وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3833 - 2012 / 8 / 28 - 16:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
استكمالا لمقالتنا المعنونة : ( هل هناك علاقة بين تنوع الثقافات والاعراق ؟ )المنشورة في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 23 -8 – 2012 . نحاول اليوم ايضاح بعض الامور الغامضة والمختلف عليها والتي ظهرت نتيجة مناقشات الاساتذة والزملاء الافاضل على اصل المقال .
يكتب ليفي شتراوس في مقدمة كتابه ( العرق والتاريخ ) :
قد يكون من العبث تكريس هذا القدر من الطاقة والجهد للبرهنة على ان لاشيء في الوقت الحاضر , يسمح بتاكيد التفوق او الدونية الثقافية لعرق من الاعراق بالنسبة الى عرق اخر ..مع اعتقادنا باننا نبرهن ان التجمعات الاثنية الكبيرة التي تؤلف الانسانية قد اسهمت بحد ذاتها مساهمات خاصة في التراث العام .ولكن لاشيء ابعد عن هدفنا ( والكلام لشتراوس ) كمثل هذه المهمة التي تؤدي الى صياغة النظرية العرقية بطريقة عكسية .وعندما نسعى للتعرف على مزايا الاعراق البيولوجية من خلال الخصائص النفسانية الخاصة بها ,فاننا نبتعد بالقدر نفسه عن الحقيقة العلمية وذلك من خلال تعريفها بطريقة ايجابية او سلبية . يقتضي الا ننسى ان غوبينو الذي جعل من التاريخ ابا للنظريات العرقية ,لم يكن , مع ذلك , يدرك مسالة ( نقاوة الاعراق البشرية ) بطريقة كمية وانما بطريقة كيفية (اي نوعية ).
ان عاهة الانحطاط تتعلق بالنسبة لغوبينوبظاهرة التهجين اكثر من تعلقها بموقع كل عرق في سلم القيم المشتركة بينهم جميعا , وهي اذن معدة لتصيب الانسانية بكاملها,المحكومة بتهجين مندفع اكثر واكثر ,دون تمييز في الاعراق ,ولكن الخطيئة الاولية للانثربولوجيا تكمن في الخلط بين الفكرة المحض ببيولوجية العرق , والنتاج الاجتماعي والنفساني للثقافات الانسانية .
وقد كفى غوبينو ان يرتكب هذه الخطيئة ليجد نفسه اسير الحلقة الجهنمية التي تؤدي الى خطا ثقافي لايستبعد النية الحسنة الى التبرير غير الارادي لكل محاولات الاستغلال والتمييز .
ان كل مجتمع يمكنه من خلال وجهة نظره الخاصة تصنيف الثقافات الى ثلاثة انواع هي :الثقافات المعاصرة ولكن الموجودة في مكان اخر من الكرة الارضية , والثقافات التي ظهرت في المكان نفسه تقريبا ,لكنها كانت سابقة في الزمان . واخيرا , الثقافات التي وجدت على السواءفي زمان سابق لزمانها وفي مكان مختلف عن مكان وجوده .وفيما يتعلق بالاخيرة ,وعندما يكون المقصود ثقافات لم تعرف لا الكتابة ولا الهندسة وكانت ذات تقنية بدائية , يمكننا القول اننا لانستطيع معرفة شيء عنها وان كل مانحاول تقديمه لانفسنا ينحصر في افتراضات مجانية .
وعلى عكس ذلك , من المرغوب فيه كثيرا السعي لاقامة علاقات مساوية لنظام من التسلسل في الزمن , مابين ثقافات المجموعة الاولى . كيف لاتذكر المجتمعات المعاصرة التي بقيت على جهل بالكهرباء والالة البخارية ,بالمرحلة ذاتها من تطور الحضارة الغربية ؟
كيف لانقارن القبائل الاصلية التي لم تعرف الكتابة ولا التعدين ولكنها كانت ترسم الوجوه على الجدران الصخرية وتصنع ادواتها من الحجارة ؟كيف لانقارنها مع الاشكال القديمة لهذه الحضارة نفسها , التي اثبتت الاثار المكتشفة في مغاور فرنسا واسبانيا تماثلها ؟
هنا بالذات اخذت النشوئية الخاطئة مداها .الم يكن يسر السائح العربي في العثور على القرون الوسطى في الشرق ؟وعلى عصر لويس الرابع عشر في بكين قبل الحرب العالمية الاولى , وعصر الحجر وسط السكان الاصليين لاستراليا او غينيا الجديدة ؟ , لعبة مؤذية الى اقصى حد .
نحن لانعرف من الحضارات الغابرة سوى بعض الجوانب ,وهذه الجوانب تصبح اقل عددا كلما كانت الحضارة المعنية اكثر قدما ,بما ان الجوانب المعروفة هي فقط تلك التي تمكنت من البقاء رغم تدمير الزمن .
اذن تقوم هذه الطريقة على اعتبار الجزء بمثابة كل , والاستنتاج ان بعض جوانب حضارتين ( واحدة حالية والاخرى غابرة ) تقدم حالات تشابه , وذلك من اجل قياس جميع الجوانب ,الا ان هذه الطريقة في التحليل ليست فقط غير قابلة للصمود منطقيا ,بل ان الوقائع تكذبها في حالات كثيرة جدا .لكي نتعامل مع بعض المجتمعات على انها مراحل عن تطور البعض الاخرى , علينا القبول حينئذ ان ثمة شيئا قد حصل بالنسبة لهذه الاخيرة ولم يحصل بالنسبة لتلك .وبالفعل نتحدث اختياريا عن شعوب بلا تاريخ .
هذه الصيغة تعني فقط ان تاريخها وجهول وسيبقى كذلك ,ولكن ذلك لايعني انه غير موجود . فخلال عشرات وحتى مئات الوف السنين ,ثمة اناس احبوا وكرهوا , وتالموا واخترعوا , وقاتلوا .في الحقيقة لاوجود للشعوب الطفلة , كل الشعوب راشدا , حتى تلك التي لم تكتب تاريخ طفولتها وفتوتها . يكفينا القول دون شك ( والكلام لشتراوس ) ان المجتمعات البشرية استعملت بدرجة متفاوتة زمنا ماضيا , كان بالنسبة لبعضها زمنا ضائعا , وان بعضها كان مستعجلا , في حين ان البعض الاخر كان يعبث طول التاريخ .وهكذا يمكننا ان نتوصل الى التمييز بين نوعين من التاريخ ,تاريخ مضطرد ,اكتسابي , يكدس الاكتشافات والاختراعات ليبني حضارات عظيمة وتاريخ اخر ربما كان بالحيوية ذاتها وواضعا قيد العمل طاقات مماثلة ولكن تنقصه موهبة التركيب التي تميز بها الاول .
يقول شتراوس اذا كان المعيار المعتمد هو درجة القابلية للانتصار على البيئات الجغرافية الاكثر قساوة . فليس ثمة شك قط ان الاسكيمو والبدو من الجهة الاخرى هم الذين يحرزون قصب الفوز .
لقد عرفت الهند افضل من اية حضارة اخرى , ان تنجز نظاما فلسفيا – دينيا , كما عرفت الصين ان تنجز نوعا من الحياة , قادرين على تحجيم النتائج النفسانية لعدم التوازن الديموغرافي .ومنذ ثلاثة عشر قرنا مضت , صاغ الاسلام نظرية تضامن جميع اشكال الحياة الانسانية , التقنية والاقتصادية والاجتماعية والروحية , التي لم يكتشفها الغرب الا مؤخرا , عبر بعض جوانب الفكر الماركسي , ومع ولادة علم السلالات الحديث .
يمتلك الشرق والشرق الاقصى تقدما على الغرب يبلغ عدة الاف من السنين . لقد انتجا هذه المقادير النظرية والعملية الكبيرة من اليوغا في الهند الى تقنيات التاثير الصينية او الرياضة الحشوية للماوري maoris القدماء . كما ان الزراعة خارج التربة التي لم تعرف الا مؤخرا كانت تمارسها شعوب بولينيزيا . وفي كل ما يتعلق بتنظيم العائلة يحتل الاستراليون المتخلفون على الصعيد الاقتصادي , مكانا متقدما جدا بالنسبة لسائر البشر , الى حد انه من الضروري لفهم انظمة القواعد المنجزة من قبلهم الاستعانة بالصيغ الاكثر دقة في الرياضيات الحديثة . وهم الذين اكتشفوا حقيقة ان الروابط الزوجية الذي تقوم عليه سائر المؤسسات الاجتماعية ان وصل العائلات بواسطة الزواج المتبادل يمكن ان يؤدي الى تشكيل نقاط اتصال واسعة تمسك بالبناء الاجتماعي .لقد وضع الاستراليون , بوضوح عجيب , نظرية هذه الالية , كما احصوا الطرائق الرئيسية التي تسمح بتحقيقه ,مع الحسنات والسيئات المرتبطة بكل واحدة منها . لقد تجاوزواهكذا مستوى الملاحظة التجريبية للارتفاع الى معرفة القوانين الرياضية التي تحكم النظام . ولا نغالي ابدا اذا حيينا فيهم , ليس فقط كونهم مؤسسي علم الاجتماع العام بكامله , ولكن كونهم كذلك المعرفين الحقيقيين في العلوم الاجتماعية .
لايمكن فهم الحضارة المصرية التي نعرف مدى اهميتها للانسانية ,الا كعمل مشترك لاسيا وافريقيا . كما ان الانظمة السياسية الكبرى في افريقيا القديمة وانجازاتها القانونية ,ونظرياتها الفلسفية التي خفيت طويلا على الغربيين وفنونها التشكيلية وموسيقاها ,التي تستكشف بطريقة منهجية , جميع الامكانيات المتوفرة عبر كل وسيلة للتعبير , كلها دلائل على ماضي في غاية الخصب .الا انه يجب الا تستاثر بانتباهنا هذه المساهمات المجزاة بالذات , اذ انها تحمل خطر اعطائنا فكرة خاطئة , عن حضارة عالمية مركبة تشبه ثوبا مرقعا .
لقد ابرزنا كثير من الخصائص , فالفينيقيون اختصوا بالكتابة والصينيون بالورق وبارود المدافع والبوصلة , والهنود بالزجاج والفولاذ .هذه العناصر هي اقل اهمية من الطريق التي تجمعها فيها كل حضارة وتحتفظ بها او تستبعدها . وما يشكل خصوصية كل واحدة منها يكمن بالاحرى في طريقتها الخاصة لحل المشاكل وتثمير القيم المتماثلة تقريبا لدى كل الناس . اذ ان جميع الناس يمتلكون لغة وتقنيات , فنا ومعارف من نمط علمي , ومعتقدات دينية ونظام اقتصادي وسياسي . الا ان هذه الكمية ليست دائما هي ذاتها تماما لجميع الثقافات . ويهتم علم السلالات الحديث اكثر فاكثر في الكشف عن الاصول الخفية لهذه الخيارات بدل ان يضع جردة بخصائص منفصلة .
على المودة نلتقيكم ...
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟