نورالدين علوش
الحوار المتمدن-العدد: 3750 - 2012 / 6 / 6 - 10:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ترجمة نورالدين علوش- المغرب Giorgio Agamben et Andrea Cortellessa, « Le gouvernement de l insécurité », in La Revue Internationale des Livres et des Idées, 24/02/2009, url: http://www.revuedeslivres.net/articles.php?idArt=118
س:منذ وقت بعيد أصبح موضوع الأمن أولوية في أجندتنا السياسية. فاستطلاعات الرأي أشارت إلى احتلاله المركز الأول في اهتمامات الناخبين.: فعلى هذا الأساس تتمحور نوايا التصويت.فهذا الأمر لا يخص ايطاليا فقط. فاهتمام وسائل الإعلام بهذه المسالة تزايدت عل امتداد التسعينات إلى إن وصلت ذروتها مع اعتداء ات 11 شتنبر 2001. ولازال الشعور بعدم الأمن يتزايد شيئا فشيئا في الغرب بالرغم من تناقص ظواهر الإجرام والانحراف في نفس المدة.
ج: كما كان الأمر يتعلق سابقا بدولة الاستثناء ,فالأمن أصبح اليوم برادا يم حقيقي للحكومة. لهذا يقتضي الأمر التساؤل عن أسس هذا المفهوم , و من أين يأتي , وما هو دوره ألان, وفي أية إستراتجية يندرج.
فالفيلسوف الفرنسي فوكو هو أول من حدد أصوله في دروسه بكوليج دو فرانس سنة 1977-1978.
حيث وضح كيف نشا هذا المفهوم من طرق الحكومات المبجلة من طرف كويزناي والتيار الفزيوقراطي عشية الثورة الفرنسية . فالمشكل الأساسي للمجتمع في ذلك العصر هو المجاعة. حيث حاولت الحكومات بتفاديها بتخزين الحبوب وبالحد من الصادرات....لكن كانت النتائج دائما كارثية.
فكرة كيزناي انه لا يمكن التنبؤ بالمجاعة وفي كل الحالات فهذا النوع من الإجابات أكثر ضررا من ادعاءاتنا بمنعها.
هنا يتدخل النموذج الذي عرفه كيزناي بالأمن ، ما ان تقع المجاعات حتى يتم التحرك وفقها على اساس تدخل وتدبير تحت إدارة مناسبة.
فالخطاب الحالي حول الأمن على عكس ما تؤكده بروباغوندا الحكومات ,لا يرمي إلى التنبؤ بالهجمات الإرهابية أو اي شكل من أشكال غياب الأمن؛ فدوره الحقيقي هو التدخل والمراقبة البعدية . بعد الاضطرابات التي جرت أثناء انعقاد القمة الثمانية (ج8 ) يوليوز 2001 صرح ضابط كبير في الشرطة للمستشارين الذين يحققون في تلك الأحداث بان الحكومة لا تريد الحفاظ على الآمن بل تدير اللامن. فهذه الصراحة من الحكومات لم نعهدها من قبل سواء في سياستها الداخلية أو سياسيتها الخارجية.
فالهدف اليوم ليس النظام بل إدارة اللا نظام. فالإجراءات البيو مترية التي تتخذها أمريكا عل حدودها والدول الأخرى الراغبة في تطبيقها -تعيد بنا التفكير إلى الممارسات الموجهة في القرن التاسع العشر لمنع المجرمين من تكرار جرائمهم- ليست تحسبا لإجرامهم- مثل بطاقة الهوية القضائية لبرتيون أو البصمات الرقمية لجالتون. من الواضع ان مثل هذا الإجراءات لن تمنع ارتكاب الجرائم؛ اذا تمكنت من منعها قليلا فعلى الأكثر لن تمنع الفرد الذي سبق وان ارتكب جرما ان يرتكبه مستقبلا.
س: فهذه الممارسات بالأحرى غير ناجعة , مثل كاميكاز الذي ينتحر لمرة واحدة؟
ج: فهذا النوع من الإجراءات لم تتخذ لتلبية مطلب الوقاية من الإجرام ولا تتناسب دائما مع هذا الدور. لكن اذا كان واضحا أن الأمن أصبح برادايم الحكومة الذي معناه مختلف عن ما هو متداول لدى الرأي العام .من الضروري التساؤل عن الطبيعة الحقيقية للديمقراطية اليوم. بحث اختزلت هذه الأخيرة إلى طريقة واحدة للإدارة والى هدف وحيد دولة الأمن والاستثناء إذن هي لا تمت بصلة إلى الديمقراطية.
أتذكر بعد الحرب العالمية الثانية انه صرح بعض الباحثين في علوم السياسية (روسيتر كلينتون على سبيل المثال) للدفاع عن الديمقراطية اية تضحية تم تقديمها ليست لها أهمية بمكان حتى ولو تم تعليق الديمقراطية . نحن اليوم نعيش في سيناريو مشابه ؛ فايدولوجيا الأمن الداخلي تهدف إلى تبرير الإجراءات التي تهدد جوهر الديمقراطية نفسها ومن وجهة النظر القانونية فتلك الإجراءات بربرية بامتياز.
س: مارايكم في مبادرة والتر فلتروني في إرسال جرا فات إلى مكان مليء بفناني السيرك بعيد مقتل جيوفانا ريجياني بطور دي كينطو أو بمبادرة حكومة برودي تمديد مرسوم قانون في زمن قياسي يسمح بتعليق معاهدة شينغن وبالتالي يعطي إمكانية الترحيل الآني لمواطني الاتحاد الأوربي المتهمين ببعض الجرائم؟ استفدنا كثيرا من هذا الإحساس الذي يثيره هذه النوع من الجرائم ومنعنا من التفكير مليا فيه لولوج مرحلة جديدة في المنطق الأمني. فلن يكون الأمر هكذا لو خضع هذه القرار لمناقشة برلمانية قوية وساخنة. فهذه القدرة التي تطورت في إطار دولة الاستثناء على ما يبدو تمثل قفزة نوعية مخيفة للسياسات الحكومية التي تكلمنها عنها.
ج: فما يخيفنا في هذا الحالة هو صمت رجال القانون. فالثقافة القانونية التي تسمح بمواجهة الإجراءات التشريعية التي تنتهك المبادئ الأساسية للقانون انعدمت. على سبيل المثال فمبادرة حول الأمن التي أعلنها غيليانون اماطو مرات ومرات, هناك بعض الأحكام القانونية – مثل تلك المتعلقة بجرائم جنس الأطفال على الانترنت- هي في الحقيقية ترجع إلى تجريم النية. في تاريخ القانون النية يمكن اعتبراها عاملا مهما للجريمة لكن لا يمكن اعتبارها على الإطلاق جريمة في حد ذاتها. فعلى هذا الأساس أي واحد يمكن وضعه في السجن.
س: الأمر أكثر وضوحا في هذه الحالة هوان في حالة جريرة الرأي المتابعات لا تتم على الأقل على أساس التعبير الانفعالي للرأي , في حين ان مع جنحة النية تصبح المتابعات القانونية لها إمكانية النفاذ إلى الداخل الإنساني.
ج: فهذا ليس الا مثالا من بين أمثلة أخرى. من وجهة النظر القانونية فنحن نواجه بربرية مطلقة. فنحن رأينا تزايد النقاشات في الدول المسماة الديمقراطية حول إمكانية ممارسة التعذيب. فلو ان مؤرخا للقانون قارن بين الأحكام القانونية في عهد الفاشية وبين يومنا الحاضر فلن تكون المقارنة في صالحنا. فلازالت قوانين منذ سنوات الرصاص ممدة قانونيا , لم تقدر اية حكومة يسارية على تعليقها ؛فهذه القوانين تمنع استقبال أي مواطن في المنزل بدون اخبار الشرطة في ظرف اربع وعشرون ساعة. فلا احد يطبقها فلازلنا نستقبل الأصدقاء في المنازل بدون اخبار الشرطة. فالكثير من الناس يجهلون بوجود هذا القانون مع ذلك فهو يعاقب مثل هذا السلوك بستة أشهر عل الأقل .
س: شيء اخر يثيرني في تأملاتكم الطريقة التي بها حالة الأشياء التي تشوه إدراكنا للزمن. سواء كانت المراقبة البيو مترية تقدم باعتبارها ممثلة إجراءات وقائية , لكن في الحقيقة ناجعة بعد الضربة او إجراء مرتبط بنية الانحراف الجنسي الذي يعاقب جنح لم يتم ارتكابها بعد كل هذا يشكل حاضرا مزيفا. هذين الاجرائين القانونين يؤثران في المقام الأول على عقليتنا. كما قلت بخصوص بعض قوانين سنوات الرصاص التي تم تمدديها في سياق مختلف عن ما كان ؛تهدف إلى تكييف مستقبلنا وإعادة تشكيله باعتباره امتداد لا محدود لحاضرنا. اذن هذا ما يؤسس ليس فقط حقا بل كذلك عقلية أحكام الطوارئ.
ج: ناخد حالة بناء بنك المعطيات الخاصة بالحمض النووي . فما تقدمه هذه "المبادرة الشهيرة حول الأمن" يعتبر من بين الإجراءات فضيحة أخلاقية وتنم عن اللامسؤولية. فالمؤرخون يعرفون ان عن طريق صور البطاقة الشخصية والبطاقة المهنية تمكن النازيون من تحديد هوية اليهود وترحيلهم جماعيا.
ماذا سيجري اذا ما تحكم ديكتاتورا في البطاقة البيو مترية وبنك معطيات الحمض النووي لكل المواطنين.؟
س: فهذا النوع من المفارقات – تعليق الديمقراطية للدفاع عنها- يقودني الى القول با نه ادخل القيمة الوحيدة الموروثة عن الثورة الفرنسية في أزمة ؛ التي مازالت تحرك مجتمعنا والتي نلوح بها في ادنى فرصة من كل الجوانب : الحرية.
ج: في المجتمع ما بعد الصناعي المتقدم فالأمر إلى حد ما واقعي. أصبح المواطن في الغرب اكثر قبولا بتقييد الحريات بها أكثر من عشرين سن خلت. يكفي فقط التفكير في الطريقة التي بها تروج فكرة مراقبة الفضاءات العامة والشوارع بالكاميرات. فما يحيط بنا يرتبط اكثر بالسجن منه بالمدينة.
هل يعتقد اي كان انه حر في فضاء مراقب ؟ لم تعرف البشرية من قبل ما نشهده الان من مراقبة وتقييد الحريات. وتوظف كل التكنولوجيا حتى لا نعي نحن ما يجري. على سبيل المثال الشركات المنتجة لأدوات المراقبة البيو مترية ينصحون زبنائهم بتعويد هذا النوع من الأدوات للفئات المستهدفة منذ صغرهم. لابد من وضعها في حدائق الأطفال ,مدارس الأطفال, مدخل المطعم, في الثانويات .. ما ان يتعود الإنسان على أدوات المراقبة تدريجيا حتى يقبل بمراقبة حركاته وسكناته. الهدف هو تربية مواطنين منزوعين من حرياتهم بل لا يدركونها.
س: من المهم معرفة أن هذا يتم باسم الدفاع عن الديمقراطية وعن المجتمع . نحن امام خداع مصطلحي ولغوي لذلك النوع من الخداع الذي تنبا به جورج اويل سنة 1984. الحرب هي السلامة ,العبودية هي الحرية. فالتاريخ اللسني لممارسات الحروب في الخمسة عسر سنة الماضية تؤكد على ما تم التنبؤ به.
ج: الكثير من المصطلحات التي نستعملها ألان فقدت معناها تدريجيا. هكذا نجد الحروب تقد م على أنها عمليات سياسية حتى الديمقراطية نفسها تصف ما يحدث بانه إدارة الحكومة للاقتصاد والمراقبة الأمنية.
حيث أصبح ما يسمى في القرن الثامن العشر الشرطة الذي هو بعيد عن مفهوم السياسة. في الحقيقة الجزء الكبير من التحول يرجع الى عمل وسائل الإعلام التي فقدت دورها النقدي وأصبحت جهازا من أجهزة الحكومة. فانحراف الثقافة القانونية وكذا غياب طبقة قانونية مستقلة سمحت بترويج الغموض
. منذ سنوات باولو برودي اخ رئيس المجلس الوطني ذكر : انتحار قانوني: حقيقي , تدمير ذاتي, نتاج هذيان كل قوة للفكرة القائلة بجعل كل الأشياء القانونية عادية بما فيها تلك القديمة المرتبطة بالأخلاق, الدين ,الجنسانية, حتى ابسط الأفعال والسلوكيات اليومية. فرجال القانون يعرفون او عليهم معرفة انه اذا أخد القانون هذا الطريق فهو ذاهب إلى التدمير. فالقانون ليس له معنى الا اذا اعترف بفضاءات أخرى التي يدخل معها في علاقة جدلية للتقييد المتبادل. فاذا فشلت هذه الجدلية فستتغول قوة القانون حث يصبح بالإمكان وضع معايير مشابهة لتلك التي وضعها النظام النازي.
س: فالمشكل لا يتعلق بالقانون وحده. هذه الوضعية تفرغ السياسي من امتيازاته. فالسياسة باعتبارها فضاءا لتبادل الآراء ستفقد مكانتها.
ج: اليوم اخذت السلطة السياسية شكلا وحيدا لتدبير الأشخاص والأشياء ,مرتبط اشد الارتباط بالاقتصاد.
مصطلح اقتصاد حينما دخل إلى المعجم السياسي كان يعني فقط تدبير. فروسو في كتاباته لم يميز بين التدبير والاقتصاد العام. نحن ألان تعودنا على ربط السياسة بالحكومة التي نسينا انه الى حدود العصر الحديث لم يكن الملك هو الذي يتكفل بطريقة عيش الرعايا. فطريقة العيش كانت تابعة بالأحرى لكفاءة الكنيسة. فنشاطها الرعوي هو أصل الكثير من الممارسات الحكومية الحالية. فاذا اختزلنا السياسة في الحكومة فاننا سندخل في صيرورة من خلالها تتجه المعايير الداخلية للنزعة الحكومية الى محو الحدود بين الأخلاق والسياسة والقانون والاقتصاد. نقول بان الكل أصبح مادة قابلة للتدبير وللتقييد تحت شكل- تدبير الأزمات.
س: هذا ليس صدفة اذا جرت الأمور في الوقت الذي نجد فيه قوى اليسار البرلمانية او المجتمعية ليس لها ادنى شك في فيتشية القابلية للحكم. كل أشكال المعارضة توقفت بسبب دوغما النجاعة الحكومية.
لم يكن الأمر دائما هكذا. يكفي تذكر أحداث سنوات السبعينات من اجل فهم إلى اي حد بعض القطاعات العريضة للسياسية لم تهتم لا بتشجيع ولا بعرقلة الصيرورات الحكومية المحددة؛ فهي تتموقع فقط حول خطة أخرى. فاليوم هذه الخطة غير موجودة او انها اختزلت إلى جزء صغير وهذا ما يبعد اليسار عن الطابع الصراعي. لكن هذا الأمر له تأثير كبير على كل أشكال تسييس الفرد. اذن يتعلق الأمر صراحة بديمقراطية بمصطلحات اشتقاقية .
ج: الاتجاه القوي للآلة الحكومية هو جعل المواطنين مادة طيعة في يد الحكومة. وتجعل أنشطتهم مراقبة ذاتيا . علينا التفكير في كل هذا هكذا نجد التقليد الديمقراطي خاصة اليساري منه لم يفكر مليا في مسالة الحكومة فهوي يعتبرها بنية فوقية او سلطة تنفيذية فقط وفي الأخير ثانوية. لا شيء بعيد عن الحقيقة فأبحاثي حول جينيالوجيا النزعة الحكومية قادتني إلى مشكلة أساسية: السر الحقيق للسياسية ليس السيادة بل الحكومة. ليس الملك بل وزيره , ليس القانون بل الشرطة. فليست هناك حقيقة اليوم اكثر من ان نجد في ايطاليا السلطة التنفيذية نفسها تشرع القوانين دائما تحت اسم مراسيم يأتي البرلمان في الأخير ليصادق عليها.
س: بهذه الطريقة فالسلطة التنفيذية لن تحتاج إلى أي شخص للتنفيذ لكن يبدو ان ازمات الثقة تتزايد بالنسبة للطبقة السياسية ؛ فهذه الأزمات تهدد الى حد ما الديمقراطية وهي على كل حال تشير بطريقة اعتبارها لاعقلانية وغضب عميق .فهذا الانحطاط كما هو منظور اليه من طرف السكان.
نفاذ صبر بالنسبة للجماعات المحلية التي تمثل التماس المباشر مع الجهاز الحكومي أصبح أكثر أهمية.
ج: فهذه أعراض لازمة خطيرة ,تهدد حتى أسس الديمقراطية. اظن اليوم ان ميثاق الثقة المتبادل بين المواطنين والرجال السياسية , بين المحكومين والحاكمين انقلب إلى ريبة قاتلة متبادلة. فالحكومة تتعامل مع المواطنين كأنهم إرهابيون بالقوة والمواطنون يعتبرون الطبقة السياسية مرتشية. فالتوافق الحالي يرتكز على وسائل الإعلام باعتبارها سلطة ترفيه وتهدئة. لكنه توافق هش ذو طبيعة سياسية. بنفس الطريقة الانتخابات أصبحت اقل سياسية وتشبع كثيرا استطلاعات الرأي التي ستقوم مكانها عاجلا او أجلا.
#نورالدين_علوش (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟