عبد النور مزين
الحوار المتمدن-العدد: 1116 - 2005 / 2 / 21 - 10:29
المحور:
الادب والفن
مـائة أورو ورسالة حب (قصة قصيرة)
إلى حد الآن لم يعرف ما الذي دفع بهم للوصول إلى سيدي المناري . لم يعرف لهم شغلا آخر غير نكش المزابل والقمامات . أما سيدي المناري فمكان جميل يكاد يخلو من القمامة . وحتى إن وجدت فهي لأولئك العشاق الذين يبتعدون عن صخب المدينة وقسوتها . العشاق , زبالتهم لا قيمة لها . كانوا ثلاثة . يغربلون القمامة منذ ثلاث سنوات . عبد العزيز الخمسي , لنجري , وفد إلى طنجة طالبا . لكن هاربا أيضا من زوجة أبيه التي تلاحقه منذ أكثر من عام . عاهرة متأصلة . جاء أبوه مرات عدة إلى طنجة . يرجوه أن يعود . ماذا عساه يقول له . زوجتك عاهرة . لم يستطع . تحجج بأشياء أخرى . يعرف أن أباه لم يستسغها . لكنه سكت , ولم يعد يأتي إلى طنجة . لغط الجامعة لم يعد لم يعد يقنعه . حلقات النقاش والمدرجات بدأت تقززه . فتيات الجامعة يقفن خارج دائرة التنافس . هو الذي لا يجد ربع كيلو من الشورو (1) , كيف له أن ينافس أصحاب الكاطكاط (2) . التقى به قرب سينما الروكسي . القمامة هنا وفيرة . كان عبد الرحمان لفريكس يحوم حول قمامة حانة لندنز كلوب . نهره أحد عمال النظافة . كادت تنشب معركة . تدخل عبد العزيز ودافع عن زميله في الحرفة . منذ ذلك اليوم قررا أن يشتغلا معا . عبد الرحمان من دشر بنديبان . بعض الأحيان يشتغل حارسا ليليا بالمارشي (3) . قرف من كثرة الإلحاح عليه كي يعمل مخبرا . غادر المارشي وامتهن غربلة المزا بل . لا أب له ولا أم . له أخ رحل إلى الداخلية (4) ولم يعد . لم يسمع عنه أي شيء منذ أن رحل . لم يودعه .مر وقت ليس بالقصير قبل أن يلحظ غيابه . لم يلتقيا عبد المنعم إلا حديثا . جمعتهما الفاركو(5) من أمام البلاسا الجديدة (6). حدق فيه الشرطي وسأله :
ـ ماذا تفعل ؟
ـ لا شيء , أنا أتمشى .
ـ ما اسمك ؟
ـ عبد العزيز الخمسي .
ـ البطاقة .. اعطني البطاقة .
ـ ليست معي .
ـ اصعد . وأنت بطاقتك .
رد عبد الرحمان :
ـ لا بطاقة لي .
ـ اصعد ..
تلكأا بعض الشيء . هم الشرطي بركلهما . قفزا إلى داخل الفاركو . كان هو هناك . بجانب الباب الخلفي مباشرة , واثنان آخران في الركن الداخلي . جلسا مقابلان له . حدق فيهما . خالاه مخبرا في بداية الأمر . لكن وجههما لم يكونا غريبين عنه . رائحتهما تشبه رائحته . ناكتو القمامة لهم رائحة خاصة . مزيج من الحموضة والعفونة . يلتصق بالأجساد والأسمال ولا يغادرها . بادرهم في الأول :
ـ هذه المرة , الحملة خاصة بأصحاب القمامة .
نظرا عبد العزيز وعبد الرحمان إلى بعضهما وردا في وقت واحد :
ـ أنت أيضا ..
علا طيف بسمة شفاههم , ومد لهما سجارة وهو يصافحهما :
ـ عبد المنعم الشابل .
ـ عبد العزيز .
ـ عبد الرحمان .
لم يصعد أي شخص آخر . دخلت الفاركو مركز الشرطة . قضوا الليلة هناك . في الصباح وقعوا على محضر, وغادروا . لم يكن عبد المنعم حديث العهد بالتسكع ونبش القمامة . قالا له أنهما ربما يعرفانه .لكن لا يذكران أين رأياه بالضبط . وسألهما :
ـ أتعرفان الحاج اقريقر ؟
ـ طبعا ..
ثم أردف عبد الرحمان :
ـ الآن تذكرت , التقينا هناك مرة .
ساد صمت . لم ينبس أحد ببنت شفة . اتجهوا جميعا إلى حومة صدام قاصدين الحاج اقريقر . كانوا ثلاثة . مرة يسبق واحد ويتخلف اثنان , ومرة يسبق اثنان ويتخلف واحد . الحاج لن يتأخر , يمكن أن يقرضهم تسبيق قبل أن يجمعوا غلة اليوم . سبق له أن فعلها من قبل . يعرف أن غربلة المزابل لن تعود إلا إليه . لذلك يتساهل . لكن إلى حد ود اليوم لا زال يجهل هذا الذي دفع بهم إلى الوصول إلى تلك الربوة النائية المطلة على البحر .سيدي المناري . وماذا عساه يفعل الآن بعد أن عادوا إليه بهذه الحافظة اللعينة . الله الغني عن هذه المائة أورو التي وجدوها . لا تساوي المشاكل التي ستجرها عليه .وصلوا إلى سيدي المناري كذباب أزرق يهرع إلى جيفة . تقوده غريزته إلى النتانة . قال له عبد العزيز ذلك اليوم وهو يمد إليه الحافظة ووجهه ممتقع :
ـ انظر ماذا وجدنا ..
ونظر إلى وجهي عبد الرحمان وعبد المنعم . قلب الحاج اقريقر الحافظة بين يديه . حافظة نقود عادية,جلدية سوداء . سأل وهو يهم بفتحها :
ـ لنرى .. أين وجدتموها ؟
رد عبد العزيز :
ـ في سيدي المناري , على الشاطئ .
رد الحاج دون أن يرفع رأسه وهو يعد المائة أورو التي كانت بداخل الحافظة .:
ـ وصلتم حتى سيدي المناري , ليست هناك قمامة .
ـ كنا نتمشى في البلاية (7) . تابعنا الشط حتى وصلنا إلى هناك .
قال عبد العزيز ذلك وصمت وهو ينظر مرة إلى عبد الرحمان ومرة إلى عبد المنعم عسى أحدهم يكمل . أطرقا ونظرا جانبا تحاشيا لنظرات عبد العزيز . بسط الحاج ورقة أخرجها من الحافظة . كانت ملفوفة في البلاستيك .بدأت تتهتك . وضعها إلى جانبه . ثم عاد ينظر إلى عبد العزيز . فتابع هذا الأخير في تلعثم . قال للحاج أن الكلب هو الذي وجده . رأوه يحاول جر ثوب مغروس في الرمل . تحت منارة سيدي المناري مباشرة . الصخر كبير على هذا الشط . لكن بينه فجوات كبيرة . رملها ناعم ومغسول . الكلب يجر القماش ثم يبتعد وينبح . ثم يعاود الكرة . عبد الرحمان كان الأول من أثير انتباهه . اقتربوا قليلا . لم يهرب الكلب . ضربه الخمسي بحجر . عوى متألما وجرى هاربا معوج الظهر يكاد يسقط .
لم تكن الحافظة تحوي شيئا آخر غير مشبك للشعر , أزرق وصغير . أمسك الحاج اقريقر الورقة من جديد ونظر إلى عبد العزيز وسأله :
ـ ماذا في هذه الورقة , قرأتها ؟
ـ لا .. لم أفعل .
وحده عبد العزيز يعرف القراءة . مد الحاج الورقة إليه وطلب منه أن يقرأ ما فيها . وجعل يقرأ .
ًًً ً حبيبة ديالي (8) زهرة
اليوم في الليل نذهب . قالوا لنا ذلك . طنجة صعبة . لم يبق معي إلا 100 أورو . لكن عندما نصل بحول الله , كل شيء سيتبدل . لن أنساك عندما أعود . البحر خطر . لكن ليس الكل يجدها كما يريدها . ادع لي بالسلامة . سنتزوج عند عودتي . قلت ذلك لأمي . ولا تخافي حبيبة ديالي زهرة . سأعود . من هنا في طنجة , إسبانيا تظهر لنا . إنها قريبة . ً ً
وسكت عبد العزيز . طال صمته . طلب منه الحاج الاستمرار . أخبره أن هذا كل شيء . بقية الرسالة ضاعت . تهتكت وضاعت . مد الرسالة إلى الحاج . أرجعها إلى البلاستيك ودسها في الحافظة .
الوجوم خيم على الجميع . أضاف مزيدا من الحزن في النفوس . براكة (9) الحاج اقريقر تعطي على حومة صدام . تشرف عليها من أعلى التلة . تبدو الحومة تحتها ببراريكها الداكنة وبيوتها ذات الآجور الأحمر كأنها أخرجت للتو من فرن . وعاد الحاج اقريقر يغمغم :
ـ لا بد أنها سقطت من جيب حراق (10) .
ودون أن ينظر عبد العزيز إلى أحد , عاد للحديث . قال للحاج أنهم في بادئ الأمر ظنوا أنها قمامة مدفونة . لكن عندما أمسك عبد المنعم الشابل بالسروال وحاول جره تراءى له ما تبقى من الخصر . تراجع فزعا . امتقع وجهه وبدأ يرجع . تقدم الخمسي ولفريكس وأمسكا بحزام سروال الجينز(11) . قاوما الرغبة الشديدة في التقيؤ . جرا بكل قواهما حتى انتزع . منظر مقزز . بقايا خصر وفخذان مقطوعتان من الوسط . جيب واحد في خلف الخصر . الجيب الآخر منزوع . وحافظة بالجيب الباقي لا تكاد ترى .
ـــــــــــــــــــ
هوامش
1. الإسفنج الإسباني 7. الشاطئ المحاذي لميناء طنجة .
2. سيارة 4×4 8 . لي بالعامية المغربية .
3. السوق 9. مأوى فقير من القصدير والكارتون
4.المناطق التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي 10. حراق : مهاجر سري بالعامية .
5. سيارة الشرطة 6. سوق وسط المدينة 11. سراويل رعاة البقر بأمريكا .
ـ تمت ـ
طنجة نونبر 03
#عبد_النور_مزين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟