وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3758 - 2012 / 6 / 14 - 16:39
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المقال منقول باختصار وبتصرف عن كتاب : (نقد الليبرالية ) للدكتور الطيب بو عزة – ط1 – 2009 – عن مجلة البيان
عندما نطالع تاريخ النظم السياسية ,سنلاحظ ان لحظة النقد غالبا ما تظهر في تاريخية هذه النظم بوصفها لحظة لاحقة لاشكالات وازمات ظهرت اثناء التطبيق .
ان النيوليبرالية (الليبرالية الجديدة )خط جديد داخل التيار الليبرالي ظهر في بداية عقد السبعينات من القرن العشرين . ولفهم هذا التيار لابد من الرجوع الى النصف الاول من القرن العشرين , حيث سنلاحظ اشتداد النقد على الليبرالية واخضاعها لمراجعات ومقولات تكشف عن الاختلالات الكامنة في اسسها النظرية والتطبيقية .
تلك المراجعات التي ستخلص الى المناداة بالحد من حرية الفعل الاقتصادي . ومن الملاحظ في هذه الفترة تكاثر الكتابات التي تنزع نحو الحديث عن الليبرالية بوصفها ايديولوجيا ونظاما اقتصاديا قد تخطته البشرية , خصوصا الدراسات النقدية الصادرة من داخل الماركسية .
واذا كنا نسمع اليوم خطابا يسوق الليبرالية بوصفها نهاية التاريخ, اي النظام الاخير المنتصر, فاننا لو عدنا الى الادبيات الليبرالية التي ظهرت في النصف الاول من القرن العشرين ,سنجدها مسكونة بخطاب انهزامي .
لقد خلفت الحرب العالمية الاولى واقعا دوليا جديدا شهد بروز ظواهر وقوى جديدة , بفعل انتصار الثورة البلشفية 1917 م ثم لاحقا ظهور الانظمة الفاشية ,حيث برز شرط واقعي جديد تمثل في بروز نظم ,ان كانت تشهد انحطاطا على مستوى الحريات , فانها في المقابل انجزت نقلات هائلة في مجتمعاتها خصوصا على مستوى التصنيع وذلك بفعل سلطة الدولة المطلقة .
ثم جاءت الازمة العالمية عام 1929 لتشكل ضربة هائلة اهتز لها الاقتصاد الراسمالي الى درجة الانهيار . وكانت هذه الازمة مناسبة لانطلاق التفكير الليبرالي الى محاولة فهم مكمن المشكلة وايجاد المعالجات المناسبة . ومن الملاحظات التي اثارت انتباه منظري الاقتصاد السياسي ,هو ان هذه الازمة الهائلة لم تمس اقتصاديات الدول الخاضعة لسيطرة الدولة ( الاقتصاديات الاشتراكية ),بل عصفت فقط بالاقتصاديات الليبرالية الراسمالية . وبناء على هذه المقارنة ستظهر النظرية الكنزية بوصفها محاولة لتعديل النمط الاقتصادي الراسمالي , حيث سيقترح البريطاني اللورد جون كينز في كتابه الشهير ( النظرية العامة ) عام 1936 حلا قائما على تدخل الدولة .وقد قام بدراسته هذه على اساس دراسة مشكلتين رئيسيتين ,هما البطالة والنقد ,منتقدا النظرية الليبرالية في نظرتها الى سوق العمل , حيث لم تنتبه الى مشكلة البطالة , ولم تبلور معالجات كفيلة بالتقليل منها. وقد اكد كينز على ان البطالة ظلت ملازمة للاقتصادالليبرالي الراسمالي .وهو الامر الذي يدفع نحو وجوب عدها مشكلة حقيقية تحتاج للمعالجة .
وقد عاب كينز على الليبرالية افتقارها الى الرؤية الكلية للواقع الاقتصادي
فهي بسبب فردانيتها تنظر الى المجتمع بوصفه مجموعة من الافراد ينبغي ان تعطى لهم حرية مطلقة في العمل , اما المجتمع فانه سينتظم تلقائيا بناء على تلك العلاقات . بينمااثبتت الازمة انه لابد من تدخل الدولة لترشيد السلوك الاقتصادي .واكد كينز على ضرورة قيام رؤية علمية شاملة تحدد الكم الكلي للمداخيل والاستهلاك والاستثمار وسعر الفائدة ,ليتم ضبط وترشيد العملية الاقتصادية .
وقد اتجهت المدرسة الكينزية الى انجاز تعديلات كبيرة في النظرية الليبرالية , حيث نادت بوجوب تدخل الدولة بدل ترك الفعل الاقتصادي مرتهنا بفردانيته : ( دعه يعمل ...دعه يمر ) وبلورة رؤية تقلل من استقلالية وحرية الفعل الاقتصادي .
وهذا ما اسماه بعضهم بانقاذ الليبرالية من فوضى الحرية .
لقد كان النقد الكينزي للنظرية الليبرالية اعمق مشروع نقدي صدر من داخل المذهب الليبرالي ..
ويمكن القول ان اقتصاديات ما بعد الحرب العالمية قد اخذت في عمومها بالنظرية الكينزية .
لكن في بداية السبعينات ومع حرب اكتوبر 1973 شهد الاقتصاد العالمي ازمة اخرى عقب ارتفاع اسعار النفط ,حيث ستبرز ازمة اقتصادية جديدة لم تكن معروفة , وتتمثل في اقتران التضخم بالبطالة .
وقد برزت رؤى اقتصادية عملت على بلورة اطار نظري مغاير للاطار الكينزي , حيث زعمت هذه الرؤى ان سبب الازمة لايكمن فقط في ارتفاع سعر النفط , بل في ارتفاع نفقات الدولة على الخدمات العامة التي تقدمها للطبقات الفقيرة والمتوسطة .وكان الحل هو التراجع عن المقاربة الكينزية بالعودة الى المنطق الليبرالي القاضي باطلاق الفعل الاقتصادي من كل قيد خارجي .واختزال سلطات الدولة بالتقليل من مهامها ونفوذها , وجعل السوق كينونة مستقلة بذاتها.وهذا الحل سيجري الاصطلاح على تسميته بالنيوليبراليزم ( الليبرالية الجديدة ) .
اذا كانت النظرية الكينزية تراجعا عن الاطلاق الليبرالي للسلوك الاقتصادي , ورفضا لحياد الدولة بقصد معالجة ازمة عام 1929 ,فان الليبرالية الجديدة هي محاولة معالجة ازمة عام 1973 على اساس رفض المنظور الكينزي والمناداة بالعودة الى الانتظام وفق الرؤية الليبرالية في اشد تمظهراتهاالتحررية المطلقة .
واذا كان لليبرالية الجديدة حضور كبير في الفكر الاقتصادي الامريكي ,خصوصا في مدرسة شيكاغو مع اتباع فريد مان , ثم بوشانان وراند ونوزيك .ان هذه النظرية ظهرت اولا في حقل الاقتصاد السياسي بوصفها تنظيرا مرتكزا على اصول فكرية كانت قد تبلورت في مدارس اوربية مثل : مدرسة لوزان التي اسسها ليون فالراس والمدرسة النمساوية التي اسسها كارل منجر , والمدرسة الانجليزية التي اسسها وليم ستانلي جيفنز .
بيد ان التيار النيوليبرالي سينجح في تجاوز الحقل الاقتصادي الى بلورة رؤية ليس فقط للمجتمع والدولة على مستواها النظري , بل رؤية للعالم بكل تنوعه وتعقيداته, حيث تم تبني المقاربة النيوليبرالية من قبل المنظمات الاقتصادية الدولية كصندوق النقد الدولي , الذي سيعمل وفق هذه الرؤية على اعادة رسم اقتصاديات الدول الفقيرة بالضغط على حكوماتها لتبني اختيارات نيوليبرالية .
وفي بداية التسعينات من القرن العشرين حدث تحول كبير في الواقع الدولي ,حيث انهار النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي وباقي المنظومة الاشتراكية , فتم الحديث عن اطار علاقات جديدة يجب ان تسود الواقع الدولي , اطار يتسم بانفتاح الاسواق وزوال الحواجز الجمركية امام انتقال السلع , وتقليص نفوذ الدولة ,وهو الاطار الذي تم الاصطلاح على تسميته ب ( العولمة ) ,الامر الذي زاد من توكيد هيمنة الرؤية النيوليبرالية , والدفع بها لتكون المرجعية النظرية للعولمة .والفلسفة التي تهتدي بها المؤسسات التي تتحكم في الارض ومن عليها على تعدد واختلاف اقطارها وثقافاتها وانظمتها .
لقد ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر ثلاث مدارس اقتصادية تؤسس للرؤية النيوليبرالية , وهذه المدارس هي , المدرسة النمساوية مع كارل مينجر , ومدرسة لوزان مع فالراس , ومدرسة كمبردج مع ستانلي جينفنس .
اذا كان علم الاقتصاد السياسي الليبرالي الكلاسيكي مع ادم سميث وريكاردو قد اكد على ان العمل هو محدد القيمة ,فان المنظور النيوليبرالي مع مانجر وفالراس يرى ان ( المنفعة )هي محدد القيمة , وهو توكيد على المنظور المنفعي المتعلق بذاتية المستهلك ,الامر الذي جعل التحليل النيوليبرالي ينتقل من مستوى الموضوعية الى مسنوى الذاتية.
في الجزء القادم والاخير : (في الاخلاق الليبرالية )
على المودة نلتقيكم ......
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟