سعيد زارا
الحوار المتمدن-العدد: 3749 - 2012 / 6 / 5 - 08:30
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
وكالات الإشهار تبدع في الانحطاط الإنساني و تدمر فائض القيمة.-3
موضوع هذه المقالة لا يبحث في اتجاه سيميائيات الوصلات الاشهارية و إن كان لابد من اللجوء إلى هذا الفرع الهام والممتع من المعرفة لكشف باطن هده المادة الاشهارية التي تضمر إشارات مشفرة و قد تم انتقاؤها بعناية بالغة من طرف أخصائيين همهم الوحيد توجيه سلوك المستهلك إلى اقتناء البضاعة أو الخدمة التي يعلن في إعلاناتهم, ولكن هدف المقالة هذه ينصرف إلى تبيان الانحطاط الذي تجرنا إليه هذه الوكالات, فهي تروج لنمط استهلاكي بالاستعانة إلى آليات تشد الإنسان إلى أصوله الحيوانية, و كذلك تسعى المقالة إلى توضيح مساهمة هده الوكالات المعدومة في الإنتاج الحقيقي كونها لا تنتج قيما جديدة و لكنها تغتني بالدعاية إلى استهلاكها أو لندقق فنقول الدعاية لإتلاف و تدمير السلع التي أنتجها العمال,فكلما تم إتلاف المزيد من السلع كلما كسبت تلك الوصلات المصداقية و بالتالي انفجرت مواردها المالية, و بهذا تكون وكالات الإشهار مدمرة لفائض القيمة.
احتاجت السلعة منذ القدم إلى من يعرف بخصائصها في المعارض , فاشترط في البائع أن يكون ملما عارفا بتفاصيل عرضه فيعرض مزاياه لإقناع المستهلك –المشتري- بان عملية شراء بضاعته هي في صالح الزبون و لن يليها شعور بالندم , فكان المنادي1 كشخص يقوم بإشهار البضائع المعروضة. لم تعرف أشكال إشهار السلع تطورا إلى مؤسسات إلا خلال صعود الرأسمالية و بعد هيمنتها تنامت تلك الخدمة لتسريع عملية التداول التجاري و تحويل السلع المعروضة إلى نقود في دورة سريعة لتنجو السلع من التخزين نظرا لما يسببه من تكاليف زائدة و تجنبا للخسائر التي قد تنتج عن الأضرار التي قد يلحقها فعل التخزين بالبضائع. و مع قيام مجتمع الاستهلاك خلال سبعينات القرن الماضي غزا الإشهار بشكل منقطع النظير كل الفضاءات العمومية منها و الحميمية.
الفرد بكل أبعاده الديموغرافية و بكل انحداراته و انتماءاته, كهلا كان أو شابا أو طفلا ,ذكرا كان أو أنثى, متعلما كان أو أميا, سليما كان أو عليلا ,الأسرة محافظة كانت أو متفتحة , المجموعات بكل تلاوينها و أهدافها , الاثنيات أينما كانت في المعمورة, -الأقليات- بمسراتها و معاناتها, كل هده –الوحدات- تتجمع في وحدة واحدة كما تهوى وكالات الإشهار نعتها بالمستهلك أصبحت في المجتمع الاستهلاكي هدفا للإشهار. لقد اكتسحت رسائل الإعلانات المشفرة كل فضاءاتنا, فهي احد الأعمدة الرئيسة التي يقوم عليها مجتمع الاستهلاك و الذي استطاعت البرجوازية الوضيعة فيه أن تجعل من استهلاك الأشياء مدفوعا بالرغبة في التفرد و ليس إشباع الحاجات كما يؤكد جون بودريار, فترى الفرد في مجتمعنا يقتني من السوق الممتازة أو الدكان رزمة بضائع من نفس العائلة تختلف فقط شكلا أو في التلفيف ليشبع رغبته في التسوق , و بضاعة واحدة من تلك الرزمة تكفي لتطفئ ظمأه أو تسد جوعه.
تسعى وكالات الإشهار في مجتمعاتنا الاستهلاكية بأفلامها القصيرة –الوصلات الاشهارية- إلى التسلل إلى قاعدة بيانات المستهلك الهدف و ذلك ببعث رسائل مشفرة تستهدف الموروث الاجتماعي, أو البقايا المهجورة بلسان " فرويد" أو الصورة النمطية الأولية بلغة " يونغ" , المترسب في –أناه- الموغلة في ظلمات التاريخ الحافل بالغرائز و الصراعات, من اجل توجيه سلوكه و اقتناء المنتوج موضوع الإشهار.الأخصائيون ومنهم " فانس باكار" محق في تسميته لهده الطريقة ب"الإقناع السري" لأنها تعمل على شل القدرات العقلانية الواعية كما تعطل كل أشكال الرقابة فتدفع بالفرد إلى عوالم الاستهلاك- الفسيح و المتحرر من القيود- . يعمل الإشهار إذن باستنفار كل المشاعر و الغرائز الإنسانية فنشاهد من الإرساليات الاشهارية ما يثير الغضب و الهزل في آن و منها من يستغل سذاجة وبراءة الأطفال, كما تعمد إلى إبراز معروضاتها في الشبكة العصابية للفرد الهدف بقوة تكرار2 وصلة اشهارية معينة, لا تكترث هذه الكائنات الوضيعة لمشاعر الإنسان و لا لأحاسيسه بل تنحط تلك الوكالات إلى بث وصلات تتعمد صدم الاطار3 الثقافي لمستهلك معين عند إعلانها منتوجا ما فتسمح بعرض اباحي انيق4 يتخفى في حزمة من الإشارات الجنسية المشفرة تخاطب غرائزه الحيوانية و ذلك لشد انتباه المشاهد و جعل ماركة المنتوج منحوتة في ذاكرته.
خطورة هذه المخلوقات المنحطة تتجاوز قرصنة سلوك المستهلك إلى الدعاية إلى طريق الاستهلاك عبر توظيف نسق من القيم الزائفة و الثقافة الممسوخة تحت راية " الإبداع الخلاق" , فقد ادعى مصمم الأحذية سيغيلا أن السيدة باطا رفضت تصاميمه لأنها كانت بعيدة عن الإيحاءات الجنسية فقالت: "اسمع أيها الشاب لا يمكنني أن أتعامل معك أبدا, فبائع الأحذية لا يبيع أحذية جميلة انه يبيع أقداما جميلة". و قد تعمل أيضا على الدعاية بكثافة إلى منتوجات معينة حذرت التقارير الطبية من تناولها لان فيها ضرر كبير على صحة الإنسان كإشهار "شيبس" والذي يحتوي على مواد مسرطنة.
لتحقيق الحملة الاشهارية وبلوغ الهدف و التمكن من توجيه سلوك –الضحية-, تعتمد وكالات الإشهار ك "بوبليسيس" على أقسام عدة تكون مؤسستها, قسم يتكلف بالإبداع كما يزعمون بمعالجة فكرة أو أفكار الوصلة و توظف الوكالة في هدا القسم مختصين من علوم النفس و علوم الاجتماع و الانتربولوجيا و قسم مختص في تحقيق6 فكرة المبدعين إلى ملصقات و صور أو إلى مادة تذاع عبر الأثير أو إلى أفلام وقسم الإعلام الذي يتكلف بشراء أماكن واقعية للملصقات و الصور أو أماكن افتراضية لبث الوصلة عبر الأثير أو عبر الشبكة العنكبوتية أو بثها مرئية مسموعة عبر التلفاز وقسم أخر يتكلف باستراتيجية –التسويق-. إن منتوج هدا الفريق لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون إنتاجا سلعيا فبالأحرى أن يكون إنتاجا رأسماليا, فلا أعضاء الفريق هم عمال و لا تلك الوصلات هي سلعلة. فهم يدعون إلى إتلاف سلعة ما و لا ينتجونها, فهم يتخفون في سلع أخرى ليست من إنتاجهم لتوجيه اختيارات المستهلك إلى فعل الإتلاف فيتلونون على شكل ملصقات على الورق وهو من السلع , لا قسم الإبداع و لا قسم الكرافيزم و لا قسم الإستراتيجية التجارية أنتج ورقة واحدة و لا عبوة حبر واحدة لتلك الملصقات الحاملة للإشهار, فهم يظهرون في التلفاز و الكومبيوتر طيلة الأوقات و هما من السلع , دون أن تنتج الوكالة زرا واحدا من مكونات هده الحاملات الاشهارية6 السلع.
و مع ذلك و تحت يافطة الإبداع تحقق هده الوكالات دخولا خيالية , ف"مجموعة اومنيكوم" الوكالة الرائدة في مجال الإشهار و الدعاية حققت دخلا يقدر ب12.7 مليار دولار كما وصلت مداخيل وكالات أخرى إلى 6.2 جنيه استيرليني و 6.55 مليار دولار و 4.7 مليار اورو 348 مليار ين 1.5 مليار اورو موزعة على الوكالات التالية :" مجموعة ف.ب.ب" و" مجموعة بوبليسيس" و" دانتسو" و" هافاس". تلك المبالغ في تزايد مستمر فحسب توقعات نشرها مكتب التحليلات الإستراتيجية الأمريكي, فان نفقات الإشهار عبر العالم قد تتزايد بنسبة 4.9 بالمائة حلال السنة الجارية 2012 لتصل إلى 362 مليار اورو وهو مبلغ يفوق ميزانية فرنسا . لكن ما هو مصدر هذه الثروة الهائلة لهذه المؤسسات الرائدة و التي لم تنتج لفافة واحدة؟
يصل معدل سعر الوصلة لتبث خلال فاصل يدوم لعشرين ثانية فقط إلى عشرة 10 ألاف اورو. فقد أنفقت "بروكتر و غامبل" و هي شركة مختصة في إنتاج مواد التنظيف و التجميل ما يناهز 2.3 مليار دولار خلال سنة 2007 على إعلاناتها الاشهارية عبر العالم فهي بهذا المبلغ الهام يكون عمالها أكثر العمال في المعمورة من يتحمل عبئ الإرساليات الاشهارية لان الشركة تعتبر أول معلن إشهاري في العالم , أما شركة "اوريال" التي احتلت الرتبة 15 عالميا فقد كلفتها نفقات الإعلانات الاشهارية ما يناهز 600 مليون دولار من نفس السنة.
من جهد البروليتاريا الغير المدفوع الأجر تتفنن هده الوكالات في إخراج أفلامها القصيرة المكتظة بالرسائل المشفرة و التي لا تستثني ادميا واحدا تدب فيه الحياة على الأرض لتخنق اختياراته و توجه سلوكه إلى الاستهلاك ثم الاستهلاك و لا شيء غير الاستهلاك فتغتني.
قد لا يحتاج المرء لتفطن كبير ليدرك أن من مظاهر انحطاط المجتمع الاستهلاكي هو الدور الخبيث الذي تلعبه وكالات الإشهار في الدعاية إلى الاستهلاك باللجوء إلى أساليب متفسخة و متعفنة منبعثة من خمج البرجوازية الوضيعة, فهي قادرة أن تخلق لدى المستهلك الحاجة إلى منتوج معين دون أن بكون ضروريا , لكن ما يجب معرفته هو أن كل تلك الثروات التي تهدرها تلك الوكالات هي من فائض القيمة.
------------------------------------------------------------------------------------------------------
Le crieur public 1- البراح عند المغاربيين
2-le matraquage publicitaire
3-Le shockvertising
4- le porno chic
5-le graphisme
6-les supports publicitaires
#سعيد_زارا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟