سلمان مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 3784 - 2012 / 7 / 10 - 14:36
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ان الواقعية التي كان يراها محمد (ص) لاتقتصر على الحاضر ، لايتاملها فحسب ، بل كان يقررها ، لما كان يحمله من مؤهلات تجعله يقرر المستقبل قبل مجيئه ، عكس البعض ، الذين لاتبتعد رؤيتهم عن موضع اقدامهم ، وهذا ما حصل فعلا بالنسبة ( لصلح الحديبية ) والذي وجده البعض من اصحابه تراجعا امام قريش ، للشروط التي كانوا يجدونها في صالح قريش ، وما اكد لهم هذا ، هي قصة ( ابا جندل ) ، مما دفع احد الصحابة ان يجاهر في اعتراضه لهذا الصلح ، الا ان محمدا (ص) كان يرى فيه عاملا من عوامل الاسراع في حسم الصراع لصالحه ، لابالسيف بل بالسلم و الامان ، الذي هو جوهر دعوته التي تستند على مبدا ( وان جنحوا للسلم فاجنح لها ) وقد يكون هذا النوع من السلم والموادعة غريب عن اهل الجزيرة ــ انذاك ــ لان حياتهم كانت تدور مع دوران مصالحهم المادية ، حتى السلام الشكلي الذي كانوا يحققونه باسلوبين ، الاول : يعتمدون فيه على ( الاشهر الحرم ) والتي يحرم فيها القتال ، وحتى هذا كان يخضع الى المصالح المادية ، فتبدل الاشهر تلك من سنة الى اخرى ، وهو ماعرف ( بالنسيئة ) ، وكان يتم حسب المصلحة ، وهذا يعد اعلى درجات ( الانتهازية المجتمعية ) في اقدس ما كانوا يدعون الايمان فيه . اما الاسلوب الاخر الذي كانوا يحققون الامن والسلام بة ، فانه ايضا لايخرج عن حساب المصالح المادية ، فقريش التي باوج قوتها وجبروتها ، غير قادرة على تحقيق ذلك الامان والسلام الاعن طريق ما يعرف ( بالايلاف ) وهي معاهدات تعقدها قريش مع القبائل التي تمر تجارتها بها ، مقابل اموال تدفعها اليهم ، اذن هذا السلام الذي فهمه البعض ، لذلك وقفوا معارضين لمحمد (ص) في عقده ( صلح الحديبية ) ، ولكن اين هذا من هؤلاء الذين لازالت ( البداوة ) تعشعش فيهم ، في حين محمد (ص) اراد ان يستغل هذا الافق الواسع الذي وفره هذا الصلح ، فانطلق من خلال الدعاة الذين اوفدهم الى ارجاء الجزيرة ، من البحر الى البحر ، ودون سلاح ، وهذا الذي استغربت القبائل منه ، وتاكدت بانها ستغادر عصور ( الدم و الثار ) ، فاستجابت ليس فقط للعقيدة ، بل للحياة و الدعة و الامان ، وهذا الادراك لم يقتصر على القبائل تلك ، بل حتى قريش ، الطرف الاخر للصلح ، ايضا ادركت هذا الامر ، ولكن شتان ما بين موقفها وموقف القبائل الاخرى ، فقريش وبحسها المصلحي و الاناني ، وجدت ان هذا الصلح هو نهايتها ، لانه عمليا لايصب في مصلحتها ، كما توهمت اول الامر ، لذلك لابد من عمل شئ لتقويض الصلح والعودة بالصراع الى ما كان عليه ، وبالاسلوب الغاشم ، الذي تمثل بالغدر و الوقيعة ، وذلك بافتعال حادثة معروفة ، فما كان لمحمد (ص) الا الاستجابة للواقع ، مستغلا الشرعية ( القانونية ) ــ ان جاز لنا تسمية ذلك ــ ، فوجد نفسه في حل من الالتزام بالصلح ، فاعد نفسه للجولة الحاسمة ، التي ستطوي صفحة قريش ( السيدة ) الى قريش ( الطلقاء ) ، فكان تحرير (مكة) ، لاكما اسماه المؤرخون ( فتح مكة ) لان كلمة (فتح) تعني بالعرف الحربي عدة امور منها : 1 / ان الفاتح دائما يكون اجنبيا ، ليس من اهل البلاد المفتوحة ، ومحمد (ص) من اهلها .
2 / الفتح دائما ما يكون عنوة ، ودخول محمد (ص) كان عن طريق القلب ، وليس بتدافع الاجساد .
3 / الفاتح دائما ( ياخذ ) من البلاد المفتوحة ، الا ان محمد (ص) اعطى ولم ياخذ .
4 / الفاتح ينكل باهل البلاد المفتوحة ، الا ان محمد (ص) اعز واكرم اهل مكة .
5 / الفاتح يجثم على صدر البلاد المفتوحة ويبقى فيها او من ينوب عنه ، الا انه عاد الى المدينة ، موفيا للانصار
بعهده ان يبقى معهم ولايتركهم .
لذلك كله ، لااعتبر ( دخول مكة فتحا ) بل كان تحريرا ، وان جاز ان نعتبره فتحا ، فهو فتح بالروح و المحبة . ومصداقا لما تقدم ، حيث انه عندما دخل مكة وطاف حول البيت ، قال لاهل قريش : ( يا معشر قريش ما ترون اني فاعل فيكم ؟ ) قالوا : خيرا اخ كريم وابن اخ كريم ، فقال : ( اذهبوا فانتم الطلقاء ) وتعبيرا عن مشروعه السياسي المستقبلي الخاص بمكة ،لاهميتها المحورية لمستقبل الدين و الدولة ، مهما اتسعت دائرتيهما الاقليمية و البشرية ، فجعلها ( حراما ) فحرم القتال فيها ، حتى انه قال فيها : ( فهي حرام من حرام الى يوم القيامة ، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الاخر ان يسفك فيها دما ، ولا يعضد شجرة ، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ) ودائما ، في الاقسام السابقة من الموضوع اكرر ، انها تجربة ( محمدية ) ، فالانحراف حصل بعده ، في اخص المحرمات التي اقرها وهي (مكة) باعتبارها ( البيت الحرام ) فقد ضربت بالمنجنيق في احدى سنوات حكم ( يزيد بن معاوية ) الثلاث .
اعودللتطبيق العملي لحرمة مكة ، فانه جعلها قاعدة اكثر من دستورية او قانونية ــ حسب المصطلحات المعاصرة ــ فمن جملة الاجراءات التطبيقية لهذه القاعدة ، فبعد ان قتل رجل من المشركين ، من قبل شخص يدعى ( خزامة ) حيث امر محمد (ص) باعطاء ( الدية ) على ان تكون حادثة من هذا النوع مستقبلا ، سيكون لاهل القتيل الحق بالقصاص ، وان شاؤا ( عقلوه ) ، ومن التطبيقات العملية لحرمة مكة ، بان جعل حرمتها و خاصة ( البيت الحرام ) ، مساوية لحرمة بيت اي شخص ن كان سيدا او مسودا ( ....... ومن دخل بيته فهو امن . ) ، وما يؤكد منهجه في توسيع مفهوم الحرمة هذه والعمل على تطبيقها ، احتراما للحياة ، ما جاء بخطبته في حجة الوداع ، فعلى طريقته الحوارية ، سال من كان معه عن الشهر الذي هم فيه ، وعن البلد الذي هم فيه ، وعن اليوم الذي هم فيه ، فيجيبون عن كل سؤال ، ويرد عليهم في الامور الثلاثة بوصيته ، فيقول لهم ( ان الله قد حرم عليكم دماءكم واموالكم الى ان تلقوا ربكم ....... ) كحرمة ذلك الشهر ، وتلك البلد ، وذلك اليوم . يا ترى لو امتد العمر به سنينا اخرى ، الا ترى ان دائرة حرمة الدم و الارض و الايام ، لتوسعت ولتحقق حلم الانسانية ، بان يترك الذئب يسرح مع الشياه دون خوف ، كيف اذن بالبشر ؟ ، ولكن ماذا تقول لسياسة الاستاثار التي سار عليها من جاء بعده ، فاصبحت تلصق به وبدعوته ظلما وعدوانا . وان بوادر هذا الانحراف ــ لافقط ظهرت بعده ، كما اشرت سابقا ــ بل ظهرت حتى في عهده ، فبعد ان استتب الامر في مكة ، ارسل ( خالد بن الوليد ) مع قبائل من العرب ، داعيا ولم يبعثه مقاتلا ، الا ان خالدا عرض الناس على القتل ، بالرغم من انهم وضعوا السلاح ، فلما انتهى الخبر الى محمد (ص) رفع يديه الى السماء ثم قال ( اللهم اني ابرا اليك مما صنع خالد بن الوليد ) . واستمر هذا الموقف من خالد الى المراحل اللاحقة ، وانعكس هذا الامر على موقف ( عمر بن الخطاب ) ، من خالد فعندما ال امر الحكم الى عمر ، عزل خالدا ــ كما هو معروف ــ .
في ذلك اختم القسم ما قبل الاخير للموضوع ، الذي يستنتج منه ان واقعية محمد (ص) السياسية بعد دخوله مكة ، اصبحت ذا معنى اخر يختلف عن واقعيته في المراحل السابقة ، حيث كانت تمثل نوعا من الاستكانة و الرضوخ للامر الواقع ــ في حينه ــ ذلك لاختلاف موازين القوى لصالح قريش ، ولكن بعد دخوله مكة ، اصبحت واقعيته السياسية افتراضية ، اي انها تستشرف المستقبل ، الذي اراده لهذه الامة ، ولكن ماذا تقول للذين جاءوا من بعده . هذا ما يسع لواقعية سياسته الداخلية ، على ان ناتي على الواقعية السياسية / الخارجية ، في القسم الثالث و الاخير من هذا الموضوع .
#سلمان_مجيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟