|
كيف تصنع إلها؟
محمد أبو زيد
الحوار المتمدن-العدد: 3782 - 2012 / 7 / 8 - 16:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حين كان العرب قبل الإسلام يصنعون آلهة سواء كانت من الحجارة يطوفون حولها، أو من العجوة تشبه آباءهم القدامى، يتبركون بها ثم يأكلونها، وحين قرر بنو إسرائيل أن يصنعوا عجلا ليعبدوه، لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لرغبة الإنسان الدائمة في البحث عن قوة عليا، حتى لو كانت من صنع يده يدين لها بالولاء، ويتحرك خلف إشارتها. بعد قرون من صناعة آلهة من الوهم، أدرك الإنسان أن بإمكانه أن يصبح إلها أيضا، فتوقف عن صنع آلهة متخيلة، من العجوة أو من الذهب، وقرر أن يصبح كعبة يلتف حولها المريدون، وهو الأمر الذي اتخذ صورا مختلفة عبر التاريخ، حتى أصبحت هناك مصانع متخصصة في صناعة الآلهة أو القادة أو الزعماء. يرى برنار لويس أن الزعيم يعتبر لفظاً عربياً دارجاً، يشير إلى القائد السياسي الكاريزمى ويقابل فى اللغات الأخرى الفاظاً مثل (الفوهت) و (الدتش) و (الكوديللو) إلى آخر هذه القائمة، فيما يرى (جاك بير ) أن الزعيم فى العالم العربى يفترض فيه التعبير عن الإجماع التقليدى للأمة كما أن شخصيته ترتبط بلون من ألوان الإلوهية، إذ جاز التعبير ويعد سعد زغلول – زعيم الأمة – والحبيب بورقيبة – أو المجاهد الأكبر – من الشخصيات القيادية التى تنطبق عليها تلك الصفات وفي كتابه "صناعة الآلهة ـ دراسة في أساليب الدعاية للقادة السياسيين"، الصادر أخيرا عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، يتتبع الكاتب والباحث محمد فتحي يونس طرق صناعة الزعماء / الآلهة، والوسائل الدعائية التي يعتمدون عليها في ذلك، وذلك عن طريق آلة دعائية، يشبهها الكاتب بعمليات السحر الفولكلورية، التي يتم بمقتضاها السيطرة على عقول أتباع كثر، عبر أساليب وتكنيكات متنوعة، يشترك فيها القائد السياسي كساحر رئيسي فطري يملك أدواته أو عبر سحرة مساندين، يتجمعون على مسرح الحكم أملا في امتلاك السلطة لأطول فترة ممكنة، ويتحول خلالها القائد إلى ما يشبه إله يوناني ينسب الأتباع إليه الخوارق إلى أن تنتهي الحفلة باكتشاف الخديعة. لا يمكن اعتبار ما يتحدث عنه يونس، ضربا من الخيال، فمن يتابع أنصار السياسيين في الميادين، وهم يهتفون باسمهم، ويتحركون يمينا ويسارا بإشارة من أصابعهم، يهتفون ويتنهدون ويبكون ويضحكون في لحظة واحدة، يدرك أن الإله ليس شرطا أن يكون في السماء، وأن العقيدة التنظيمية التي تتوازى مع فكرة السمع والطاعة، تحول القائد/ الزعيم / السياسي إلى ساحر يحرك الملايين بكلمة منه، ولهذا تتراجع في بعض المجتمعات التي تعاني من فقر ديمقراطي، إذا جاز التعبير، مصطلحات الرئيس، والحاكم، لصالح مصطلحات الزعيم، الخالد، الملهم، الأب، وكلها تنويعات على فكرة الإله في إحدى صوره البشرية. وترتبط الزعامة في مجتمعنا العربي بمصطلح "الكاريزما"، والذي يشير يونس إلى أنه استمد من علم اللاهوت ومعناها (هبة إلهية ) أو قيمة سماوية Gift of Grace وكلمة Charisma استعملت فى البداية لوصف ظهور الحركات والقيادات الدينية ثم تطور الأمر حتى انفصلت عن مدلولها الدينى، لكنها تأثرت في البداية بالجانب الميتافيزيقى الدينى فمثلاً يعرفها ماكس فيبر بأنها "صفة معينة فى شخصية الفرد، وقوة استثنائية خارقة لا يمكن للإنسان العادى الوصول لها نتيجة لأصلها الإلهى، فيما يؤكد كارل فريدريك على هذا البعد فيقول "القوة الكاريزمية هى نوع من القوة العقيدية تتم بمشاركة القادة والأتباع القائد فيها يتقلد منصبه بامتياز إلهى أو هبة مقدسة". لكن عناصر القيادة الكاريزمية، لا تتم إلا بعدة عناصر مجتمعة، هي الموقف الاجتماعي المتأزم، والقائد الكاريزمى، والسياق الثقافي، ووجود الأتباع، وهم عنصر حاسم من عناصر القيادة الكاريزمية فالقائد يستمد قوته من خلال أتباعه وعن طريقتهم يمكن له أن يستمر فترة أطول يملك السلطة لا يصبح الإله إلها، ولا الساحر ساحرا، إلا بالاعتماد على بوق دعائي، يمكن تسميته أدوات الساحر، ويستعرض الفصل الثاني من الكتاب الأساليب الدعائية لدى القادة السياسيين، ويبدأ باستخدام الرموز السياسية، والتي تحمل اختزالا لعقيدة وبرنامج وشعار الحزب السياسى الذى تعبر عنه وكل الحركات السياسية الموجودة فى الحاضر تتبنى منظمة من الرموز تعبر عنها، ثم الاستغلال السياسى للدين ويقصد بذلك استغلال احترام المتلقى للمبادئ الدينية ومحاولة تقديم المادة الدعائية على أنها جزء من التعاليم الدينية أو على الاقل تتوافق معها مما يكسبها شيئا من التقديس تكتسبه من الدين وبالتالى لا يملك المتلقى إلا الإيمان بها . وقد استخدم القادة السياسيون الدين لخدمة أغراضهم السياسية أو لحشد التأييد الجماهيرى اثناء الأزمات وأوقات الشدة فاستخدمه عبد الناصر أثناء حرب السويس سنة 1956 عندما صعد إلى منبر الجامع الأزهر وخطب فى الجماهير، واستخدمه الرئيس السادات استخداما بارزا لخدمة أغراضه السياسية حينما سمى نفسه الرئيس المؤمن. وتتعدد الأساليب الدعائية التي يرصدها يونس، مثل الشائعات، واستخدامها في الأغراض السياسية، واستخدام الدعابة أو النكتة كطريق لاقناع الجمهور بما يقوله الداعية، و أسلوب من الباب إلى الباب ويعنى ملاحقة المتلقى بأنواع مختلفة من المادة الدعائية فى كل الأماكن التى يرتادها سواء فى منزله أو فى طريقه أو فى عمله أو غير ذلك لتمجيد زعيم سياسى معين، أو رسم الصور النمطية لتصنيف بعض الناس وإعطاء مسميات معينة لهم تلتصق بهم بما قد يصبح معه هذه الصور تعبيرات ثابتة لا تتأثر بالممارسات أو الخبرة الفعلية، وهناك أسلوب التكرار، وذلك لعرض الفكرة في سياقات مختلفة، وأسلوب التخويف للإقناع وهو من أكثر الأساليب فاعلية لأنها تزيد من الشعور العاطفى لدينا للتفكير فى التخلص من ذلك الخوف وهنا يأتى دور الزعيم الذكى فى أن يقدم لنا الطريقة الوحيدة للخلاص. هناك أيضا أسلوب العدوى والاستفادة من غريزة القطيع، وإثارة الكراهية تجاه الخصوم، وإلحاق التهم والرذائل بهم وتصويرهم على أساس أنهم مصدر أغلب المتاعب التى يعانى منها الجمهور، وهناك أسلوب التلميع، والتبرير، والتعميم البراق ويقصد بهذا الأسلوب استخدام عبارات ملفتة للنظر تحمل عادة معنى خير مثل تعبيرات الصالح العام ، الكرامة الوطنية وذلك بقصد الوصول إلى معان أخرى تخالف المعنى المقصود، وهناك أسلوب التحدث بلغة البسطاء، حيث يقدم الزعيم بشكل أكثر شعبية وقربا من الجماهير فيزداد تأثيره فيهم . يرصد الفصل الثالث من الكتاب القاموس السحري للرئيس السابق حسني مبارك، ويكشف عن معجم كلمات استخدمها الديكتاتور المصري ونظامه لتدعيم استمرار حكمه و تبرير سياساته، عبر الآلة الدعائية الرسمية، هذا القاموس السحري، يمكن استعادته على الفور بالعودة إلى عام ونصف ماضيين، قبل سقوط النظام السابق، لنعرف كيف كان الفرعون يحكم، حيث تتوزع المصلحات على فئات متنوعة، منها ما يخص الاقتصاد وأخرى للسياسة بشقيها الداخلي والخارجي، فيما تشيع مصطلحات أخرى لخدمة أطراف مساندة لنظامه كابنه وزوجته. ومن مفردات القاموس السحري، الذي استخدمه نظام مبارك، لاستكمال صورة الفرعون، مصطلح "الضربة الجوية" حيث اعتبرت الآلة الدعائية لسلطته أن دوره مفتاح الحسم في الانتصار المصري، وتجاهلت الأدوار الأخرى للقادة الآخرين، وتعدى المصطلح خصوصيته العسكرية إلى آفاق أخرى سياسية، ومفردة "الإصلاح الاقتصادي"، والذي اعتمد عليه مبارك للترويج لنظامه، ومفردة "الصدمة الكهربائية" وهي بحسب يونس ترتبط بطريقة الإصلاح الاقتصادي، فمبارك كان يكرر دائما إنه يرفض الإصلاح المتعجل أو العلاج بالصدمة الكهربية، فيما يسعى إلى الإصلاح التدريجي، وهو ما يساعد على إطالة أمد سلطته لينتظر المصريون نتاج ما يقول إنه إصلاحات ستعود عليهم بالنفع مستقبلا، ولا داعي للحكم الآن، وهناك أيضا مفردة "عنق الزجاجة"، وهو تشبيه اعتاد مبارك على استخدامه، وتكرر على ألسنة المسئولين في الحكم أو في تحليلات الصحف الرسمية، للإشارة إلى قرب الخروج من مرحلة التقشف وتحمل سلبيات الإصلاح الاقتصادي إلى عصر الرخاء المنتظر، وتسبب تكرار المصطلح في نوبات متتالية من السخرية من قبل. وهناك مصطلح "القائد والأب"، حيث تميز حكم مبارك بطابع الحكم الأبوي، الذي يقفز على المعايير الديمقراطية، وترجمت هذه السمة في حب السلطة في شكل عبارات متنوعة تصب في حقل دلالي واحد، ومنها الزعيم، القائد، الأب، كما تكرر كثيرا مصطلح "حكمة الرئيس" في خطاب الإعلام الرسمي وخطاب مرؤوسي مبارك، وهو ما أعطى ملمحا بتفرده بالسلطة وأن وزراءه مجرد سكرتارية ينفذون تعليماته، وهناك أيضا مصطلح "السيدة الفاضلة" حيث التصق باسم زوجته في كل المطبوعات الرسمية في مصر تقريبا، وفي كواليس السلطة والدوائر الحكومية عرفت بلقب "الهانم"، أما مصطلح "المحظورة" فقد ظهر للإشارة إلى جماعة الإخوان المسلمين ، ولجأت السلطات إلى استخدام أسلوب التسمية الدعائي لتشويها لدى الرأي العام وقصر دلالتها على كونها محظورة قانونا، أما مصطلح "الفكر الجديد"، فقد التصق بأمانة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، التي كان يرأسها جمال مبارك نجل الرئيس المصري السابق، في خطوة يؤكد المعارضون أنها تسبق توريث الحكم إليه. ومن مفردات القاموس السحري الخاص بمبارك أيضا "محدودي الدخل"، حيث كان مبارك يكرر دائما أنه نصير الفقراء، وتراعي إصلاحاته الاقتصادية ظروفهم المعيشية الصعبة، حتى لا يضارون وتصعب حياتهم، ومفردة "الدعم"، و"المشكلة السكانية"، حيث استخدم مبارك هذا المصطلح بشكل كبير خلال الثمانينات والتسعينات بينما تراجع استخدامه في العقد الأخير لصالح مصطلحات أخرى، ووظف خلال الفترة الأولى من حكمه في تبرير صعوبة الأوضاع الاقتصادية وعدم كفاية الموارد لسد احتياجات السكان. لا يمكن لقارئ كتاب محمد فتحي يونس، إلا أن يشعر بالجهد الحقيقي الذي بذل فيه لرصد طريقة صنع الآلهة البشرية، كما سيشعر بأن كل ما ذكره، ورصده حدث بالفعل في مصر طوال السنوات الماضية، بل خلال الأشهر الماضية إن شئت الدقة، وهو ما يجعل القارئ يعيد قراءة المشهد السياسي مرة أخرى، ولكن بمفهوم مختلف قائم على الفهم والإدراك والتحليل، كما قدمه كتاب "صناعة الآلهة".
#محمد_أبو_زيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخروج إلى النهار
-
لمن ستصوت والدة الشهيد مينا دانيال في انتخابات الإعادة؟
-
10 نصائح قبل اختيارك الرئيس القادم
-
الصحافة المصرية بعد الثورة.. -أعطني حريتي أطلق يديا-
-
برامج التوك شو .. -من يصرخ أعلى-
-
سينما باراديسو
-
الأول من أيار ..... عيد العمال العالمي
-
ناصية باتا..لعبة اسمها الحياة
-
رئيس لكل مواطن
-
منصور حسن..رئيس في الوقت بدل الضائع
-
رشح نفسك للرئاسة .. واكسب بالونة هدية
-
رمانة ميزانة الليبراليين أمام تحالف الإسلاميين
-
القصيدة الخراب
-
ركوب الموجة
-
الضنا غالي
-
ليس كمثله شيء
-
هل أنقذ الله اليونسكو من الفنان فاروق حسني ؟
-
أسباب وجيهة لكراهية المثقفين
-
لا عزاء للسيدات
-
سأقابل الله وأشكوكم له
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|