أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حماده زيدان - فاي.. قصة















المزيد.....

فاي.. قصة


حماده زيدان

الحوار المتمدن-العدد: 3779 - 2012 / 7 / 5 - 19:13
المحور: الادب والفن
    


-لقد بدأنا ترتيبَ أيامِ الأسبوعِ يا سيِّدي , سيكونُ الترتيبُ كالتَّالي
) الأربعاء , الخميس , السَّبت , والاثنين , ويأتي بعدَهم الأحدُ و الثلاثاءُ والجمعةُ(
ما رأيُكَ في هذا الترتيبِ ؟
وستتبدَّلُ الأيامُ كلَّ شهر ؛ حتَّى نتخلَّصَ من رتابةِ الأيامِ وترتيبِها القاتلِ .
- جميلٌ , جميلٌ هذا الترتيبُ , ولكن ما رأيكُم في وضعِ السَّماءِ والأرضِ , هل تتقـبَّلونَ وضعَ السَّماءِ الذي لم يتغيَّر منذُ ملايينِ السِّنين ؟ أقترحُ أن يكونَ تبادُلُ المواقعِ بينَ السَّماءِ والأرضِ كُلَّ عامٍ , أتوافقونني في هذا الرأي ؟
***

أهلاً بكُم في الاجتماعِ الأكبرِ , أعرِّفكُم بنفسي : "فاي أبو الحديد" رئيسُ شركةِ "تغيير بلا حُدود" الشركة الدولية الكُبرى , الآنَ أرأسُ هذا الاجتماعَ الدوليَّ الذي بدأتْ فعالياتُه منذُ أكثر من يومٍ , ونحنُ الآن نحضِّرُ للديباجةِ النِّهائيَّة لَهُ . بدأتْ فكرةُ التغييرِ تملؤني منذُ طفولتي , لماذا خُلِقتُ "ذكرًا" ؟ ولماذا كان اسمي "هاشم" ؟ ولماذا والدي هو والدي ؟ و إخوتي هم إخوتي !
ولماذا خُلِقتُ "مُسلِمًا" ؟ ولماذا , ولماذا , ولماذا ! كادَ التفكيرُ يقتلني , كرِهتُ هذا العالمَ الذي أنا جزءٌ منه , وهو لا يعلمُ عنِّي شيئًا . منذُ السَّابعة عشر من عمري تخلَّصتُ من أوَّلِ شيءٍ فُرِضَ عليَّ وهو اسمي , حاربتُ لكي أغيِّره .
لا ، لم أرضَ أن يكون اسمي "هاشم" ، استطعتُ أن أغيِّره إلى "فاي" ، واخترته "فاي" ؛ لأنني لم أجد ما يُرضيني من الأسماءِ , وبعدَها بدأتُ حربًا أُخرى مع والدي , وأشقَّائي , بدأتْ تلكَ الحربُ بسؤالي لأبي :
- لماذا أنتَ من كلِّ الخلقِ كنتَ أبي ؟ أنا لم أختَركَ , ولم أختَر أمِّي , ولا أشقَّائي , فلماذا أنتم اخترتموني ؟
سكتَ أبي لحظاتٍ وبعدَها قالَ لي :
- أنتَ تسألُني : لماذا أنا والدُكَ ؟ ولِمَ لا تسألُ نفسَكَ : مَن أوجدَكَ في هذهِ الدُّنيا ؟
ومَن الذي سَبَّبَ ذلكَ ؟
ولدي اِستغفِر ربَّكَ وارجِع عَن هذهِ التَّخاريف التي تملؤكَ .
لم يُعجبني ما قالَه لِي , حتَّى لو كانوا هُم السَّبب في وجودي , فلماذا لم يخبروني قبلَ أن يفكِّروا في وجودي , لماذا لم تكُنْ لي إرادةٌ في ذلك , أنا لم أوافقْ ، وسأقولُها لأبي صريحةً , وواضحةً :
- أبي ، لا تقتلوا إرادتي , سأفتِّشُ عَن غيرِكُم , وإذا وجدتكُم أفضلَ من غيرِكُم سأعودُ إليكُم مَرَّةً أُخرى .
نظرَ إليَّ أبي بابتسامةٍ ساخرةٍ ، قال :
- وأينَ إرادتُنا نحنُ يا فتى , سأتركُكَ كما تريدُ , ولكنْ إذا تركتُكَ لنْ تعودَ مَرَّةً أُخرى ؛ لأنَّكَ لو رفضتَني سأرفضُكَ , وحقُّكَ الشَّرعِيُّ سيكونُ لكَ منذُ اللحظةِ ، هيَّا تَحَدَّ القَدَرَ كما تُريدُ ,
ولكنَّكَ -صدِّقني- لن تفلحَ .
ها هي مَعرَكتي الثانية كسبتُها , اعتبرتُ الأموالَ التي أخذتُها منه مِنحةً سأردُّها له عندما أستطيعُ ذلكَ . أصبحتُ الآنَ "فاي" دونَ عائلةٍ , بقي لي "ديني" لا لم أختَر أن أكونَ مُسلِمًا , بدأتُ من وقتِها البحثَ والتَّنقيبَ عَن دِينٍ آخر أختارُه أنا دونَ أيِّ تدخُّلٍ مِنْ القَدَرِ .
بحثتُ , وبحثتُ , قرأتُ الكثيرَ من الكُتُبِ في مُختَلفِ الأديانِ , لَمْ أجدْ ما يملأ الفراغَ الكبيرَ بداخلي ففضَّلتُ أنْ أعيشَ دونَ دينٍ لفترةٍ حتَّى أستطيعَ أنْ أجدَ لي دينًا , وكانَ اسمي لا يزال "فاي" فَقَطْ . أردتُ أنْ يكونَ لي اسمٌ آخر ، فلَمَّا بحثتُ وجدتُ الحديدَ مِنْ أقوى العناصِرِ على الأرضِ فسمَّيتُ نفسي "أبو الحديد" , لَمْ يبقَ لي الآنَ سوى جِنسي , لَمْ أختَر أنْ أكونَ "ذكرًا" ، رُبَّما لو كنتُ خُلِقتُ أنثى كنتُ استرحتُ أكثرَ ! أو رُبَّما لم أكن راضياً , جلستُ أفكِّر "هل أنا راضٍ بذكورتي ؟ " من يومِ ميلادي أشعرُ أنِّي ذكرٌ , لم أتمايع يومًا , لم أضَع مساحيقَ التَّجميلِ كما كانَ الأطفالُ يفعلونَ حولي " كيفَ أرضى بذلك ؟" , "كيف أرضى بحُكمِ القَدَر؟"
لا ، لن أرضى .
جاءتني فكرةٌ عبقريةٌ , سأعيشُ دورَ الأُنثى لفترةٍ ، قررتُ أن أضعَ مساحيقَ التَّجميلِ ، وملابسي ستكونُ ملابسَ أنثى . نزلتُ إلى الشَّارعِ , وجدتُ النَّاسَ تنظرُ إليَّ باستغرابٍ , وبعضُهم حاولَ التَّحرُّشَ بي , شعرتُ بالضَّعفِ , بعدما وجدتُ الكثيرينَ يحاولونَ ضربي , بعضُهُم كانَ يحاولُ ضربي باسمِ الدِّينِ , والبعضُ الآخرُ لا أدري لماذا ! وكانت نهايةُ اليومِ في قسمِ الشُّرطةِ , جلستُ مُنتظرًا ما سيحدثُ لي . التحرُّشُ مازالَ مُستمرًّا ولكنه الآنَ من المقبوضِ عليهِم في القفصِ الذي اِحتجزوني فيه , جاءَ الضابطُ واستدعاني , جلستُ أمامَه , سألني بغضبٍ :
- لابس زي النسوان كده ليه يا روح اُمَّك ؟
- هل أنتَ شاذ ؟
- تعرف يا ابن الكلب ؟ سأدمّرك هنا ، ولن تصلح بعدها كرجل أو امرأة
نظرتُ إليهِ ، وبتحدٍّ قلتُ :
- أنا لستُ شاذًّا , أنا لن أرضى أن أكونَ مثلكَ أنتَ وأمثالكَ , لن أرضى أن أكونَ مفعولاً به , وسأظلُّ دائمًا الفاعلَ .
لم يفهمني الرجلُ جيدًا , ووجدتُه يسألني عن اِسمي , وعَملي , ومَسكني , فأجبتُه :
"اِسمي (فاي أبو الحديد) ، وعملي (مازلتُ أبحثُ) ومَسكني (مازلتُ أبحثُ) "
سألني عن بطاقتي الشَّخصيَّةِ , فأجبتُه :
- لا أمتلكُ بطاقةً شخصيّةً ؛ لأنني لازلتُ أبحثُ لي عن "دين" مُناسِب , ولازلتُ أبحثُ عن "وطن" مُناسِب , ولازلتُ أبحثُ عن "عائلة" مناسبة .
تحيَّر الرجلُ , وطلبَ مِنِّي رقمَ تِـلِفون عائلتي , أو أي أحد يضمنني , لم أُجِبه , وأعدتُ عليه ما قلتُه , فلم يجد أمامَه إلاَّ أن طلبَ عِدَّة أرقام , وأمرَ رجالَه أن يُدخِلُوني "زنزانة" أجلس فيها وحيدًا , جلستُ ساعتين أو ثلاثة , بعدَها وجدتُ أحدَ العساكرِ يُخبِرُني أنَّ أحدَهم ينتظرني بالخارجِ , أطعتُه ؛ إذ لم يكُنْ أمامي غيرُ ذلكَ , خرجتُ , فوجدتُ أمامي رجلاً لا أعرفُه , أجلسوني جوارَه ، وجدتُه رجلاً حسنَ المَظهرِ , وجهُهُ مُريحٌ , سألني بهدوءٍ :
- لماذا تحاولُ تغييرَ قَدَركَ يا ولدي؟
بنظرةٍ يملؤها التَّحَدِّي أجبتُهُ :
- لأنَّ هذا القَدَرَ لا يعنيني في شيءٍ , قدري أنا , هو أنا , وليسَ مُقَدَّرًا عليَّ من أحدٍ , ولا يستطيعُ أحدٌ أن يمنعني من حُرِّيـَّـتي هذه .
سَكَتَ الرَّجلُ قليلاً ، ثُمَّ قال بهدوئِه نفسه :
- ألا تعلمُ يا بني أنَّ كُلَّ ما تفعلُه الآنَ مُقَدَّرٌ مِن عِند الخالِق , وأنَّ وجودَكَ هُنا وجُلُوسكَ أمامي , حتَّى ملابسكَ النِّسائيَّة تِلكَ , كلُّ ذلكَ مُقَدَّرٌ مِن عِند اللهِ , فكيفَ تتحدَّاهُ وأنتَ عبدٌ مِن عِبادِه .
زلزلني ما قالَه ، و وجدتُ الضَّعفَ يَسري بجسدي , أزحتُ ذلكَ كُلَّه بعيدًا , وسألتُه بتحدٍّ أكبر:
- إذا كانَ خلقَنا هكذا , و كانَ كلُّ ما نفعلُه مُقَدَّرًا – بعلمِهِ - فكيفَ يُحاسِبُنا ؟ أليسَ ذلكَ ظلمًا ؟
سكتَ الرَّجلُ لحظاتٍ , تخيَّلتُ أنِّي اِنتصرتُ , ولكنَّه أجابني بهدوءٍ :
- خلقَنا اللهُ يا فتى , ويعلَمُ ما نفعلُ , وما سنفعلُ , ولكنَّه يتركُ لنا حُريَّةَ الاختيارِ بينَ الصَّوابِ والخطأ , و سأضربُ لكَ مثالاً :
"عندما تعطشُ وتريدُ الشُّربَ , يمكنكَ أنْ تشربَ ماءً حلالاً أو خمرًا مُحَرَّمًا . الخيارانِ أمامَكَ , فإذا شربتَ الماءَ الطَّاهرَ فبإرادتِكَ ، وإذا شربتَ الخمرَ المُحَرَّمَ فبإرادتكَ أيضاً "
لم يُـقنعني ما قالَ ، فسألتُه بغضبٍ :
- لماذا تتكرَّر الأيامُ ذلكَ التِّكرار المُمِل , لماذا السَّماءُ فوقَنا والأرضُ تحتَنا , لِمَ لا نقدرُ على تغييرِ أيِّ شيءٍ , أنا لنْ أكونَ دميةً في يدِ أحدٍ ؛ فأنا لست بآلة .
ذهبَ الهدوءُ مِنَ الرَّجُلِ , وحلَّ محلَّهُ غضبٌ شديدٌ , وصرخَ في وجهي :
- أنتَ مجنونٌ , مجنونٌ , مجنونٌ , وليسَ لكَ إلاَّ العِلاجُ , أو القتلُ .
تركني غاضبًا , وأمرَ الضَّابطُ أن أعود لـ "زنزانتي" مرَّةً أخرى , وجلستُ مرَّةً أخرى -لساعاتٍ طوالٍ - وحيدًا أنظرُ إلى تلكَ الحوائطِ التي تُحيطُ بي ، سألتُها بصوتٍ عالٍ :
"لماذا جمودُكِ ؟ ألم تملِّي وقفتكِ هذهِ , الزَّمانُ يجري من حولكِ , وأنتِ لا تتحرَّكينَ , لماذا لم تثوري ؟ ماذا تنتظرينَ ؟ أفيقي ، اِرفضي قَدَرَكِ اللعينَ , تهدَّمي , اِفعلي أيَّ شيءٍ , لا تُحبطيني بوقوفكِ هكذا"
كنتُ أصرخُ فيها بكلِّ قوَّتي , أريدُها أن تفعلَ شيئًا ! أيَّ شيءٍ ؛ لتنتهي تلكَ الوقفة ، سمعتُ صوتَها , كما لو كانَ آتيًا من المجهولِ , سمعتُ الجُدرانَ تُناديني :
"أنقذنا يا زعيمَنا , نريدُ الخَلاصَ , نريدُ الخَلاصَ , نريدُ الخَلاصَ "
ظلَّت الجُدرانُ تُعيدُ نداءَها , وظللتُ أجري في الغُرفةِ , أصرخُ فيها :

"هيَّا تحرَّري أيَّـتُها الجُدرانُ , اِهدمي سلبيَّتكِ , تحرَّكي , تحرَّكي . وجدتُها تُطيعُني وتتحرَّكُ , كنتُ أرقصُ فرحًا وسعادةً , كُلَّما تقدَّمت نحوي خُطوةً شعرتُ أنـِّي وصلتُ لمُنتهَى مُتعَـتي , صرختُ :
"تحرَّكي , تحرَّكي , تحرَّكي "
ظللتُ أصرخُ , حتَّى وجدتُ بابَ "الزنزانة" يُفتَح , ووجدتُ الضَّابطَ ومعَه بعض الرجالٌ , صرختُ في وجهه :
- دَع الجُدرانَ تتحرَّك , دَعها تُنهي وقفتَها , دَعها تُعَبِّر عَن نفسِها , دَعها تتحرَّك .
نظرَ إليَّ الضَّابطُ نظرةً مليئةً بالغضبِ , وقالَ بصوتٍ أشبه بزئيرِ أسدٍ جائعٍ :
- خـُــذُوه , وإلاَّ سأقتلُه هنا .
وقفتُ أنظر إلى الجُدرانِ التي توقَّفت عَن تحرُّكاتها فصرختُ :
- تحرَّكي , لا تخافي , تحرَّكي .
لكنني لم أستطع أن أُكمِل ندائي ؛ لأنني أُخِذتُ -غَصبًا- خارجَ "الزنزانة" و وجدتُني مرَّةً أخرى بملابسي هذهِ في الشَّارعِ , عدتُ إلى المنزلِ , وقرَّرتُ من وقتها أني "رجلٌ" ؛ لأنِّي وجدتُ المرأةَ ضعيفةً , ولا أصلحُ أنا للقيامِ بدورِها , جلستُ بالمنزلِ , وبدأتُ أفكِّر في رحلاتٍ خارجَ البلادِ ؛ لأنشرَ فِكري ويحدثَ التحرُّرُ الأكبرُ , بدأتُ أولاً أنشر أفكاري على جيراني , وجدتُهُم مُختلفينَ عمَّا رأيتُ طوالَ حياتي , كانوا يستمعونَ إليَّ بقلوبِهِم قبلَ أسماعِهِم , خاصَّةً ذلكَ الرجل الكبير , كان يكبُرُني بسنينَ طوال ولكنَّه كانَ لا يُناديني إلاَّ بـيا "سيدي" ؛ شعرتُ مَعَهُم بأنِّي السَّـيِّدُ الذي لا يخالفون رأيه .
كُنَّا نبحثُ يوميًّا ‘‘ كيفَ لهذا القدرِ أنْ يفعلَ بنا ما يريدُ ,, أمرتُهُم أن يجوبوا بلدانَ العالمِ , وأن ينشروا أفكاري في العالمِ أجمع , ولكنني حتَّى الوقت , وجدتُه مُمِلاًّ وقاتِلاً , أمرتُهُم جميعًا أن يخلعوا ساعاتهم , وأن نحسبَ الوقتَ بطريقتِنا نحنُ , "إذا جاءَ الصَّباحُ نِمنَا , وعِندَ الليلِ نقوم" وجدتُ أنَّ العملَ ليلاً أجملُ وأكثرُ راحةً , كانت أفكاري تجوبُ العالمَ كُلَّه بسرعةٍ صاروخيَّةٍ , وفي خلالِ أيامٍ بدأت القنواتُ العالميَّةُ تستعطفني ؛ لأقبلَ الظهورَ على شاشتِهِم , كنتُ في هذه الفترة أبحثُ عن دينٍ يجمعني أنا ورفقائي ولكنِّي لم أجد ! ففضَّلتُ أن أكونَ بلا دينٍ , ولم أجد دولةً شريفةً ؛ أنتمي إليها , ففضَّلتُ أن أكون بلا دولةٍ , وبحثتُ عن عائلةٍ , فوجدتُ أخيرًا عائلتي الجديدة في جيراني الجُدُد , عبرتُ أنا وعائلتي الجديدة أفاقَ العالمِ كلِّه , وبدأنا بحثَنَا الجديدَ في كيفيةِ تغييرِ نظامِ الكَونِ , وتغيير كلِّ المُعتقداتِ الرَّاسِخَةِ في البشر منذُ بِدءِ الخليقةِ , فكانت الاجتماعاتُ والمؤتمراتُ في أنحاءِ العالمِ , حتَّى جاءَ المؤتمرُ الأكبرُ الذي نقيمُه الآن والذي كانت بدايته معَ كلمةٍ من الأستاذِ "........" لأنه لم يختَر لنفسِه اِسمًا ؛ لأنه كرهَ الأسماءَ جميعًا ، فقال :
- أعزائي الكارهين للملل , الكارهين لتحكُّماتِ الأقدارِ علينا , أهلاً بكُم في اجتماعِنا الرَّابعِ والأكبرِ , سنبدأُ التغييرَ في هذا الاجتماعِ بتغييرِ ترتيبِ الأيامِ , وبعدَها الشُّهور .
سنقومُ بالتغييرِ ؛ لأننا مللنا الواقعَ , ومللنا تحكُّماتِ الواقعَ فينا . كيف أربِّي ابنتي , ثمَّ وبكلِّ بساطةٍ تتركُني , وتتزوَّج من صعلوكٍ دونَ رغبتي ؟ كيفَ أكونُ أنا والدها وتخونُني وإذا سألُتها لماذا ؟ تقول لي :
"هو القدر يا أبي!"
كيفَ هذا ؟ فليسقُط هذا القدر , أنا لن أقبلَه , سنبدأُ اليومَ كما قُلنا بترتيبِ الأيامِ ، فما رأيُكُم في ترتيبها كلَّ عدَّة أشهُر سيتغيَّر ترتيبُ الأيامِ ؛ حتَّى لا نشعر بالرَّتابةِ والمَللِ ، ونشعر أننا كسرنا هذا القدرَ اللعينَ .
التَّصفيقُ الحادُّ ملأ القاعةَ , وبعدَها ملأنا جميعًا الصمتُ , وكانَ المُفترَض أن أرشِّح أنا من سيُلقي الكلمةَ , ولكنني مللتُ من هذا أيضًا , كيفَ أحاربُ المللَ والرتابةَ ويكونُ هذا المؤتمرُ أكبرَ دليلٍ على المللِ والرَّتابةِ ؟ وقفتُ في منتصفِ القاعةِ , وبصوتٍ جهوريٍّ صرختُ :
- هيَّا بنا نرقص , أوقفوا هذا المؤتمرَ اللعينَ , وسنتحدثُ مع نغماتِ الموسيقى , ما رأيكُمُ في هذهِ الفكرةِ يا إخوتي؟
وجدتُ الجميعَ يصرخونَ سعادةً , وبدأت الموسيقى تلفُّ القاعةَ , كُنَّا نرقصُ بقوةٍ , كلُّنا سُعداءُ , قسَّمنا الأيامَ , وقسَّمنا الشهورَ , ونسينا أنسابَنا ، وقطَّعنا خرائطَ كلِّ البلادِ , ولم يبقَ أمامَنا سوى الشمسِ , والأرضِ ، والقمرِ , كيفَ سنغيِّر أوضاعَهم ؟ كيفَ سنجعلُ الشَّمسَ تكفُّ عن حرقِنا بأشعتها ؟ وكيفَ سنجعلُ القمرَ لا يرسلُ لنا نورَه كلَّ ليلة ؟ بل كيفَ سنوقِفُ الأرضَ عن دورانِها ؟ كلُّها أسئلةٌ دارت في مُخيِّلاتنا ونحنُ نرقصُ , فجعلت عقولنا تتوقَّف عن إرسالِ إشاراتِ السَّعادةِ وجعلتنا نتوقَّف للحظاتٍ ؛ نفكِّر فيها , ولكن حتى التفكير يشعرُني بالمللِ , يجبُ أن نحادثَ الشَّمسَ والقمرَ ؛ لِنقنعَهم بالتحرُّر , وقفنا بجوارِ الشُّـبَّاكِ , وظللنا نُنادي الشَّمسَ بأعلى صوتٍ :
"يَاْ أَيَّـتُهَاْ الشَّمْسُ , لَقَدْ مَلَلْنَاْ مِنْكِ وَمِنْ وُجُوْدِكِ , هَيَّاْ اتْرُكِـيْنَا وَارْحَلِيْ , لَنْ نَسْمَحَ لَكِ أَنْ تُؤْذِيْنَاْ أَشِعَّتُكِ مَرَّةً أُخْرَىْ , هَيَّاْ اذْهَبِيْ ، اِبْحَثِيْ لَكِ عَنْ وَطَنٍ آخَرَ ، اِذْهَبِيْ , أَلَمْ تَمَلِّيْ مِنْ قَدَرِكَ هَذَاْ ؟ أَلَمْ تَشْعُرِيْ بِمَاْ نَشْعُرُ بِهِ مِنْ مَلَلٍ ؟ أَلَمْ تَكْرَهِـيْنَاْ كَمَاْ كَرِهْنَاْكِ ؟ "
ظللنا نصرخُ , حتَّى وجدناها تختفي عن وجوهِنا , كانت تمشي بثقلٍ كما لو كانت عجوزًا تتكئ على بعضِ السُّحبِ ، هي ترحلُ ونحنُ نصيحُ من شُبَّاكنا :
"اِرحلي ... اِرحلي ... اِرحلي , تخلَّصي من مَلَلِكِ وهمومكِ , اِهربي منَّا ؛ لأننا لا نريدكِ , ولا نريدُ تكرارَكِ القاتلَ"
رحلت الشمسُ باكيةً , وبكاؤها غطَّى الأرضَ بالمياهِ , ولم يأتِ القمرُ تلكَ الليلةِ
انتهينا من اجتماعنا هذا , وقرَّرنا توثيقَ ما توصَّلنا إليه ونشره على النَّاس ؛ حتَّى نهديهم إلى ما اهتدينا إليه . فكَّرنا ، وفكَّرنا أكثر ، زادَ صخبُ الموسيقى في المكان ، وزِدنا مَعَه في الرَّقص , حتَّى صرخَ أحدُنا كما لو أنَّ الجنونَ مَسَّهُ :
- الدَّم ، الدَّم ، الدَّم ... لن يوثِّقَ ما توصَّـلنا إليه إلا الدَّمُ .
سألناه ، أجابنا ، استزدنا ، وفي النِّهاية رسمنا دائرةً ، وقفتُ في منتصفها ، أمسكتُ سكينًا , وريشةً . أخذتُ أنغزهم بالسِّـكين واحدًا تلو الآخر ، وهُم يتألمونَ , ويضحكونَ , وبعضُهم يبكي. بدأتُ في تسجيلِ أهدافِنا , ومبادئنا الجديدةِ , وخطوتنا القادمةِ . سننشُرُ تلكَ الوثيقةَ على هؤلاءِ التُّعسَاءِ الذينَ يملئون ذلك العالَمَ اللعين .
وقفتُ على المنصَّة مُمسِكًا الوثيقةَ ، وكانت الدِّماء تتساقطُ منها كحبَّاتٍ صغيرةٍ . أهلكَ الرَّقصُ مَن معي , وكانت دماؤهم تسيلُ من مواضعَ كثيرةٍ في أجسادهم , حتَّى صَارَ اللونُ الأحمرُ أمامي أوضحَ مِـنْ لونِ ملابِسِـهم . جلسوا ، وبدأتُ أقرأ الوثيقةَ . الجميعُ يسمعونني بإصغاءٍ تامٍّ . صوتي يتردَّدُ في القاعةِ مع الموسيقى التي بدأ صوتُها يخفتُ , ويخفتُ فَلَمْ يعُد غيرُ صوتِ صَمتي بعدَ أنْ سكتُّ . نزلتُ عَن المنصَّة , ونظرتُ إلى الرَّاقدين أمامي , بعضُهُم سكتَ , وبعضُهُم يتأوَّهُ , وبعضُهُم صارَ جُـثـَّةً ليسَ فيها نَفَس!
- ما هذا ؟ هل ماتوا جميعًا ؟!
قلتـُها بصوتٍ مُرتفعٍ فلم يُجبني أحدٌ ! هُم من اختاروا الدِّماءَ لأوثِّقَ بها ما اتَّفقنا عليه ، وهُم مَن اختاروا أن أعصبَ أعيُـنَهم جميعًا . الدِّماءُ أعمتني وجعلتني كالثـَّورِ الهائجِ . كنتُ أنغز هذا فأجده ينتفض فأنغزه ثانية وثالثة , ومن بعده هذا , وهذا , وهذا , حتَّى انتهيتُ وبدأتُ أنقش بدمائهم ما كتبتُ . كانوا يموتونَ الواحد تلو الآخر أمامي ، حزنتُ للحظاتٍ ، ولكنْ هلْ هذا وقتُ الحُـزن ؟!! أخذتُ وثيقتي , وكانَ اللونُ الأحمرُ يُسيطرُ على كلِّ شيء حتَّى ملابسي , فخلعتُها على عَجَلٍ , وألقيتُها جوارَهُم , ودخلتُ الحمَّامَ . قد تزيلُ المياهُ آثارهم .
ضرباتٌ عنيفةٌ على البابِ ، ولكنْ لا يهمُّ ، لا يهمُّ . لابُـدَّ أنْ أنهي ما أفعلُه .
أنهيتُ حمَّامي ، ارتديتُ ملابسي ، أحدُهم ضربَ البابَ ففتحَه فوجدتُ أمامي الكثيرَ من هؤلاءِ الرِّجالِ الذينَ يرتدونَ الأسوَدَ يُصَوِّبون نحوي الكثير من البندقيَّات الآلية !
ولكن هل هؤلاء يقدِرُونَ على وقفِ ما أتمنَّاه ؟
أمرتُهُم أن يتركوني ، لم يتحرَّكوا ، ولمْ أجِدْ حلاًّ آخرَ ، فتحرَّكتُ .
انتهت



#حماده_زيدان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صمت العرش. قصة
- (أصنام) يعبدونها وسموها (تابوهات) (2) في عبادة ال (sex) أكتب ...
- (أصنام) يعبدونها وسموها (تابوهات) (2) في عبادة ال (six) أكتب ...
- للحقيقة ظل.. قصة قصيرة.
- عروسة تحترق.. قصة قصيرة
- المرأة بين (العُهر) والسياسة
- اللعبة (مرسي) ما بين جماعته والعسكر!!
- مشاهد من جمهورية (مصربيا) المسيحية.
- (المعرص) مهمته فقط أن يمسك (الفوطة)!! تعقيباً على وصول (مرسي ...
- أصنام يعبدونها وسموها (تابوهات)!! (1) (الحاكم) ذلك الآله الأ ...
- ما وجدنا عليه آبائنا
- فرق في السرعات سيدي الرئيس
- هل تنسى مملكة الوهابية ثأرها من مصر الليبرالية ؟!
- وكفر الذي آمن.
- الإسلام لا يعرف الدولة الإسلامية!!


المزيد.....




- عن -الأمالي-.. قراءة في المسار والخط!
- فلورنس بيو تُلح على السماح لها بقفزة جريئة في فيلم -Thunderb ...
- مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق ...
- مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على ...
- مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح ...
- كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو ...
- ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
- الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا ...
- بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب ...
- مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب ...


المزيد.....

- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حماده زيدان - فاي.. قصة