|
الشجرة الرابعة
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 3798 - 2012 / 7 / 24 - 19:16
المحور:
الادب والفن
تُلفتْ روحي كما تُلف جسدي .. ما عاد بوسعي أن أقول شيئا ً آخرَ اثر عودتي من سنوات الأسر الطويلة .. السنوات التي طمي فيها فيضان الوصف والقول إلى الحد الذي أغلق الأسماع بسيل الجفاء العارم .. هل أقول عدت بخمسة أسنان فقط في فمي ؟.. هل أقول عدت بإكليل شعر ٍ من الرماد ، يؤطر هامتي الصلعاء ، وجبين أجرد مثل دكة دار قديمة ؟.. أم أهمس بمرارة وخيبة في آذانكم إنني رجعت مع خيط جنون ؟! كلا .. كل ما يمكنني قوله إنني ، وبعد أن وطأت قدمي ارض الوطن ، كنت جرابا ً عتيقا ً مهترئا ً ، مليئا ً بالهزائم ، والخيبات ، والمرارة ، لم أكن وقتها سوى ذكرى حرب وصدى إنسان ..
من جديد استقر بي الحال في منزلي ، لتتعبني على الفور ، طقوس الترحيب وهذيان الزائرين ، وجمت حائرا إزاء سر التهاني التي تصب على رأسي ليل نهار . كنت غريبا ً ، وكانوا أهلي . لم تكن أيامهم أيامي ، جلست صامتا ً ، ووجهي يتلدد بين الوجوه . لم تكن عودتي في وقت مناسب تماما ، بالنسبة لي على الأقل ، وجدت وطني أسيرا برمته ، تحاصره الهموم الشائكة ، ويتمرغ أبناؤه بحيف في أتون الفقر والذل . كانوا بشرا ً نصف أحياء ، وكانوا يختلفون كثيرا ً عن أولئك الذين عشت بينهم قبل الأسر . على الفور أحسست بغربتي ، واهتزاز مشاعري ، تيقنت بأنني سأبقى أسيرا ً ، وها أنذا أذوي وأجف ، ويجرفني الضياع إلى ظلمة النسيان .. رحت أعيش وحيدا ً.. وحيدا ً مثل عمود الكهرباء القريب من باب منزلي .. مثله مهجورا ً ومخيفا ، تتجنبه الناس ، وبين ساعة ٍ وأخرى يقدح شررا ً ، فيقولون احتد جنونه !.
كنت أعمل موظفا ً حكوميا ً صغيرا ً في ما مضى ، وتوجب علي أن أعود إلى عملي بعد فترة قصيرة من إطلاق سراحي و قعودي في البيت ، على الرغم من معرفتي المسبقة بالقيمة المتدنية التي آلت إليها الرواتب الحكومية ، التي لم تعد تكفل معيشة يومين أو ثلاثة من الشهر بأكمله ، حيال استفحال الغلاء ، واستشراء الفاقة والحرمان !.. بكثير من الفتور واللامبالاة عدت إلى عملي . كنت أجلس بين الموظفين مثل قطعة أثاث ٍ مستهلكة ، يستحسن رفعها ليغدو المكان على ما يرام . أصبح وأمسي أتلظى بشظف العيش وبؤسه وأنا في حالة مزرية لا يحسدها أحد ٌ . بعد أيام قصيرة من عملي ، توثقت علاقتي مع زميل سابق ٍ في العمل . كان كنز نصائح ودليل محنة . فتحت قلبي له على مصراعيه . إنه موظف قديم ، وحقيقة ً لم يكن في الدائرة من يقول إنه موظف قديم ، بل اعتادوا القول بأنه واوي عتيق . حرفي ماهر ، يتقن تدبير أمور معيشته بصبر وأناة . كان أسمه ( أبو حافظ ) . وهو معيدي قح ، كحيل العينين ، سريع الحركة ، في قلبه حرارة الشرطي . بشرته بلون دبس التمور الداكن ، لذلك يلقبه الموظفون الأدبس ، وهم لا يميلون إليه . اعتاد أن يثني مؤخر حذائه إلى الداخل ، لأنه يعتقد أن ليس ثمة متسع من الوقت لشد وحل شريط الحذاء كل ساعة ٍ . اعتقد الكثيرون على أنه أفضل من يمكن أن يشغل منصب رئيس عرفاء وحدة عسكرية فعـّالة . أعجبتني كثيرا ً الطريقة الجذابة التي يتحدث بها ، لست وحدي فقط ، وإنما أعجبت الكثيرين غيري أيضا . كان يسهب في الحديث ، ثم يقطعه فجأة ً ويسألك قائلا ً : - هل تريد الصدق ؟.. نهما ً بشكل يفوق الوصف ، ما أن تقع عيناه على موظف ٍ رجلا ً كان أم امرأة ً يحاول أن يرد الجوع عنه بلفافة ٍ من الطعام ، حتى يهب لمشاركته . غير أن الموظفين غالبا ً ما يزجرونه عن فعل ذلك ، وهم يتصايحون به : - كِخ ْ..كِخ ْ.. كان جائعا ً على الدوام ، لماذا لا يشبع ؟ هذا ما يحيرني في أمره !.. ( أبو حافظ ) كبير السن ، لكن الشباب يتحصن في ملامحه وحركاته ، متمسك بعنفوان الشباب أبدا ً. لا يدلف إلى الدائرة إلا وهو حليق اللحية ، نادرا ً ما يظهر بلحية نابتة ، وإن حدث ذلك ، فإن موظف الاستعلامات أول من يندهش ، فيمسح على ذقنه بلطف ويقول له : - خيرا ً إنشاء الله ، عسى أن لا يكون هنالك شر ، إن وجهك غير محشوش اليوم ؟.. قالوا إنه يشبه المصنوعات القديمة بمتانته وجودة صنعه !.. كان ذا وجه مشرق ، بسّام طوال الأوقات ، إن ابتسامته تشرق منورة ً فوق أنفه الصغير ، أو هكذا يتراءى لكل من ينظر إليه . إن هذا الرجل العتيق كثيرا ً ما كان نافعا ً ، اعتنى بي وراح ينصحني ويدير أنظاري إلى الدرب الصحيح ، في أيام العوز والحرمان . كنت مقلدا ً لأفعاله ، وكان خليقا ً بي أن انقاد إليه ، أفعل كما يفعل ، أحمل كل يوم حاجة من أثاث بيتي وأبيعها في السوق ، أحملها على مضض, غير أنه ما آن يصبح ثمنها في جيبي حتى أعود جذلا ً مطمئن البال بما احتاط به . وصديقي هذا محنك ًٌ في تدبير الأمور ، ومجرّب ٌعند مواجهة الشدائد ، يعرف جيدا ما يبيع ، فابتدأت مثله بأواني بيتي وأغطيته وأفرشته ، ثم أتيت بعدها على أثاث المنزل الأخرى !.. لم تمض مدة حتى نضب البيت نضوبا ً محيرا ً ، فضعفت حيلتي وضاق ذرعي , إلا أن بصيرة صديقي النافذة سرعان ما أفضت بي إلى شبابيك الدار وأبوابه الداخلية ، فكنا نقلع بعضها ونبيعها الواحدة تلو الأخرى ، وهكذا كنا نخوض حربا ً سجالا ً لانهاية لها مع ذلك العيش اللعين . وفيما عدا ذلك ، كنت منطويا ً ، اقضي بقية وقتي وحيدا ً ، عاكفا على المطالعة ، التي تقطع دابر التسكع على مفلس مثلي . هل قلت المطالعة ؟.. هل تسميها حقا ً مطالعة ، إذا كنت ترفع كتب الأدعية ، من على سجادة صلاة زوجتك ، وتقرأ فيها ، حتى وقت ٍ متأخر من الليل ؟.. كل الليالي التي مرّت كانت ليالي أسر ، لم أشعر على الإطلاق بحريتي .. ليال ٍ شبيهة ٌ تماما ً بليالي السجون ، الظلام متجلد ، خشن ، أخرس ، قاتم مثل حرّاس البوابات الأمامية في المخيمات ، لا أصدقاء يومضون في السماء ، مجرد قضبان باردة ، قاسية ، وقليل من الحياة .. كانت روحي تتألم بضراوة ٍ ، بينما كان ( أبو حافظ ) رابط الجأش ، قوي الجنان ، لم يُظهِر أي تأثر في مثل هذه الحالات ، وكانت الضحكة الجميلة ترفرف دائما ً فوق عظمة أنفه الصغير ، الشاحب . عندما رآني أتأمل بمرارة وصمت ، عزم على زيارتي في البيت . . لقد زارني بالفعل ، وقف على عتبة الدار وأخذ يصرخ : - أعملوا لي دربا ً .. أعملوا لي دربا ً .. هيا لتلبس النساء عباءاتهن .. تنحنح بصوت ٍ مسموع ، ودخل ، وكنت أركض أمامه وأقول له : - تفضل ، أدخل ْ ، ليس هنالك من أحد .. ألقى ( أبو حافظ ) نظرة ً عاجلة في أرجاء البيت وكأنه رجل تحريات ، وأطرق مفكرا ً وهو يمسد شاربه كأنه عرّاف ، ثم قال : - الآن أصبح بيتك مثل الجامع تماما ً ، الريح تصفر في أركانه ، وليس ثمة شيء عدا الأباريق وهذه الأفرشة الخلقة ، والوسائد الموروثة من العهد العثماني .. قلت بمرارة : - الله كريم ، إنه لم يهلك أحدا ًَ من الجوع .. كان وقتا ً عصيبا ً ، غالبا ً ما يشعر المرء فيه بضعفه وهشاشته ، وقفت بين يديه صاغرا ً كما يقف الصبي بين يدي معلمه .. قال : - أنعم بالله .. أنعم بالله ، ولكن علينا أن نتسلح للأيام المقبلة ، أليس كذلك ؟.. – أنا رهن مشورتك يا أخي .. –إذا ً أفسحوا لنا الدرب حتى نعتلي سطح الدار .. وركضت أمامه أيضا ً ، وأنا أردد : - تفضل .. تفضل ، ليس هنالك من أحد .. تسلقنا السلم الذي تعلوه غرفة واسعة تفضي إلى سطح الدار . توقف ( أبو حافظ )عند الدرجة الأخيرة وأخذ يتملـّى الغرفة بعناية قصوى . ثم خرج إلى السطح وراح يعاين باب الغرفة الحديدي من الخارج ، وكذلك التف حول الغرفة وتفحص شباكها ذا الأظلاف الأربعة ، لم يكن يتكلم بشيء ، كان فقط يدندن مقطعا ً من أغنية ريفية قديمة ، يعيده المرّة بعد الأخرى .. تلفـّت في أرجاء السطح ، وتقدم نحو حبل الغسيل وانتزعه من مكانه !. ناولني طرفه ، وأمسك هو بالطرف الثاني ، وبدأ يقيس به طول الغرفة من الخارج ، وذرع هذا الطول وفقا ً لطول ذراعه ، بدءا ً من أطراف أنامله وحتى رمّانة كتفه ، ليقول : - ما شاء الله طولها ستة أمتار .. ثم ذرع العرض ليجده أربعة أمتار . توقف عن الغناء برهة ً ، وعقد حاجبيه ، وغابت الضحكة عن أنفه .. الضحكة التي لا تغيب اعتباطا ً، وأطرق مفكرا ً شيئا ً من الوقت . وما لبث أن أشرقت ضحكته من جديد ، وهو يرفع رأسه ويخبرني قائلا ً : - إننا إزاء غرفة كبيرة ، شباكها وبابها سليمان وجيدان ، وسقفها معقود بخمسة ألواح حديد سويدي أصلي ، وطابوقها ذهب ٌ ، من طابوق معامل مدينة ( الحي ) ، الذي يجهزه السائق ( عدنان البعثة ) ، كميته جيدة ، حوالي سيارة حمل ونصف السيارة . إن ثمن هذه الغرفة كفيل بإعالتك عشرة شهور على الأقل .. عشرة شهور لا تحك رأسك خلالها !.. لم أستوعب ملاحظته الأخيرة ، لأن المرارة اجتاحت صدري وهبطت إلى معدتي ، فقلت في شيء من الشرود : - هل تعني أن سعر بابها وشباكها يعيلاني كل هذه الفترة ؟.. – كلا .. كلا ، سعر الغرفة بأكملها .. صعقت ببرق .. صعقت حقيقة ً لسماع ذلك ، وكأنه صفعني بكل ما يملكه من قوة ٍ ، ووقفت متوفزا ً ، متوتر الإحساس ، ذلك لأنني لم أكد أسمع بعد بمن يبيع غرفة ً من غرف داره !.. – كيف تباع الغرفة ؟.. – يا لك من قصير النظر ، كيف يمكن أن تباع الغرف ؟.. تباع كأنقاض طبعا ً ، وإلا كيف يمكن أن تباع ؟.. آنئذ ٍ فقط ، وضحت لي مقاصده ، وسارعت أسأله : - هل بعت أنت مثل هذه الغرفة ؟.. – نعم بعتها منذ شهور . لماذا تتردد وتشكك ؟.. أرى أن الوساوس أخذت تتسرب إلى قلبك ، ينبغي على الجميع أن يحتسبوا لمعيشتهم . ثم أمسك بيدي وهو يقول : - هل تريد الصدق ؟.. والله يا سيد محمود أنا في أوقات المحن أفكر ببيع كل شيء .. أفكر ببيع حتى خصيتيّّ .. حينما قلت له ( لا أدري كيف أشكرك على جميل معروفك ) ، وضع يده على كتفي ، نظر في وجهي نظرة المشفق .. نظرة طويلة ، فيها أشياء كثيرة أخرى لا أفهمها .. نظرة لها رائحة تشبه رائحة الملابس المغسولة أثناء ارتدائها . إنه الصديق الأقرب إلى قلبي ، والأكثر غرابة من غيره أيضا !. كثيرا ً ما أتصور أنه هو الذي حرّرني من الأسر . ربما كنت أبدو له مثل طفل متعثر .. طفل غريب ، تائه ، شارد الذهن ، وحيد في هذا العالم . إنني أعترف بأنه سارع إلى احتضاني بمودة وعطف !.. أنتقى واحدة ً من تلك العبارات البليغة الفخمة ، التي اعتاد على مثلها ، وقال لي : - قدّرني الله على مرضاته ومرضاتك .. وهكذا اجتزت شهورا ً بقليل ٍ من العذاب ، كما فتحت هذه الفكرة الرعناء الآفاق أمامي رحبة ً ، وجعلتني أتنفس الصعداء ، إذ رحت ، فيما بعد ، أبيع غرف المنزل الكبير الواحدة إثر الأخرى . لقد تجلى لي الحصار المفروض على بلدي بأوضح صوره أخيرا ً ، يوم وجدت عائلتي محاصرة في غرفة ٍ صغيرة ، واحدة فقط ، بعكس ما كنا قد اعتدنا عليه من سعة ٍ ومكان ٍ رحب ٍ . عشنا وسط الحطام المريع الذي ساد المنزل ، وقد بدا شكل المنزل وأجواؤه كئيبا ً للغاية ، يتراءى كأنه موقع مقصوف بقنابل .. إن الأشجار الثلاث التي تزين حديقة المنزل صمدت ، لم يطلها القلع ، عزمنا على أن تبقى مصدر وقود لنا ، كانت الكثير المرتجى ، كنا نراوح بينها في الحصول على حطب ٍ لقلي الباذنجان .. الباذنجان الرؤوم الذي لا ينمو في الحقول إلا لأجلنا . شجرات في صف ٍ واحد ٍ ، تلقي في باحة المنزل بظلها المتصل العريض .. ظل أشم فيه رائحة الباذنجان المقلي ، لعله الظل الوحيد الذي يتضمخ بهذه الرائحة .. ظل ٌ أسود مزرق ، يفعمني بالثقة من أنني لو شققت بطنه لوجدته ناصع البياض ، ترقد في جنباته حبات بذور الباذنجان الناعمة . إن كل من يعشق الأشجار ويفهمها ، كان يمكن أن ينظر إلى شجراتي الثلاث ، الفاترة ، ليدرك كم هي متعبة ، مقطبة ، و حزينة !.. حملت فراشي ، تركت النوم في كلة زوجتي البيضاء ، لأنام في ركن آخر من البيت بعيدا ً عن المرأة . كنت أفرش بساطي وأنام تحت الشجرات الثلاث . في تلك الليالي الظلماء . كان الليل يلتف في الأشجار ، وأنا تحت الأشجار كانت العصافير تلبد فيها ، وحفيف الريح ينساب في أوراقها يهدهدها و يهدهدني . تحت الشجرات كننت أسمع الليل يبكي تارة ً ويضحك تارة ً أخرى ، ويغفو تارة ً ، ويصحو تارة ً أخرى . وكنت مستلقيا ً وحدي أنام نوم الشجر !.. في النهاية ، أعيت الحيلة ( الواوي العتيق ) كما أعيتني أيضا ، وأعترفَ باستسلامه في أحد الأيام ، عندما أقبل نحوي ولم يكن مبتسما ً كعادته ، إنما كانت هنالك لمحة انهزام فوق أنفه ، وهروب في نظراته ، وقف أمامي مباشرة ً ، وبطنه منتفخ ً ، وقد فقد زرّا ً من أزرار قميصه السفلى ، فبان شعر بطنه مندلقا ً إلى الخارج . قال لي : - أسنانك الخمس أكلت البيت وما فيه ، فلا ترجو بعد اليوم شيئا .. أحسست بتراجعه ، وتزعزع إرادته ، اقتربت منه أكثر إلى حد أوشكت فيه أن ألامسه ، وقلت له بثقة : - حدق ْ في عيوني عميقا ً ، إن رؤاي لم تجف بعد ، أنا تلميذك النجيب ، وسوف ترى مني ما يبيض وجهك ً!.. – إنك تتكلم إلي يا سيد محمود وكأن وجهي أسود ؟.. كنا بؤساء حقا ً ، وكانت الحياة مجحفة ً ، لعينة ً ، أعطيناها كل شيء .. أعطيناها حتى دماءنا ، ولم تمنحنا شيئا ، أردَت بنا كالعميان نتلمس طريقنا في عمه ٍ ، متخبطين ، حائرين !.. أردت أن أرتاح ، ولكن ليس باستطاعتي أن أرتاح !.. باءت بالفشل كل محاولاتي في أن أغفو بعيدا ً عن عذاب التفكير.. التفكير بغذاء اليوم المقبل ، ومصاريف العائلة .. في ليالي الصيف الماضية ، كنت أنتشي بتأمل السماء الصافية المثيرة ، مفتونا ً بمهرجانات النجوم وسحر أنوارها الملونة.. النجوم البراقة الجميلة ، التي تزين السماء مثل بنات ٍ مدللات ٍ في ميعة الصبا ، خرجن إلى مواعيد عشقهن . أسارع لأجلس في فراشي حين تخطف فوقي كوكبة من الطيور المهاجرة ، وهي تملأ دروب السماء بثرثرتها ورفيفها ، كانت روحي تطير إثرها ، تطوف هائمة كما في الأحلام !.. أما اليوم فلم أعد أرى السماء ولا أرى كواكبها ولا الطيور ، إنني أنام ودفتر الديون يغطي عيوني .. أنام وأنا أرسف في قيود أسري ، أرى الأحلام خلف القضبان ، خائفة ً ، ترهب الاقتراب من منامي !.. في ذلك الخضم المدلهم ، وتلك الأيام الرهيبة ، خطرت لي فكرة مدهشة وطريفة أيضا ، ربما كانت بإيحاء من خبلي وخبل أفكاري وأوهامي ، التي ورثتها من سنوات الحرب والأسر المضنية . إذ وجدت نفسي في أحد الأيام منكفئا ً على كتابة قصة طويلة ، أردت لها أن تكون " قصة مثيرة " وأن أبيع هذه القصة إن أمكن ذلك !.. نعم هذا ما جاش في سريرتي .. وطدت العزم على كتابتها ، وليس من المستبعد أن يكون هنالك إنسان يقدم على شرائها .. انفرط حماسي للفكرة المدهشة سريعا ً ، أعددت العدة لمثل هذه المغامرة وثابرت على انجازها بعد أن استقامت وتصلبت فكرتها الرخوة ، المترججة في ذهني . كانت فكرة القصة تجسد قصة حياتي ، بما انطوت عليه من محن ومفارقات وغرائب ، تلك الأمور الثلاثة بإمكانها أن تجعل من هذه القصة نفحات من السحر ، ستخطف الأبصار والعقول ، في تصوري وتقديري ، إنها قصة حياتي منذ أن ختنتني الملائكة ختان القمر، وأنا في أقمطة ولادتي ، وحتى فك جوامع أسري وعودتي إلى الوطن . فكـّرت أن أميط اللثام فيها عن كل حادثة ٍ ولمحة ٍعجيبتين !.. استطيع أن أقول للأمانة ، إنني استعنت وبشكل سافر بمجموعة من الروايات والسير الذاتية القديمة التي كنت أقتنيها ، فأينما أجدني متعثرا ًأمام عقبة كأداء خلال استرسالي في الكتابة ، أسارع لأنهل من تلك الكتب ما يدفعني قدما !.. رغم تعبي ، وعشو عيني ّ ، وإنهاك قواي في الكتابة والتفكير نجحت في النهاية من كتابتها . أقول بكل صراحة إنني طوال مدة حملي بهذه القصة لجئت إلى علف نفسي علفا ً مركزا ً ، حتى كبر الحمل وأطنب ، لأجد نفسي في نهاية المطاف ألد كالنعجة المعسرة ، تلك القصة لم تولد إلا ولادة عسيرة ، ما أن رأت النور حتى حُملت إلى بيت صديق تولاها بالرعاية والسهر حتى تعافت . ولما كانت القصة هي قصة حياتي ، و أنا مازلت حيا ً أرزق ، لذا كانت نهايتها مفتوحة .. مفتوحة بلا خاتمة . كان صديقي ( أبو حافظ ) أول من شرفني بقراءتها ، ولم يتمالك مشاعره ، ودهشته ، وإعجابه , فرك عينيه أمام الموظفين كالمستيقظ من غفوته ، وأعلن بحماس أنه سيجرب كتابة القصص ابتداء ً من ذلك اليوم أيضا ً !.. ثم تقدم نحوي ، وقال : - إنك ستساعدني بكل تأكيد ؟.. طرحت القصة للبيع , في سَورَة من تعليقات الموظفين الساخرة ، ولغوهم الذي لا يطاق ، وذهول وعدم تصديق بعضهم الآخر . بدوت لهم أكثر خبلا ً وحماقة ً من أي وقت ٍمضى . كانوا على يقين بأن ما من عاقل سليم سيجازف ويخطو لشرائها ، فأي أخرق ذاك الذي يمكن أن يستمتع بتهويمات مخبول عائد توا ً من الأسر ؟. لذا بقيت القصة مدة طويلة بائرة ، لم يقلبها أحد على الرغم من أن خبرها شاع سريعا ً وتخطى حدود دائرة عملي . بعد تـفسر تلك السَورَة بأيام ، صُدم جميع الموظفين حينما تقدمت واحدة من زميلاتنا معربة عن نيتها في شراء القصة .. تقدمت بصدق أمام أنظار الجميع ، الذين تلبدت صفحات وجوههم بمشاعر متمايزة ، متضاربة ، عدّوا الأمر من أعجب العجائب . كانت هذه المرأة أرملة ، زوجها كان برفقتي ، ما لبث أن مات في الأسر منذ بضع سنوات ، وهي لم تزل حزينة ، ملفعة بالسواد وفاء ً له ولذكراه الحميمين . كانت مخلصة جدا ً لذكرى زوجها ، وقد حمل وجهها جميع معاني الأسى ، كما حمل شاربا ً خفيفا ً أيضا ، كانت تبدو مثل غلام ٍ دفن وجهه في حجاب ٍ أسود َ سميك . لم تطل المساومة كثيرا ، بعد كلمتين تم ذلك بيسر أمام أعين الجميع ، الذين وقفوا مكذبين هذه الصفقة المحيـّرة !.. وعموما حفزني ذلك الحدث الذي لا يـُنسى ، فيما بعد ، على المثابرة في الكتاية والمطالعة . كتبت العشرات من القصص التي لم يُكتب مثلها من قبل ، حتى ضاقت الغرفة بأوراقي ودفاتري .. قصص ، من يعتلي صفحاتها بأنظاره لا يجد نفسه يقرأ بل يواصل إطلاق الزفرات ، وبث الآهات ، وذرف الدموع . قصص كابوسية ، موحشة ، تطير في أجوائها الخفافيش جماعات ٍ جماعات !. وقد تركت تلك القصص آثارها البينة على ملامح وجهي ، لكنها كانت غاية متعتي ، فرصتي الوحيدة في التحليق عاليا ً ، بعيدا ً عن واقعي المرير ، لقد كانت كتابتها المدى القصير، الوحيد ، الذي أفلح أن أتنفس فيه إنسانا طليقا بلا قيود ، متحررا ً من الأسر .. *********************
حين حدثت هذه الأشياء لم أكن لأدري أن بعد مدة ستمتد يد الزمن لتطوي صفحة سوداء من تاريخ حياتنا .. الصفحة المأساوية بكل عذاباتها وحروبها ، ونكساتها ، لم أصدق أنني عشت كل تلك الويلات لأرى هذا اليوم العظيم ، تغيرت أحوالنا وصرنا نتقاضى مرتبات مجزية سمحت لنا بالعيش الكريم وتوفير ما فقدناه سابقا ً، تحسنت أشياءٌ كثيرة في حياتنا الجديدة ، لا أحد ٌَ ينكر ذلك ، وهجر ت الشجرات الثلاث رفقة الباذنجان .. سرعان ما صار عندي مكتبة و مكتب في البيت . واظبت على المطالعة والكتابة ، ولم أعد أشغل بالي بنصائح ( أبو حافظ ) .. كنت منكبا ً على عملي الوظيفي حين عادت إلي زميلتي تتأبط كتابا ، دنت مني ووضعته أمامي ، ولم يكن سوى القصة التي ابتاعتها مني ، طلبت برجاء أن أضيف إليها فصلا ً جديدا ً ، هو خاتمة القصة ونهايتها المبتورة ، وقد وعدتني أنها ستدفع أجرا ً عاليا ًمقابل ذلك !.. فاجأني ذلك وأربكني ، بقيت لثوان ٍ مسلطا ً عليها عيوني المترددة الخرساء .. أربكني ذلك لسببين , الأول يتعلق بنهاية القصة .. نهايتي ، فأنا مازلت على قيد الحياة ، والثاني إني أتحرج من النهايات كثيرا ً بكل أشكالها وإشكالاتها . ولكن إخلاصا ً لهذه المرأة الحنون التي أسدت إلي خدمة جليلة يوم اشترت قصتي في أحلك الظروف ، تقبلت عرضها وطلبت منها أن تصبر و تمهلني وقتا ً كافيا..
صرت أسهر كل ليلة أنقب عن الأفكار وأبحث عن شوا ردها دون كلل ، علني أعثر على نهاية ترضي طموحي ، وتشفي غليل زميلتي المهووسة بتعقب النهايات . تعبت كثيرا ً دون طائل ، فلا النهايات السعيدة أسعدتني ولا النهايات الحزينة وافقتني . وعلى أي حال استمر الأمر طويلا حتى حدث ما لم يكن في الحسبان ، ذلك إنني متُ ، نعم متُ دون أن أكمل تلك الخاتمة ، أما كيف... فقد متُ مقتولا لتبقى القصة قابعة في درج مكتبي . وبعد أن مرّت شهورٌ على انقضاء أمري ، تقدمت زميلتي إلى أهلي مطالبة ً باسترداد كتابها ، فتم لها ذلك . بعد أن فتحت زميلتي القصة تفاجأت بأن الخاتمة كانت مكتوبة بالفعل .. مكتوبة بخط يدي .. مكتوبة بالحبر الأحمر الذي لم يجف بعد ، الذي تضوع منه رائحة الدم . كتبت هذه النهاية على نسق الفصول الأخرى وبعنوان بارز "جذور الهكسوس الميتة" ، أصف فيها على نحو ٍ فاجع حادثة قتلي ، مبتدئا ً كما يلي : " إن خليطا انصهر في بودقة الرعب, من شذاذ الآفاق , ومن تقيأته الأرض ، من الطرائد ، ومن صيادي الجوائز، وذؤبان العرب ، أوحى إليهم أمراؤهم البربريون ، الغرباء أن يعبدوا إله الدم . انجرفت أسرابهم نحو الرافدين جرادا ً جارحا ً ، من أكلة اللحوم .. جرادا ً اعمي البصر والبصيرة . وذات مساء قاد احد سائسي خيولهم نفسه ليفجرها في العراء .. وكنت أول من تمزقت وتناثرت أشلاؤه ، ولحظة تشظي جسدي ، أدهشني أن القاتل لا يعرف قتلاه حقا ، ولربما لا يعرف المكان أيضا , تناثر دمي ، ودماء النساء والأطفال ، والشباب قلائد عقيق احمر يشع في عتمة المساء...." وهكذا تمضي هذه الخاتمة تروي الجزء المثير من القصة بضمير المتكلم حتى النهاية .. وتوقفني الضرورة برهة لأشير إلى أمر يستحق التنويه , فبعد أن طار خبر هذه الخاتمة المروعة من لسان إلى لسان , من البديهي أن كل لسان صار يضيف إليها كلمة أو كلمتين , حتى تسربلت أخيرا ً بلباس أسطوري ، وكثر حولها اللغط و اختلطت الأقاويل بين الملايين من الناس القاصين منهم والدانين ، الذين شغفهم الفضول لقراءة قصتي يتقدمهم زملائي الموظفون فأعلنوا جميعا عن رغبتهم في شراء نسخ منها . هكذا في مثل تلك الملابسات والمداخلات ، طـُبعت وبيعت أول رواية لي ، لتفتح الآفاق على وسعها أمام عائلتي لطبع العشرات من رواياتي وقصصي الأخرى وبيعها !.. أثلج ذلك صدري ، وأراح ضميري ، إلى درجة ٍ بت فيها أشعر بعمق شعورا ً صادقا ً بأنني لم أمت ، وإنما ما زلت على قيد الحياة ، أعيش في باحة الدار ، مثل شجرة ٍ رابعة ، تخفق بالرجاء بين الشجرات الثلاث .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشطرة ـــــــــ 2006
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
-
نزلاء الفنادق : قصة قصيرة
-
المنفاخ : قصة قصيرة
-
نساء الأنقاض
-
( اللطف العجيب ) ترنيمة جون نيوتن الخالدة .
-
متمسك ٌ بك ِ يا عزيزتي
-
قصة كفاحي : قصة قصيرة
-
القافز بعصا الزانة(قصة قصيرة)
-
حفلة ذبابات آيار القصيرة
-
أسطورة الجندي شيبوب : قصة
-
نخيل العراق يتمايل طربا ً لأشعاركم . ( بمناسبة تكريم الشاعري
...
-
الفراشة الميتة : قصة قصيرة
-
تشابيه
-
الشَطريّون : قصة
-
حكاية ابن ( علي بابا ) : قصة قصيرة
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|