وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3792 - 2012 / 7 / 18 - 16:30
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في تعاقب الحكام والانظمة الاستبدادية على مجتمعاتناعلى مدار فترة طويلة من التاريخ ,اخذت تظهر لدى الناس سلوكيات نفسية تبرر هذا الاستبداد السياسي وتعمل على كبح وتعطيل العقل الجمعي والنفسي للناس باتجاه الاحتجاج والتغيير , من قبيل الاخذ بفكرة (الحاكم المستبد العادل )
او تاجيل حلم العدالة الاجتماعية الى ما بعد الموت واحالته الى السماء !!!.
من هنا برزت فكرة البطل المنقذ والمخلص في التراث الرافديني مثل البطل جلجامش وبرزت فكرة ( المسيح المنتظر ) في اليهودية وفي المسيحية , الماخوذة من التراث البابلي . وتحولت لدى المسلمين وخصوصا الشيعة منهم الى فكرة (المهدي المنتظر)الذي سيملا الارض عدلا ورحمة بعد ان ملات ظلما وجورا.
تم تحويل الحلم بتغيير المجتمع الى عملية انتظار سلبية لمجيء الامام الحجة (المهدي المنتظر ),ليقوم بالتغيير بدلا عن جموع الشعب . وفي هذا تعطيل لقدرات الامة الهائلة . وتم استغلال فكرة المهدي المنتظر سياسيا كمشروع للمماطلة والتاجيل والتسويف لاماني الكادحين الى اجل غير مسمى لا كوسيلة لاسعادهم , وهذا الاطار السياسي يتطابق مع برامج التعزيز التي قام بها العالم سكنر في ترويض الحيوانات وتطبيق ذلك على شعوبنا .
كتب الدكتور فارس كمال نظمي في كتابه ( الاسلمة السياسية في العراق – رؤية نفسية ),ط1 – 2012 – عن مركز المعلومة للبحث والتطوير icr d- الناشر مكتبة عدنان – بغداد – شارع المتنبي .
( ابتدع عالم النفس الكندي ميلفن ليرنر Melvin Lerner في ستينات القرن الماضي ,نظرية مشوقة غطت مساحة تفسيرية واسعة من السلوك الاجتماعي عبر بحوثها المختبرية الميدانية الممتدة لحد اليوم ,صارت تعرف بنظرية ( الاعتقاد بعدالة العالم belief in a just world theory يقول ليرنر : ( ان الناس مدفوعون عند مستوى ما قبل الشعور subconscious للاعتقاد واهمين بانهم يحصلون على ما يستحقونه , ويستحقون ما يحصلون عليه في عموم حياتهم . اذ لابد لهذا العالم ان يكون عادلا , والا كيف يمكن تحمل كل هذه المظالم دون ان يكون هناك وهم بانها اي المظالم وجه مستتر من اوجه العدل الذي يكمن خلف كل الاحداث , والذي سيتحقق عاجلا في الدنيا او اجلا في الاخرة .
انه وهم تكيفي يجعل الناس اقل توترا واكثر رضى عن حياتهم البائسة .ولهذا يطلق العراقيون مقولة (حيل بينا ,احنه العراقيين مو خوش اوادم )...ان مشاعر الذنب الجمعي collective guilt في حال بروزها في مجتمع معين ,تعمل تعمل في العادة عند المستويين الديني والاجتماعي على حد سواء .) ..انتهى الاقتباس
وبذلك اصبح العراقيون يمارسون جلد الذات على انفسهم ليبرروا عدم العدالة بالقول ان العراقيين مايصيرلهم جارة , وهم يتحملون الظلم الذي وقع عليهم . الم يوقعوا بالحبر البنفسجي على القوائم التي جلبت السياسيين الى الحكم مع الفساد القائم وحالة انعدام الكهرباء؟ .
من هذا التراث النفسي والديني والاجتماعي ظهرت فكرة المخلص والمنقذ والتي وصلت الى حد تقديس رفاة الشهيد الحلاج لماء دجلة الذي فاض عقب رمي رفاته من اعلى منارة جامع المنصور في بغداد وزيادة خصوبة الارض . وكذلك رؤية الجموع المؤمنين بفكرة ( المهدي ) لعبدالكريم قاسم بعد مقتله على وجه القمر . فكما صعد السيد المسيح الى السماء بعد صلبه , هكذا ارتفع الشهيد عبد الكريم قاسم الى سطح القمر كدليل على ظهور البطل المنقذ والمخلص ( المهدي المنتظر ) .
بعد سيطرة البعثيون على الحكم بانقلاب 17 تموز 1968 بدات الاجهزة المختصة بتطبيق برامج لخلق الازمات لاخضاع الشعب نفسيا وسلوكيا وكان اولها الاختطاف والاغتيال السياسي والاختفاء .وكان اشهرها اعدام ماسمى بشبكة التجسس الاسرائيلة في ساحة التحرير وسط بغداد , وظاهرة الحنطة المسمومة وظاهرة جرائم ابو طبر المرعبة , وظاهرة المصارع عدنان القيسي , وغيرها كثير .
وقد سيق ان كتبت في مقالتي( الغزو الفكري والثقافي الامريكي للعراق – رعدالحافظ انموذجا )قيام السلطات العراقية بالقطع المبرمج وغير المبرمج منذ حقبة البعث والى اليوم لاخضاع الشعب وفق جداول التعزيز التي اكتشفها عالم النفس السلوكي الاميركي ( بورهوس سكنر ) b.f. skinner (1904 – 1990 )مستخدما اياها ببراعة في تشكيل سلوك الحيوانات معمما هذا التكنيك فيما بعد على السلوك البشري ضمن ما صار يعرف بمذهب ( الحتمية الاجتماعية ) .( انها محاولة لمكننة السلوك البشري , وافراغه من مضمونه الانساني الكامن , واستلابه بيولوجيا ونفسيا عبر تقنية تقطير الحياة في فم الانسان , وصولا به الى فقدان الامل والعجز المتعلم والاكتئاب الجمعي والخواء الوجودي المر ,اي تعطيل المشروع الحضاري والجمالي للجماعة والامة العراقية , واحالته الى محض جداول انتظارخائبة لساعات القطع المبرمج . فلكي تحصل ايها العراقي على الكهرباء , عليك ان تعاني وتهان وتتحنط وينكل بكرامتك وتموت روحيا .فالالم الثابت والقهر المستمر طريقك الوحيد لقطاف راحة مؤقتة . فاي فلسفة عبثية لمعنى الحياة , جرت محاولة فرضها على المجتمع؟ ومايقال عن الكهرباء يقال ايضا عن نظام الحواجزالكونكريتية والسيطرات الامنية والازدحام الكثيف للسيارات في شوارع بغداد .فالوصول الى مكان عملك يعتبر مكافاة عليك ان تعاني الساعات الطويلة في طوابير السيارات للحصول على المكافاة وهي الوصول الى العمل !!!
ان الفئران التي طبق عليها سكنر تجاربه وجداوله قدمت انساقا من قوانين سلوكية محايدة يمكن توظيفها لتحرير الجوهر الانساني او تشويهه ,تبعا للمنظور الغرضي للمؤسسة . فجرى استثمارها من قبل المؤسسة الراسمالية الامريكية لادامة مشاريعها الكولونيالية الساعية لتسليع الانسان وتعليبه في كل البلدان التي وطاتها جزمتهم السادية على نحو مباشر او غير مباشر , ومنها العراق .
يكتب الدكتور فارس كمال نظمي في نفس كتابه :
ان ما يمنع او يعوق اي جماعة مضطهدة من التحرك والاحتجاج لمقاومة المظالم الواقعة عليها ,يمكن ايجازها بالنقاط التالية :
1 – رؤيتها بان النظام الاجتماعي القائم غير مسؤول عما يصيبها من مظالم .
2 – اعتقادها بشرعية الاوضاع القائمة ووجوب استمرارها .
3 – عدم امتلاكها لدوافع اخلاقية كافية تحثها على الاعتراض .
4 – توقعها بان الاخطار والتكاليف الناجمة عن الاحتجاج تفوق فوائده وارباحه .
5 – اعتقادها بعدم فاعليتها , اي عدم امتلاكها لقدرة النجاح بتحقيق اهدافها المرجوة .
6- اعتقادها بعدم امكانية تغيير الاوضاع .
7 – عدم توفر اطار ثقافي- اجتماعي لادراك الظلم ومقاومته .
ان الاغلبية الساحقة من الشيعة قد استبدلوا وعي التصدي والاحتجاج والثورة بالمسيرات المليونية مشيا على الاقدام , القائمة على البكاء وجلد الذات والدوران حول مراقد الائمة الذين قاتلوا بسيوفهم الحكام المستبدين , في عقلية ونفسية جمعية قل نظيرها . وبدلا من نزعة الاحتجاج والثورة قام الشيعة بالانتظار السلبي لمجيء الامام المعصوم .المهدي المنتظر , والذي يتحمل وحده مسؤولية التغيير , او السماح بالاحتلال الاميركي باستدراجهم الى ممارسة انماط عقيمة من العنف لم تزدهم الا فقرا وجهلا اشد بجوهر قضيتهم .
كيف السبيل لاستبدال الهوية النفسية الجمعية الشيعية من السلبية والخنوع والانتظار الى الايجابية والاحتجاج والثورة ؟
يكتب الدكتور فارس كمال نظمي في نفس كتابه :
( لن تستعيد الهوية العلوية عافيتها الا عندما يجرؤ مثقفوا الشيعة المتنورون ومصلحوهم العقلانيون في العراق على توحيد جهودهم لاستثمار الامكانات عبر البرنامج التالي :
1 – ان التشيع السياسي الثيوقراطي هو قتل للتشيع العلوي بمبادئه الثورية الرافضة للظلم الاجتماعي . فدمج الدين في بنية السياسة هو الغاء للدور الاخلاقي المستقل الذي يمكن ان تمارسه العقيدة الدينية لنقد المجتمع والدولة واصلاحهما .
2 – الماسي التي خلفها الاحتلال الامريكي ومازال يعيد انتاجها كل يوم ,هي امتداد موضوعي لماسي الحروب والاستبداد خلال العقود الاربعة الماضية .
ان المرحلة الحالية تستلزم تطويرا مبدعا للفكر الشيعي ليستوعب تعقيدات الحاضر باساليب واقعية مرنة لاتنقصها الاخلاقية , وبممارسات شعبية واعية بان القضية الجوهرية للتشيع ليست حصر السلطة بايدي ال البيت ,بل مواجهة الظلم الذي يلحق بكل الناس بتنوع اعراقهم ومذاهبهم وافكارهم وتحرر الانسان من سلطة الانسان المستبد .
3- ان الطاقة البشرية الهائلة التي توظف في اداء الشعائر الحسينية ينبغي استثمارها نحو ابتكار اساليب احتجاج عقلانية مشروعة لمقاومة اركان الظلم , وهو الذي نستطيع ان نطلق عليه (لاهوت او فقه التحرير ).
4 – لامعنى للنضال الشيعي نحو الحرية والعدالة الاجتماعية دون اطار وطني .
5 – لايتعارض الكفاح الشيعي ضمن اطاره المذهبي مع التفاعل الخلاق مع طروحات التيارات الفكرية والثقافية ذات التوجهات اليسارية والديمقراطية والليبرالية والعلمانية في العراق . وكذلك المؤسسات الاكاديمية المتخصصة بالعلوم الاجتماعية , والانفتاح على افكارها وطروحاتها , بل ان تحالفا او كتلة تاريخية من هذا النوع قد تشكل مدخلا لعملية انقاذ حاسمة لحضارة العراق ومستقبله ) . انتهى الاقتباس .
ان تصحيح الخلل في النفسية العراقية يستلزم برامج تنويرية وتطويرية لتوجيه الطاقات الهائلة للجماهير المتدينة نحو مسارب عقلانية اجتماعية تحس وتشعر بالظلم الواقع عليها . تقوم هذه البرامج باستفزازها للخروج من الجمود الفكري والديني والمذهبي , والرجوع الى عالم الحرية بالتعبير عن نفسها في حركة احتجاج واسعة ضد الظلم .
على الماركسيين والشيوعيين والعلمانيين والليبراليين التصالح مع تاريخ وتراث الامة العراقية ودمج الماركسية بالعلوم الانسانية كافة ومن ضمنها التراث الديني .ولكن هذا الدمج لايتم ضمن الاطار العقائدي والغيبي للدين , ولكن باطار عقلاني وتنويري وحداثوي,يستهدف قيام وتحقيق مشروع الامة العراقية ويقوم بربط الاشتراكية والشيوعية بتراث امتنا القديم والحديث لاعطاء روحانية شرقية للماركسية الغربية .
ختاما على المودة نلتقيكم ...
المصادر
جميع المقتبسات ماخوذة من كتاب :
(الاسلمة السياسية في العراق –رؤية نفسية ) ,للدكتور فارس كمال نظمي , ط1- 2012 – عن مركز المعلومة للبحث والتطوير – الناشر مكتبة عدنان –بغداد – شارع المتنبي
للبحث عن الربط بين الماركسية والاشتراكية والشيوعية بتراث العراق ودياناته , يرجى الرجوع الى الموقع الالكتروني التالي :
جمعية الاشتراكيين الروحالنيين في الشرق (الحوار المتمدن – جوجول )
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟