|
كنوت هامسون / رواية : نساء المضخة / 1
حسين علوان حسين
أديب و أستاذ جامعي
(Hussain Alwan Hussain)
الحوار المتمدن-العدد: 3829 - 2012 / 8 / 24 - 03:00
المحور:
الادب والفن
المقدمة كنوت هامسون أولاً / حياته ولد الروائي و الكاتب المسرحي و الشاعر النرويجي الكبير " كنوت هامسون " في الرابع من شهر آب ، عام 1859 في مدينة " لوم " الريفية الكائنة بوادي " گودبراندزدالن " وسط النرويج . و كان أسمه بالمعمودية هو " كنود بيدرسن " ، و ترتيبه الرابع من سبعة أبناء لـ " پيدر پيدرسن " – وهو خياط ريفي جوّال و لكنه ماهرٌ – من زوجته " تورا (اولزداتر گارمورترايدرت) پيدرسن " . في الثالثة من عمره ، إنتقلت عائلته إلى حقل " هامسوند " العائد لخاله " هانز أولسن " ، و الذي يقبع في مقاطعة " هامارويي " ، على مبعدة حوالي مائتي ميل شمال الدائرة القطبية الشمالية . و يعود السبب في هذا الإنتقال إلى معاناة العائلة من شظف العيش ، و بالتالي قبولها دعوة الخال المذكور للإقامة عنده ، و تولي استزراع حقله لحسابه . و بالإضافة للحقل ، كان خاله يمارس مهنة صيد الأسماك ، و مسؤولية إدارة مكتب البريد المحلي ، و المكتبة العامة . و لم يتسنى لهامسون دخول المدرسة الريفية المتجولة إلا و هو في التاسعة من عمره و ذلك لفترة قصيرة و متقطعة لم تتجاوز (252) يوماً خلال ست سنين . عاش هامسون طفولة بائسة و منعزلة عن الأطفال في مثل عمره ، حيث أصيب خاله اولسن بمرض الشلل الذي دفعه للإدعاء بكون آل پيدرسن مدينين له ، و لذلك فقد أنفصل هامسون عن عائلته ، و تفرغ للعمل لحساب خاله بمسك حسابات مكتب البريد ، و تقطيع الأخشاب ، لتسديد دين عائلته له . و قد إعتاد خاله – الذي يصفه هامسون لاحقاً بـأوصاف مقذعة مثل " الأعزب الدنف " ، و " البخيل الكز و الحاد المزاج " ، و " مَلَك الموت ذي اللحية الحمراء " – ضربه بالمسطرة و الإساءة إليه بأشكال أخرى بضمنها تجويعه . و لكنه إضطلع أيضاً بأمانة المكتبة المحلية و التي إستطاع من خلالها أن يعلّم نفسه الكتابة باللغة النرويجية و التي كانت – بشكلها التحريري في حينه – تكاد تتطابق مع اللغة الدنمركية . و استطاع الطفل هامسون تعويض عزلته عن صحبة الأخدان بالإنكباب على مطالعة الكتب . و لقد بقيت هذه الخلفية المتواضعة ، و حرمانه من التعليم الرسمي مصدراً للتأزم الشخصي الذي رافقه كل حياته ، و كذلك مصدراً للشعور بالفخر . و لذلك نجده يكتب في إحدى رسائله للناقد الأدبي " گيورگ برانديز " بعد عدة سنين قائلاً : " و ما الذي يعرفه شخص مثلي ، وُلِد مزارعاً ريفياً ، و لم يتسنى له الحصول على أية شهادة ، و لم يسمح له شظف العيش أبداً الجلوس لقراءة الفلسفة ؟ " في عام 1874 ، تخلص كنوت من تحكّم خاله به بالفرار من حقل هامسوند ، عائداً إلى مسقط رأسه : " لوم " . و هناك إشتغل طيلة خمس سنين في كل وظيفة متاحة تقيه شر الفقر ؛ فعمل كاتباً لمخزن تجاري في " ترانوي " ، و صانعاً للأحذية في " بودوي"، و بائعاً جوالاً شمال النرويج ، و مساعداً لمفوض الشرطة في " بو " ، و عاملا بأشغال مد الطرق في " توتن " ، و معلماً في مدرسة إبتدائية في جزر " لوفوتن " النائية . و عندما بلغ السابعة عشرة من العمر ، إشتغل عاملاً متدرباً عند صانع حبال ؛ كما بدأ بالكتابة الأدبية مستفيداً من تجاريب الحياة القاسية التي مر بها . و كانت أولى رواياته بعنوان " الرجل الغامض : قصة حب من شمال النرويج " (1877) . أما روايته الثانية الموسومة " بيورگر " ، و التي ظهرت عام 1878، فقد كانت محاولة لتقليد أسلوب الكاتب النرويجي المثالي و الأكبر منه سناً: " بيورنستيرنه بيورنسون " (1832-1910) في فن السرد الآيسلندي الأسطوري عبر متابعة قصة الحب الميلودرامية لبطلها الشاعر " بيورگر " مع حبيبته " لورا " ، و التي نشرها باسمه المستعار " كنود پيدرسن هامسوند " . و انتقل في نفس السنة (1878) للإقامة في عاصمة النرويج " كرستيانيا " (" أوسلو " الحالية) حيث عاش في عوز شديد دفعه للإشتغال فترة عاملاً في شق الطُرق لإعالة نفسه. و لم تحقق له إقامته تلك في عاصمة البلد و مركز الثقافة النرويجية ما كان يصبو إليه من نجاح أدبي . بعدها ، سافر كنوت إلى الولايات المتحدة الأمريكية مرتين ، الأولى عام 1882 ، و الثانية عام 1886 ، ممضياً في كل منهما سنتين ، أشتغل خلالهما في عدة مهن ، بضمنها بائعاً في " أيلروي " في " وِسكِنْسِنْ " ؛ و عاملاً زراعياً في "داكوتا الشمالية" و "مِنيسوتا" ؛ و سكرتيراً للمفكر الديني " كرستوفر يانسن " في " مِنْياپُلِس " - و الذي عرّفه بالكاتب الأمريكي الساخر "مارك توين" . كما عمل صحفياً و محاضراً في الجالية النرويجية هناك ؛ ثم جابياً في عربة ترام بشيكاغو . و قد كتب في نهاية رحلته الثانية إنطباعاته النقدية عن المجتمع الأمريكي و ثقافته بعنوان : " الحياة الثقافية لأمريكا المعاصرة " نشرت عام 1889. و يُذكر أنه لدى لقائه خلال زيارته الأولى لأمريكا بـ " مارك توين " عام 1884 ، فقد كتب عنه مقالة نشرت بإسم " كنوت هامسون " بدلاً من " كنوت هامسوند " و ذلك بسبب خطأ طباعي عرضي ، و لقد تبنّى كنوت هذه الصيغة العفوية الجديدة لإسمه في كل مؤلفاته اللاحقة . بدأ اسم كنوت هامسون يلمع في عالم الأدب عام 1888م عندما نشرت له إحدى المجلات الدنمركية مقاطع من روايته " سولت " ، التي طبعت كاملة عام 1890, و ترجمت إلى الانكليزية ( و العربية بعدئذٍ ) بعنوان " الجوع " ، و التي تحكي قصة كاتب شاب لا يستطيع إيجاد عمل يعتاش منه ، فيضطر إلى البقاء جائعاً بلا مأوى في كرستيانيا . و رغم تدهور صحته ، و بلى ملابسه ، و إنغلاق الآفاق أمامه ، إلا أنه يبقى محافظاً على كرامته (على نحو هزلي في الغالب) ، و على أعقاب أقلام الرصاص لديه . و يُمضّي الراوي أيامه متسكعاً في شوارع العاصمة التي يصفها بـ " تلك المدينة الغريبة التي لا يستطيع أحد الخلاص منها إلا بعد أن تَسِمَه بوسْمها الخاص ". و في النهاية ، تصبح مقالاته المتشامخة التي تشتريها الجرائد بين الفينة و الأخرى غير مفهومة حتى بالنسبة لذهنيته المحمومة . و بعد تساقط شعر رأسه خصلاً خصلاً ، و فشله في الحصول على وجبات طعام منتظمة ، يضطر للقبول بوظيفة نوتي في سفينة روسية مبحرة إلى إنگلترا . و تعتبر " الجوع " أولى روايات "الطريق" الحديثة ، و هي تستشرف شخصية "المتشرد" في أفلام تشارلي تشابلن ، و شخصية السارد في رواية: " مدار السرطان و مدار الجدي " لـ " هنري مِلَرْ ". و لقد حققت هذه الرواية نجاحاً فورياً مذهلاً بسيرتها الذاتية عن التغرّب و اليأس ، و وصفها المبتكر للوعي ، و للمشاعر الذاتية العميقة التوتر ، و حولت هامسون إلى كاتب ذائع الصيت . كما شجعت هذه الشهرة هامسون لتوجيه النقد في محاضراته لكتاب كبار مثل " هنريك إبسن " و " ليو تولستوي " و " مكسيم غوركي ". في روايته التالية " الأسرار " (1892) ، يعبّر هامسون عن إحتقاره للديمقراطية ، و عن إعجابه بالرجل النيتشوي الخارق من خلال بطلها ذي الشخصية المبهمة و الذي يتقمص عدة هويات ، و الذي يأتي من لا مكان ، ليختفي بعدها ، و ينتحر . أما روايته التالية " پان " (1894) – و التي تتخذ شكل مذكرات صياد – فهي قصة عن الهروب من حضارة المدينة إلى الريف لتحقيق وحدة الوجود بين الإنسان و الطبيعة . كتب هامسون هذه الرواية خلال سنوات إقامته بپاريس (1893- 5) . بعدها ظهرت " ڤكتوريا " (1898) ، و هي الرواية الوحيدة لهامسون التي تحكي قصة حب خالصة بين بطليها " يوهانز " إبن الطحان و " ڤكتوريا " إبنة الإقطاعي حاكم القرية ، و التي تُظهر كيف أن البون الشاسع بين المركز الإجتماعي للطرفين و المستعصي على العبور لا يمنع الحبيبين من مواصلة التمسك بحبهما لبعضهما . و تنتهي الرواية بكتابة ڤيكتوريا لرسالة الوداع لحبيبها و هي ترقد على فراش الموت . خلال عام 1990 ، أقام هامسون في فنلندا ، حيث ألف مسرحية طويلة ؛ و من هناك إنتقل لروسيا ، و منها إلى الشرق الأدنى ، ليستقر بعدها في كوپنهاگن . و خلال هذه السفرة ، تولد لدى هامسون شعور قوي بإحترام العمل الإسلامي ، و هذا ما عبر عنه في مسرحيته (دروننگ تمارا) و مغزاها هو أمكانية التعايش بين المسيحيين و المسلمين و التعلم من بعضهم البعض . كان هامسون قد تزوج من "بيرگليو گويبفيرت" عام 1898 ، و التي أنجبت له أبنته الأولى ؛ و لكن هذا الزواج انتهى بالإنفصال أخيراً عام 1906 . في عام 1909 ، تزوج هامسون مرة ثانية من الممثلة الشابة الموهوبة " ماري أندرسن " ، التي تصغره بإثنتين و عشرين سنة ، و التي أصبحت رفيقة عمره ، و أنجبت له ولدين وبنتين ، كما ألفت بعد وفاته كتابين عن حياتهما معاً . و لقد كرست هذه الفنانة حياتها كلياً لهامسون ، فتركت العمل الفني ، و انتقلت معه إلى منطقة " هاماروي " مرتع صباه حيث ابتاعا حقلاً بغية كسب قوتهما من استزراعه ، و يصبح ريع كتاباته مصدراً لبعض الدخل الإضافي . و بعد بضع سنين ، انتقلا جنوباً للسكن في منطقة " لارفك " . و بعد نشره لروايته الشهيرة " نمو الثرى" عام 1917، اشتريا قصراً قديماً متداعياً يقع في "نورهولم" بين " ليلساند " و " گرمشتاد " ، توليا إعادة تأهيله بغية إتاحة الفرصة لهامسون للتفرغ للكتابة دونما أي إزعاج . و قد بقي هامسون مقيماً في نورهولم حتى وفاته عام 1952 ، مقسماً وقته بين الكتابة و الزراعة التي أصبحت لديه وسيلة لتحقيق الذات . منح هامسون جائزة نوبل للآداب عام 1920. و بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، فقد وجهت إليه تهمة السلوك الخياني إبان الاحتلال الألماني النازي للنرويج ، ثم أُسقطت عنه التهمة بسبب كبر سنه . توفي كنوت هامسون في التاسع عشر من شباط ، عام 1952 في نورهولم ، قرب مدينة "گرمشتاد" النرويجية ، و دُفن رماد جثته في حديقة منزله . يُعد كنوت هامسن رائد الحركة الرومنطيقية الجديدة في الأدب الأوربي منذ بواكير القرن العشرين ، فقد أدت أعماله الروائية إلى إنقاذ الرواية من تسجيليتها الطبيعية الزائدة . و يتميز أسلوبه بالتعبيرية التلقائية ، و باللاعقلانية القصدية . و لقد ترك أثره الواسع في الأدب الأوربي ، إذ اعتبره كل من مكسيم گوركي وتوماس مان و باسيفي اسحق سنجر أستاذاً كبيراً لفهم الرواية . تسلط روايته الأولى (سولت) الضوء على نزوات الخيال الجامح ، و التصرفات المتهوّرة لبطلها الراوي ، و ليس على الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه . و تمثل انعطافة حادة عن الواقعية الاجتماعية التي كانت تسود الرواية النرويجية . و لقد تركت ببصيرتها الحيوية و أسلوبها الغنائي المتدفق أثراً سحرياً في الرواية الأوربية . كما أتْبَع هامسن باكورة أعماله تلك بسلسلة من المحاضرات التي هاجم فيها أعمدة الأدب العالمي – من أمثال تولستوي وإبسن – لفشلهم في " فهم الحياة غير الواعية للعقل" . كان هامسون ينظر إلى التقدم نظرة عدم الاحترام و اللامبالاة ، و ينادي بالعودة إلى الطبيعة . و بقيت فرديته الصارخة – الناجمة عن تأثره بالفيلسوف الألماني نيتشه والكاتب السويدي سترندنبرك – تمور عالياً في كل أعماله ، رافضة توجه معاصريه إلى تناول المشكلات الاجتماعية . و تركزت موهبته في تأكيده التحليل النفسي للإنسان تأكيداً مباشراً و هو يواجه وقائع بشرية أبسط و أوضح كالجوع و العمل الشاق و العوق ، إلخ . فبطل روايته "نمو الثرى" فلاح صغير يعيش في منطقة نائية في النرويج ، و يمتلك شخصية قوية تتمتع بالاكتفاء الذاتي الحقيقي ، و لا تتماهى لأي سبب في الطبيعة ، بل تبقى محافظة على قوتها حتى النهاية لتعكس تنافراً حاداً مع الحضارة الأوربية الحديثة . ثانياً / "نساء المضخة" في الترجمة الحالية ظهرت هذه الرواية عام 1920، و قد صدرت ترجمتها الانكليزية الأولى بعنوان "النساء اللائي عند البئر". و تمثل هذه الرواية كنوت هامس في أفضل حالاته الإبداعية ، فهي تطفح بجرأة الابتكار الخلاق ، و بأسلوبها التهكمي اللاذع ، و بأحداثها المشوقة . و الترجمة الحالية لهذه الرواية منقولة من نصها الانكليزي المترجم الصادر من دار النشر "بيكادور" بالعنوان الأدق الحالي عام 1978 ، و قد نفذها كل من (اوليفر ستالبراس) و (كنفر ستالبراس) . في هذه القصة ، يتابع القاريء أفعال أوليفر أندرسن المعاق ، و الشائعات التي تتداولها النسوة مع بعضهن عن حياته و شؤون عائلته في لقاءاتهن لجلب الماء من مضخة البئر . و لا تبدو الكثير من الأشياء المتداولة عنه صحيحة أو قابلة للتصديق ، كما لا تتطابق الروايات بخصوصها . و فيها يستخدم هامسون الإبهام بذكاء لشد القاريء للتعرف على كنه كل تلك الأسرار التي تغلف حياته . كما أن الرواية تعرض التضاد بين مبدأي الأهتمام بالفرد و أهمية المجتمع فيما يخص نتائج أعمال أفراده ككل . و السرد فيها حيوي يتنقل فيه الراوي بذلاقة بين اللغة الرسمية و اللغة المحكية ؛ و من كلية العلم إلى محدوديته ، و من الحوار المفصل المعقد إلى الحوار المبتور أو المبهم . و تنتهي الرواية و نحن نرى بطلها و قد تجاوز كل عوقه و أصبح الوالد الفخور لمدير مدرسة القرية و حدادها . و هو ما يعكس ليس فقط أمانة هامسون ، بل و أيمانه العميق بالأنسان . ثالثاً / آرائه السياسية و تورطه في مساندة النازية في أيام شبابه ، كانت أفكار هامسون قريبة من الفوضوية و إن شابها عدم الأيمان بالمساواة بين البشر . و بعد حرب البوير الثانية ، تحوّل إلى تبني الفكر المحافظ جداً ، و أصبح داعية مفوهاً للثقافة الجرمانية ، علاوة على معاداته للامبريالية البريطانية . و كان تأثير حرب البوير (1899-1902) قوياً عليه و التي رأى فيها تجلياً لظلم البريطانيين بآلتهم الحربية الضخمة لشعب البوير الصغير الشجاع . في الفترة المحصورة بين الحربين العالميتين ، أصبح كنوت شخصاً منقطعاً عن العالم . و تولدت لديه مواقف مناهضة للإشتراكية ، و للديمقراطية ، و حركة حقوق المرأة . كما أصيب بأنهيار عصبي ، تلاه علاج نفسي- تحليلي . و قد قادته فردانيته و مقته للحضارة الغربية المعاصرة إلى مساندة الإحتلال الألماني النازي لبلده النرويج خلال الحرب العالمية الثانية . "كُـلّنا ألمان " ، خاطب كنوت هامسن شعبه . و لم يكن هذا الموقف المساند لألمانيا بالشيء الجديد بالنسبة إليه ، فقد كان متعاطفا مع القضية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى رغم أن غالبية الرأي العام النرويجي كانت تقف إلى جانب بريطانيا و فرنسا . كما كان مأخوذاً بالفكر الفاشي النيتشوي . أي أنه ، ببساطة ، كان يحمل فكراً رجعياً مناهضاً لكل ما هو تقدمي . أما زوجته ماري ، فقد كانت أقرب منه إلى رئيس الحكومة النرويجية المساندة للإحتلال . كان المعجبون بهامسون قد راقبوا محتارين تطور أفكاره السياسية . في أواسط ثلاثينات القرن العشرين ، إنتقد هامسون قيام لجنة جائزة نوبل بمنح جائزتها للصحفي الألماني كارل فون أوزيتسكي المعادي للنازية ، و الذي كان قد تعرض للإعتقال و التعذيب . و مع أن هامسون لم ينتم قط للحزب النازي النرويجي الذي أسسه وزير الدفاع فدكون كويسلنغ منذ عام 1933، و لكنه كتب سلسلة من المقالات المساندة للفاشية . و أنقلب موقف المعجبين به ليصبح ضده تماماً عندما غزا النازيون النرويج في التاسع من شهر نيسان عام 1940 . في حينها ، قام هامسون بحض مواطنيه على إلقاء السلاح ، و التعاون مع الجيش الغازي . و مع تفاقم وحشية المحتل النازي ضد المواطنين النرويجيين ، فقد تزايد إستغلالهم الذكي لهامسون ، الذي حاول في عدة مناسبات التدخل لإنقاذ أرواح بعض من أبناء جلدته ، و لكن بلا أدنى نجاح يذكر . و عندما طلب منه ناشره ، هيرالد كريغ ، التوسط لإطلاق سراح كاتب نرويجي كانت قوات الگستابو قد ألقت القبض عليه ، رتّب هامسون إجتماعاً مع يوسف تيربوفن مندوب الرايخ في النرويج . في ذلك الإجتماع ، قام تيربوفن بخلط الأوراق ، و التلاعب بهامسون ، قبل أن يرفض طلبه صراحة . و لكن صحف أوسلو أظهرت صوراً لهامسون في إجتماعٍ يبدو مُسرّاً مع مندوب الرايخ ، الأمر الذي جعل هامسون يدرك بالتأكيد مدى فظاعة الإستغلال الذي يتعرض له . و لم يكن هامسون يؤيد سياسة التمييز العرقي لهتلر ، حيث إرتبط طيلة حياته بصداقات مع اليهود ، و بضمنهم الناقد گيورك برانديز ، و ناشره المفضل : كرستيان كونيگ. قابل هامسون هتلر في بيركهوف بتاريخ 26 حزيران عام 1943 . في حينها كانت مجريات الحرب تجري في غير صالح الألمان . كان هتلر يخضع للتطبيب بجرعات كبيرة من مختلف الأدوية ، و لم يكن في أفضل حالاته . كما لم يكن هامسون في حالة أفضل منه ، فقد سبق له و أن تعرض لجلطة دماغية واحدة في الأقل ، و كان سمعه في حالة يرثى لها . و بعد أن سأله هتلر عن عاداته في الكتابة ، مبيناً أنه يفضل العمل في المساء ، اصطحب هامسون معه إلى مكتبه حيث قُدّم لهما الشاي . و أُتفق على أن يتولى النرويجي "ايگيل هولمبو" مهمة الترجمة بينهما . أما المترجم الخاص بهتلر ، ايرنست زوكنر ، فقد بقي يدوّن الملاحظات من خلف الستار . و يبدو أن هتلر كان يأمل في أن يكون هامسون مصدراً للإلهام ، و للمسرة ، و ربما للتداول في موضع العبقرية الأثير عنده دائماً . " أشعر أن حياتي أن لم تكن مرتبطة كلياً بك ، فهي تشبه حياتك في أمور معينة ، " قال له هتلر في لحظة ما من المقابلة . و لكن هامسون لم يكن مهتماً بالتحدث عن الكتابة أو الفن أو العبقرية . كان يريد التباحث في موضوع شراسة سياسة جيش الإحتلال تجاه بلده . و كان مهتماً بشكل خاص بطرد يوسف تيربوفن من منصبه كمندوب لهتلر في النرويج . بدأ هامسون بالشكوى من قيام تيربوفن بغلق طرق الملاحة البحرية النرويجية . و عندما حاول هتلر قطع النقاش في هذا الموضوع ، واصل هامسون شكواه بالقول : "و علاوة على ذلك ، فإن مندوب الرايخ قد أعلن في أكثر من مناسبة بأنه سوف لن يكون هناك بلد إسمه النرويج في المستقبل ! " - " ولكن على العكس من كل البلدان المحتلة ، فأن للنرويج حكومتها الخاصة بها " رد عليه هتلر . - " و لكن كل شيء في النرويج يقرره مندوب الرايخ " أجابه هامسون ، و هو يحاول توضيح حقيقة كون أفعال تيربوفن إنما تدمر سمعة هتلر . و أخيراً فعل هامسون شيئاً لم يفعله أحد غيره ، فقد قاطع كلام هتلر بالقول : "أن الطرق التي يتبعها مندوب الرايخ لا تناسبنا ، فنحن لا نستطيع تحمل تعصبه البروسي ، كما أن هناك الإعدامات ! لقد بلغ السيل الزبى ! " كان زوكنر قد إنتبه من وراء الستار إلى حقيقة أن هولمبو لم يترجم الجملة الأخيرة لهامسون . و حالما بدأ هتلر الكلام ، قاطعه هامسون من جديد : " إن تيربوفن لا يريد للنرويج أن تكون حرة ، و أنما مجرد محمية . ذلك هو الأفق الذي يعرضه علينا ، فهل سيأتي اليوم الذي ستسحبونه فيه ؟" حاول هتلر حسم الموضوع بالقول : " إن مندوب الرايخ هو رجل مقاتل ، و هو موجود فقط لإنجاز واجبات تتعلق بالحرب ." بدأ هامسون بعدها بالنحيب ، " نحن لسنا ضد الإحتلال " يقول لهتلر ، " فنحن نحتاج إليه لبعض الوقت . و لكن ذاك الرجل يدمر فينا أكثر مما يستطيع هتلر إعادة بناءه . " و مرة أخرى لا يترجم هولمبو أشد الكلمات خطورة ، بل يدير وجهه عن هتلر ، و يلتفت نحو هامسون ليقول له : "لا تتفوه بهذا ، فنحن لدينا وعد من الفوهرر ." و لم ينته الموضوع عند هذا الحد . بدأ الفوهرر يتحدث عن زيادة الإنتاج ، و عن تشكيلات دبابات البانزر ألمستحدثة ، وعن أسلحة جديدة سرية . و فيما كان الفوهرر يتكلم ، يحاول هامسون عدة مرات مقاطعته قائلاً بأنه لم يأت للتشرف بسماع كل هذا . و عندما كرر هتلر القول بأن بوسع المرء أن يتأكد من النوايا الحسنة لألمانيا من واقع إمتلاك النرويج لحكومتها الخاصة بها ، يقاطعه هامسون و هو يقول في خيبة أمل " "نحن نتحدث مع حائط ! " و لم يترجم هولمبو ذلك لهتلر . و قبل المغادرة ، يقول هامسون "نحن نصدق الفوهرر ، و لكن رغباته يجري قلبها . و هذا ليس هو النوع الصحيح للتغيير المطلوب في النرويج لأنه يصب في حرب جديدة ." و لم تترجم تلك الجمل لهتلر الذي سمع من هامسون ما يكفي ليقول له أخيراً " أسكت ! إنك لا تفهم شيئاً !" و يغادر المكان ، فيبدأ هامسون بالنحيب مرة أخرى لتألمه من عدم توديع هتلر له . بعدها يصرخ هتلر بمساعديه قائلاً :"لا أريد رؤية شخص مثل هذا هنا مرة أخرى أبداً !" و هكذا فقد قُضي على سمعة هامسون ، فهو لم يكتف بمقابلة هتلر ، بل و كان قد تبرع قبلئذٍ و في نفس تلك السنة بميداليته التي منحته إياها لجنة جائزة نوبل لگوبلز و ذلك كتعبير عن إعتزازه به . حتى مصيره لفترة ما بعد الحرب أصبح موضوعاً للنقاش لدى الحلفاء . ففي عام 1944 بموسكو ، ناقش فياجشلاف مولوتوف وزير خارجية السوفييت مصير هامسون مع "تيريه وولد" وزير العدل النرويجي في المنفى ، و "تريكفه لاي" وزير الخارجية في المنفى . في حينها أبلغهم مولوتوف بأن مؤلف رواية "ڤكتوريا" و "پان" هو أعظم فناً من أن يعامل كمجرم نازي عادي . و لذلك ينبغي السماح له - و هو بهذا العمر المتقدم - أن يموت ميتة طبيعية . في حينها رد عليه وولد بالإنكليزية : " أنك رقيق أكثر مما يجب ، يا سيد مولوتوف ." تحررت النرويج من الإحتلال النازي في شهر مايس من عام 1945 ، و لم تُظهر الحكومة النرويجية الجديدة أدنى تسامح حيال أبناء جلدتها المتعاونين مع المحتل . فأنتحر تيربوفين قبل أن يتسنى إعدامه رمياً بالرصاص ، كما أعدم بنفس الطريقة كويسلنغ مع عدد من قادة حزب الإتحاد الوطني النرويجي النازي في شهر تشرين الأول من نفس العام . و سجن الآلاف ، وبضمنهم ماري زوجة هامسون التي حكم عليها بالسجن ثلاث سنوات مع غرامة مالية . و وجهت تهم الخيانة لهامسون ، و لكن أحداً لم يكن يعلم ما الذي ينبغي عمله مع أعظم كاتب للأمة و الذي بلغ السادسة و الثمانين من العمر . ألقي القبض عليه ، و أمضى ثلاث سنين يتنقل بين دار للتمريض و العيادة النفسية الرئيسية في أوسلو و من ثم العودة إلى دار التمريض في لاندفك . و هناك العديد من الصور الفوتوغرافية الملتقطة له خلال تلك الفترة و التي يظهر فيها هامسون شيخاً ضعيف البنية ، بل و أقرب إلى الشبح ، و أحياناً مشوش الذهن . و لقد أجرى الأطباء و أطباء الأمراض النفسية فحوصاتهم عليه ، و شعر العديد من النرويجيين بالإرتياح إزاء التشخيص الطبي لحالته بكونه يعاني من "عجز ذهني مستديم" . كما ظهرت بعض التقارير الصحفية التي تؤكد إصابته بخرف الشيخوخة . أما هو ، فقد كان يغضب من سماعه أي كلام مهين عن تدهور قواه العقلية . " لا شيء بي سوى الشيخوخة و الطرش " ! بعدها كان يؤكد : "صحيح أن نظري ضعيف ، و أنني قد أصبت بنزيفين في الدماغ ، و لكن ثم ماذا ؟ أن قدراتي العقلية لم تتأثر تأثراً كبيراً إلا بسبب أقامتي في العيادة النفسية " . و قد تطور لديه شعور بالبغض الشديد ضد رئيس الأطباء النفسانيين في العيادة المدعو " گابرييل لانگفيلد " ، خصوصاً لأن الطبيب المذكور كان يجري فحصاً متوازياً مع زوجته ماري ، حيث تسربت أجزاء من محادثاته معها ، و التي تتناول أشد المسائل حميمية في علاقتهما الزوجية إلى الصحافة ، و هو الأمر الذي اعتبره كنوت خيانة شخصية له ، فأعلن أنه لا يريد رؤيتها مرة ثانية أبداً . و في المحكمة ، تحدّى هامسون السلطات أن تجد أي هجوم له ضد اليهود في كل أعماله الأدبية . و رفض نصيحة المحامين له بالتظاهر بالخرف ، و بتبكيت الضمير أمام القضاة . أسقطت المحكمة تهم الخيانة ضده بسبب كبر سنه ، و لكنها وجدته مذنباً بالإنتماء للحزب النازي النرويجي (ناسيونال ساملنغ) الذي لم ينتم إليه قط . و حكمت عليه بغرامة مالية ثقيلة جداً و قدرها ثلثمائة و خمس و عشرين ألف كرونر ( حوالي سبع وثمانين ألف دولار أمريكي في حينها ) بسبب أفكاره ليس إلا ، ثم سمحت له بالعودة مفلساً إلى داره في نورهولم . و في عام 1978 ، قام الكاتب الدنمركي "توركيلد هانسن" بالتحقيق في مجريات تلك المحاكمة ، و نشر كتابه "محاكمة هامسون" الذائع الصيت ، و الذي أثار في حينه عاصفة في النرويج لكونه - من بين أشياء أخرى - إحتوى على جمل من قبيل : " إن أردت أن تقابل الأغبياء ، فما عليك إلا أن تذهب للنرويج ". في مثل هذه العبارات ، عبّر هانسن عن إدانته للأسلوب غير الإنساني الذي عامل فيه النرويجيون فنانهم الكبير . و في عام 1996 ، صوّر المخرج السويدي "يان ترول" شريطه السينمي "هامسون" بالاستناد لوقائع كتاب هانسن الآنف الذكر . في عام 1950 ، و بدفع من أبنائها ، فقد عادت زوجته ماري للبيت بعد أربع سنين من الفراق . و كان كل الذي قاله لها هو :" لقد طالت غيبتك يا ماري ، و طوال فترة غيبتك لم يكن لدي من أتكلم معه سوى الله ." و عندما سمع بموت هتلر بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية ، كتب هامسون يقول : " لقد كان محارباً ، محارباُ من أجل الإنسانية ، و نبياً لقضية العدالة لكل الأمم !" و إزاء مثل هذه الشهادة البليغة ، و التي لا توجد فيها كلمة صحيحة واحدة ، فقد عزف الناس عن شراء كتبه خلال تلك السنين . بل أن بعض الجمهور الغاضب توجه نحو المكتبات ، و أحرق الآلاف من كتبه مباشرة بعد تحرير النرويج عام 1945 ، و بقيت مؤلفاته خارج الطبع طيلة أربعين عام لاحق . و طبقاً لهيرالد نايس منقح الرسائل المطبوعة لهامسون ، فقد كان الأخير يخطط لتطليق زوجته . أما رؤيته الشخصية لتجربة فترة محاكمته فقد ظهرت في كتابه "على الطرق المفرطة النمو" الذي طبع عام 1949 ، وعمره تسعون عاما ، و الذي بيعت كل نسخه حالاً ، و الذي أثبت صفاء قواه العقلية . و بعد وفاته ، فقد أعيد الإعتبار لسمعته تدريجياً ، و هناك إهتمام متزايد بأعماله و التي تشتمل على كتب الرحلات ، و المقالات و القصص القصيرة ، علاوة على الروايات . أما مسرحياته ، فلم تلق نجاحاً كبيراً رغم أنه يقال بأن ستانسلافسكي كان معجباً بها . رابعاً / هامسون و الآيديولوجيا النازية لم يكن هامسون مخبراً ، و لا متغنّماً من الحرب ، و لا جندياً يرابط في الخطوط الأمامية . و لم يشارك عملياً في الإضطهاد النازي خلال فترة إحتلالهم لبلده . و لكنه نشر خمسة عشر بياناً من نيسان عام 1940 و حتى مايس 1945 ( و بضمنها نعيه لهتلر ) في المجلات و الجرائد النرويجية و الألمانية . كما سمح بأجراء لقاء واحد له مع دار الإذاعة النرويجية التي يسيطر عليها الألمان ، و أرسل برقيات تحية للمؤتمر الصحفي العالمي المنعقد في فينا خلال شهر حزيران من عام 1943 و الذي حضره بنفسه . و لا شك في أن أغلب تلك المقالات كانت تساند حزب كويسلنغ و قوات الإحتلال . السؤال هو : هل كانت مساندة هامسون للألمان تستند على معتقدات أيديولوجية يمكن إعتبارها الآن معتقدات نازية ؟ أن وحشية النازية أمر معروف ، و كذلك تنكيلها بالأعراق و الشعوب و الجماعات المستهدفة بحد ذاتها كالشيوعيين و اليهود و السلافيين ، و أعتمادها ثقافة الحرب ، و مناداتها بالإنتقام ، و بالأنبعاث القومي على حساب حرية و حقوق الشعوب الأخرى . كل هذه مؤشرات واضحة على قباحة آيديولوجيتها . على الجانب الآخر : هناك أوجه ايجابية مثل مبدأ المشاركة في المصلحة ، و التوكيد على الطبيعة و العلاقات الطبيعية في الإقتصاد و الأخلاق ، و نقدها لأوجه الإغتراب في الرأسمالية ، و مناهضتها للتدهور السياسي و الثقافي . كان أول أسناد هامسوني علني لسياسة هتلر ذلك الذي ظهر في عامي 1934 و 1935 ، و في كلتا المناسبتين كان هامسون مهتماً بالدفاع عن ألمانيا ضد المنتصرين في الحرب العالمية الأولى . كانت تلك الفكرة قد أستحوذت عليه منذ عام 1910 ، و لقد بقي أمينا عليها طوال بقية حياته . فطبقاً لخرافات هامسون ، فأن ألمانيا هي الأمة الشابة التي لها مطالب فتية مشروعة في العرض و التطور . أما بريطانيا العظمى ، فتمثل الشيخ العجوز الذي يستثمر كل وسيلة متاحة أمامه للجم دفق الشباب للأمة الألمانية . علماً بأن هامسون كان يعتبر عهد الشباب نعمة ما بعدها نعمة ، و لها إستحقاقاتها المشروعة . في حينها ، لم تكن تلك هي فكرة هامسون وحده ، بل كان يشاركه فيها العديد من الناس دون أن يكونوا نازيين . و فوق هذا ، فقد كان هامسون يحمل ذهنية متزايدة الانتقاد للطريقة التي يتطور بها المجتمع الأوربي ، و هو ما دفع به لاحتضان الفكر الرجعي . و المبادئ الأساسية في هذا الفكر هي معاداة الرأسمالية و التصنيع و الديمقراطية ، و الحنين للعلاقات السياسية و الأخلاقية الإقطاعية ، و تقديس الطبيعة كمثال أعلى ، و الاقتصاد الريفي ، و الأواصر التي تربط بين البشر و ما يحيطهم في العالم . و يمكن تمييز وجود تقارب بين هذه الأفكار و بين الجوانب الإيجابية للآيديولوجيا النازية . و يمكن تصور أن مبدأ "المشاركة في القيم" هو الذي دفع هامسون للتعاطف مع التجربة السياسية التي بدأها هتلر عام 1933 . و لا شك في أن المواقف الرجعية لهامسون قد جعلته أعمى البصيرة حيال الوقائع السياسية المعاصرة له ، و هي ، و إن أوضحت سبب المساندة التي قدمها لهتلر و لكويسلنغ ، ألا أنها لا تقدم أي دليل على كونه نازياً بالمعنى الآيديولوجي . و لكن ما ذا عن كتاباته ؟ ألا تعبر عن مواقف رجعية واضحة و جديرة بالإعتبار ؟ في الدراسات المكتوبة عن هامسن يوجد تقليد قوي من النقد للآيديولوجيا في مؤلفاته . بدأ هذا النقد بالعمل المهم للناقد "ليو لوفنتال" الذي ظهر عام 1937 بعنوان " كنوت هامسون : نحو تسجيل تاريخي للآيديولجيا الشمولية " ، و الذي تجدد في السبعينات من القرن الماضي . و الفكرة الأساسية في هذا التحليل النقدي هي أن أعمال هامسون من أولى رواياته "الجوع" و إلى آخر رواية له "غلق الدائرة" ، كلها تنتظم حول "الآيديولوجيا اللبرالية المتأخرة" ، و هي التعبير عن التجربة المليئة بالصراع بين الطبقة البرجوازية الصغيرة مع الوسط المحيط بها ، و التي يمكن وصفها بآيديولوجيا الخضوع . و المبدأ المركزي لها هو أسطورة كون الطبيعة هي التجسيد للحلم البرجوازي الصغير في مكان للحرية ينأى عن الصراعات المهيمنة على الواقع الإجتماعي المعاش . و لقد ساهم هذا التفسير في فهم تكاملي أفضل لأوجه معينة من كتابات هامسون ، و أظهر وجود نموذج مؤدلج في أعماله الأدبية ؛ نموذج يتطابق مع الأفكار التي يبشر بها هامسون في مقالاته و رسائله الإنتقادية ، خصوصا بعد عام 1910. و لكن هل صحيح أن العلاقة بين الآيديولوجيا و التأليف الأدبي هي بهذا القدر من المباشرة الواضحة عند هامسون ؟ لنأخذ نظرة سريعة على روايتين له من روايات فترة ما بين الحربين العالميتين . الأولى هي "النساء عند المضخة" (1920) ، و الثانية هي "المتشردون" (1927) . هاتان الروايتان جرى تفسيرهما من طرف العديد من القراء كعملين من أعمال النقد الإجتماعي ذي المقاصد الرجعية . صحيح أن مثل هذه العناصر موجودة فعلاً في الروايتين ، و لكنها لا تأتي بشكلها المباشر إلا بدرجة محدودة جداً . و في معظم الأحيان ، فأن الرسائل الرجعية لا تتفوه بها إلا الشخصيات الثانوية و التي هي ذات الشخصيات التي تسقط ضحايا للتهكم في الرواية بهذا الشكل أو ذاك . في "النساء عند المضخة" ، هناك الشخصية الثانوية لمدير البريد التي تنطق بالعديد من أفكار هامسون النقدية و الأخلاقية . و لكن مدير البريد هذا ليس إلا شخصية تهويمية معزولة . فهي تبدأ معبّرة عن ضمير الرواية و بوقاً للنقد الاجتماعي ، لتتحول تدريجياً إلى رمز تهكمي لتضاد أعمق في الرواية : أي الصراع بين الوهم الخادع من جهة و التجربة العملية من جهة أخرى . أما الشخصية الرئيسية في الرواية فهو البحّار المخصي أوليفر أندرسن . هذه الشخصية المنحرفة غالباً ما تفسر بكونها الرمز البشع و الساخر الذي يعبر عن كل غرابة و تفسخ "المرحلة الجديدة" التي كانت محل نقد هامسون . ومن المحتمل جداً أن هامسون كان يقصد فيها مثل هذه الرمزية . و لكن شخصية أوليفر أندرسن يمكن تصنيفها ضمن خانة أخرى أيضاً : فهو واحد من العديد من الغرباء في أعمال هامسون . و لكن التعاطف العميق الذي تتسم به علاقة هامسون مع غربائه (بطل "الجوع" مثل ناگل ، أو "الأسرار" مثل گلاهن ، إلخ) ينعكس مرة أخرى في الطريقة التي يتطور فيها هذا ألخصي . فأوليفر هو رابح و خاسر في نفس الوقت . و هو أولاً و قبل كل شيء يوفر الرمز للدور المتناقض الذي يلعبه الخيال في الحياة البشرية . فلأنه مخصي – أي شخصية فارغة و مجوفة – فانه يُجبر على بناء وجود فنطازي لذاته ؛ و هذا المسعى هو الذي يديم حيويته . و لقد إقتضى الأمر وجود كاتب عظيم ثانٍ كي يلاحظ ما لم يستطع غيره ملاحظته عندما ظهرت الرواية عام 1920. فمنذ وقت مبكر ، عام 1922 ، أكد توماس مان بأن رواية النساء عند المضخة ، في مستوياتها الأعمق ، إنما تعالج الفن : الفن باعتباره القوة وراء الحياة ، و الحياة كفن ، و الفن كمصدر للإستشفاء . أما رواية "المتشردون" ، فهي الأخرى تتأسس على توترات مماثلة . فالرسالة الآيديولوجية للرواية هي تقطع الجذور الاجتماعية للإنسان ، و ركوب حياة التشرد كما يمثلها المتشردان : إدفارت و أوغست . و تقدم الرواية صورة حياة المزارع المستقرة و المكفولة كنقيض مناهض للتشرد . و لكن ديناميات القصة تكمن في ذات الحياة المقطّعة الجذور التي تهاجمها الرسالة الأيديولوجية للرواية . فالمبهر في الرواية هي تلك القصص المتشامخة لأوغست ، وفضاءات الحرية الرائعة لحياة التشرد ، و تجربة إدفارت التي تظهر كيف أن التضاد بين الخيال و خداع الذات يشكل العامل الأساسي في الحياة البشرية . الأمثلة من هذا النوع توضح أشياء مهمة عن العلاقة بين أيديولوجيا هامسون و مؤلفاته . فالنماذج و المعايير الآيديولوجية لا توجد في كتبه ألّا كبعد جوهري ، و بدون هذا البعد لا يمكن تصور إشتغال وظيفة التهكم في النص بالطريقة التي تشتغل فيها فعلاً . و لكن الكاتب يزري بالرسائل الأيديولوجية و الأخلاقية لمؤلفاته نفسها بتقديمه النقد لأيديولوجيته نفسها عبر التحول التهكمي للكتابة . فالأوضاع و الشخصيات مثل أوليفر و أوغست و التي نفسرها فوراً على نحو سلبي ، تتحول ، كلما نظرنا أعمق ، إلى شخصيات إيجابية ، لكونها توجز أولاً و قبل كل شيء العنصر الأساسي في عالم هامسون ، ألا و هو الخيال و الفنطازيا باعتبارهما شكلاً من أشكال التعويض ، و كقوة حيوية . هذا هو المنظور الذي يمكن أن نفهم في ضوئه العلاقة بين أيديولوجيا هامسون و كتاباته . و عليه فلا يمكن إيجاد تفسير واضح و مباشر لتورط هامسون في مساندة النازية . و قد نقتنع بالشبكة المعقدة من التفرد الشخصي ، و الصدفة المحضة ، و الغرابة النفسية ، و التيبس الروحي المميز للشيخوخة . و من الناحية الأخرى ، فليست القيم الشعرية الريفية ، و لا التشاؤم ألمبدأي اللذين يظهران جنباً إلى جنب هما اللذان يعطيان روح العبقرية لمؤلفاته ؛ و إنما التقلبات في المواقف الحاصلة بفعل سخريته و تعمّقه الذهني و فكره الثاقب . و هذه الصفات لا تشتغل بحد ذاتها ألا كقوة مضادة لكل شكل من أشكال التظهير الطائش - حتى للآيديولوجيات الشمولية . خامساً / المكانة الأدبية لكنوت هامسون تَوَاصل المنجز الفني لكنوت هامسون فترة ناهزت السبعين عاماً ، و أظهر تنوعاً في الموضوعات و المنظور و الأجواء . و قد إمتدحه ملك النرويج "هاكون السابع" واصفاً إياه بكونه يمثل : "روح النرويج" . و يعتبر هامسون أحد أقوى المؤثرين و المجددين في الأسلوب الأدبي طيلة القرن الماضي حيث تضم القائمة الطويلة من المتتلمذين على كتاباته أدباء من قامة : توماس مان و فرانتز كافكا و مكسيم گوركي و ستيفان زفايج و هنري مِلَر و هيرمان هسه و ايرنست همنغواي و إسحق باشيفي سنجر . و يعتبر الأخير هامسون " الأب الحقيقي للمدرسة المعاصرة للأدب بكل مكوناتها : ذاتيتها ، تشيؤها ، إستخدامها لرجع الذكريات ، و للغنائية " . فيما يصرح ايرنست همنغواي : " لقد علمني هامسون الكتابة ". يقول توماس مان : " لم تُمنح جائزة نوبل قط لمستحق لها بقامة كنوت هامسون ". أما أندريه جيد ، فقد قارنه بدوستييفسكي ، و كان يعتقد – و هذا أمر مشكوك به – بأنه "ربما كان أحذق منه " . و كتب له مكسيم گوركي في عام 1927 رسالة شخصية يقول له فيها : " أقول لك بإخلاص : في هذه اللحظة أنت أعظم فنان في أوربا ، و لا يوجد من هو نظير لك " . و إلى الآن ، تبقى رواياته العظيمة قوية بصفتها أعمالاً فنية مهمة . فقبل عقد من قيام فرويد بطبع كتابه :" تفسير الأحلام" ، درس هامسون ظلال النبضات التي تسكن التخوم الكائنة بين الوعي و اللاوعي . و في روايته الأولى "الجوع" المطبوعة عام 1890 ، نجد دحضاً خالصاً للسرد الواعي اجتماعياً و الأخلاقي الذي يمثله إبسن . " سأجعل الشخصية تضحك حيثما يتصور العقلاء بأنها يجب أن تبكي " يصرخ هامسون ، " و لكن لماذا ؟ لأن بطلي ليس شخصية ، و ليس نمطاً معيناً ... إنه إنسان معقد معاصر " . و تتميز روايات هامسون بصدقها الذي يكاد أن يكون مدمراً ، و الذي يتحقق من خلال المفارقة بين إدراك الخداع الأريب الذي نمارسه من أجل التكيف الإجتماعي ، و بين إحترام الأصول و الأعراف الاجتماعية . فحتى الحادثة التافهة – من قبيل الجلوس على مصطبة في حديقة عامة مع غريب – يمكن أن تجعل البطل الهامسوني يكبر و يكبر ليكشف بحثاً آسراً في أعماق الذات . ففي قراءته لـ " أسرار " هامسون مثلاً ، يعلق هنري ميلر : " أحس دوماً بكوني أقرأ الصيغة الثانية لحياتي الخاصة أنا" . سادساً / الأعمال الرئيسة لكنوت هامسون الجوع (1890) و هي رواية غريبة و مدهشة لكاتب شاب متفجر المواهب لا يجد ما يأكله في عاصمة النرويج . تبدأ الرواية بجملة : " حصل كل هذا فيما كنت أتسكع جائعا في كرستيانيا – تلك المدينة الغريبة التي لا يستطيع أحد التملص منها .. " . و كعمل أدبي ، فقد أشرت تجاوزاً واضحاً على الواقعية الإجتماعية القوية التي كانت تهيمن في حينها على الأدب النرويجي . و بالنسبة للكثير من النقاد ، فأن هذه الرواية تستشرف كتابات كافكا و غيره من روائيي القرن العشرين بمونولوجها الداخلي ، و منطقها الغرائبي . فيها نرى يوماً بعد يوم عذابات الفنان الشاب و هو يتضور جوعاً ، و نتابع زياراته لمحل الرهون حيث يرهن عنده آخر ما يملك – حتى نظاراته و معطفه – و كل شيء يستطيع التخلي عنه ، ليشبع سورة جوعه . و الرواية متدفقة ، مكهربة ، نخبوية ، و مبلبلة ، رغم كونها مكتوبة بأسلوب حاد و متفرد . و هناك صفحات و صفحات من الحزن ألممض للقلب ، و الكشف العميق عن دواخل الإنسان . ألأسرار (1892) و هي رواية نفسية أيضاً ، و تعالج الأحلام و شكوك الشباب . و هي رائعة بغنائيتها ، و بنفاذ بصيرتها النفسية . بطلها هو : يوهان نلسن ناگل الذي لا يمكن التكهن بتصرفاته . يحل في مدينة ساحلية نرويجية و هو يملك المال و العلاقات ، و يثير القلق للمؤسسة الإجتماعية بأفكاره و أفعاله غير المعهودة . و هي رواية غريبة و مضحكة و مكتوبة بأسلوب رائع جداً . الثرى الضحل (1983) تتركز هذه الرواية على مجموعة بوهيمية من الأصدقاء و الفنانين الشباب في أوسلو . أحداثها تجري حوالي عام 1900 ، و هي تختلف عن بقية روايات هامسون في تركيزها على الحياة المدينية و ليست الريفية . و رغم كونها ممتعة ، و لكنها ليست من بين الأعمال الكبيرة لهامسون . و من المقتبسات الشهيرة فيها : " إنه لا يكتب للجماهير ، كلا ، " يجيب المدعي العام ، " أنه يكتب للصفوة المختارة ، و لكن أصدقاءه يعلمون بأن لديه الكثير من الأشياء الجميلة غير المطبوعة . لله دره من أستاذ ! يستحيل التأشير على أي منجز من أنجازاته و القول أنه دون المستوى المطلوب . أنه يجلس في الركن الآن . هل تود مقابلته ؟ بوسعي تدبير لقاء لك معه ، فأنا أعرفه جيداً ، و ما من حاجة للمقدمات ." و منها أيضاً : " لقد أصبحن غير مهمات . و طموحاتهن لم تحلق عالياً ، و قلوبهن لم تعرف الوجع الشديد ، فهي تنبض بانتظام تماماً ، و لا تنتفخ لهذا أكثر من ذاك . ما الذي فعلته بناتنا الشابات بعيونهن الفخورة المتكبرة ؟ إنهن ينظرن راغبات في ما هو عادي كنظرتهن تماماً لما هو متميز ." پان (1894) تحكي الرواية قصة الملازم توماس گلاهن الذي يسكن كوخاً للصيد في الجزء الشمالي من النرويج ، مع كلبه أيسوب . و لا يبعد كوخه كثيراً عن قرية سيريوس التي يتداول مع أهلها . ثم يحصل أمر ما يقلب حياته رأساً على عقب . و هي واحدة من أجمل روايات هامسون ، بل أن أوتو فاينيگر يذهب إلى حد الزعم بأنها أجمل رواية في العالم . و هي شديدة الاهتمام بالكشف عن جمال الطبيعة و عن علاقتنا بها . كما أنها تستخدم اللغة في تسليط الضوء على ما يجري . فمثلا : نجد أن الجُمَل التي يتفوه بها گلاهن عندما يكون منعزلاً تتميز بالطول و التمدد ، أما عندما يخاطب النساء ، فأن جُمله تصبح قصيرة و واضحة و مركزة . أما السرد ، فهو شعري أخاذ ، و متدفق مؤلم ، و يتركز على الصراع الأزلي بين الجنسين . كما أنها واحدة من أشهر الروايات المعروفة عالمياً لكنوت هامسون . ڤكتوريا (1898) تحكي هذه الرواية قصة حب رعوية غير ناجزة و جميلة بين يوهانز أبن الطحان و ڤكتوريا أبنة الإقطاعي و صاحب القلعة المحلية . و مثل هذه العلاقة مستحيلة طبعاً . و لهذا يزوجها أهلها من الرجل الغني أوتو ، و الذي يعاني من بعض المصاعب المالية التي يريد التخلص منها بواسطة هذا الزواج . أما يوهانز فيصبح كاتباً و يواصل وجده بفكتوريا في كتاباته . الرواية مكتوبة بأسلوب بديع و أخاذ . ڤندت (1902) فندت هو راهب غامض متجول ذو شخصية رجولية قوية ، و هو أشد الشخصيات إلغازاً في كل أعمال هامسون . و بدرجة ما ، فأنه يمثل إفتتان هامسون و تقمصه لشخصية الغريب أو اللامنتمي . كما أنه يستخدمه في إنتقاد الكنيسة و سيطرتها على الناس . لم تترجم هذه الرواية للإنكليزية ، كما أن لم تطبع بعد نفاد طبعتها بلغتها النرويجية الأصلية . الحالمون (1904) و هي رواية قصيرة ، و خفيفة نوعاً ما ، عن كوميديا رومنطيقية تقع أحداثها في قرية صيد نرويجية منعزلة . و تتمحور حول الشخصية المركزية أوفه رولاندسن ، و هو مخترع طموح ، و كذاب خبيث الخطط ، و زير نساء غير موفق . و نجده في الرواية و هو معقود لمدبرة منزل القس المحلي ، و لكنه يضع عينيه على ابنة ألقندلفت ، و كذلك على ابنة تريدر مارك و هو أغنى رجل أعمال في القرية . و يستطيع رولانسن – الذي يعمل مشغلاً للتلغراف – اختراع طريقة جديدة لإنتاج الصمغ من السمك ، و هي البضاعة التي تشكل المصدر الرئيسي لثراء تريدر مارك ، و لكنه لا يتوفر على المال اللازم لكي ينشر إختراعه للعالم . تحت أنجم الخريف (1906) يستهل هامسون هذه الرواية بالقول : "البارحة كان البحر ساكناً كالمرآة ، و اليوم هو ساكن كالمرآة " . و هي تحكي القصة الغريبة للرحالة كنوت پيدرسن (و هو الإسم الحقيقي للكاتب) وهو يتنقل في أرجاء الريف النرويجي مشتغلاً في كل مهنة متاحه ، و لكنه في نفس الوقت يضع نصب عينيه دراسة الطبيعة و البشر الذين يقابلهم . بينوني و روزا (1908) و هي رواية مزدوجة : الأولى عن بينوني ، و الثانية عن روزا . في الأولى ، نتابع بينوني هارتفكسن و هو ساعي البريد المحلي الذي يغتني بين عشية و ضحاها . عندها ، يعمد الثري المحلي المتنفذ فيردناند ماك إلى الدخول معه في علاقة شراكة تجارية ، كما يساعده في خطب ود روزا ، إبنة القس المحلي . و تهدف الرواية إلى الكشف عن التحولات الكبيرة التي تطرأ على شخصية بينوني ، و على من هم حوله ، بفعل التغيرات الحاصلة في مكانته الإجتماعية . و نجد فيها كيف أن رجالاً طيبين و ليني العريكة يتحولون بفعل الثراء المفاجيء إلى شخصيات مصابة بداء جنون العظمة . جوال يعزف على أوتار خرساء (1909) هذه الرواية ترتبط برواية "تحت أنجم الخريف" و أحياناً تُجمعان معاً . الشخصيات في الروايتين هي نفسها ، و لكن الأحداث تحصل بعد ست سنوات . الشخصية الرئيسية في الرواية الأولى "كنوت بيدرسن" تصبح هنا شخصية مراقبة أكثر منها شخصية فاعلة . صديقه السابق كرندهوزن يتحول من شخصية مستقلة و شديدة الثقة بنفسها إلى شخصية مهزوزة . و رفيقه لارس فالكنبرغ يتدهور وضعه الإجتماعي ليصبح مجرد مالك صغير للأطيان مع زوجته التي تصبح في حالة حمل مستمرة تجعل زوجها يبتعد عنها . و تلعب هاتان الشخصيتان الهزليتان دورا تراجيكوميديا يورث الوجع في تهكمه و أبعاده الإنسانية . الفرح الأخير (1912) و هي آخر رواية في ثلاثية الجوال التي تدور حول أكثر الموضوعات شيوعاً عند هامسون : الغربة ، و إغراء الحياة البسيطة في الريف ، و الطبيعة المقيدة لحياة العائلة النرويجية . في البداية ، يقوم كاتب لا أسم له بترك المدينة ليعيش في كوخ جبلي مع فأر هو رفيقه الوحيد . ثم يلتقي به الجوال البوهيمي سولم فيسافران معا إلى قرية سياحية جبلية . و هناك يحصل سولم على عمل كشغيل و كدليل ، كما يتعرف الكاتب بـ " إنگبورغ تورسن" ، المعلمة الجميلة التي تسير نحو مستقبل مجهول ، ربما من دون زواج . أطفال العصر (1913) تظهر هذه الرواية تغيراً في التوكيد لدى هامسون من المنظور النفسي إلى المنظور الإجتماعي و العلاقات الإجتماعية الأوسع . و فيها نتبين فلسفة هامسون الإجتماعية ، و مقته للتصنيع . و فيها يقدم مدينة و قلعة زيگافلوس ، و الأقطاعي الكبير هولمسن ، و الرأسمالي الناهض هولمنگرا . يتبوأ هولمسن مركزه الإجتماعي المتقدم بالوراثة ، أما هولمنگرا فقد إغتنى في المكسيك . و تحكي لنا الرواية كيف أن النشاطات الإستثمارية لـهولمنگرا تؤدي إلى تغيير المدينة ، و تسرع بإسقاط النظام القديم و قواه المسيطرة . مدينة سيگافلوس (1915) و هي إستكمال للرواية السابقة . الآن يصبح الرأسمالي هولمنگرا هو السيد في المدينة ، و تتضائل مكانة هولمسن ليصبح مجرد ذكرى من الماضي ، و يسود المال و صراع الطبقات الأحداث اليومية . و تصبح الأزمنة المتغيرة ، و الدورات المتقلبة للأعمال ، و الأحداث الكبيرة و الصغيرة مصدراً للمتاعب للمدينة ، و بضمنهم أغنى سكانها . و هي أشد إمتاعاً من رواية أطفال العصر بفضل فكاهتها السوداء و التفاعلات الحيوية بين مجموعة عريضة من الشخصيات ، و دقة ملاحظتها للنفوس البشرية ، و عرضها الجميل لديناميات الظروف المتغيرة . نمو الثرى (1917) تعتبر هذه الرواية واحدة من أهم ألأسباب لنيل هامسون جائزة نوبل في الآداب . قال عنها هـ . جـ . ويلز : " نمو الثرى تنطبع في ذهني بأعتبارها واحدة من أعظم الروايات التي قرأتها . أنها جميلة بكليتها ، و هي مغموسة بالحكمة و روح الدعابة و رهافة الحس ". و تركز الرواية على شخصيتين روائيتين فاتنتين " أيساك و إنگر . أيساك رجل بسيط و قوي و يعرف ما يريد و ما هو مهم بالنسبة إليه . أما إنگر ، فهي إمرأة عطوفة بشفة مفلوعة ، و التي تفقد طفلتها في ظروف مبهمة و مثيرة للشكوك . و من الناحية الأخلاقية ، فأن الشخصيات ليست مثالية ، و أن كانت مرسومة بدقة مثالية .
سابعاً / مقتبسات من أقوال هامسون أدناه بعض الأقوال الأشهر لكنوت هامسون . و يلاحظ فيها تقديره الكبير لنعمة الشباب ، و للفرص المتاحة في عمر الشيخوخة ، و التعلق بالطبيعة ، و العمل الشاق ، و العزلة عن الحضارة ، و تعلم الحكمة من تجاريب الحياة ، و كمون الأصالة في المحلية . كما يلاحظ شيوع روح التهكم الممتع فيها . • لعل من المناسب أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تكبوا فيهما قدماي . لقد حصلت لي مثل هذه الحالات في شبابي ؛ و لكن في أي من حياة الشباب لا تحصل مثل تلك الكبوات ؟ • في الشيخوخة ، نحن مثل رزمة من الرسائل الني بعثها شخص ما . إننا لم نعد في الطريق ، نحن قد وصلنا . • لقد تسنى لي تعلم الكثير من الشعر السويدي ، و خصوصاً أغانيه من الجيل الأخير . • لم تعد قدماي نابتان في الأرض ؛ إنني أسير على الهواء ، و رأسي يدور . و ليس من السهل علي أن أكون كما أنا الآن . • لقد ذهبت للغابة . • عندما يصيب الإنسان الخير ، يسميه العناية الإلهية ؛ و عندنا يصيبه الشر ، يسميه القدر . • اليوم وُهبت الكثير من الجوائز و التكريمات ، و لكن هدية واحدة أصبحت تنقصني ، و هي الأهم من الكل ، و الوحيدة التي لها قيمة ، ألا و هي هدية الشباب . • لا شيء يضاهي أن تُترَكَ لوحدك مرة أخرى ، و أن تسير بسلام مع نفسك في الغابة ، و أن تغلي قهوتك و تملأ غليونك ، و أن تفكر بكسلٍ و تروٍ و أنت تقوم بذلك . • في عزلتي ، على مبعدة أميال من البشر و البيوت ، أكون في حالة سعادة عقلية بريئة كبراءة الطفولة ، و التي لا تستطيع أنت أن تفهمها إلا إذا شرحها أحد لك . • لو كنت أكثر تضلعاً بالأدب و بأسمائه العظيمة ، لكان بإمكاني مواصلة الاقتباس منهم إلى ما لا نهاية و من ثم الاعتراف بديني للفضل الذي تكرمت أنت بالعثور عليه في عملي . • كلا ، ما ينبغي لي عمله الآن ، تحت الأضواء الكاشفة ، و أمام هذا الجمع البهي ، هو أن أمطر كل واحد منكم بالهدايا و الورود و عطايا الشعر – بالشباب مرة أخرى ، و ركوب صفحة الموجة . • أعتزم التجوال و التفكير و تحويل الحديد العظيم إلى جمر أحمر . • و لكن لا يجب عليّ أن أنغمس كثيراً هنا بالحكمة المنسوجة محلياً أمام هذا الجمع المتألق ، خصوصاً لأنني سيتبعني ممثل للعِلم . • السماء تدري أن هناك ما يكفي من الفرص في آخر العمر ، و كذلك للانجراف بعيداً . ثم ماذا ؟ فنحن نبقى على ما نحن عليه ، و لا شك أن هذا كله أمر جيد جداً لنا . • مرحباً بك لرياضاتك الفكرية و للفن و الجرائد ؛ و مرحباً لحاناتك و لشرابك من الويسكي الذي لا يورثني إلا المرض . أما أنا : فموجود في الغابة ، و إنني لقانع بهذا تماماً . • ليس هناك من مصير أسوأ يمكن أن يصيب الشاب أو الشابة من أن يصبح متخندقاً قبل الأوان بالتحذلق و النفي . ثامناً / المصادر Knut Hamsun by H.A. Larsen (1922); Mein Vater by T. Hamsun (1940); Der Geist in der Despotie by P. de Mendelssohn (1953); Der Regenbogen by M. Hamsun (1954); Introductions to Hunger by R. Bly and I.B. Singer (1967); On Overgrown Paths by K. Hamsun (1967); Knut Hamsun og Amerika by H.S. Naess (1969); Knut Hamsun: en bibliografi by A. Østby (1972); Knut Hamsun by Harald S. Næss (1984); Enigma: The Life of Knut Hamsun by Robert Ferguson (1987); Knut Hamsun og hans kors by Arne Tumyr (1996).
#حسين_علوان_حسين (هاشتاغ)
Hussain_Alwan_Hussain#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السيد و العمامة
-
يوم اختطاف دولة رئيس الوزراء
-
كلاب أولاد كلب
-
بغداد : 6./ 6. /6.
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / الأخيرة
-
قصيدة -الرحيل- للشاعر العراقي سامي موريه
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 10
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 9
-
الزنبقة تموت عشقاً في الحياة .... و تحيا / مرثية الشاعر يحيى
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 8
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 7
-
مَثَلْ مَضْروب بيه تِتْحدّثِ النّاس : -جِزا الإحسانْ : بَكّا
...
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 6
-
فائض القيمة و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 5
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 4
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 3
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 2
-
فائض القيمة بين ماركس و الإكتشافات الجديدة لإبراهامي / 1
-
الفأر -شار- ، و الحيّة -أم دَيّة-
-
حكم القَراد في مزبلة الوهاد
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|