جوي غوردون
الحوار المتمدن-العدد: 1108 - 2005 / 2 / 13 - 11:18
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من المفترض ان ترفع اللجنة المستقلة برئاسة السيد بول فولكر حول برنامج الامم المتحدة "النفط مقابل الغذاء" تقريرها نهاية شهر كانون الثاني/يناير 2005. مر عام واليمين الاميركي يحاول من خلال هذه المسألة ضرب مصداقية الامم المتحدة وعملها.
في ربيع 2004 وبينما كانت تنشط حملة الانتخابات الرئاسية الاميركية وتتكاثر الهجمات ضد الجنود الاميركيين في العراق وتنتشر مئات الصور حول تعذيب السجناء العراقيين، بدأت وسائل الاعلام تتناقل اخبار فضيحة جديدة. نشرت صحيفة "المدى" العراقية لائحة بالشخاص الذين تقاضوا عمولات من عقود غير شرعية لبيع النفط. وقد اتهمت الامم المتحدة بالفساد في سياق وضعها برنامج "النفط مقابل الغذاء" موضع التنفيذ. وفي نيسان/أبريل 2004، نشر مكتب المحاسبة العامة الاميركي تقريرا يؤكد فيه ان صدام حسين جمع اكثر من 10 مليارات دولار من التصدير غير الشرعي للنفط والعمولات على عقود الاستيراد [1] . وصدر مؤخرا عن وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية تقرير في 900 صفحة يؤكد بكل غرابة انه بالرغم من عدم العثور على اسلحة للدمار الشامل في العراق فان الحكومة العراقية لجأت الى التهريب والتزوير لتمويل اسلحة الدمار الشامل.
وقد سارعت الصحافة اليمينية الاميركية الى استغلال هذه الاتهامات بطريقة ميلودرامية. فهرع الكاتب الصحافي وليم سفاير الى التحدث عن "اسوأ فضيحة مالية في تاريخ البشرية" بالرغم من ان فضيحة "انرون" التي تورط فيها قبل عام صديق قديم للرئيس بوش، السيد كينيث لاي، ادت الى خسارة مبالغ بالاحجام نفسها، منها المليارات في صناديق التقاعد للموظفين.
بحسب كلوديا روزيت من صحيفة "وال ستريت جورنال"، فان البرنامج الاممي كان يحمل خاتم "الامتياز والسرية" مما يوحي ان الامم المتحدة وضعت نفسها في مصاف الديكتاتوريات [2]. وقد اكد عضو مجلس النواب كريستوفر شايز الذي ترأس اثنتين من سلسلة جلسات الاستماع في الكونغرس حول هذه الاتهامات، ان برنامج "النفط مقابل الغذاء" قد "سمح لصدام حسين بالتصرف المطلق بمليارات الدولارات من صادرات النفط وشراء البضائع" . [3]
في الواقع هناك بون شاسع بين غالبية هذه الادعاءات والحقيقة. فهناك كمّ هائل من المعلومات حول برنامج "النفط مقابل الغذاء" متوافر بسهولة على موقع رسمي على شبكة الانترنت [4] . فخلال ثوان معدودة يمكن مثلا التعرف على "لائحة التوزيع" الخاصة بكل فصل نصف سنوي حول عمل البرنامج، أي لائحة بجميع اصناف المشتريات التي تمكن العراق من الحصول عليها بواسطة الاموال الواردة من هذا البرنامج. والامر متيسر دائما لتصفح التقارير الفصلية (كل ثلاثة اشهر) للامين العام للام المتحدة والتي تصف بالتفصيل حالة كل قطاع من قطاعات الاقتصاد والمجتمع العراقيين اضافة الى البضائع التي جرى تسليمها واولويات البرنامج وتصدير النفط واحوال الصناعة النفطية العراقية والآلية المعقدة للرقابة على العمليات.
وكان هذا الموقع يحتوي على مخططات تظهر التقدم في انجاز كل عقد من العقود حول بيع النفط واستيراد البضائع. وكانت تدخل اليه اضافات اسبوعية حول الاجراءات المتخذة والعوائق والمتغيرات الطارئة على بعض العقود، الى ما هنالك. واشتمل الموقع ايضا على جميع قرارات مجلس الامن الدولي وجميع التقارير وسائر الوثائق العائدة الى البرنامج ولو ان البعض منها بقي مصنفا سريّا.
ليس صحيحا ايضا ان الامم المتحدة اعطت صدام حسين اي سلطة مطلقة مهما يكن نوعها سواء في شأن الشراء او نقل الاموال او بيع النفط. فبرنامج "النفط مقابل الغذاء" وضع على العكس نظام رقابة ومسؤولية على درجة عالية جدا من الدقة. فقبل ان يتمكن العراق من الحصول على صنف من الاصناف كان على الحكومة تقديم لائحة بحاجياتها مع تبيان وجهة هذه المشتريات ومكان استعمالها. وكان من المفترض ان تترافق اللائحة مع شرح طويل للاولويات المطلوبة في القطاعات كافة من الزراعة الى الغذاء والصحة والتربية الخ...
بعد موافقة موظفي الامم المتحدة على اللائحة وذلك بالتنسيق بين الهيئات الاممية المتخصصة في الزراعة والصحة والتربية...، كان يسمح عندها للعراق بالتفاوض مع المورّد. وكان اختيار هذا المورّد هو القرار الوحيد الذي يمكن الحكومة العراقية اتخاذه دون اذن مسبق. ولم يكن في ذلك اهمال من الامم المتحدة بل ان مجلس الامن قرر بالضبط السماح للعراق بالتصرف هكذا في قراره الرقم 986 وفي مذكرة التفاهم التي تحدد بنود البرنامج.
في سياق الانتقادات اللاذعة التي صدرت من كل الجهات، اتهمت الامم المتحدة بعدم ممارسة الرقابة او طلب كشف حساب حول مبيعات النفط واستيراد الحاجات الانسانية ضمن هذا البرنامج. لكن الواقع مختلف اذا كان العراق يتفاوض حول عقد من العقود حتى يصار الى دراسته بالتفصيل على مختلف المستويات قبل الموافقة عليه. كان يرسل الى مفتشين يتأكدان ان العراق ليس في صدد استيراد مواد تساعده في انتاج اسلحة غير شرعية. كما كان العقد يرسل الى المسؤولين في برنامج "النفط مقابل الغذاء" (ومكتبه في الامانة العامة) لتأكيد مطابقته مع البضائع المسموح استيرادها. يصل بعدها الى اللجنة 661 المخولة فرض العقوبات على العراق وعدد اعضائها 15 يمثلون اعضاء مجلس الامن وهي تعمل بالتوافق مع حق الفيتو لكل الاعضاء.
وكانت الولايات المتحدة تبدي نشاطا ملحوظا داخل هذه اللجنة اذ وضعت في مساعدة مندوبيها فريقا من 60 خبيرا لفحص العقود التي يبرمها العراق وهي مارست حق الفيتو اكثر من اي عضو آخر في اللجنة. فالاميركيون مسؤولون عن تجميد مليارات الدولارات من مشتريات الحاجات الانسانية بالرغم من اعتراض كل الدول الاخرى في مجلس الامن تقريبا. وفقا لتحقيقات الكونغرس فان واشنطن لم توقف اي عقد بسبب شكوك في الاسعار حتى عندما كانت المعلومات تقول ان هذه العقود ستترجم على الارجح رشوة تدفع الى نظام صدام حسين [5]. ما ان يصار الى التصديق على العقد كانت البضائع تسلم الى العراق حيث يكلف مفتش مستقل (من شركة "لويد رجيستر" في البداية ومن ثم من شركة "كوتكنا") بالتأكد من مطابقة البضائع مع العقد. فكان مئات من موظفي الامم المتحدة يقومون بآلاف الزيارات الى المواقع للتأكد من التوزيع المتساوي للمستوردات وانها لن تحول الى اهداف غير صالحة او عسكرية او غيرها.
كذلك كانت مبيعات النفط تخضع للتدقيق وكان الامين العام شكل مجموعة من "مراقبي النفط" وافقت عليهم لجنة 661 من بين خبراء الصناعة النفطية الدولية. وكانت مهمتهم الفحص الدقيق لكل العمليات بما فيها المهل واسعار كل صفقات بيع النفط. وكان هؤلاء الخبراء يرفعون توصياتهم الى اللجنة 661 لان العراق لم يكن في مقدوره ابرام صفقة بيع واحدة للنفط في اطار البرنامج من دون موافقة اللجنة لجهة حجم الصفقة وسعرها ومهل التسليم. لم تمر أي مبالغ من برنامج "النفط مقابل الغذاء" بين ايدي الحكومة العراقية اذ كانت عائدات البيع تذهب مباشرة الى حساب باسم الامم المتحدة التي تدفع بدورها للموردين مباشرة من هذه المبالغ المجمدة. واذا كانت الحكومة العراقية نجحت في تحويل الاموال او الحصول على رشاوى من مبيعات النفط او من عقود الاستيراد في اطار البرنامج، فان ذلك حصل بالرغم من آليات الرقابة البالغة التعقيد والصرامة.
وبحسب تقرير مكتب المحاسبة العامة الاميركي فان صدام حسين نجح في تهريب 6 مليارات دولار من بيع البترول خارج البرنامج خصوصا عبر الخليج. لكن لا الامانة العامة للامم المتحدة ولا الوكالات الاخرى كانت مسؤولة عن وقف التهريب. ان القرار 665 الصادر عن مجلس الامن يدعو الدول الاعضاء التي تمتلك قوة بحرية للتدخل بغية منع العراق من ممارسة التهريب. وهكذا منذ العام 1990 وصولا الى الاجتياح الاميركي عام 2003 فان قوة التدخل الدولية التي تضم سفناً عدة لا تنسق جيدا في ما بينها هي التي تولت المهمة من دون ان توضع تحت اشراف الامين العام او غيره من مسؤولي الامم المتحدة بل كانت على الدوام في إمرة ضباط من الاسطول الخامس الاميركي وعديده عام 2001، 90 سفينة أميركية.
وفق تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الصادر مطلع شهر تشرين الاول/اكتوبر 2004 [6] فان القسم الاكبر من المداخيل العراقية غير الشرعية نتجت من اتفاقات تجارية غير مصرح بها بين الحكومة العراقية وبلدان اخرى حيث بلغت التجارة غير الشرعية بين العراق والاردن حوالى 4،4 مليارات دولار وهي الحصة الكبرى في هذا المضمار. وكان هذا التدبير ثمينا للعراق خلال النصف الاول من التسعينات لانه سمح ماليا باستمرار النظام حتى اقامة برنامج "النفط مقابل الغذاء" في كانون الاول/ديسمبر 1996 [7]. لكن مجلس الامن الدولي والعضو الابرز فيه، اي الولايات المتحدة، كان على علم تام بالصفقات غير الشرعية بين العراق والاردن ولم يحرك احد ساكنا.
يتهم المسؤولون في الامم المتحدة بالسماح للعراق بتحويل الاموال وقبض الرشاوى عن عقود تندرج في برنامج "النفط مقابل الغذاء". وفي مقابلات أجريت معهم بعد سقوط بغداد عام 2003 أكد موظفون في الحكومة العراقية انهم تلقوا الاوامر لتضخيم اسعار عقود الاستيراد بنسبة 5 الى 10 في المئة والالستحصال على الفارق من المورّد. ومع ان الولايات المتحدة اعربت امام اعضاء مجلس الامن في بعض المناسبات عن اقتناعها بوجود رشاوى الا انها لم تقدم ابدا الدليل او المعلومات الكافية كي يتمكن مسؤولو الامم المتحدة من التحرك لمواجهة هذه الظاهرة.
عندما كان موظفو الامم المتحدة يلاحظون ان الاسعار المعروضة تتجاوز اسعار السوق التجارية كانوا يطلبون تفسيرا من البائع وفي حال عدم اقتناعهم بالتفسير كانوا يحيلونه على اللجنة 661. وكانت المواضيع المحالة على اللجنة كبيرة ومتكررة الى حد يمكن معه الاعتقاد بوجود رشاوى تسللت في الصفقات. لم يكن مسؤولو الامم المتحدة يملكون سلطة تجميد العقود بل احالة المعلومات المتوافرة في شأنها على مجلس الامن الدولي. وفي مرحلة العقوبات كانت الولايات المتحدة اكثر بلد حاول بشدة تجميد العقود بالتذرع باسباب امنية. ففي تموز/يوليو 2002 مثلا، علقت الولايات المتحدة استيراد مواد انسانية حيوية بمبلغ 5 مليارات دولار دفع ثمنها الشعب العراقي. في المقابل عندما كانت تصلها معلومات حول فساد محتمل كانت الولايات المتحدة تلتزم الصمت. فقد أحيلت على اللجنة أكثر من 70 حالة مشكوك في تضمنها رشاوى وفي جميع هذه الحالات لم تقرر واشنطن تجميد هذه العقود او تأجيلها.
وفيما تركز الصحافة الاميركية على هذه الفضائح كانت تنسى الدور الكارثي للعقوبات المفروضة على العراق طوال 12 عاما مما ساهم في تسريع تفكيك الدولة والمجتمع [8] اضافة الى فضيحة تحويل مليارات الدولارات في ظل السلطة الانتقالية الحالية [9] . ما يقارب ثلثي العقود من حجم 5 ملايين واكثر والممولة من العراق لم تعقد وفق آلية المناقصة المفتوحة [10] . والغريب ان "فضيحة الامم المتحدة المالية في العراق" تلفت الانظار في اميركا في حين أن الولايات المتحدة مسؤولة في العراق عن فضيحة مالية من الحجم نفسه.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] United Nations : Observations on the Oil for food Program, US General Accounting Office, Washington, 7 avril 2004, GAO-04-651T.
[2] تصريح كلوديا روزيت امام اللجنة الفرعة حول الامن القومي والمخاطر الجديدة والعلاقات الدولية في 21/4/2004.
[3] محاضر استماع اللجنة الفرعية حول الامن القومي بتاريخ 21/4/2004.
[4] www.un.org/Depts/oip/ ; وحول اعمال لجنة فولكر، راجع الموقع www.iic-offp.org/
[5] شهادة جون رودجي امام لجنة العلاقات الولية في مجلس النواب الاميركي، 28/4/2004.
[6] Comprehensive Report of the Special Advisor to the DCI on Iraq’s WMD, 30 septembre 2004, www.cia.gov/cia/reports/iraq_wmd_2004/
[7] Comprehensive Report of the Special Advisor to the DCI on Iraq’s WMD, 30 septembre 2004, section Regime finance and procurement.
[8] Le Monde diplomatique, René Dumont, “ La population irakienne punie par l’embargo ”, décembre 1991 ; Denis Halliday, “ Des sanctions qui tuent ”, janvier 1999 ; Alain Gresh “ L’Irak paiera ! ”, octobre 2000. Et sur Internet : “ Un pays sous embargo ”, www.monde-diplomatique.fr/cahier/irak/huma-intro
[9] Iraq Revenue Watch, Briefing n° 9, décembre 2004, note 2. www.iraqrevenue watch.org/reports/120604.shtml
[10] Iraq Revenue Watch, Briefing n° 9, décembre 2004, note 7. Iraq Revenue Watch Report n° 7, septembre 2004
#جوي_غوردون (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟