|
من أوراق سجين سابق
كريم عامر
الحوار المتمدن-العدد: 3773 - 2012 / 6 / 29 - 03:51
المحور:
أوراق كتبت في وعن السجن
عندما عدت إلى محبسى عصر هذا اليوم ، لم يكن هناك شىء يؤرقنى سوى ما تلقيته من عنف وإهانة وسوء معاملة على يد ضباط وجنود الحراسة ،فصلنى التفكير فى حجم الاهانات التى تعرضت لها عن الاستمرار فى الشعور بالإنتشاء بعد صدور الحكم بسجنى ، بالفعل أنا لا أبالغ ، كنت أشعر بنشوة لا حدود لها قبل وأثناء وبعد الحكم على ، نشوة لا يستطيع كثيرون فهم دوافعها ومسبباتها لأنهم يفكرون بشكل مختلف، لكننى بالفعل لا أبالغ ، هذا الشعور الرائع سبق وتخلل فترة سجنى ، لكنه للأسف الشديد لم يستمر طويلا بعد ذالك !. منذ أن تعرفت على شخصية " صوفى شول "، وقعت سريعا فى غرامها ، ورغم أن وفاتها المأساوية ورفيقيها سبقت مولدى بأعوام طويلة ، إلا أن روحها تلبستنى تقريبا ، خاصة فى ذالك العام الذى سبق دخولى إلى السجن ، بحثت بشغف عن كل كلمة كتبت عنها ، المراجع والموسوعات والمواقع الاكترونية والأفلام وحتى صورها الشخصية ،وضعت بانرا يخلد ذكراها ورفاقها أعلى مدونتى ولم تمتد يدى اليه لتزيله حتى هذه اللحظة ، وبالتأكيد لن تفعل . فى الذكرى الثالثة والستون لإعدامها قررت أن أكتب أول نص عربى يتناول قصة حياتها ، دعمت مقالى الذى نشر على مدونتى الإلكترونية بالعديد من المصادر ، ولم أدرك فى هذا الوقت أن عاما بالتمام والكمال يفصلنى عن نيل شرف الحكم على بالسجن لنفس السبب الذى أعدمت من أجله ، الدفاع عن الحرية التى ينتهكها الطغاة ، هل هناك من يرى فى شعورى بالسعادة والنشوة أمرا غريبا ؟.. لا أتمنى ذالك ! . فى إبريل عام 2006 طاردنى شبح الإغتيال ، وضع اسمى ضمن قائمة تضم أكثر من ثلاثين شخصية عربية من الكتاب والمفكرين والباحثين والنشطاء ،هددت جماعة مجهولة كل هؤلاء بالقتل خلال أيام ثلاثة ما لم يبادروا بالإعلان عن توبتهم وتراجعهم عن أفكارهم أو مواقفهم،أعترف أن الخوف كان قد إستولى على فى هذه الأيام ، رغم أن جدية هذا التهديد كانت محل شك ، لم يكن عمرى وقتها قد تجاوز الثانية والعشرين ، حالة من الرعب كانت تتملكنى عندما أسير فى الشوارع والطرقات متجاوزا كل من يحاول إستيقافى حتى إن كنت أعرفه ، فى اليوم الذى انتهت فيه تلك المهلة ذهبت كنت أشاهد مع أحد أصدقائى الفيلم الألمانى " صوفي شول : الأيام الأخيرة " بمركز الابداع بالاسكندرية ، وخرجت من المكان و روح " صوفى " قد تلبستنى ، نسيت معها كل شىء ، وكدت أن أصرخ بأعلى صوتى: " اقتلونى ان شئتم لم أعد أخاف ". حررتنى "صوفي شول" من مخاوفى وجعلتنى أدرك أن الانسان لا يملك فى حياته سوى خيارين إثنين يتوقف عليهما مصيره: إما أن يربح نفسه حتى على حساب علاقته بالناس ورضاهم عنه ،وإما أن يجنى رضى الناس وقبولهم ويخسر نفسه ، تعلمت من "صوفي" أن أرضى ضميرى حتى وإن هدد ذالك سلامتى وحياتى ، وهذا كان ديدنى فيما بعد . كانت أيامى الأولى داخل سجن الحضرة الذى قضيت به فترة الحبس الاحتياطى بالغة الصعوبة ، لم أكن أتخيل أن أمر بمثل ما مررت به عندما أدخلت الى السجن من حلق شعر الرأس كاملا وإجبارى على التخلص من فضلات أمعائى أمام الحراس للتأكد من أننى لا أخفى داخلها نقودا أو مواد مخدرة ، ثم نقلى إلى زنزانة إنفرادية لا تحتوى سوى على بطانية واحدة افترش نصفها واغطى جسدى بنصفها الاخر ، فى جو الشتاء السكندرى القارص البرودة ، وتحديد مدة ذهابى الى دورة المياه بعشرين دقيقه فقط يوميا هى كل الفترة التى كنت اقضيها خارج زنزانتى يوميا طوال شهرين كاملين ، لا أبالغ عندما أقول أن من ساعدنى على تجاوز هذه الفترة العصيبة هى روح صوفيا شول التى تلبستنى ، كنت أدرك فى أعماقى أننى على حق ، وأن وجودى فى هذا المكان أمر عارض حتى وإن استمر لفترة طويلة ، كنت أبتسم دائما وأحير سجانى الذين توقعوا إنهيارى منذ اللحظة الأولى ، لكن صوفيا ، وفتاة أخرى كنت مغرما بها طوال فترة سجنى أعانونى على الصمود ! . سهر ، "صوفي شول" أخرى معاصره ! ، لم ألتقى بها قبل سجنى سوى مرتين إثنتين ، وكانتا كافيتين تماما ! ، ساعدتنى هذه الفتاة دون أن تقصد – هى الأخرى - على الصمود ، لم تكن قد تجاوزت التاسعة عشرة من عمرها بعد وقت أن التقيت بها فى إحدى زياراتى للقاهرة ، وجدت أمامى شخصا مختلفا تماما ، من السهولة بمكان أن تلوك الألسنة العبارات الفخمة وأن ترتفع الحناجر بالهتافات الرنانة ، وأن تمتلىء دفتى الكتب بملايين العبارات الجزلة والتعبيرات البلاغية ، لكن الأمر لا يكون بهذه اليسر عندما يحين وقت التطبيق ، عندها تجد الكاتب الكبير الذى يطل علينا بمقاله اليومى فى الصحيفة الواسعة الانتشار او ذالك المفكر المعروف الذى تنفذ طبعات كتابه فور صدورها يتصرف بطريقة لا تتفق وما يعلنه من أفكار . كانت سهر – ولا زالت – فتاة حرة بكل ما تحمله الكلمه من معان ودلالات ، قلما إلتقيت بأشخاص يطبقون فى حياتهم ما يعتنقونه ويؤمنون به ، وسهر كانت واحدة من هؤلاء ، فتاة صغيرة تؤمن بنفسها وتدرك من أعماقها أنها حرة ، لا يحق لأحد مهما كان انتزاع حريتها منها ، دفعت ثمن ذالك باهظا جدا ، لكنها لم تتغير ، لست هنا بصدد الخوض فى تفاصيل لا تعنى أحدا غيرها ، لكننى فقط وددت أن أشير إلى بعض هؤلاء الذين ساعدنى تذكرهم وأنا داخل السجن على الصمود والبقاء " على قيد الحياة " دون مبالغة . عندما أدخلت إلى زنزانتى الإنفرادية فى عنبر (ج) بسجن الحضرة بالاسكندرية ، وجدت على الحائط رسما يصور وجه فتاة ، تخيلتها سهر ، وبدأت أنفذ خطتى الخاصة لمقاومة مخطط الإنهيار النفسى الذى إستخدم معى ،تمثلت أدواتى فى بضع وريقات قليلة وقلما استعرته من أحد السجناء ، ولم أعده مرة أخرى ، وبدأت أكتب يوميات من نوع خاص ، لم يكن الغرض وراء هذا النوع من الكتابة تسجيل لحظات عصيبه أمر بها فى هذا المكان ، بقدر ما كنت أحاول التواصل مع نفسى ومع وجه صديقتى المنقوش على الحائط والذى تخيلته لسهر ،و فى الواقع فقد كان يشبهه كثيرا ، فى مكان لا أجد فيه أحدا يشبهنى ، وبدأت أتخيل كل مساء أن سهر تقيم معى بالزنزانة ، وأحكى لها كتابة تفاصيل ما مر بى فى هذا اليوم ، كان الجميع من سجانين وضباط وسجناء تنتابهم حالة من الاستغراب وهم يرون تلك الابتسامة التى تعلو وجهى دائما رغم صعوبة حياتى داخل السجن ، فى وقت لم يتطوع فيه أحد بزيارتى سوى أصر شقيقى على منعه من الدخول وإستجاب له الحراس ومنعوه !. كنت أدون كل شىء متخيلا أن سهر تقرأ ما أكتبه ، وأحيانا كنت أتمادى لأتخيل ردات فعلها ، وظللت على هذا الحال حتى يوم الإفراج عنى ، وفى الواقع لم تتح لى أى فرصة لتواصل حقيقى مع سهر قبل خروجى من السجن ، ولكن رغم كل شىء أحفظ لتلك الإنسانة الرائعة والصديقة التى أعتز بصداقتها ذالك الجميل الذى يطوق عنقى دائما ، هذا الجميل الذى يتمثل فى وجودها وبقاءها كرمز للجمال والصمود والمقاومة والحرية فى عالم يعج بالقبح والإستسلام والتكيف مع الأغلال . كانت صوفيا شول ورفقائها ، وأيضا سهر ، حاضرون معى دائما منذ البداية ، كتبت أسمائهم على جدار الزنازين التى أقمت بها ، أذكر أننى حفرت أسماء صوفيا شول وهانز شول وكريستوف بروبست على باب الزنزانة بعد أيام من وضعى داخلها ، ودونت تحتها تاريخ الثانى والعشرين من فبراير عام 1943 والذى وافق محاكمتهم وإعدامهم ، ولم أكن أتخيل وقتها أننى سأنال شرف أن يصدر حكم على فى ذات التوقيت فى ذكراهم الرابعة والستون ، كنت قد عدت من إحدى جلسات محاكمتى يوم الأول من فبراير عام 2007 ، توجهت إلى مكتب مسير العنبر وسألته عن موعد الجلسة التالية ، فحص دفاتره وأخبرنى أنه قد حددت لى جلسة الثانى والعشرين من فبراير للنطق بالحكم ، حينها إعتلت وجهى إبتسامة عريضة لم يفهمها هؤلاء المحيطين بى ، تصور البعض أننى بالحكم الذى سيصدر فى قضيتى ، ولم يدرك أحد منهم السر وراء إبتسامتى ، منحنى القاضى الذى كان ينظر فى قضيتى دون أن يقصد شرفا لم أتصور أننى سأحظى به ، ورغم أننى كنت أدرك أن الحكم على لن يتجاوز السجن لبضع سنوات ليصل إلى الإعدام كما فى حالة البطلة " صوفى" ورفيقيها إلا أننى شعرت وقتها أن الطغاة يعترفون ضمنيا بأنهم يمتلكون نفس الوجه ويتشابهون فى كل شىء وتتكرر أساليبهم وممارساتهم فى كل زمان و كل مكان . فى الثانى والعشرين من فبراير ، كانت روح صوفيا قد تلبستنى تماما ، ذهبت إلى جلسة المحاكمة غير مبال بما قد يصدر عنها ، كانت الحراسة مشددة على ويبدو أن هناك أوامر قد صدرت لمرافقى بالإعتداء على وإهانتى حتى أبدو فى حالة إنهيار عقب صدور الحكم ، لم أهتم كثيرا عندما أدخلت القفص كى أستمع إلى حكم سيحدد مصيرى لسنوات مقبلة ، لم أذكر أننى فقط كنت أتصفح وجوه الحاضرين ولم أعط إهتماما كافيا لما ينطق به القاضى ، خرجت من القفص وأنا لا أذكر على وجه التحديد المدة التى قضى بها على وفيما بعد سألت أحد الحراس الذى أخبرنى بمضمون الحكم ، لم أفكر فى الأمر ولم أعره أى إهتمام ، وبدأ الحراس فى تعنيفى لفظيا وبدنيا حتى أبدو أمام كاميرات المصورين وأنا فى حالة من الإنهيار التام . عندما عدت إلى السجن وفى طريقى إلى زنزانتى قابلت أحد المسجونين الذين أعرفهم ،ظن لوهلة أننى قد برأت عندما لم يلحظ على وجهى أى علامات للتأثر أو الإنهيار التى تطل عادة من وجوه من يعودون من الجلسات محكوم عليهم ، وبعد لحظات صرخ فى وجهى مستنكرا هدوئى الذى يرى فيه رد فعل بارد ما يرى أنه رد فعل بارد عندما أخبرته بلهجة غير مبالية أننى قد حكم على بالسجن لأربع سنوات فقط ! . دخلت زنزانتى وقد وطنت نفسى على أننى سأبقى فيها فترة طويلة ، لم أعلق آمالا على الإستئناف ، ولم أهتم كثيرا باحتمالات البراءة أو التخفيف ، وفضلت الإستمرار فى التعامل مع الواقع داخل السجن بمنطق المغامرة ! ، أنا الآن فى مكان جديد ، كلفت نفسى بمهمة محددة : أريد أن أستكشف هذا المكان !!. ، مما يميز السجن من وجهة نظرى أنه يحوى نوعيات مختلفة من البشر لا يستطيع أحد أن يلتقيها فى مكان واحد ، كنت أتعامل كسائح أو مستكشف يقضى أياما طوالا فى مكان غير ملائم كى يتعرف على أشياء جديدة . طيف "سهر" كان هو الصديق الذى يلازمنى فى زنزانتى طوال الوقت ، حكايات كثيرة رويتها له على تلك الوريقات ، ولم أمل ، كنت أشعر بمتعة غير محدودة عندما أروى له ما يحدث لى وحولى ، لم يكن فى الزنزانة أى ضوء ، وكنت أعتمد فى الرؤية ليلا على بصيص من نور المصباح الذى يضىء الطريق خارج العنبر . بعد أيام قليلة صدر الأمر بترحيلى من سجن الحضرة الذى كنت أقضى به مدة الحبس الإحتياطى ، إلى سجن برج العرب الواقع وسط صحراء مدينة الإسكندرية ، لملمت أشيائى البسيطة من الزنزانة ، و ودعت وجه رفيقتى الذى لم أره مرة أخرى بعد ذالك ، وذهبت إلى الصحراء !. لم تكن تلك المرة الأولى التى أذهب فيها إلى سجن برج العرب ، فلقد سبق ورحلت إليه بعد خمسة أيام من حبسى ، ولم تقبلنى إدارته لعدم إستيفاء الأوراق وأعدت إلى قسم الشرطة الذى كنت محتجزا فيه مرة أخرى ، فى المرة الأولى استقبلت وبقية النزلاء بسيل من الشتائم والاهانات دون سبب ، تعمد إدارات السجون فى مصر إلى كسر كرامة النزلاء عند دخولهم إلى السجن و بث الرعب والفزع فى قلوبهم حتى تضمن السيطرة الكاملة عليهم ، لا تمتلك تلك الإدارات طريقة أخرى لإحداث ذات الأثر سوى عن طريق سب النزلاء وإهانتهم والإعتداء عليهم لإهدار كرامتهم ، فى المرة الثانية ذهبت إلى هناك دون أن يصاحبنى نزلاء آخرون ، وكانت المعاملة مختلفة قليلا ، إختفت الإهانات اللفظية والتعنيف البدنى ، وحلت محلهما أسئلة كثيرة لا معنى ولا مبرر للإصرار على معرفة إجاباتها ، وجه لى بعضها رئيس المباحث مستفسرا عن تفاصيل ما قرأه داخل ملف قضيتى عن الاتهامات التى وجهت إلى وأدنت بسببها ، لم يكن لدى ما أخفيه وأجبته عن كل تساؤلاته حتى تلك التى تخص موقفى من الدين وتتعلق بإيمانى من عدمه بوجود إله ، لأجده يصدر أمره إلى فرد المباحث الذى كان يرافقنى بإقتيادى إلى مكان حدد قائلا : “ وديه مع مجدى ! “ ، لم أفهم ما يقصده سوى بعد فترة من الزمن ، ذهبت برفقة فرد المباحث هذا بعد أن فتش ملابسى و أمتعتى وصادر منها كل ما كتبته وأنا فى سجن الحضره من يوميات تتعلق بحواراتى التخيلية مع سهر ، لم أشعر بالحزن والأسى مثلما شعرت فى هذه اللحظه عندما إنتزع فرد المباحث هذه الأوراق من حقيبتى وذهب بها مدعيا أنه سيعيدها إلى مرة أخرى ، وبالطبع لم يفعل ! . سرت فى طريق طويل وبصحبتى فرد المباحث المكلف بنقلى إلى المكان المحدد ، كانت العنابر متراصة على اليمين واليسار ، أحاول وأنا أمشى إستكشاف هذا المكان الضخم الذى أدخل للمرة الأولى إلى أعماقه ، ووصلت بعد دقائق من السير إلى الهدف المحدد ، مبنى صغير من طابق واحد ، تعلوه لافتة مكتوب عليها " عنبر شديد الحراسة " ، إقتادنى فرد المباحث إلى الداخل وهناك وجدت فردين آخرين فى إنتظارى أحدهما يرتدى زى الشرطة الرسمى والآخر فى ثياب مدنية ، وجدتهم يعيدون تفتيشى مرة أخرى وإستغربت وسألتهم عن السبب ، فرد على أحدهم أن هذا المكان مختلف عن بقية السجن ويجب أن نعيد تفتيش النزلاء مرة أخرى عندما يدخلون إليه ، زادت حدة إستغرابى وفضولى الذى ترجمته بالسؤال عن طبيعة هذا المكان ، ليجيبنى المخبر والابتسامة تعلو وجهه : “ أنت الآن فى الملاحظة " ! لم أفهم شيئا وإستفسرت مرة أخرى ، فأجابنى بلهجة نملؤها السخرية : “ لا تقلق أنت فى مكان يشبه المستشفى .. ستستمتع بإقامتك هنا " … أغلقت فمى على مضض وهبطت معهم لعدة درجات قبل أن أجد أمامى بوابة حديدية فتحها أحدهم لأجد خلفها عدد من المسجونين يرتدوا ثيابا حمراء ومعهم رجل آخر يرتدى زيا أبيض ، أدركت على الفور أنهم محكومون بالإعدام وقبل أن أفيق من هذه الصدمة وأفكر فى تفسير منطقى لهذا الموقف ، سمعت صوتا غليظا يصيح فى: " تعالى هنا يا ابن المتناكه " إنزعجت بشدة ووجدت أمامى مخبرا طويل القامه هو الذى صاح فى طالبا منى بأسلوب وقح أن أتوجه اليه .. إقتربت منه ، وقبل أن أفتح فمى وجدته يسألنى : “ إنت إعدام يا ابن الوسخة ؟! “ إزدادت حدة صدمتى وإنزعاجى وأجبته نافيا الأمر ، فنهرنى طالبا منى الرجوع للخلف والإبتعاد عن المكان ، ولم أفهم شيئا قبل أن يتوجه إليه المخبر الذى كان يرافقنى ويتحدث إليه هامسا ، بعدها تحرك هذا المخبر ناحيتى وتحدث إلى مخففا قليلا من حدة حديثه ، كنت وقتها قد تذكرت أين رأيت وجه هذا الرجل من قبل ؛ فى الحادى عشر من نوفمبر عام 2006 كنت قد رحلت إلى سجن برج العرب بصحبة عدد من المسجونين الجنائيين ، وعندما ولجنا من بوابة السجن كان عدد من المخبرين يستقبلوننا بسيل من الشتائم والإهانات والعنف ، وتذكرت أن هذا المخبر كان واحدا ممن إستقبلونا فى هذا اليوم على بوابة السجن ، ويبدو أنه كان مدربا بعناية على كيفية التعامل مع الإيراد الجديد من المسجونين بإستخدام قاموس لا ينتهى من الإنحطاط والبذاءه وقلة الأدب . فتح المخبر بوابة حديدية أخرى لأجد طرقة ضيقة على يسارها عشر زنزانات متراصة ، على باب عدد منها ملصق مكتوب عليه اسم ساكنها وتهمته ومدة حكمه وتاريخ إنتهاءه ، لا أعرف لماذا ذكرنى هذا الملصق باللافته التى توضع على أقفاص الطيور والحيوانات فى حدائق الحيوان ، إصطحبنى المخبر حتى الزنزانة الأخيرة ، طلب منى الدخول ، أدخلت معى متعلقاتى ، وبعد ذالك وضع داخل الزنزانة وعاءا جردلا بلاستكيا أبيض قائلا لى : “ ده عشان تشخ فيه ! “ ، إبتلعت الإهانة على مضض قبل أن يغلق الباب خلفى لأجد نفسى داخل زنزانة يلفها ظلام دامس . قضيت الليلة أتحدث مع المسجونين الآخرين المقيمين فى الزنازين المجاورة ، أحدهم أخبرنى أنه يمنى الجنسية ومسجون فى قضية مخدرات منذ ستة عشر عاما بعد أن جاء الى مصر فى رحلة سياحية لينتهى به فى المطاف بين السجن والمحكمة ليحكم عليه فى النهاية بالمؤبد لحيازة مخدر الهيروين ، أخبرنى عن طبيعة المكان الذى نقيم فيه والذى كنت أجهله ، عنبر شديد الحراسة هو المكان المخصص للمحكومين بالإعدام والموقع عليهم جزاءات تأديبية لمخالفتهم قانون ولائحة السجون ، وأخبرنى أنه بالإضافة إلى ذالك فإن إدارة السجن تعمد إلى وضع مسجونين آخرين لم يرتكبوا أى مخالفات داخل هذا المكان لعزلهم عن الباقين للتنكيل بهم ، كان وقتها قد قضى ما يقرب من الشهرين داخل هذا المكان الذى يعرف بملاحظة المخصوص ، وأخبرنى أنه وضع هنا لضبطه وبحوزته هاتف محمول داخل أحد السجون الأخرى وانه قد تم ترحيله ليقضى فترة ستة أشهر داخل هذا السجن كعقاب له على إستخدامه للهاتف المحمول داخل السجن ، فى الجوار أيضا كان هناك عدد من المسجونين وقعت عليهم عقوبات تأديبية ويقضون فترات داخل الملاحظة ، كانت ادارة السجن تخالف اللائحة فى تعاملها مع هؤلاء المحتجزين ، فقد كانت تعمد إلى تعذيبهم بدنيا وحرمانهم من الطعام ، كانت تقدم لهم يوميا نصف رغيف من الخبز البلدى وقطعة جبن صغيرة وزجاجة مياه فقط بغرض إبقائهم فقط على قيد الحياة وتعذيبهم فى الوقت ذاته . بعد ثلاثة أيام استدعانى مأمور السجن ، وجدته ينتظرنى داخل مكتب قائد العنبر ، كان ضابطا مسنا يحمل رتبة عميد إستقبلنى بحفاوة مبالغ فيها ، وحذا حذو رئيس المباحث فى توجيه أسئلة لا مبرر لها تتعلق بقضيتى وبمعتقداتى الدينية ، وعندما وجهت إليه سؤالا يتعلق بالسبب وراء وضعى فى هذا المكان أخبرنى أنهم إضطروا لذالك حتى لا يتأثر بقية نزلاء السجن بأفكارى ومعتقداتى إن إختلطت بهم وتحدثت معهم ! . سألته عن مكتبة السجن وعن مدى إمكانية القراءة فيها ، فأخبرنى أن المسجونين غير مسموح لهم بالذهاب الى هناك ووعدنى بإرسال بعض الكتب الى زنزانتى لقراءتها وهو ما لم يحدث ! . فى اليوم التالى كان قائد العنبر قد حضر من إجازته وبدأ بالمرور على الزنازين لتوزيع التعيينات ، عندما فتحت زنزانتى وجدت أمامى ضابطا شابا برتبة نقيب ، نظر إلى شذرا قائلا : “ الخلقة دى مش غريبة على " ، نظرت إليه طويلا ولم أرد ، وفى حقيقة الأمر فإنه لم يكن قد سبق لى أن رأيته فى حياتى ، فقط كان يحاول إيهامى بأنه يعرف عنى كل شىء ، وجدته يزيحنى من طريقه ويدخل الى زنزانتى ويقلب محتوياتها بعصا فى يده ، التقط فرشاة أسنانى وتفحصها قليلا قبل أن يفتح فمه ويخبرنى أنها ممنوعة ، تمالكت نفسى بأعجوبة ، قبل أن أخبره ببراءة مصطنعه أننى أحتاجها لغسل أسنانى !! ، عرض على حينها أن يكسر العصا البلاستيكية ويعطينى الفرشاة فقط أو أن يضعها فى درج مكتبه لأطلبها من الجندى كل صباح وأعيدها مرة أخرى ، كان الأمر محيرا بالنسبة لى خاصة أننى لم أجد سببا مقنعا يمنعنى من حيازة مجرد فرشاة أسنان بلاستيكية ، زعم أن ذالك ضرورى لأمن العنبر حتى لا أستخدمها فى مقاومة الحراس والهرب !! سحقا لهذا الغباء المستحكم !. سألنى قبل أن يغلق باب الزنزانة عما إذا كنت مستريحا فى إقامتى بها ، حركت رأسى دون أن أتحدث ، رد على قائلا : " دى كانت زنزانة عزت حنفى الله يرحمه قبل ما يتعدم .. بيطلع فيها عفاريت بالليل " إبتسمت فى صمت لأنقل له عدم مبالاتى بما يقول ، خاصة أننى لا أؤمن بخزعبلات الأشباح والجن وخلافه ، قبل أن أفتح فمى وأقول له متحديا : “ دى فرصة كويسه .. على الأقل هلاقى حد يسلينى بدل ما أنا قاعد لوحدى ! “ ، ويبدو أن ردى وإبتسامتى قد سببا له قدرا من الإحباط فسارع بإغلاق الباب والرحيل !. قضيت فى ملاحظة المخصوص خمسا وستون يوما متواصلين ، تميزت تلك الفترة بصعوبتها الشديدة ، كان زملائى فى الزنازين المجاورة يعانون من الجوع الشديد ومن الحرمان من التدخين ، و بعضهم كان يحاول إجتياز تلك العوائق بأساليب مبتكرة ، أحدها يتمثل فى فتل حبل طويل بإستخدام أنسجة البطانية الميرى الوحيدة التى بحوزتهم وأخراجه من الفتحات الموجودة فى أبواب الزنازين وتوصيله بطريقة ما الى الزنازين الأخرى ومشاركة الطعام والسجائر التى يتحصل بعضهم عليها بين الحين والآخر فيما بينهم دون علم الإدارة ليلا ، كان الأمر طريفا ومرعبا فى الوقت ذاته ، فقد كان قائد العنبر يعنف وبشدة من يكتشف لجوئهم لتلك الحيلة ، فقد كان يكبلهم بالقيود المعدنية ويعلقهم فى احد الأبواب ليقوم بجلدهم ،دائما ماكان يصل إلى أسماعنا صراخ هؤلاء المعذبين قادما من جهة مكتب قائد العنبر الذى لم يكن يتورع عن إرتكاب أبشع الانتهاكات ضد المسجونين لأسباب تبدو تافهه فى معظم الأوقات . فى أحد الأيام قام أصدقاء لى بزيارتى ، عدت من الزيارة ومعى بعض المواد الغذائية منها الشاى والسكر والقهوه وخلافه ، ولم يكن مسموحا لنا فى زنازين ملاحظة المخصوص بحيازة الغلايات الكهربائية او إستخدامها ، شعرت فى الليل برغبة فى تناول قدح من الشاى الذى لم اكن قد تذوقته لفترة طويلة ، رفعت صوتى مناديا على الحارس المكلف بمراقبتى وطلبت منه أن يحضر لى قليلا من الماء الساخن ، ذهب الرجل وفى ذهنى أنه سيعود ومعه ما طلبته منه ، عاد بالفعل بعد قليل وبرفقته لفيف من المخبرين والحراس قبل أن أنتبه إلى أن قائد العنبر النقيب حسام هشلة قد حضر معهم ، وقف الرجل خلف نافذة المراقبة ، ليسألنى ان كنت قد طلبت ماءا ساخنا من الحارس ، فأكدت له الأمر مستغربا حضوره فى هذه الساعة المتأخرة من الليل لسؤالى عن ذالك ! ، وجدته يسألنى بلهجة يغلفها بعض الحزم قائلا : “ إنت مش عارف ان ده ممنوع " ، نظرت اليه شذرا محاولا أن أفهم قليلا مما يدور حولى ، وأجبته بسؤال آخر محاولا معرفة السبب وراء منع دخول الماء الساخن الى زنزانتى لصنع كوب من الشاى ، فوجدته يستغرب سؤالى قائلا : “ إنت متعرفش الميه السخنه ممكن يتعمل بيها ايه .. ده ممكن يتعمل بيها بلاوى سوده !! “ … ثم أردف بلهجة ساخرة : “ دى المياه السخنه ممكن نولد بيها ست حامل !! “ ، صمت للحظات محاولا إدراك ما اذا كان يقصد توجيه اهانة لى ، قبل أن أبادره بالسؤال عن الكيفية التى يمكن بها إعداد كوب من الشاى دون الحصول على الماء الساخن أو على مصدر لتسخين الماء ، فإنفعل قائلا : “ إنت كمان عاوز تسخن مياه فى الزنزانة ؟؟!! إوعى تكون بتسخن مياه على الخابور .. إنت معاك كبريت ؟؟!! “ … ولمن لا يعرف فإن الخابور فى عرف المسجونين هو أداه بدائية تستخدم فى تسخين الماء بشكل غير صحى ، يلجأ اليها المسجونين فى حال عدم قدرتهم على توفير غلاية كهربائية ، و تعتمد على تجميع قطع بلاستيكية واشعال النار فيها تحت زجاجة مياه غازية بلاستكية معبئة بالماء والسكر والشاى ومغلقة بإحكام ، لم أفكر إطلاقا فى اللجوء الى هذه الطريقة من قبل كونها غير صحية وبالغة الخطورة ، لكن خيال الضابط كان قد سرح به بعيدا ليظن أن بحوزتى بعض أعواد الثقاب التى قد استخدمها فى اشعال النار داخل الغرفة بغرض اعداد الشاى . فى اليوم التالى إستدعانى الضابط الى مكتبه وسألنى ان كان بحوزتى أعواد الثقاب فنفيت الأمر ، أرسل إلى زنزانتى أحد افراد المباحث لتفتيشها ،لم يجد الرجل ما يبحث عنه ، فعاد من حيث أتى ليخبر الضابط الذى إنفعل بشدة عندما علم أن بحوزتى بعض الأقلام ، وطلب من المخبر أن يعود إلى زنزانتى كى يأخذها على وجه السرعه ، ففى نظره هى أخطر ما يمكننى حيازته فى السجن ، حضر المخبر وفتش امتعتى هذه المرة بغرض إستخرج الأقلام ، كنت أتوقع الأمر من قبل فعمدت إلى إخفاء أنبوبة أحد الاقلام داخل ثنيات اقمشة حقيبتى ، عثر المخبر على الاقلام ومعها جسم القلم الذى انتزعت انبوبته وطلب منى أن أعطيه الانبوبة ، أخبرته أنها تلفت منى وأننى تخلصت منها فى جردل البراز بالغرفة ، أحضر المخبر أحد المسجونين العاملين فى العنبر وطلب منه أن يبحث داخل جردل البراز عن أنبوبة القلم ، ولم يعثر عليها المسجون بالطبع لأنها لم تكن بالداخل ، فهددنى المخبر بإعادة تفتيش أمتعتى مرة أخرى وتمزيق كل شىء فى سبيل العثور على أنبوبة القلم ، ولم أجد بدا أمام تهديده سوى أن أستخرج الانبوبة من مخبئها والقيها له على الارض لينحنى أمامى ويلتقطها وكأنه قد عثر على صيد ثمين !! . لم يكن بحوزتى أقلام أكتب بها فيما بعد فلجأت إلى حيلة جديدة ، كنت أطلب طعاما من كافيتيريا السجن وفى بعض الأحيان كانوا يحضرونه داخل أورق الفويل ، ووجدت بإمكانى أن أصنع أقلاما من هذه الأوراق المعدنية عن طريق طويها وصنع سطح مدبب بنهايتها ، ونجحت ، ولكى أوصل رسالة لقائد العنبر مضمونها أنه لن يتمكن من قهرى مهما حدث كنت تعمدت إستخدام قلم الفويل فى كتابة عبارات تحمل هذا المعنى على الحائط ، وفى كل مرة كان يجد تلك الكتابات يبادر بنقلى الى زنزانة أخرى ويطلب من المسجونين المصنعين للعمل فى العنبر بمسح الكتابة من على جدار الغرفة ، وعندما كان يحضر فى اليوم التالى يجد كتابات جديدة على جدار الزنزانة الأخرى فكان يعيدنى الى الزنزانة القديمة ويكرر الأمر ولم أتوقف ! . فى المرات القليلة التى إلتقيت بها مأمور السجن إنتابتنى حالات من الإحباط وخيبة الأمل ،فالإبتسامة الصفراء التى كان يستقبلنى بها فى بداية الأمر والوعود المتناثرة بتحسن وضعى مع الوقت لم يكن لها أى صدى على أرض الواقع ، إستمر الأمر على هذا الحال حتى هذا اليوم الذى التقيته وأنا عائد من الزيارة العائلية الأخيرة التى شاهدت فيها والدى وشقيقاى لآخر مرة ، كنت فى حالة نفسية سيئة جدا بعد حديث مع عائلتى غلب عليه المساومة والتهديد ، مساومتى بطلبهم منى الاعلان عن توبتى وتبرأى من كتاباتى مقابل الاستمرار فى زيارتى ، والتهديد بقطع صلتهم بى والامتناع عن زيارتى مرة اخرى ان لم استجب لهم ، وكانوا قد أحضروا معهم كتاب دينى يحمل على غلافة رسما لجماجم وعظام ونيران مشتعله ومعنون بـ " عذاب القبر " ، بغرض تخويفى وأنا فى هذه الحالة داخل السجن ودفعى للإستجابة لهم كرها ، عدت متعبا مرهقا ومحبطا ، بعد أن قرروا فى النهاية الامتناع عن زيارتى بعد أن يأسوا من إخضاعى لما يريدون ، التقيت العميد جمال مخيمر مأمور السجن جالسا على جانب الطريق إقتربت منه لأسأله عن الوقت الذى سينقلنى فيه من ملاحظة المخصوص إلى عنبر آخر موضحا له اننى لم أعد احتمل البقاء هناك أكثر من ذلك ، كانت اجابته صادمة لى ، لم تختلف كثير عن مضمون الحوار العقيم الذى أضعت فيه وقتا مع أفراد عائلتى فقد فوجئت بمأمور السجن يجيبنى قائلا بالحرف الواحد : " إنطق الشهادتين وأنا أنقلك " .. لم أمتلك سوى نظرات الإشمئزاز أرمقه بها قبل أن أتحرك عائدا إلى زنزانتى .
طوال هذه الفترة كنت ممنوعا من مغادرة الزنزانة سوى للزيارة او لمقابلة من يطلبنى من الضباط ، دورة المياة كانت ممنوع على الذهاب اليها فى معظم الاوقات حتى لغرض الاغتسال أو غسل ملابسى ، حتى وصل الأمر بى الى حد ان قضيت ثلاثة أسابيع كاملة دون أن تمس جسدى قطرة من المياه ، أصابتنى حالة من الإكتئاب الشديد خاصة عندما لاحظت ظهور قمل داخل ملابسى وهو الأمر الذى لم يحدث من قبل وقررت الدخول فى إضراب تام عن الطعام والشراب ، حضر الضابط كعادته يوميا لتوزيع التعيين فرفضت إستلامه وأخبرته عن بدء إضرابى عن الطعام ، سألنى عن السبب فأخبرته أننى لا أرى أن هذا هو المكان المناسب لى وأنه ينبغى نقلى من هذا العنبر الى مكان آخر وحتى يتم الاستجابة لمطلبى سأضرب تماما عن الطعام والشراب ، عنفنى قائلا : “ إوعى تكون فاكر انك ممكن تلوى دراعنا .. الداخلية دراعها ما يتلواش " .. نظرت الى شذرا و إكتفيت بالرد قائلا : “ هنشوف ! “ … عندها أمر بتجريدى من كل متعلقاتى الموجودة فى الزنزانة وأغلق الباب بعد أن ترك لى فقط بطانية صوف وحيدة . إستمر اضرابى عن الطعام ثلاث ليال متتالية ، وفى اليوم الثالث استدعانى مأمور السجن وأخبرنى أنه سينقلنى من العنبر وسيستجيب لكل طلباتى خلال اسبوع واحد وفقط على أن أنهى إضرابى عن الطعام ، صدقته وأنهيت إضرابى ولم يحدث أى شىء ، عاد الضابط قائد العنبر من إجازته وهو ينوى التنكيل بى ، فى مساء أحد الأيام كنت أتحدث مع زملائى فى الزنازين المجاورة ، وحضر أحد المخبرين إلى نافذة المراقبة فى زنزانتى طالبا منى أن أكف عن الحديث وانام ، رفضت متحديا وأخبرته أن عليه هو أن يبحث عن شىء أكثر أهميه لينشغل به بدلا من أن يتدخل فيما لا يعنيه ، رد على مهددا بتعنيفى وضربى ، ورددت عليه بالمقابل ساخرا من أنه لا يملك سوى فم يطلق به التهديدات والشتائم ! . استيقظت فى اليوم التالى على ركلة فى ظهرى ، كان "حسام هشلة" قائد العنبر قد حضر مبكرا وهو ينوى التنكيل بى بحجة تحدثى مع المخبر بشكل غير لائق استيقظت محاولا فهم مايحدث دفعنى أمامه مستخدما كل مفردات قاموس الشتائم والإهانات الذى درسه فى أكاديمية الشرطة ، حتى وصلت الى مكتبه ، فى المكتب هددنى بالتعذيب ، وأخبرته أن يفعل ما بدا له وهددته فى المقابل بتحريك قضية ضده ، إنفعل وأمر بإعادتى الى الزنزانة مرة أخرى وتكبيل يداى وقدمى ، محاولا إستغلال جهلى بلائحة السجون قائلا أنه لن يخالف القانون معى ، فقط سيعاقبنى بالتكبيل لمدة ثلاثة أيام بتهمة " إحداث هياج فردى " ! . ملحوظة : لا يوجد جزاء يتضمن عقوبة التكبيل فى لائحة السجون ! . تركنى الضابط على هذا الحال لمدة ساعتين ثم استدعانى الى مكتبه محاولا أن يظهر لى وجها مغايرا طالبا منى الإعتذار له وللشرطى ، ورفضت قائلا أنهم هم الذين أخطأوا فى حقى وأنا الذى أستحق أن يوجه لى إعتذار علنى وصريح وإلا سأقوم برفع قضية ضدهم ، رفع صوته آمرا أحد الجنود أن يعيدنى إلى زنزانتى على وجه السرعة قائلا: “ رجعوا إبن الكلب ده للزنزانة قبل ما أرتكب فيه جناية وآخد إعدام ! “ . غادرت ملاحظة المخصوص فى الثامن من مايو عام 2007 ، بعد أن قامت النيابة العامة بالتفتيش على السجن ، وقامت إدارة السجن بنقل المسجونين المحتجزين فى التأديب بعنابر أخرى حتى لا يتم ضبط التجاوزات التى تقوم بها الإدارة فى حقهم ، لكننى عدت إليها مرة أخرى بعد خمسة أشهر ونصف ، عندما لفقت لى قضية التشاجر مع نزيل آخر وإحداث اصابة به للتغطية على تعرضى للتعذيب من قبل اثنين من المخبرين داخل أحد العنابر ، إستدعانى قائدالمجموعة بعد أن كسرت إحدى أسنانى خلال هذا الاعتداء وعندما أخبرته أننى أريد تحرير محضر بالحادث وإثبات إصاباتى بتقرير طبى أمر بوضعى فى الحبس الانفرادى وتلفيق القضية ، وقضيت هناك أسوأ عشرة أيام فى حياتى ، تعرضت فى البداية لتعذيب بدنى بشع والتهديد بتجريدى من ملابسى ، وتم نقلى الى الزنزانة محمولا على بطانية من الصوف بعد أن تم تكبيل يداى من الخلف وقدمى وتوصيل قيود اليدين والقدمين بعضها ببعض ، قضيت ما يقرب من ساعة كاملة على هذا الحال ، قبل أن تفك قيودى وتتم محاولة اجبارى على التوقيع على محضر يتضمن تبرئة ادارة السجن مما حدث لى ، وعندما رفضت وادليت باقوالى التى تدين المخبرين والادارة تم تمزيق المحضر وارسال اقوال مختلفة دون توقيع منى الى النيابة العامة التى احالت القضية الى إحدى المحاكم ، حكم على غيابيا فى البداية بالحبس لمدة شهر قبل أن تتم تبرئتى مما نسب الى ، خلال هذه الأيام شعرت بإنهيار قواى تماما ، فقد عوملت كبقية المسجونين الذين يقضون جزاءات تأديبية ، حرمت بشكل شبه تام من الطعام ، وكان طعامى يقتصر على رغيف من الخبز وقطعة جبن وزجاجة مياه كل يوم، لم أغادر الزنزانة طوال هذه الفترة ، وشعرت بإنقباض شديد عندما سيق نزيل أخرس محكوم عليه بالإعدام ويعانى من أزمة نفسية حادة لتنفيذ الحكم فى غرفة الإعدام المجاورة للعنبر ، كانت الأصوات تصلنى فى زنزانتى وهم ينفذون الحكم عليه وشعرت بقسوة هذا المجتمع وجبروته الذى يجرد الإنسان من حياته الذى لم يمنحها له ويكرر نفس الجرائم التى يعاقبه من أجلها مرة أخرى معه ، خرجت من ملاحظة المخصوص بعد عشرة أيام وقد أدركت أن شيئا فى قد إنكسر ، بقيت فى السجن بعد هذا الحادث ثلاث سنوات ، لم أكن مرنا فى وقت من الأوقات ولم أستسلم ، لكننى فقدت جزءا من القوة التى كنت أواجه بها خصومى وأتحداهم ، لم يقل حماسى للدفاع عما أؤمن به يوما ما ، لكن أصبحت أجد صعوبى كبيرة فى التعبير عن نفسى وإيصال الرسائل التى أرغب فى توجيهها ، أنا وحدى الذى شعر بهذا التغيير الذى أحدث فجوة داخلى جعلتنى فيما بعد الجأ أحيانا إلى إتخاذ مواقف شبه مرنه ، سرعان ما أندم عليها ، أعترف للمرة الأولى أن السجن ترك فى أثر سلبى ، وأؤمن فى أعماقى أننى سأتمكن يوما ما من محو هذا الأثر والتغلب عليه .
#كريم_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إلى الثوار الأغبياء: الجزاء من جنس العمل !
-
كلمتى عن الربيع -الزائف- فى استوكهولم
-
حتى لا نبكى على وطن أضاعته سذاجتنا وغفلتنا
-
شخصيات إلتقيتها فى السجن:محمد عبد المجيد (شرقية)
-
شخصيات إلتقيتها فى السجن : مجدى أنور توفيق
-
شخصيات إلتقيتها فى السجن : محمد إبراهيم الفيشاوى
-
حتى نتجنب الهاوية
-
زيارة إلى أوشفيتز
-
شخصيات إلتقيتها فى السجن : عادل اليمنى
-
كلمتى فى مؤتمر يوم المرأة العالمى بالسويد - المرأة المصرية و
...
-
كراكوف ومقارنات مغلفة بالألم
-
محاكمة مبارك وذكريات أليمة
-
إحذروا هؤلاء .. فهم خطر على مصر
-
قائمتى السوداء بأشباه الكلب العقور مجدى الشاعر
-
طريقنا الوحيد لنجاح الثورة : إسقاط المجلس العسكرى
-
سجن مايكل نبيل إجهاض عسكرى لأحلام الثوار
-
يسقط حكم العسكر - الحرية لمايكل نبيل
-
التجديد على الطريقة السلفية !
-
تسقط ديمقراطية الجماعات الاسلامية !!
-
حتى لا يسرق اعداء الحرية ثورتنا الشامخة
المزيد.....
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
-
مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا
...
-
اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات
...
-
اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
-
ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف
...
-
مايك ميلروي لـ-الحرة-: المجاعة في غزة وصلت مرحلة الخطر
-
الأمم المتحدة: 9.8 ملايين طفل يمني بحاجة لمساعدة إنسانية
-
تونس: توجيه تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام إلى عبير موسي رئيسة
...
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
المزيد.....
-
١-;-٢-;- سنة أسيرا في ايران
/ جعفر الشمري
-
في الذكرى 103 لاستشهادها روزا لوكسمبورغ حول الثورة الروسية *
/ رشيد غويلب
-
الحياة الثقافية في السجن
/ ضرغام الدباغ
-
سجين الشعبة الخامسة
/ محمد السعدي
-
مذكراتي في السجن - ج 2
/ صلاح الدين محسن
-
سنابل العمر، بين القرية والمعتقل
/ محمد علي مقلد
-
مصريات في السجون و المعتقلات- المراة المصرية و اليسار
/ اعداد و تقديم رمسيس لبيب
-
الاقدام العارية - الشيوعيون المصريون- 5 سنوات في معسكرات الت
...
/ طاهر عبدالحكيم
-
قراءة في اضراب الطعام بالسجون الاسرائيلية ( 2012) / معركة ال
...
/ كفاح طافش
-
ذكرياتِي في سُجُون العراق السِّياسِيّة
/ حـسـقـيل قُوجـمَـان
المزيد.....
|