طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3824 - 2012 / 8 / 19 - 10:11
المحور:
الادب والفن
عيون بلا ذاكرة
قصة قصيرة
طلعت رضوان
تسمّرتْ عينا الأول على وجه الثانى . وعينا الثانى على وجه الأول . كل عينين تمسح وجه الآخر. تحرّكتْ العيون الأربع ثم تجوّلتْ بعيدًا : الوجه مألوف .. ثمة وقائع قريبة.. طازجة.. سخنة.. تــُلهب الذكرى فى الرأسيْن.. ولكن أين ؟
اشتعلتْ الذكرى بلا جدوى . احمرّ الوجهان ، فانحرف كل رأس بعيدًا عن اتجاه الآخر. انسحبتْ العيون ولم تعد تتواجه.
حاول الأول أنْ يتسلى بأى شىء . انشغل بقراءة الأرقام على عمود محطة الأتوبيس . تشاغل الثانى بقراءة أسماء الأطباء والمحامين على واجهة المبنى المقابل للمحطة. تسلى الإثنان بالنظر الغافى فى وجوه السائرين والواقفين .
تلاقتْ العيون الأربع من جديد . بسرعة تجاوزتْ العيون حدود المكان . انزرعت فى المحاجر دوائر الكترونية للتذكر.
همس الأول لنفسه وهو يلعن ذاكرته : كأنى رأيته كثيرًا .
تعجّب الثانى من نفسه وهو يسمع صوته الداخلى : كأنى أعرفه من زمن .
فكر الأول أنْ يُحوّل الكلمات إلى صور.. رأى الثانى فى مكان قريب إلى الوجدان : يرتدى نفس البلوفر الرمادى . الرأس الضخم والجبهة العريضة. الشعر الخشن . الحاجبان الكثيفان يبرز منهما أنف عريض بفتحتين كبيرتيْن كقبوين مظلمين . الشعر الكثيف على باب الفوهتيْن يسد الطريق إلى الداخل . يا ربى .. نفس الشعر الذى كلما رأيته ، تذكرتُ الجناينى وهو يُشذب الأعشاب بمقصه الكبير. يا ربى.. هذا الشخص أين رأيته ؟ فأنا أتذكر فمه المفتوح دائمًا وكنتُ أتساءل لماذا لا يغلقه ؟ كما أتذكر تجاويف أسنانه المكسرة . وأتذكر شفتيه الغليظتيْن السمراويْن . لا إنهما أقرب إلى الزرقة المخضرة أو الاخضرار المزرق . وأتذكر كرشه المُتدلى وهو يقتحم العينين . ولكن أين رأيته ؟ أحس نارًا فى رأسه.. الصور تتلاحق والذكرى تتبلد .
تمدّدتْ الكلمات وضاق الصدر.
جاهد الإثنان لشىء واحد .. ولا أمل .
تأخر الأتوبيس وتثاقلتْ الذكرى .
فكر الأول أنْ يبتسم للثانى ولم يفعل . وفكر الثانى أنْ يقترب من الأول ولم يفعل .
زوبعة صنعتها الأكتاف والأقدام عند اقتراب الأتوبيس من المحطة.
كان الباب بشرًا لا يبين منه حديد . هجم الناس على الكتلة اللحمية ليتوحدا بها أو يضيعوا فيها. همّ الأول والثانى بالهجوم . راودهما أمل واهن .. تعلقا به.. فاتهما الأتوبيس نصف اللحمى نصف الحديدى .
فات أكثر من أتوبيس والقيود حول العنق تتكاثر. وأوتاد الروح تتجذر.
جاء ناس وذهبوا وآخرون وذهبوا . الكل يهجم ليمسك بشىء ما .. أى شىء .. المهم يُكوّر قبضته ليقبض بها أو ينقض يها . هجم الأول والثانى مع المُهاجمين . إنقضا على الكتلة اللحمية العظيمة.. تعلقا بها .. ليذوبا فيها .
***
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟