|
(1)صوت
هدى الجهوري
الحوار المتمدن-العدد: 1107 - 2005 / 2 / 12 - 11:20
المحور:
الادب والفن
أحاول الآن أن أتغلب على هذه الحركة الغبية التي بدأت تدير كعبها العالي على رأسي عقارب الساعة ..الضوء.. السيارات التي تقطع الشارع المجاور لبنايتنا، والمطر الذي يصفع الشجيرات الصغيرة التي نستها جارتي على شرفتها في يوم بارد كهذا. أفترش الأرض ،وأتكىء على طرف السرير لأشعر أن الأشياء ان أن أتغلب لك قابلية مخيفة على خذلاني أشعرأيضا أن الأشياء التي تتحرك حولي تمتلك قابلية مخيفة على خذلاني لأنها يوما لن تقف لتتبادل معي القهوة والعناء . أحاول جاهدة أن أعطل هذه الحركة لكن أصواتها تتصاعد كالأبخرة أو كصداع في الرأس هذه الأصوات هي نفسها أصوات الأصدقاء حين تندس أنوفهم الكبيرة في حكاياتي ، هي نفسها أصوات الأطفال الذين يشجرون الشارع بلعب الغميضة ، وهي أيضا أصوات النساء اللواتي يعلكن النميمة ثم ينفخنها كبالون صغير يفرقع الحارات المجاورة أفكر الآن أن الأصوات سبب حقيقي في إصابتنا بالخرف باكرا فثمة أصوات تصيبك بالهلع وتدفع قلبك لأن يقفز من فمك، وأصوات تنحني عليك كمظلة، وأصوات تأتيك راكضة على غيمة فرح وأخرى تتعثر قبل أن تحتفي بسماعها أفكر أيضا بضرورة أن نعلق أجراسا صغيرة على حناجر من نحب كي لا يضيعوا منا حين تعقد الأصوات حقائبها ويتورط الموتى بالإيماء . الأصوات طويلة كالنخل تشعرك برغبة هائلة في أن تثقب رأسها برصاصة .في أحيان كثيرة ألصق يدي على أذني وأصرخ : اصمتوا ..أصواتكم تجعلني أحب وأخاف وأبكي وأصفع الهواء بقدم القهقه ..لكني دائما اكتشف أن صوتي يرتجف ولا يدحرج كلمة
ما لون صوتك ياأمي ..ما طعمه ؟ ولماذا حين دغدغ أذني لأول مرة رفست الهواء بقدمي ومددت أصابعي كبراعم ..كم كان طول صوتك وأنا أحبو نحو الدرج الذي لم أتمرس بعد الصعود إليه ولم ارتبكت حين انفلت صوتك مني وقد أودعتني لأول مرة في يد المعلمة ..كنت مكتفية بصوتك يمشطني كالعشب وكمشجب أنيق أعلق عليه أمنياتي لم أكن أعرف أيضا أن للأصوات رائحة ولكني يومها اكتشفت أن صوت المعلمة يحمل رائحة بومة ربما لأنها ضربتني في أول يوم دراسي لي ولم أخبر أمي حتى لا يتغير لون صوتها الذي أحافظ عليه طريا وناعما وبرائحة القرفة .أصوات البنات في الصف ملبدة ربما لأني احتفظ بمسافة جيدة بيننا . قبل أن أنام وحين تغلق أمي الضوء في غرفتي وتحمل صوتها للنوم بعيدا عني أشعر بالخوف من صوت الظلمة الذي يتراقص بالقرب من الشراشف البيضاء أفكر دائما في أن أختبئ تحت السرير لأسترخي على بطني وأمد أصابع يدي العشرة لأشعل صوتها فلأصابعي حكايات حين أسمعها تنام الظلمة خارج غرفتي . ذات مرة مددت اصبعي على لسان أمي لأتذوق صوتها لم أعرف وقتها ما طعمه لكني أدمنت عادة سيئة أن أمص إصبعي إلى سن متأخرة . الجميع أشار إلى أمي أنه تصرف ينم عن نقص عاطفي ..لم يكونوا بعد يفهمون أني أتذوق صوتها .عندما رزقت أمي بطفلة جديدة استبدلت رائحة القرفة في صوتها برائحة شمع يذوب ، واستبدلت أنا عادتي في مص الإصبع برضاعة الدمى لساعات طويلة في غرفتي . وحين أصبح لي قدمان تحملاني لأبعد من مزرعتنا اكتشفت أن العالم أكبر من صوت أمي وأقل أمنا وقتها سألتها عن أول صوت تسلل إلى أذني فقالت لي : كان جدك حين أذن في أذنك ...لا أذكر ذلك جيدا لكن لصوت جدي رائحة مربكة لم أتكهن بعد ماهي لكنها كثيرا ما تقرعني كطبلة .أبناء جيراننا الذين شاطرتهم اللعب والحكايات ،وكنت أخترع لهم الأسماء والمسرحيات التي تروق لهم أستعين بهم في أحيان كثيرة لكي يسرقوا لي القصاصات التي يخلفها الخياط لأصنع منها قمصانا للدمى لأن أصواتهم أطول قامة من صوتي حين يغضب الخياط الهندي الذي يملك صوتا لا أفهمه ولا أجيد التعاطف معه لإعتقادي أنه نسي صوته في الهند وجاء بفقاعة تبقبق في فمه . كثيرا ما كنا نسرق القصاصات ونركض لنتسلى برغوة الغضب التي تهدر في حنجرته . أختي ورغم أنها لا تجيد سرقة القصاصات مثلي كانت أكثر مهارة مني في حياكة القمصان للدمى ولم أكن أشعر بالحسد منها لأنها فتاة لا تستهلك صوتها بالأحاديث التافهه مع أبناء الجيران .دائما كنت أخشى أن أموت وفي فمي حكاية لم أقلها وحين يحصل أن أتذكر حكاية أنام على بطني تحت السرير وأشعل رؤوس أصابعي لأندلق بالثرثرة الطويلة . كنت أدرب صوتي ليصبح له رائحة ضوء لكني أصبت بالخذلان حين أصبح له رائحة قبو قديم ...لماذا يحصل ذلك معي أنا امرأة الحكايات والفرح ..بعد زمن قصير أصبح لأختي التي تصغرني بعامين صوت برائحة الضوء ...لا أدري هل ينبغي أن أكف عن تبادل الكلام أخشى أيضا أن أصاب بسكتة صوتية .أبناء الجيران الذين كبروا وأصبحت لهم لحى وشوارب بدأوا ينفرون مني كلما جمعتنا الشوارع لأن رائحة صوتي أصبحت نتنة كرائحة قبو قديم ..خيار صعب أن أبتلع صوتي وأمضي بكل عتمتي . أمي شعرت بالفرح لأني بدأت أعتني كأختي بلياقتي في تداول الأحاديث بصوت منخفض ، ولأني أيضا بدأت أضع يدي على فمي كلما ضحكت لم تكن تعرف أني أخشى أن تتسربل رائحة صوتي بينهم كفضيحة . لم أعد ملائمة للعيش ولتبادل الحلوى والمقالب والركض لا أستطيع أيضا أن أخترع المسرحيات والأسماء .سأبقى في البيت وأراقبهم وهم يكبرون بعيدا عني وسأشعر بالخجل كلما مروا بقربي .أختي أيضا تجلس في البيت مسترخية تخيط الفساتين بشكل متقن وأنا أشك إصبعي بالإبرة ..لم أحسدها يوما لكني الآن أتآكل من الداخل لأن لصوتها رائحة ضوء .
الرجل الذي طلب يدي من أبي طلب أن يراني وأنا طلبت أن أسمع صوته .صوته مغلق لا تتسلل إلية الشمس لكنه يجيد دهنه بالأصباغ أخبرني والدي أنه رجل نزيه .فتحت عينا للدهشة رجل نزيه وجدار صوته لا يملك ثقبا يمرق من خلاله خيط ضوء من الأكيد أن والدي كان يمزح ولكني وقتها لم أستطع أن أرفع صوتي حتى لا تفوح رائحته . أمي استعادت رائحة القرفة في صوتها حين اعتقدت أني عروس ينقصها الحناء والرقص . لا أدري لماذا شعرت وقتها برغبة ملحة في أن أمرر إصبعي على لسانها لأذيب طعمه في فمي . أختي قالت : سيخفت جنونك عندما تتزوجين ..هل كانت تعني أن زوجي سيتبرع لي بنصف العقل الذي ينقصني ...؟ كنت وهو نتشابه إلى حد مخيف في صوتينا لدرجة أنه حين يكلمني أشعر أن الصوت القادم هو صدى لصوتي رغم إعتنائه الباذخ بالأصباغ المغوية والألوان العالية الجودة التي بدأ يقتنيها مؤخرا..سألني ذات مرة وهو يداعب أصابعي بين كفيه : لم لا تلوني صوتك ......؟ اقشعر بدني ولبسني الخوف شعرت برائحة صوتي الكريهه تتدافع في المكان .جذبت أصابعي من بين كفيه وركضت بكل خوفي وقلبي الذي بدأ يغدق ..لماذا طلب مني وهو يضغط على أصابعي أن ألون صوتي ...هل كانت تزعجه الرائحة ...سأتبرع بصوتي للجحيم ..سأبيعه في سوق الخردة ..سأرش عليه المبيدات الحشرية لكني لن أشتري له الألوان والأصباغ ...أركض ...أركض ....الجميع يلتفت لي والرائحة ترشح من أنفاسي وصوتي يضمر. حين شرعت بالبكاء أيقن والدي أن الرجل الذي طلب يدي منه لم يكن نزيها ، واستبدلت أمي رائحة القرفة في صوتها برائحة شمع يذوب ...هكذا هي تبدل صوتها كما تبدل جاراتها ، أوالصحون التي تصفها على واجهة المطبخ ..أختي لا تستهلك صوتها ترقبني بنصف عين مدعية أنها منشغلة بالحياكة ....صوتي الآن تنهشه ديدان العتمة ربما سيقع دفعة واحدة
#هدى_الجهوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روى النضال الفلسطيني في -أزواد-.. أحمد أبو سليم: أدب المقاوم
...
-
كازاخستان.. الحكومة تأمر بإجراء تحقيق وتشدد الرقابة على الحا
...
-
مركز -بريماكوف- يشدد على ضرورة توسيع علاقات روسيا الثقافية م
...
-
“نزلها حالا بدون تشويش” تحديث تردد قناة ماجد للأطفال 2025 Ma
...
-
مسلسل ليلى الحلقة 14 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
فنانة مصرية تصدم الجمهور بعد عمليات تجميل غيرت ملامحها
-
شاهد.. جولة في منزل شارلي شابلن في ذكرى وفاة عبقري السينما ا
...
-
منعها الاحتلال من السفر لليبيا.. فلسطينية تتوّج بجائزة صحفية
...
-
ليلة رأس السنة.. التلفزيون الروسي يعرض نسخة مرممة للفيلم الك
...
-
حكاية امرأة عصفت بها الحياة
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|