|
المستقبل للليبرالية: سمة العصر
جورج كتن
الحوار المتمدن-العدد: 1112 - 2005 / 2 / 17 - 10:26
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
شكك معظم مراقبي السياسات الدولية في النصف الثاني من القرن المنصرم بما كان يتصدر جميع برامج وبيانات دول الكتلة الشرقية والأحزاب الشيوعية في العالم من تأكيد على أن سمة العصر هي الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. أما بعد انهيار الكتلة فإن غالبية كبيرة تؤكد أن سمة العصر هي انتقال دول العالم إلى الليبرالية، أي الأسلوب الديمقراطي في المجال السياسي وآليات السوق الحر في المجال الاقتصادي وحقوق الإنسان كما جاءت في المواثيق الدولية في المجال الإنساني الاجتماعي والثقافي. عدد محدود من الدول تتناقص أعدادها باطراد، تعاكس التاريخ بالتشبث بالأيديولوجيات والمناهج والمفاهيم القديمة في مواجهة التيار الجارف للانتقال لليبرالية، في محاولة لتأخير انهيار أنظمتها بحجج لا تقنع سوى قلة من المستفيدين وبعض النخب الأصولية. وإذا كان ممكناً في "العصر الاشتراكي" لدول أن تستمر بمعزل عن التطور العالمي، ففي ظل النظام العالمي الجديد، فإن انعزال الدول الشمولية عن مجتمع دولي يترابط باستمرار، ممكن فقط بنقل المستبدين لرعيتهم ودولهم - ملكيتهم الخاصة- إلى كوكب آخر، وهو أمر من رابع المستحيلات. الذرائع المتهافتة لعدم الالتحاق بركب الحداثة في مجتمعاتنا المتخلفة ذات الأنظمة الاستبدادية، هي رفض الحضارة الغربية رغم أنها أثبتت نجاحها في إيجاد السبل لحل المشكلات البشرية ورفع سوية معيشة الإنسان على الكوكب في شتى المجالات، فتهمة التغريب تخفي رفض الآخر الإنساني المتقدم واعتباره عدواً: معسكر الكفر للإسلاميين، والرأسمالية المتوحشة للاشتراكيين، والإمبريالية للقوميين والوطنيين المتطرفين. فالتغريب الوحيد المقبول استهلاك المنتجات التكنولوجية للغرب مع رفض اقتباس المناهج السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي سمحت بإنتاجها لفائدة البشرية. الليبرالية أسلوب في الحياة لا يقتصر على الجانب الاقتصادي كما يحاول أن يصوره البعض، كما لا يقتصر على الجانب السياسي كما يعتقد البعض الآخر، وهي ليست أيديولوجيا مسبقة يسعى معتنقوها لهندسة المجتمعات حسب نصوصها، بل هي برامج متطورة في شتى المجالات تتعامل بعقلانية مع الوقائع القائمة على أساس تحقيق المصلحة الإنسانية المتوازنة، في ظل حريات واسعة فردية وجماعية وتعددية، وحوار للتوصل لمصالح مشتركة. والتيار الليبرالي لا يجمعه حزب واحد أو برنامج سياسي واحد بل برامج يجمعها التمسك بالحريات والانفتاح على الآراء المتنوعة ورفض الأيديولوجيات الجامدة والأصوليات المتخلفة، فالنموذج الذي تسعى للاقتراب منه هو المجتمعات الحديثة، مجتمعات الحريات وحقوق الإنسان والسلم والوفرة والتنمية البشرية والمادية والمعرفية... لا يمكن الفصل بين الجانب الاقتصادي والسياسي لليبرالية، إذ أن الأخذ بديمقراطية سياسية مع استمرار اقتصاد الدولة يتناقض مع الوقائع، فالليبرالية السياسية تعني أن من حق الأغلبية في المجالس التشريعية سن القوانين التي تؤمن حرية السوق والمبادرة الفردية والمنافسة، التي ثبت أنها المحرك الأساسي للتقدم الذي يشمل الجميع. كما أنه لا يمكن الأخذ بليبرالية اقتصادية في ظل نظام سياسي شمولي يعيق التطور الاقتصادي ويحصره في صالح القلة المحتكرة للسلطة. والليبرالية لم تعد المنهج السياسي والاقتصادي للطبقة الرأسمالية الصناعية والتجارية والمالية، كما كانت عند نشأتها في القرن التاسع عشر عندما كانت الحريات السياسية محدودة وحق الاقتراع محصور في الطبقات العليا للمجتمع، وهي الفترة التي يعود إليها اشتراكيون معاصرون ليدّعوا أن الليبرالية تعمل لمصلحة الطبقة البرجوازية التي تنتفع من الحريات لزيادة هيمنتها على الثروة والسلطة، فيما أن مرحلة طويلة من النضال السياسي والاجتماعي والنقابي بين منتصف القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين مكنت الفئات ذات الدخل المحدود من الحصول على حقوقها السياسية والاجتماعية بحيث أصبحت الحريات مصلحة عامة للمجتمع بأسره وأداة للوصول للحقوق لكافة طبقاته. الليبرالية الديمقراطية أوصلت من خلال صناديق الاقتراع قوى اجتماعية وحركات ليبرالية اجتماعية تمثل مصالح الطبقات الكادحة تستفيد من الحريات المتاحة لتحسين الأوضاع المعيشية لذوي الدخل المحدود في ظل الرأسمالية، ودون الاضطرار لإلغاء الملكيات الخاصة والاقتصاد الحر، فالمجالس المنتخبة والقضاء المستقل وسيادة القوانين التي تقرها الأغلبية تحد من سلطة رأس المال واحتكاره. والاتجاه العام للتطور هو دمج الليبرالية في العدالة الاجتماعية وليس إلغاء الليبرالية لصالحها، والليبرالية لم تعد تترك الفرد دون حماية من استغلال القوى الاقتصادية، بينما في ظل "رأسمالية الدولة" تنعدم إمكانية احتجاج أكثرية المجتمع على أوضاعها البائسة المكرسة باسم "الاشتراكية". من الطبيعي فهم السبب في معارضة الأنظمة الشمولية لليبرالية وقمع تعبيراتها السياسية الجديدة، كما حدث لرياض سيف في سوريا وأيمن نور في مصر، فهذه الأنظمة قامت أصلاً على أنقاض أنظمة ديمقراطية وطنية حققت فيما بين الحربين العالميتين إنجازات: الاستقلال وبدء عملية التنمية دون التضحية بالحريات السياسية والاقتصادية في أكثر من بلد عربي، إلى أن استولت القوى الانقلابية على السلطة وأنهت الحريات تحت يافطة "الاشتراكية" و"القومية" وهيمنت على النظام الاقتصادي وفصّلته على مقاس مصالحها الاحتكارية، لتقف الآن مدافعة عن امتيازاتها في مواجهة القوى الديمقراطية التي تسعى لإنهاء استبدادها وفسادها. يرفض جزء من المعارضة الراهنة للأنظمة الشمولية التحول لليبرالية، ويعادي رموزها ويتهمها "بالانبطاح أمام الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة والالتحاق بالغرب " و"قبول العولمة التي تسعى لإلغاء الهوية المستقلة للمجتمعات العربية وثقافتها المتميزة" و "التخلي عن التراث والثوابت القومية والدينية" .....إلخ، لفهم هذا الموقف من طرف معارضة تدعو "للديمقراطية"، لا بد من العودة لأصولها، فهي في غالبيتها أحزاب عقائدية متوالدة أسيرة أحقاد الماضي، تتمسك بثوابت قديمة مع تجاهل المتغيرات المحلية والعالمية، ويمكن أن تنزلق بسهولة للوقوف مع الأنظمة الشمولية بذريعة مواجهة التهديدات الخارجية، يؤيد بعضها القطاع العام مع إصلاحه -المستحيل عملياً- ويتأرجح بعضها الآخر بين الاحتفاظ بالقطاع العام وتأييد دور القطاع الخاص. تفضل المعارضة الماضوية المفاهيم الأصولية المقبولة أكثر في مجتمعات متأخرة خضعت لعقود من التجهيل المدعوم بالقمع، وهي سياسة شعبوية تتخلى فيها المعارضة عن الدور التنويري المنوط بها لنشر الأفكار والمناهج الحديثة في الأوساط الشعبية حتى لو تعارضت مع المفاهيم المتخلفة السائدة، وهي مهمة عسيرة لكنها ممكنة والمستقبل أمامها. وهي المهمة التي يسعى التيار الليبرالي لتحمل مسؤوليتها وإنجازها بالوسائل السلمية والعلنية في إطار التعددية، دون التعارض العدائي مع المعارضة الديمقراطية القديمة، بحيث يمكن أن يحدث تأثيراً في صفوفها لتوليد قوميين ليبراليين وإسلاميين ليبراليين وحتى اشتراكيين ليبراليين. يمكن للتيار الليبرالي أن يكتسب شرعية راهنة من كونه تياراً واقعياً نهضوياً ً يعتمد إعمال العقل لا النقل، ويرى أن الحرية الحاجة الأولى للإنسان وحدود الوطن هي حدود المواطن الحر، وأن معيار الوطنية مدى احترام حقوق الإنسان وليس السياسة الخارجية، وأن العلمانية الإطار الذي يجمع المكونات الطائفية المختلفة، وأن القومية لا تعني تذويب وتعريب وتهجير الشعوب المتعايشة مع العرب، فيرى تأييد حقوقها القومية والثقافية، ويسعى للسلام القائم على إنهاء الحروب التي استنفذت موارد المنطقة، ويتخذ موقفاً عقلانياً من العولمة لتعزيز جوانبها الإنسانية والتقليل من تأثير جوانبها السلبية، ولا يرى في الغرب شراً مطلقاً أو خيراً مطلقاً بل سياسات متعددة ومتغيرة يقبل ما هو في صالح المنطقة منها ويرفض ما يضر بها، ويؤيد التلازم بين اقتصاد السوق الحر والديمقراطية السياسية، ويعمل لضمانات اجتماعية لذوي الدخل المحدود، ويضع التنمية على رأس أولوياته من أجل مجتمعات عصرية قوية تساهم بنصيبها في الحضارة العالمية... المستقبل لليبرالية في المنطقة ولا يمكن الخشية من عدم تقبل المجتمعات المتخلفة لأفكار الحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فتواجد نخب متنورة قابلة للتطور والتلاؤم مع العصر، يلعب دوراً كبيراً في نقل الوعي للمجتمعات الراهنة، فشخص واحد، كالسيستاني مثلاً، أقنع الملايين بأن الديمقراطية ليست أمراً مستورداً على ظهر الدبابات كما تدعي النخب القديمة، فتقاطرت على صناديق الاقتراع كأنها معتادة على العملية الانتخابية منذ عقود. تعذر إمكانية إنشاء تنظيمات ليبرالية حالياً في ظل الأنظمة الشمولية، يعني إعطاء الأولوية لممارسة الدعوة لليبرالية على المستوى الفكري والثقافي في الأطر والهوامش المتاحة، مع استمرار الحوار بين جميع أطراف التيار لتحديد أهداف ومناهج وأساليب واضحة ومحددة.
#جورج_كتن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أيمن نور بعد رياض سيف
-
هل تنبع السياسة من صندوق الاقتراع أم من فوهة البندقية؟
-
انتصاران عربيان للديمقراطية والسلام والتنمية
-
عبر لبنانية برسم المعارضة السورية
-
هل يقود إصلاح الأمم المتحدة نحو حكومة فيدرالية عالمية؟
-
الحصاد الهزيل للإصلاح في -منتدى المستقبل-
-
حلول جذرية لوقف التمييز ضد القبط
-
انتهاء صلاحية الشعارات السياسية العربية للقرن العشرين
-
لجان إحياء المجتمع المدني..هيئة أهلية أم حزب
-
هل تدب الحياة في أوصال الديمقراطية الفلسطينية ؟
-
المعارضة السورية بين الديمقراطية العلمانية والمحافظة
-
الامازيغية والكردية صنوان
-
محمد سيد رصاص وصب الماء الكردي في طاحونة المعارضة السورية
-
الأزمات والمشكلات العالقة في المنطقة العربية
-
ملاحظات حول بيان ليبرالي سوري
-
اليد الممدودة بين الكرد والعرب
-
العلاقات العربية –الكردية في ظل العولمة
-
العملية السياسية العراقية ونخب عربية
-
انسداد الأفق السياسي الفلسطيني _ يا كرسي ما يهزك ريح
-
الخارج يطرق أبوابنا
المزيد.....
-
بعد استخدامه في أوكرانيا لأول مرة.. لماذا أثار صاروخ -أوريشن
...
-
مراسلتنا في لبنان: غارات إسرائيلية تستهدف مناطق عدة في ضاحية
...
-
انتشال جثة شاب سعودي من البحر في إيطاليا
-
أوربان يدعو نتنياهو لزيارة هنغاريا وسط انقسام أوروبي بشأن مذ
...
-
الرئيس المصري يبحث مع رئيس وزراء إسبانيا الوضع في الشرق الأو
...
-
-يينها موقعان عسكريان على قمة جبل الشيخ-.. -حزب الله- ينفذ 2
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب ويلتقي ولي العهد
-
عدوى الإشريكية القولونية تتفاقم.. سحب 75 ألف كغ من اللحم الم
...
-
فولودين: سماح الولايات المتحدة وحلفائها لأوكرانيا باستخدام أ
...
-
لافروف: رسالة استخدام أوريشنيك وصلت
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|