يحلق ما فوق الواقعي أي الى أبعد مما نراه عبر نظرياته ومقولاته ... بتلقائية كبيرة تتجاوز السلطة المباشرة للوعي، حيث أحالة الفن صوب ظواهر التحليل النفسي، وهذا ما نلاحظه أيضاً في الادب، فالتصورات والتداعيات وصلت الى حدٍ تقول بأن السريالية حركة لا واعية، ولكن في حقيقة الامر أن القاص او الكاتب ... السريالي بشكل عام يقوم بعمليات التحليل والتركيب وفق قصدية وتحت سيطرة العقل، لو كانت هذه الحركة تقوم على أساس اللاوعي، لما كان بأمكان الكاتب او الفنان من أنتاج وأخراج نص يضاهي الواقع، يسمو عليه بأسس معرفية ... الادباء والفنانون السرياليون ليسوا عبثيين، فالنتاجات الادبية السريالية توازي العالم الموضوعي الواقعي والمرئي وتنحرف نحو عوالم باطنية وتغوص في أعماقها لكي تهب في الاشياء ما ليس في طبيعتها، فالفكر فيها حر يتحرك في فضاء واعٍ ولكن عند الانتهاء من العمل يتحسس المتلقي بأن الكاتب لاواعي واشتغل خارج نطاق سلطة العقل، في عالم يمثل نافذة روحية لا عقلانية، فالسريالية ترصد العالم من خلال التواصل بين الوعي واللاوعي في المشهد المصور تحت عوامل ضاغطة بيئية كانت أو اجتماعية أو عاطفية ... تترك اثرها على المنتوج الأبداعي وتؤثر في بناء العلاقات بين المفردات بحكم علاقة الانسان بمحيطه البيئي، وما يمتلكه من التصورات التي تغلغل في أعماقه، كبنية جمالية ورصيد معرفي، يمتزج بالواقع والحلم في موضوع واحد، الواقع بمفرداته، والحلم بامتداده اللاواعي عبر الخيال ومضامينه، الا أن الكرمياني لم يتطرق الى تلك المفاهيم التي نجده في التيار السريالي كأتجاه ادبي وفني. فالمفردات والعناصر وآلية تركيب الاشكال وبناء العلاقات بين الاحداث ... تخلو من الشكوك وتتكلم عن حقيقة واقعية بالرغم من اختراق الواقع من حيث تركيب المشاهد والتضمينات الرمزية وبالتالي يتكون لدينا حدثاً مشحوناً بالمعاني ... وتطرح بالدرجة الاولى تجربة مأخوذة من الزمن بوصفها موضوعاً مدركاً من خلال الاحداث اليومية، مغروساً في الذاكرة الانسانية ولها أصول وثوابت متجذرة في الواقع، الا أن عمليتي التحليل والتركيب هي بمثابة تجزئة الاشكال الى عناصرها الاساسية والخوض في معالمها الداخلية لشرعنة نظام خاص إزاء ترتيب تلك العناصر بأنساق شكلية وفق منظومة رؤيوية بهيئة واقعية سحرية لاستعادة تلك الذاكرة، وبالتالي فأن هذه الاشكال بقدر ما تشكل موضوعاً تخلق حدثاً ما في مكان ما، ومن الممكن أن تكون تلك الاماكن مألوفة أو فيها غرائبية في الفضاءات المستقبلية لتجذير التضمينات الداخلية في قلب الاحداث الواقعية، بحيث تدمج فيها الخيال والواقع في الوقت ذاته . تمكن الكاتب تحسين كرمياني من مواجه الحقيقة بتحويرات سحرية جمالية من أجل هدفٍ ما، فعندما يسترسل المواقف بهذه الطريقة ... منها: منتصف الظهيرة، تصاعد من مئذنة الجامع نداء صلاة الظهر، توقف الشخير فجأة، سمعت همساً يرتفع من الكرتون، قمت نحوه وأنزلته، كان فاتحاً عينيه مبتسماً.. قلت: - نوماً هنيئاً أيها الرأس المحير . - لا يجب أن ننام عندما يرتفع النداء. - وما علاقتك به. - الرأس مستودع الخير، يستمد حياته من هذا النداء الكريم. - أتدري ما الذي حدث قبل قليل. - أعرف أن شرطة (جلبلاء) تبحث عني. - وما أدراك بهذا الامر. - أنا رأس أحمل حضارة الدنيا كلها، أنا الان معزول عن الجسد مستودع البلادة والخمول، أنا أستشرفت حياتي القادمة وأعرف متى سأفارقك. - متى يتم ذلك. - ليس قبل أن أجيبك عن سؤالك. - أي سؤال...( ) فهذه بمثابة تصورات ذاتية وخيالات حقيقية، قد تخيلها الكاتب مع نفسه عندما تعرض الى رؤية رأس أنسان حقيقي ... ربما في الواقع، أو كانت تتوارى في رأسه تصورات بمثلها عندما يجابه رأساً مفصولاً عن الجسد، وبدء الكاتب يسجل ملاحظاته من خلال تخيلاته الذاتية عن تلك الاحداث التي حدثت في ناحية جلبلاء خلال سنوات عجاف، وكانت مخيفة ومرعبة ومقلقة للغاية، ومثيرة للدهشة وفيها غرائبية عالية لا يمكن للعقل الانساني أن يتصورها، وفي ذات الوقت هي أحداث واقعية في تضميناتها الداخلية وتخلو من الشكوك، وأنا بدوري كمواطن أو فرد أعيش في هذه المنطقة ربما رأيت أشياء بأم عيني أغرب مما تحدث عنه الكرمياني، حقائق مربكة، والمنطقة أصبحت مشابه تماماً لمدينة الاشباح ... نرى اليوم شخصاً يتجول وفي صبيحة اليوم التالي نستمع الى الاخبار من خلال الاصدقاء يتحدثون عن حادثة نحر ذلك الشخص أو قتله بطريقة همجية لا يصدقه العقل، ولا توجد مبررات منطقية تعلل تلك الاحداث وتوضحها على أقل تقدير، لذا غرابة تلك المواقف لا تقل شأنها عن تلك التي تحدث عنها الكاتب الكبير غابريل غارسيا ماركيز عندما وجه إليه بعض الاسئلة ... منها لماذا اخترت الواقعية السحرية بالذات أجاب بأن الواقع في أمريكا اللاتينية "يموج بأشياء غريبة لا يصدقها العقل البشري ... منها مجرى مائياً تغلى مياهه، ومكاناً يؤدي فيه صوت الانسان الى حدوث وابل من المياه، كما أشار ماركيز الى الحادثة التي وقعت في احدى المناطق الجنوبية النائية في أرجنتين عندما حملت الرياح الى البحر (سيرك) برمته، وفي اليوم التالي عثر الصيادون في شباكهم على جثث الاسود والزرافات"( ) ... بالرغم من كل تلك الاحداث الغرائبية ولكن ماركيز من خلال تعبيره عن قصصه عن هذا الاتجاه السحري يعود ويؤكد في المحادثة المذكورة أن "قصصه ليس فيها سطر واحد غير قائم على أساس من الواقع"( )، لذا عندما سئل عن الواقعية السحرية قال إنها "تمزج بين الواقع والسحر أو الوقائع الغريبة التي تخترق نواميس الطبيعة"( ) إن الأحداث تحديداً في هذا العمل مصاغ بنصوص لا يتمكن المتلقي من تصديقها بسهولة وذلك لاحتوائها الكثير من الالغاز وما تتضمنها من خفايا داخلية، ولا يمكن إنكارها بسبب تلك الصياغات الواقعية التي ترصد المكامن اللامرئية والمهمولة، وكما لا تشترط أي تصديق من قبل المتلقي, وذلك لان التعاطي مع هكذا نتاجات أبداعية سوف تكون على أساس إنها تركيب احداث نمطية أو منهجية وهذا ما لا تتطلبها النتاجات الواقعية السحرية, علماً أنها سوف تفتقد مقوماتها الاساسية كسمة خاصة اذ ما فقدت صفتها الغرائبية، وما تتصف بها من أيحاءات شكلية مميزة, حيث أن الكاتب هنا يتصرف بحرية تامة ويكتسب نتاجه عالماً مفتوحاً لا يمكن تحديد أبعاده, وهو قادر على توجيه محيطه وأسقاط بعض العناصر التي فيها وأدخال مفردات غير متوقعة ومتجذرة في الواقع كحقيقة من حيث تضميناتها الداخلية مما تؤدي الى بلورة بعض العناصر الاخرى ولربما تتناقض مع البعض من مشاهد العمل ولا تنساق مع الاطار العام للعمل، بيد أن الكاتب يتقصد بذلك لابراز رؤية غرائبية في الموضوع, وكما نجد القصدية في آلية توزيع المفردات وصياغة العلاقات البنائية فيما بينها التي يراه هو وعلى فهمه من الزاوية التي ينظر إليها من خلالها فحسب, وتصبح الأهداف السحرية أمراً مموهاً بالنسبة الى الموضوعات والافكار, التي جاءت من أجلها, فالقصد هنا ليس التهرب من الواقع أو أهماله أو الابتعاد عنه بقدر ما يبحث الكاتب في الإيلاج الى الداخل بعد مخاضٍ طويل من الشكوك بخصوص العالم المحيط, علماً أن البيئة في هذه المشاهد لا يمكن عزلها في عالم مستقر عن عالمنا, بل تستمد جذورها الاساسية منها وتهب في الاشياء وذلك لكشف حقائق مخفية, فضلاً عن خاصية عزل الصورة عن الانماط الحياتية الاعتيادية وتؤمتها مع ما تناقضها . فتجاوز الاحداث بهذه الطريقة توحي بالدخول الى أمور مفاجئة، حيث أنها تقدم لنا منظومات فكرية في أنساق لا توجد مثيلاتها في التصورات الاعتيادية بل أنزاحت وذهبت نحو عوالم فوقية, وبهذا أصبح الادب والفن علماً للعالم, أي أنه يكون نظرة متقدمة للعالم وهو بمثابة علم جديد, ويحاول الكاتب أن يستعين به ليكشف خفايا العالم ... وهو يرى العالم ويدركه وفق منظومة ذاتية وموضوعية وذلك لا يمكن أن تعتبر بأمكان الدائرة الحسية لدى الكاتب أعطاء المفاهيم أو المعلومات الكافية لتعبر عن ما تتضمنها العالم من أسرار وألغاز, بل أنها توثق رؤية أخراجية للكاتب تحت تأثير مرجعيات فكرية وبيئية ضاغطة, بأستعارات شكلية وعلاقات بين مفردات الاشكال ومن ثم صياغة النصوص بأرادة وعقلية تتخطى الافق الضيق للواقع وتصل الى زوايا خاصة .
#سيروان_رفعت_أحمد_الزنكنة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأسطورة والمفاهيم العلمية الحديثة
-
الواقعية السحرية
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|