|
ناجي علوش شاعراً ومفكراً
سميح مسعود
الحوار المتمدن-العدد: 3829 - 2012 / 8 / 24 - 08:56
المحور:
الادب والفن
التقيت مع الصديق مراد السوداني في مطلع نيسان الماضي في عمان ، كان حينها مدعوا ً للمساهمة في أمسية شعرية نظمت خصيصا ً له لتقديم بعض أشعاره ، وكنت أنا على وشك العودة إلى مونتريال ، أمضيت عدة ساعات معه في حديث ممتع عن نشاط الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين الذي يرأس أمانته العامة ، أسعدني أيما سعادة عندما أخبرني ان همه تكريم الرواد الأوائل من الشعراء الفلسطينيين، والوفاء للأسماء الثقافية الكبرى من الاّباء والرواد المؤسسسين للاتحاد … استطرد في حديثه حول نشاطه في مجال تعميم انجازاتهم الكتابية لتكون زادا ثمينا للأجيال القادمة ، لأن المثقف الحقيقي ( والقول له ) “ هو رأس الحربة المقاتلة وهو الوازن الأكيد في ظل اختلال الموازين وانقلاب المعايير وتشويه الحقائق والإنكار المدان " .
أعطى أمثلة عن تلك الأسماء الثقافية الكبرى ، وتوقف عند ناجي علوش...أخبرني أن الاتحاد جمع كل أفعاله الشعرية الكاملة وأصدرها في مجلد كبير … أهداني نسخة منه ، تنقلت بين مواده في البداية بسرعة وبدون انتظام ، وعندما توفى ناجي مؤخرا عدت لكتابه ، قرأته بتمعن ، واستمتعت بما فيه من أشعار تشابكت فيها القيم والغايات الوطنية والنضالية … أشعار انحازت في مجملها للفقراء وأهل المخيمات والجماهير ورجوم الصوان والزيتون والتراب .
كتب مراد السوداني على الغلاف الخلفي للكتاب بكلمات رقيقة صافية : “ ناجي علوش سادن ُالفكرة الجَمرة ، قائدُ غُوارِ الثقافة اشتداداً وامتدادً في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي . حالة استثنائية ، مفرد ٌ جَمع ، ونموذج للمثقف الندِ ، والفارس المذخَر ، بقولة الجبل والعناد ، ثابت ُ على الثابت ، صنو الغفاري ِأبي ذر ، متقشفٌ حدَ الفقر ، غنيٌ بقلبه وقلمه الحّر ، لم يكُ ظلاً لابن أنثى ، ولم يقف على باب أحدْ ، ولم يقتطف لقمة من فم أحدْ . مقاتلٌ فذ ، سياقُه الجسارة والفعل المقّدس ، أنعم من دمعة ، وأحدُ من الحد ْ.... “ انتهى الاقتباس
قدم الكتاب الشاعر وليد ابو بكر ، عَرَف ناجي في مستهل المقدمة بأنه " ر اهبُ الحياة وهو يحتضنُ راهبَ النضال يمارس ُ السياسة كرديفٍ لشفافيةِ الشعر "… وأضاف في تعريفه له في سياق ما كتبه عنه في المقدمة ، بناء على معرفته الشخصية به "… ناجي علوش ، بكل المقاييس التي نعرفها ، ليس إنساناً عادياً . إنه رجل استثنائي في قدرته على العطاء ، وفي اتساع مجالات عطائه، واتساع مجالات المعرفة والإبداع لديه ، بالفعل وبالكلمة ، وفي مساحات الذوق الإنسانيّ أيضا ً، الى الحد الذي يمكن أن يوصف فيه بأنه اختار أن يكون زاهداً في كل شئ ، ليتفرغ لمهمات وطنية وإنسانية متشابكة ، تعني في مجملها : نبع من العطاء لا يجف له مصدر . “ انتهى الاقتباس
توقفت عند علاقة ناجي علوش بالشاعر العراقي بدر شاكر السياب اثناء مرضه الأخير ، بين وليد أبوبكر في المقدمة أن ناجي علوش : " … يكاد يكون أقرب أهل السياب إليه ، وأكثر الناس معرفة بقيمة الشاعر والشعر ، لذلك استمر في رعايته في أحد مستشفيات الكويت ، بعد أن ضاق على الشاعر الكبير وطنه ، وراح يودع الحياة وحيداً إلا من ناجي علوش ، ومن جمعهم حوله ممن يؤمنون بالشعر وبالانسان ويؤمنون بالوطنية . كان علوش في موقفه من السياب ، يمارس فعلاً شعريًا وإنسانياً أصيلا ً، حتى ولو لم يكن ممن يكتبون الشعر قط ، مع أنه كان يكتبه ، دون استعراض أو ادعاء ، ولا أنسى انشغاله ولهفته وهو يجمع ( مع الشاعر الكويتي القوميّ علي السبتي ) ما لم ينشر من شعر السياب ، ولا تلك اللحظة التي تنفسَ فيها الصعداء حين شعر بأنه استكمل مهمته في الجمع ، وشرع في الإشراف على اصدار الديوان الذي حمل عنوان (إقبال ) ، والذي كانت له مهمتان إنسانيتان تماما : الأولى ألا يضيع شئ مما كتبه السياب في مرضه الأخير ، بين أيدي من كانوا يزورونه ، على قلتهم ، ( وناجي علوش أكثرهم تردداً واكثرهم وفاء ) والثاني هو أن يكون ديوان الشاعر الذي أعتبر الأخير اعتذاراً من الشاعر لزوجته عن قصيدة سابقة ، لا بأن يحمل اسم الزوجة وحسب وإنما بقصيدة موجهة اليها : أحبيني ! “ … انتهى الاقتباس .
تناوَلت jمقدمة الكتاب مختلف جوانب مسيرة ناجي علوش النضالية والشعرية والفكرية … مواقفه النضالية الصلبة ، وعدم انحناءه أمام العواصف والأزمات ، تقبله الحركة الحداثية الشعرية مبكرا واهتمامه بالشعر الحديث ، مع ثبات دائم على حسه القومي في شعره وفكره ومواقفه الوطنية والنضالية … " لم يسجل عليه أي انحراف عن إيمانه القومي ، القومية العربية عنده باتت فكرة شاعرية ، هي التي عبر عنها في شعره كله ، دون أن يخرج عن حدود الإلتزام بها … " .
وفي مجال الحديث عن شعره بيَنت مقدمة الكتاب أن قصيدته " محاورة مع ابي الطيب المتنبي " هي درة شعره كله … اطلعت عليها في المجموعة الأخيرة من الكتاب ، وجدتها تحفل بإشراقات ساحرة اّخاذة ، جعلت إبداع ناجي فيها متميزاً من البيت الاول حتى أخر بيت فيها …
وها هو يقول في أول مقطع منها : لليل ِ رهبتُه وبي شوق ٌ إلى سفرٍ طويلْ أمتدُ فيه حيثُ لا تصلُ العيون ُالزئبقية لإحُط ّ في حَدَق الرفاق ِ المولعين بطلعة النجم البهية والساهرينَ على السبيلْ لليل ِ رهبته ُ وبي شوقٌ إلى سفرٍ طويلْ .
وفي مقطع أخريقول :
….........
يا مهرتي الخضراء َشَوَقني التحفزُ والتغاوي والصهيل ْ لورودِ نبعِ المستحيل والدربُ أبعد ما يكون وأ نت أبعد ما يكون والدرب لا يُفضي إلى يافا ولا يُفضي إلى عكا ، ولا يُفضي الى المدن المجوسية
….........
يا مهرتي الخضراء لوّعني الضياعُ عن السبيلْ فلنشرب الكأس المجرب َ قبل َ إعلان الرحيل ْ
وتتوالى الصور الجميلة في القصيدة من صورة الى أخرى ، وهاهو شاعرنا في مقطع اخر منها يقول :
لليل رهبته ُ وقلبي سوف يرحلُ في بلادي … يابلادي أن تكوني سجناً، فلي منه نصيب أرتضيه وأن تكوني … قبراً، فلا أرضى بديلاً عنهُ يوما ً أو تكوني … نجوى ففي عصبي ، وفي عرق المحبة في فؤادي … وأنا المسافرُ فيكِ ، لا أرضى الرحيل إلى سواك ِ ، ولا أغرّب عن هواك ، ولا يخامرني الوداع ُ …
….........
في القلب نبعُ هوى … وأنتِ هوايَ في جوعي وفي عطشي ، وأنتِ الشاعرية ُ في شجوني … ما شئتِ كوني … إني أريدك أن تكوني سلوى لكل ِ المتعبين ، وواحة َالمهجِ الشقية … ما شئت ِ كوني يابلادي إن قلبي لا يوزَع او يرَوع أو يميلُ ولا تضيعهُ الرياحُ السافياتُ عن السبيل …
بعد هذه اللمحة القصيرة عن شعر ناجي علوش ، أعود ثانية الى مقدمة تعريفية اخرى في مستهل الكتاب كتبها موسى علوش ، بين فيها جوانب أخرى عن أخيه ناجي …عن حياته العائلية وعلاقاته وشعره و مشاريعه الأدبية ومؤلفاته …
توقفت مطولاً عند مؤلفاته ، وجدت ان أول كتاب له نشره في عام 1961 وهو في ريعان الشباب ، كان عمره في ذلك الوقت ستة وعشرين عاما ، سمى كتابه " الثوري العربي المعاصر " وكان بداية لنشر سلسلة من الكتب ، منها كتاب "الثورة والجماهير " الذي صدرت طبعته الأولى عام 1962 ، وكتاب " في سبيل الحركة العربية الثورية الشاملة " وكتاب " المسيرة الى فلسطين " ، وبعد ظهور العمل الفدائي نشر 16 كتابا تعالج موضوع العمل الفدائي ، كما نشر ثلاثة كتب بعد خروجه من حركة فتح واعتزاله رئاسة اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينين ، وقام كذلك بإعداد وتجميع وتقديم ستة كتب منها كتاب عن أعمال بدر شاكر السياب ، وأصدر اربع مجموعات شعرية ، كما أصدر عددا من الدراسات الادبية والترجمات .
إن مؤلفات ناجي علوش استثنائية بكل المقاييس ، جمع فيها بمهارة فائقة بين الشعر والمعرفة والرؤية الاستراتيجية والخبرة السياسية والتأهيل العسكري ، وهذه التوليفة من المواضيع المختلفة قلما تجتمع في موروث فكري لشخص واحد ، وبغض النظر عن مظاهر الإختلاف والإتفاق حول طروحات ناجي علوش الفكرية ، فأنه لابد من الإقرار ، بانه قدم للفكر العربي إسهاما ت كثيرة مميزة ، أهلته لتبوأ مكانة مهمة في صفوف النخبة المؤثرة في الحركة الفكرية العربية طيلة العقود الخمسة الماضية ، وها هو بعد رحيله يترك خلفه إرثاً غنياً ووافراً من الإبداع المعرفي والثقافي والنضالي ، سيشكل مدخلاً مهما للأجيال القادمة في قابل الأيام .
كلما يفاجئنا الموت برحيل مثقف ومفكر كبيرمنا ، تنبري الأقلام للكتابة عنه وعن سبل تكريمه … أضم صوتي الى كل الذين يطالبون بتكريم الراحل ناجي علوش ، وأتمنى على جامعة بير زيت العريقة ان تكرم فقيدنا ابن قرية بير زيت ، لتبقى ذكراه في صدور أهله وفي عروق قرامي الزيتون ، وتبقى اّثاره مضيئة على مدى الأيام .
تلك هي دعوة لتكريم رجل كان حصاده طيلة سنين عمره خصباً وفيرا .
#سميح_مسعود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى ناجي العلي ثانية
-
في ذكرى ناجي العلي
-
العرب لا يقرأون
-
كتاب - الإسلام وأصول الحكم - للشيخ علي عبد الرازق
-
رواية - الحاسة صفر - لأحمد أبو سليم
-
رواية فريدة للروائي نعيم قطان
-
حول ابداعات القاص عدي مدانات
-
حول التقشف والانضباط المالي في أوروبا
-
التنمية العربية في ظل الربيع العربي
-
عن فنِّ التصوير عند العرب ويحيى بن محمود الواسطي
-
هذه الارض لنا ...أنا وانت
-
رواية أيام قرية المُحسنة
-
مريم ذاكرة وطن
-
دينُ الحب
-
بنت عمي فاطمة
-
هيلين توماس
-
مآّذننا وأبراج كنائسهم
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|