|
الثورة على «كوكاكولا»
تامر وجيه
الحوار المتمدن-العدد: 3801 - 2012 / 7 / 27 - 11:34
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نصيحة مجانية أقدمها للقارئ الكريم: إذا كنت من أولئك الذين ينشغلون عن التليفزيون عندما تأتي فقرة الإعلانات المملة وسط المسلسل، أدعوك إلى التخلي عن عادتك تلك والتركيز في إعلانات رمضان هذا العام. هل تغير شيء؟ هل توقفت «بيبسي» و«كوكاكولا» عن التنافس على رضا المستهلك؟ هل أقلعت «اتصالات» عن محاولتها جذب زبائن «موبينيل» و«فودافون»؟ هل انحسرت هجمة إعلانات «الكومباوندز» في القاهرة الجديدة والتجمع الخامس و«المنتجعات» في شرم والسخنة والغردقة والساحل الشمالي؟ أظن أنك ستوافقني أن شيئًا من هذا لم يحدث. لا خطر إذن على «نمط الحياة» السائد! فمازالت الشركات الرأسمالية الكبرى تقدم لمستهلكيها من الطبقات الوسطى والعليا ما يحبونه ويرضون عنه. ومازالت وسائل الإعلام – عامة وخاصة – تروج لسلع مصممة خصيصًا لاصطياد أموال رواد المولات وسكان الضواحي الراقية والمدن الجديدة ذات الأسوار العالية. ومازال «معتز» و«لميس» و«توني» يقدمون لمشاهديهم برامج التسالي الرمضانية الزاخرة بأفخر الأزياء والمطعمة بحوارات تمزج أخبار النجوم بأخبار السياسة في خلطة تناسب أجواء ما بعد الثورة. وهكذا يكشف لنا رمضان هذا العام أن نظام «الليبرالية الجديدة» و«السوق الحر» الذي يتخلل كل مسام حياتنا مازال حيًا عفيًا: البورصة لم تُمس.. الشركات الاحتكارية مصانة.. قوانين الليبرالية الجديدة التي جاد بها زمن مبارك لم تتغير.. نظام الأجور هو ذاته.. علاقات العمل الرأسمالية مقدسة.. والملكية الخاصة هي الحقيقة التي تعلو فوق كل حقيقة. «البقرة المقدسة» المسماة بالليبرالية الجديدة هي الشيء الوحيد الذي لم يتحداه فرقاء السياسة المصرية الكبار، من يمينهم إلى يسارهم. سواء «شفيق» أو «مرسي» أو غيرهما، فالثابت هو «جذب الاستثمارات» و«احترام قواعد الرأسمالية». اختلف الفرقاء على هوية الدولة، وعلى الحريات العامة والخاصة، اختلفوا على دور الجيش في السياسة، ودور الأزهر في إقرار القوانين، ودور المحكمة الدستورية في الحياة العامة، لكنهم لم يختلفوا على دور رأس المال الخاص في تسيير الاقتصاد. ربما أضاف البعض رتوشًا تتعلق بالرقابة على الاحتكارات، أو بتعميم التأمين الصحي، أو بزيادة ميزانية التعليم، لكن لا أحد تحدى منطق الليبرالية الجديدة القائم على تحرير الأسواق ومركزية دور رأس المال الخاص وتسليع كل شيء وأي شيء. مضمون الثورة الديمقراطية إذا كان الحال هكذا، فهل كانت الثورة المصرية مجرد حدث سياسي على «السطح» لم يتمكن من تغيير «العمق» الاقتصادي للمجتمع المتحكم في حياة الناس وأرزاقهم؟ كان الكاتب الماركسي البريطاني «بيري أندرسون» قد كتب غداة اندلاع ثورتي مصر وتونس مقالاً في «مجلة اليسار الجديد» طرح فيه أن موجة الثورات العربية تنتمي إلى نمط الثورات الإقليمية المحدودة الأثر جغرافيًا وتاريخيًا، تمامًا كثورات أوروبا الشرقية في نهاية ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن العشرين. ألمح أندرسون إلى أن مضمون موجة الثورات العربية ديمقراطي بالأساس. الشوق إلى الحرية – حتى دون برنامج تفصيلي – هو المحرك لثورات العرب التي تنتمي بصلة نسب إلى «موجات التغيير الديمقراطي» التي اجتاحت مناطق عديدة في العالم خلال القرن العشرين: من جنوب أوروبا، إلى أمريكا اللاتينية، إلى شرق أوروبا، إلى أفريقيا جنوب الصحراء. أختلف مع هذه الرؤية، فمشكلة تحليل «أندرسون» –الذي يختزل الثورات العربية في كونها مجرد موجة إقليمية محدودة ذات مضمون ديمقراطي ضيق– تكمن في تجاهله لأمرين جوهريين: التحولات التي طرأت على العالم في العشرين عامًا الأخيرة، والمضمون الطبقي للثورة الديمقراطية. سأبدأ بالنقطة الثانية: يبدو لي أنه من الصحيح القول إن كل ثورة شعبية في عالمنا الحديث تبدأ كثورة ديمقراطية! الثورة مفاجأة، بالنسبة للملايين التي تصنعها، كما بالنسبة للساسة الذين عملوا من أجلها وانتظروها طويلا. وبسبب المفاجأة، وكأحد أبعادها، فإن الملايين غير المسيسة التي تخرج إلى الشارع للتعبير عن رفضها للواقع القائم تبدأ مسيرتها الثورية بالتركيز على رفض الأوضاع السائدة في صورة شعارات عامة لا تتضمن رؤية تفصيلية للبديل المطروح. إذ تميل الجماهير في المرحلة الأولى للثورة إلى الاعتقاد بأن المشكلة تكمن فقط في «القلة الحاكمة» وأن إسقاط تلك «القلة» هو غاية المنى التي ستفتح الباب لعالم جديد رائع. ومن ناحية أخرى، تتسم المرحلة الأولى للثورات بنزعة «توافقية» تنبع من رواج الأوهام حول أهمية وضرورة «وحدة الصف الوطني». فقانون عام لكل الثورات، وكأحد نتائج الاعتقاد بأن «القلة الحاكمة» هي السبب في كل المشاكل، تبدأ مسيرة الانتفاض الجماهيري برفع شعارات توافقية تضع الشعب كله، بكل طبقاته، في مواجهة طغمة ضيقة تضم بيت الحكم والحزب الحاكم والأجهزة الأمنية. هذا بالضبط ما يعطي المرحلة الأولى لأي ثورة طابعًا ديمقراطيًا غير محدد الملامح. فسيادة المنظور القائل إن مضمون الثورة هو نضال الشعب، بلا تحديد طبقي، ضد طغمة سياسية حاكمة، يدفع الثورة في اتجاه ديمقراطي فضفاض يحبه ويعززه الليبراليون والإصلاحيون، لأنه يحرص على تفادي أي تصادم بين الطبقات المكونة للتحالف الثوري، ويحرص بالتالي على تمييع البعد الاقتصادي الاجتماعي للمعركة القائمة باعتباره خطرًا على تماسك معسكر الثورة. لكن الحقيقة أنه حتى أكثر الثورات الشعبية «ديمقراطية» تحمل تناقضًا. فبينما يهلل الجميع في أيام الثورة الأولى ابتهاجًا بوحدة «الشعب» في مواجهة الطاغية، نجد أن الطبقات الكادحة، المتقبلة في جانب من وعيها لفكرة الوحدة الوطنية الرائجة، تندفع مع اليوم الأول للثورة لخوض نضالات اقتصادية مطلبية هدفها الموضوعي هو تغيير النظام السائد لتوزيع الثروة الاجتماعية. تمنح الثورة الجماهير الكادحة الثقة لتوسيع نطاق نضالها الاقتصادي إلى حدود غير مسبوقة في الظروف العادية، لكن وعي تلك الجماهير، الذي تشكل في ظل الرأسمالية وبتأثير منها، لا يمكّنها في بادئ الأمر من اكتشاف التناقض بين حماسها السياسي الشعاراتي للوحدة الوطنية من ناحية، ورفضها العملي لها بنضالها الاقتصادي المتصاعد الذي يضغط على الطبقات المالكة – أحد أطراف «معسكر الثورة»!– من أجل التفاوض على إعادة توزيع ثروة المجتمع من ناحية أخرى. هذا هو التجلي الأسمى لما يطلق عليه البعض «الفصل بين الاقتصادي والسياسي في ظل الرأسمالية». إذ يحرص النظام الرأسمالي، بطرق شتى، على إبقاء التنازع حول توزيع الثروة بعيدًا عن التنازع حول شكل الحكم. ذلك أن اتحاد مجالي النضال معناه الوحيد هو تجاوز الكادحين مرحلة المطالبة بتحسين شروط الاستغلال إلى مرحلة السعي للحكم للقضاء على أسس الاستغلال. وهكذا فإن اتهام الحركة العمالية والاجتماعية بالفئوية ليس صدفة أو تجاوزًا غير ديمقراطي من جانب حكام جاهلين، بل هو جزء لا يتجزأ من محاولة الطبقات الحاكمة إبقاء الثورة حبيسة لحظتها الديمقراطية الأولى، لحظة وحدة كل الطبقات – المالكة وغير المالكة – في مواجهة «طغمة الحكم الفاسدة». فحتى لو «تفهّم» بعض الليبراليين مطالب الكادحين وحركتهم من أجل تعميق الثورة بخوض صراع ضد أحد أطراف «معسكر الثورة»، فإن تفهمهم هذا لن يتجاوز حدود تقبلهم على مضض لفكرة توزيع أقل جورًا للدخل الاجتماعي، لكن شريطة عدم إجراء أي تغيير في الطريقة الرأسمالية/ الليبرالية الجديدة لإنتاج هذا الدخل. بين موجتين إذن فما يطلق عليه «الثورة الديمقراطية» هو في الحقيقة مجرد لحظة من لحظات «الثورة الدائمة». وقد علّمنا التاريخ أن جوهر الصراع في أي ثورة بعد المرحلة الاحتفالية الأولى القائمة على سيادة وهم الوحدة الوطنية هو الصراع بين من يريدون استمرار الثورة وتعميقها من خلال الوحدة والانصهار بين النضالين السياسي والاقتصادي، ومن يريدون كبح الثورة وإبقائها في المربع الديمقراطي المحدود.. بين من يتحدّون نظام الإنتاج الرأسمالي ومن يقدسونه. هنا يبرز وجه الخطأ في رؤية «أندرسون» فيما يتعلق بعدم إدراكه للتحولات التي طرأت على العالم في العشرين عامًا الماضية. ذلك أن «اللحظة الديمقراطية» للثورات الشعبية تختلف في درجة عمقها وتجذرها من زمن إلى زمن ومن ثورة إلى ثورة على حسب درجة تنظيم الطبقات الخاضعة ومستوى وعيها المكتسب خلال نضالات ما قبل الثورة، وعلى حسب شكل وأيديولوجية وحجم شعبية الأحزاب والتنظيمات الإصلاحية والثورية القائمة، وعلى حسب مجمل التوازن بين الطبقات الاجتماعية، وأخيرًا على حسب مجمل أوضاع الصراع الطبقي الإقليمي والعالمي. فمن البديهي أنه إذا كانت الطبقة العاملة منظمة وذات إرث نضالي عميق، وأنه إذا توافرت أحزاب ثورية منغرسة في نضال تلك الطبقة، فإن فرصة تجاوز اللحظة الديمقراطية إلى آفاق أكثر جذرية تصبح أكبر وأكثر احتمالية. وبالمثل، فإن توافر ثقافة سياسية جذرية على المستوى العالمي تعطي المثل وتمنح الحلم يمكنه أن يعطي دفعة لنضال الطبقات الخاضعة، بالذات في البلدان الأكثر تأخرًا. انطلاقًا من هذا، فإن المقارنة التبسيطية التي أجراها «أندرسون» بين موجتي الثورات في أوروبا الشرقية والمنطقة العربية تعد مجحفة. فنجاح الطبقات الحاكمة في أوروبا الشرقية في تقزيم انتفاضات بعض الشعوب الأوروبية الشرقية وسجنها في الحدود الديمقراطية المحدودة اعتمد، جزئيًا، على سيادة وعي على المستوى العالمي بفشل الاشتراكية وبالانتصار النهائي للرأسمالية في نموذجها الليبرالي الجديد. وهو كذلك اعتمد على مسارعة النظم الحاكمة في عدد من البلدان إلى إجراء تسوية فوقية تبدل بمقتضاها شكل الحكم استباقًا للثورة من أسفل. وفي بعض الحالات – بولندا مثلاً – كانت خيانة القوة المعارضة الرئيسية لمطامح الجماهير وتبنيها الكامل لرأسمالية السوق هي العنصر الحاسم في كبح الثورة وحرفها عن مسارها. الملاحظ أن سياق الثورات العربية يختلف اختلافًا بينًا. فالموجة العربية تأتي بينما الليبرالية الجديدة تعاني أكبر أزماتها عالميًا منذ تدشينها كحل لأزمة الطبقات الحاكمة في منتصف السبعينيات. والموجة العربية اندلعت في محيط جيوستراتيجي يعاني من فشل الليبرالية الجديدة ومن وحشية الإمبريالية الجديدة إلى حد الرفض التام للحلول الأمريكية مهما دافعت عنها وروجت لها قوى سياسية نافذة وذات شعبية. كذلك فإن الموجة العربية لا يمكن امتصاصها بدمج المحيط الأوروبي الشرقي في القلب الأوروبي الغربي كما كان الحال في حالة ثورات ما كان يطلق عليه الكتلة الاشتراكية. لهذا كله، فإن فرص استمرار وتعميق ثورات المنطقة العربية، تلك المنطقة المتفجرة المهيأة لإنضاج الحلول الراديكالية لمشاكل عالمنا، أكبر بما لا يقاس من الحال في الظرف الأوروبي الشرقي. فمنطقتنا ليس فقط تمزج بين النضال السياسي الديمقراطي والنضال الاجتماعي الناهض، بل إنها كذلك مركز النضال العالمي ضد الإمبريالية الجديدة، في حين أن محيطها المباشر – جنوب أوروبا – يتفجر بنضالات اجتماعية غير مسبوقة منذ أربعة عقود. يمكننا القول إذن إنه برغم كل المصاعب والآلام، برغم التراجعات والطرق الملتوية، فإن معركتنا مازالت في بدايتها، وثورتنا محملة بالوعود والإمكانات الجذرية. تبقى فقط أم المشاكل: الافتقار إلى العنصر الذاتي، الافتقار إلى مؤسسات نقابية وسياسية راديكالية مغروسة في أوساط الكادحين، تناضل ضد تأطير الثورة وحبسها في الإطار الديمقراطي، وتسعى إلى فتح آفاق تحدي الليبرالية الجديدة التي يظنها البعض قانونًا طبيعيًا كالجاذبية والطفو!
#تامر_وجيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البحث عن رئيس لمصر!
-
لماذا أنا متفائل؟
-
حي على الإضراب!
-
هل أنت مع 23 يناير أم مع 25 يناير؟
-
بعد زخم الأعوام السابقة.. ماذا تحتاج الحركة العمالية لكسب مع
...
-
اتحاد اليسار من 4 أغسطس إلى 4 نوفمبر
-
العنصرية ضد اللاجئين السودانيين: خطر يتهددنا قبل أن يتهددهم
المزيد.....
-
إيطاليا: اجتماع لمجموعة السبع يخيم عليه الصراع بالشرق الأوسط
...
-
إيران ترد على ادعاءات ضلوعها بمقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
بغداد.. إحباط بيع طفلة من قبل والدتها مقابل 80 ألف دولار
-
حريق ضخم يلتهم مجمعاً سكنياً في مانيلا ويشرد أكثر من 2000 عا
...
-
جروح حواف الورق أكثر ألمًا من السكين.. والسبب؟
-
الجيش الإسرائيلي: -حزب الله- أطلق 250 صاروخا على إسرائيل يوم
...
-
اللحظات الأولى بعد تحطم طائرة شحن تابعة لشركة DHL قرب مطار ا
...
-
الشرطة الجورجية تغلق الشوارع المؤدية إلى البرلمان في تبليسي
...
-
مسؤول طبي شمال غزة: مستشفى -كمال عدوان- محاصر منذ 40 يوم ونن
...
-
إسرائيل تستولي على 52 ألف دونم بالضفة منذ بدء حرب غزة
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|