|
المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد العربي ـ الاسلامي
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1097 - 2005 / 2 / 2 - 10:30
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
تلقيت من احد المثقفين اليساريين العراقيين (الكثر جدا والحمد لله) رسالة (إيميل) خاصة، موقعة باسم: القارئ سامي اسماعيل الخزرجي، يرد فيها باقتضاب وإجمال على آرائي المعروضة في المقالات التي سبق ونشرت لي في موقع "الحوار المتمدن" (الذي لا ادري ما هي الحكمة من ترجمته بالانكليزية(modern discussion) التي تعني "المناقشة العصرية"). وقد رأيت ان ما ورد في رسالة السيد الخزرجي لا يعبر فقط عن آرائه الشخصية، بل هي تعرض بشكل مكثف الاراء المنتشرة حاليا لدى قطاع واسع من المساحة السياسية التي لا يزال يشغلها اليسار (لا سيما الشيوعي) العراقي، والعربي غير العراقي، في الحياة السياسية العربية. ونظرا للاهمية المصيرية للآراء المعروضة، رأيت من المناسب مناقشتها على الملأ، وأرى أنها تستأهل إجراء مناقشة عامة حولها. وفيما يلي اولا رسالة سامي الخزرجي، بنصها الحرفي: حضرة السيد جورج حداد المحترم، تحية طيبة وبعد، أود كمواطن عراقي أن أعبر لك عن تقديري وإعجابي بمقالاتك التي أقرأها في موقع "الحوار المتمدن"، وأود في هذه الرسالة إبداء بعض الملاحظات حول طروحاتك. إن الإستنتاج الذي خرجت به بعد قراءتي لمقالاتك، هو أنك شخص لا يزال يفكر بطريقة رومانسية ثورية، طريقة لا صلة لها بالواقع العربي/الإسلامي وأزمته الراهنة. والدليل على ذلك هو انك لا تزال تُحمّل الأحزاب المارونية مسؤولية كل ما حصل في لبنان، في حين أن المسؤولية الرئيسية - برأيي- تقع على الفريق اللبناني المقابل والمحيط العربي الإسلامي. إن الأزمة اللبنانية لا تختلف كثيراً عن الأزمة العراقية، وكلاهما إنعكاس لأزمة المجتمعات العربية الإسلامية، وهي الأزمة التي تتلخص في التالي: أولاً- أزمة الإسلام مع مفهوم الدولة الحديثة، هذا المفهوم الذي يقوم على أساس العلمانية والمواطنة، وليس على أساس الدين. ذلك أنه لا يمكن الحديث عن شئ إسمه دولة من دون مواطنة، أي ان كافة المواطنين يجب أن يكونوا متساوين في الحقوق والواجبات، وهذه المساواة لا يمكن تحقيقها من دون تبني العلمانية. الإسلام لا يزال يرفض مبدأ العلمانية، وبالتالي لا نستطيع لوم الموارنة وغيرهم في لبنان على إصرارهم على التمسك بالصيغة الطائفية، وذلك كضمانة لهم من أن لا يصبحوا مواطنين من الدرجة الثانية ـ أهل ذمة - كما هو الحال مع أقباط مصر. ثانياً- أزمة التركيبة المجتمعية العربية مع مفهوم الدولة الحديثة، وهي التركيبة التي لا تزال تقوم على اساس العصبيات الدينية والطائفية والعشائرية...الخ، الأمر الذي يتعذر معه إنشاء دولة ومجتمع بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن المسؤولية الأولى بهذا الخصوص تقع على العرب والمسلمين، ذلك ان العرب كانوا- ولا يزالون - أهل عصائب، هذه العصائب التي أخذت تأخذ شكلا طائفيا بعد الإسلام بعد أن كانت تأخذ شكلا عشائريا وقبليا فقط، قبله. الطائفية والقبلية هما وجهان لعملة واحدة، ألا وهي العصبية، أي نزعة الولاء المطلق والأعمى للجماعة التي ينحدر منها المرء. وها نحن في العراق، ورغم مرور اكثر من 80 سنة على إنشاء الكيان العراقي، إلا أننا لم نتمكن حتى الآن، بسبب الصراع العصبي بين الشيعة والسنة حول السلطة، من إنشاء دولة ومجتمع بالمعنى الحقيقي للكلمة، وهذا هو السبب الرئيسي وراء وقوع العراق تحت الإحتلال. كشخص يساري كنت أفكر بنفس طريقتك عند إندلاع الأزمة اللبنانية، وقد كنت أُؤيد بقوة موقف المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع الحركة الوطنية اللبنانية، لكني الآن أعتبر هذا الموقف طفوليا وغير ناضج؛ ذلك أنه لو تمكن الطرف الآخر من هزيمة الطرف الماروني، فإن ذلك كان سيعني لا محالة التمهيد لإقامة الدولة الإسلامية في لبنان. وبهذا الخصوص أود أن أُذكرك بموقف المفكر التونسي، العفيف الأخضر، الذي كان يعيش في حينها في لبنان. لقد كان العفيف الأخضر يعيش في حينها في لبنان، إلا أنه ترك لبنان بسبب إختلافه مع الحركة الوطنية بزعامة كمال جنبلاط حيث انه بنظرته الثاقبة للأمور رأى إن سياسة تلك الحركة القصيرة النظر ستؤدي الى القضاء على الدولة الوحيدة في العالم العربي التي تتمتع ببعض مظاهر الديمقراطية والليبرالية. أعتقد ان الأزمة التي يعيشها العالم العربي الآن، يعطي الطرف الماروني التبرير والحق في الكثير، وليس كل، من مواقفه وطروحاته. أقول ذلك إستناداً الى تجربتنا في العراق، حيث يوجد إحتمال كبير جداً أن تصل القوى الإسلامية الى السلطة، هذه القوى التي بدأت تفرض سيطرتها على الشارع العراقي الآن، كما بدأت تعمل على أسلمة المجتمع العراقي تدريجياً. في الختام، تفضل بقبول وافر عبارات الإحترام والتقدير. مع أطيب التمنيات. القارئ: سامي إسماعيل الخزرجي [email protected] XXX وهذا هو ردي: الاخ المحترم سامي الخزرجي اولا علي ان اشكرك على اهتمامك بمقالاتي. وأعرب لك عن احترامي لوجهة نظرك، وإن كنت أخالفك الرأي فيما عرضته ردا علي. وقد رأيت من الضروري ان ارد عليك بالملاحظات التالية، فأرجو ان يتسع صدرك لذلك: الصوت والصدى 1 ـ مهما بدا من الطابع الشخصي والمعاناة الفردية، المعبر عنهما في مثل آرائك، فإنها في الحقيقة ليست آراءً فردية، بل هي للاسف الشديد تشمل قطاعا معينا من اليساريين القدماء، الذين صار من المناسب تسميتهم "يساريين سابقين" او "شيوعيين سابقين" الخ، بما يتخذ طابع تيار فعلي. وقد قوي هذا التيار الارتدادي، او الردّوي، واتسع جدا، بعد انهيار المنظومة السوفياتية وخاصة الاتحاد السوفياتي ذاته، الذي لا يمكن اختزاله في الانهيار السلطوي فقط، حيث ان الانهيار الاخير ما هو الا الخاتمة، او النتيجة المنطقية للانهيار الفكري والسياسي، المتمادي والمتفاقم على امتداد عشرات السنين. ولا يمكن "فهم" الآراء السلبية الصادرة عن هذا التيار "اليساري!!" العربي، بدون فهم منبعه الرئيسي، المتمثل في الانهيار السوفياتي، لا السلطوي والدولوي فحسب، بل اولا واساسا السياسي والفكري. وأول ما يجب لفت النظر اليه هو ان الدعاية المعادية، بمختلف اشكالها، تحاول ان تعزو هذا الانهيار الى ان الرأسمالية، ومن ثم الامبريالية والصهيونية (التي تقرن اقتصاديا باقتصاد السوق والملكية الخاصة و"الحرية التجارية"، وسياسيا بما يسمى "الدمقراطية") قد حققت "الانتصار" على الاشتراكية، التي تقرن بالاقتصاد الموجه والدكتاتورية. وإن "تحديد المفاهيم" حول هذه النقطة بالذات هو ذو اهمية قصوى، وطنية وسياسية راهنة، وليس اهمية نظرية "تاريخية" وحسب. ذلك ان هناك قسما من "اليسار"، ومن "الشيوعيين" بالاخص، يحاولون تمييع هذه المسألة، والتلطي خلف الغموض حولها، لتبرير التخلي عن المبادئ الاشتراكية والماركسية، والاخطر: لخيانة القضية الوطنية والقومية والالتحاق بالركب الاميركي، تحت مختلف الذرائع "السلمية" و"الدمقراطية" و"العلمانية" و"الحضارية". ثورة مضادة 2 ـ ولكنني شخصيا، ومن خلال معايشتي المباشرة لتجربة احد البلدان الاشتراكية السابقة وهو بلغاريا، منذ حوالي نصف قرن، وللحركة الشيوعية العربية منذ اكثر من نصف قرن، فأنا من القائلين بأن مثل هذا التفسير هو قسري، اعتباطي، وحيد الجانب وغير موضوعي، وأن تجربة قيام وانحراف وسقوط "الاشتراكية السوفياتية"، التي كلفت الانسانية المعذبة، انهارا من الدماء والدموع، وضياع الجهد الخلاق لاجيال واجيال من البشر، ولشعوب بأسرها، ـ هذه التجربة تحتاج الى "مراجعة تاريخية" شاملة ومعمقة، تتجاوز كثيرا "التعميمات البرقية" الموجزة، المبتسرة، المغرضة، المعادية والاحباطية، التي تفبركها المطابخ الفكرية للامبريالية الاميركانو ـ صهيونية "المنتصرة". واستطرادا، فأنا من القائلين ايضا بأن الانهيار السوفياتي انما تم لا بسبب "فشل الاشتراكية"، بل "بفضل" الخيانة المبدئية، والخيانة الحزبية، والخيانة الوطنية، من قبل الشريحة البيروقراطية شبه الطبقية التي ـ بنتيجة تشوهات النظام "الاشتراكي" السابق ـ كانت تحكم الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية. ان السلبيات الناشئة عن الاخطاء والانحرافات والتشوهات في النظام "الاشتراكي السوفياتي" المنهار، لا تقارن بالسلبيات الكارثية للنظام الرأسمالي المتوحش والاجرامي، الذي عادت الآن شعوب "المنظومة السوفياتية" السابقة لمكابدته. واذا كان بالامكان اعتبار الاخطاء والانحرافات والتشوهات في "النظام الاشتراكي" السابق أمرا "طبيعيا"، فإن معالجتها الذاتية، في مدى تاريخي مقبول، كان من شأنها ايضا ان تكون امرا طبيعيا وضروريا. والجماهير العمالية والشعبية التي سبق وقامت بالثورة الاشتراكية، وبنت النظام الاشتراكي في اصعب الظروف واقساها، كانت قادرة ايضا على تصحيح الاخطاء والانحرافات، مهما كانت. اي ان الانهيار، في هذه الحالة، لم يكن امرا جبريا وقدرا محتوما. ولقد كان هناك "سبق تاريخي"، اذا صح التعبير، بين تجربة التغيير البناء، وبين الخيانة. لكن الخيانة كانت، للاسف، اسبق من التغيير البناء، واستبدلت التغيير بالانهيار والتدمير واعادة الرأسمالية. وقد امكن حدوث ذلك لأن الشريحة البيروقراطية شبه البرجوازية هي التي كانت في مواقع السلطة السياسية والاعلامية والامنية والعسكرية للدولة، وفي قيادة الاحزاب الشيوعية الحاكمة ذاتها. فحينما لم تعد تلك الشريحة قادرة على ان تستمر في الحكم والتسلط في النظام "الاشتراكي" كما كانت تفعل في السابق، واصبح من المفروض عليها ان تجري اصلاحات جذرية في النظام، لمصلحة "حزبها"، و"طبقتها العاملة" التي كانت تحكم بأسمها، و"شعبها" او "شعوبها" التي كانت تضع ثقتها فيها، فإن تلك الشريحة ـ ولاجل الاحتفاظ بمصالحها الطبقية الضيقة ـ رفضت التخلي عن مراكزها لصالح المعارضة الشريفة البناءة، وبالتالي رفضت التخلي عن مصالحها وتسليم مواقعها الامتيازية للجماهير الشعبية المقهورة، مفضلة الانتقال الى الخيانة الموصوفة، بهدف الاستمرار في تأمين تلك المصالح، ولم تتوان عن تسليم "القلعة" السوفياتية الجبارة (التي لم يستطع هتلر نفسه اخذها بالقوة) الى الصهيونية العالمية والاحتكارات الامبريالية العالمية. وبذلك فإن تلك الشريحة ألقت بـ"شعوبها"، عن سابق تصور وتصميم في وهاد الفوضى والنهب والسلب والجريمة المنظمة والتدهور الاقتصادي والخراب والجوع والموت البطيء. والصفة السياسية الوحيدة التي يمكن ان يوصف بها "التغيير" الذي جرى في المنظومة السوفياتية السابقة هو انه كان "انقلابا مضادا" او "ثورة مضادة" بامتياز، نظمتها وقادتها عصابة مرتبطة بالامبريالية والصهيونية، من خلال العمالة المباشرة او من خلال التلاقي العضوي للمصالح. وكان هذا التحول 180 درجة: اولا ـ شرطا حتميا لمعاقبة شعوب المنظومة السوفياتية السابقة، على خيارها السابق للاشتراكية ورغبتها في التغيير التاريخي نحو الافضل. وثانيا ـ مقدمات "ضرورية" لتأمين التراكم الاولي للرأسمال "المجدَّد"، ولاستعادة النظام الرأسمالي من مزبلة التاريخ، واعادة فرضه بالقوة على تلك الشعوب. وهذا يعني ان تلك الشريحة البيروقراطية شبه الطبقية البرجوازية (التي فرخت ونمت في احضان النظام "الاشتراكي" السابق، ضمن اشكال التمييز الذي كانت تتيحه السلطة السياسية واستمرار "الحق البرجوازي" في مرحلة الانتقال من الرأسمالية الى الاشتراكية) قد انتقلت من "الخيانة السرية" للاشتراكية، التي كانت تمارسها خفية في السابق، الى الخيانة العلنية لها، كي تتحول الى "طبقة برجوازية" مكشوفة، او جزء رئيسي من تلك الطبقة، في ظل النظام الرأسمالي "المستعاد" . وقد تم ذلك كله باسم: الحرية والدمقراطية و"حقوق الانسان" (اي انسان؟!)، وفي عملية واسعة جدا من التضليل الاعلامي والخداع للجماهير، التي أوهمت في البداية بأن ما يجري انما هو عملية التغيير المنتظرة نحو الافضل، نحو الاشتراكية الدمقراطية، والاشتراكية ذات الوجه الانساني، وما اشبه. وهذا ما يفسر جزئيا "السلبية" التي اتسمت بها ردة فعل الجماهير الشعبية ـ الضحية، في تلك البلدان، واقتصار المعارضة على اجيال المعمرين والشيوخ و"الشائبين"، الذين سبق وعرفوا الرأسمالية و"محاسنها" في المراحل الماضية. وبسبب ان علة وجودها او مصدر قوتها يكمن في الآلية السلطوية والممارسة البيروقراطية، فإن تلك الشريحة لم تستطع سوى المحافظة على حقارتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السابقة، حتى ضمن النظام الرأسمالي "الجديد"، الذي اشرفت هي نفسها، تحت مختلف المسميات السياسية التي ابتدعتها لنفسها، على اعادته الى بلدان المعسكر السوفياتي السابق. وبالتالي، فان هذه الشريحة ظلت منفصلة و"مغربة" عن قطاع الانتاج، الصناعي والزراعي، وظلت دائرة نشاطها (تماما كالطغمة المالية اليهودية العالمية)، مرتبطة بشكل وثيق بـ"اقتصاد الظل". ومن ثم فقد ظلت محصورة بشكل رئيسي في التوزيع، اي في قطاع المال والتجارة، بالاضافة طبعا الى قطاع الاتصالات والاعلام، المرتبط عضويا بالحراك السياسي والتركيبة البيروقراطية للدولة والمجتمع. وكي تبرئ نفسها من الخيانة، وتبرر الادعاء بأنها كانت "محقة تاريخيا"، عمدت هذه الشريحة الطبقية الطفيلية منذ البداية (مثلها مثل الاشتراكيين ـ الدمقراطيين المزيفين امثال سولانا وبلير وبيريز) الى الالتحاق اكثر فأكثر بركب الهمجية الجديدة، المعادية للانسانية جمعاء، ونعني بها العولمة الاميركية ـ الصهيونية. وهي الان تستخدم نفوذها "الرفاقي" السابق على الاحزاب الشيوعية في "الخارج"، ومنها الحزب الشيوعي العراقي والاحزاب الشيوعية العربية الاخرى اذا امكن، لدفعها ايضا للارتماء في احضان الغزاة الاميركيين، بحجة الاصلاح والدمقراطية وما اشبه من الاكاذيب التي تستخدم على طريقة "حق يراد به باطل". ومن زاوية نظر معينة، ليس من عجب ان نرى اليوم بعض اصحاب البراقع الايديولوجية، الذين ايدوا في السابق نقل "الاشتراكية" بالدبابة الاجنبية (السوفياتية) (التدخل السوفياتي في المجر وتشيكوسولفاكيا، وفي افغانستان)، يؤيدون اليوم نقل "الدمقراطية" بالدبابة الاجنبية (الاميركية هذه المرة) (الاحتلال الاميركي لافغانستان والعراق). وهذا ما يجعل هذه الشريحة "السوفياتية" سابقا، بكل عفشها السياسي و"الفكري" الانهزامي، تضطلع بدور عصا جديدة في عجلة التاريخ. ومن ثم فهي تمثل، بشكل عام، عقبة امام حركة التحرر الوطني والاجتماعي والانساني العالمي. كما تمثل، بشكل خاص، عقبة امام نهوض بلدانها ذاتها من جديد، حتى على قاعدة النظام الرأسمالي، القائم اساسا على الانتاج. وللاسف، مرة اخرى، انه ليس "الشيوعيون السابقون"، وبالاخص تلك الشريحة البيروقراطية، بل الطبقة الرأسمالية الجديدة في البلدان الاشتراكية السابقة، اي الطبقة المرتبطة اساسا بالانتاج على وجه التحديد، هي التي تضطلع اليوم، او هي المؤهلة لان تضطلع، بدور المحور الاجتماعي والوطني والقومي، للوقوف بوجه الغزو (الغزو بكل معنى الكلمة) الامبريالي والصهيوني الغربي. واذا ظلت مفاهيم وقيم الحرية والدمقراطية والعلمانية والمواطنة و"حقوق الانسان"، اشبه شيء بالمماسح و"ورق التواليت"، في ايدي الخونة والشيوعيين والاشتراكيين المزيفين، امثال غورباتشوف وتشيفارنادزه وشمعون بيريز وخافيير سولانا وطوني بلير، وتلامذتهم "النجباء" امثال "المناضل!" و"المثقف!"، "الشيوعي!"، "العراقي!" فخري كريم، فإن هذا سيفتح الطريق من جديد لربط قضية التحرر الوطني والنهضة القومية، بالدكتاتوريات والنزعات المتطرفة والدكتاتورية على مختلف اشكالها السياسية، القومية والدينية. المفارقات التاريخية 3 ـ انطلاقا مما تقدم، يبدو بوضوح عمق الخلاف الراهن مع التيار التحريفي، الذي عبرت رسالة الاخ الخزرجي عن بعض ملامحه. وهذا ما يحتم علينا إلقاء نظرة تحليلية على المفارقات الكبرى في الازمنة الحديثة، التي اصبحت تغيب عن نظر هذا التيار، كي يمكن النظر بواقعية تاريخية الى الواقع العربي ـ الاسلامي الراهن. ومن هذه المفارقات: ـ الرومانسية الثورية. ـ البراغماتية السياسية. ـ "الظاهرة" الاميركية. ـ الدور التاريخي للامة العربية. الرومانسية الثورية والواقع 4 ـ تصفني في رسالتك بأنني "شخص لا يزال يفكر بطريقة رومانسية ثورية، لا صلة لها بالواقع العربي/الاسلامي". من جهتي لا ادري كم انا يمكن اعتباري حقا من الرومانسيين الثوريين. ولكنني في المقابل لا ارى في ذلك اي غضاضة، بل انه ـ اذا كنت حقا كذلك ـ فهو شرف لي ولكل من يشاركني آرائي وهو في مثل وضعي وتجربتي. ولكن المسألة الاهم، التي تتجاوز مختلف الاشخاص، والتي ينبغي النظر فيها بكل جدية هي: هل ان الرومانسية الثورية بذاتها هي نقيصة او "تهمة"؟ واحاول فيما يلي ان اجيب، باسلوبي وعلى قدر استطاعتي، عن هذا السؤال الكبير والحساس: ـ ان تجربة الثورات وانظمة الحكم الاشتراكية، وكذلك تجربة الثورات التحررية وانظمة الحكم "الثورية"، "الوطنية" والتقدمية" في البلدان العربية وغيرها، قد وضعت الرومانسية الثورية في مواجهة تناقض تام او شبه تام مع "متعارضها": البراغماتية السياسية، واستطرادا الاجتماعية ـ الاقتصادية، والعسكرية. فلنناقش هذين المتعارضين: الرومانسية الثورية، والبراغماتية السياسية "الواقعية!". "الفجوة" الحضارية خلال المرحلة الاعلى، الامبريالية، للرأسمالية، نشأت الفجوة الكبيرة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بين الجماهير والشعوب المظلومة الثائرة في الشرق، وبين الطبقات المالكة والبلدان الاستعمارية والامبريالية الغربية الظالمة التي قامت وتقوم الثورات ضدها. وهذه "الفجوة" هي ابرز معالم "الواقع" التاريخي المعاصر. وهي بالاساس "فجوة" مصطنعة، تتحمل الكولونيالية والامبريالية ذاتها المسؤولية عن نشوئها. ومن سخرية القدر ان الكولونياليين والامبرياليين الغربيين قد استغلوا الى الحد الاقصى هذه "الفجوة الحضارية" التي اوجدوها هم بالذات. ولا ننسى ان كل السياسة التوسعية الاستعمارية كانت تتم تحت شعارات الحضارة والتمدين والتثقيف والتعليم والتبشير. وقد استخدم الاستعمار الصهيوني لفلسطين والاراضي العربية هذه "الخدعة الحضارية" ذاتها، حيث انه يعرض المجتمع العربي كمجتمع قبلي متخلف استبدادي، بمواجهة اسرائيل "الاوروبية" المتمدنة والدمقراطية(!!). وقد تمحور حول هذه "الفجوة" بالذات الصراع بين المتخلفين والمتقدمين. فمن روسيا الى الصين الى فيتنام الى افريقيا الى البلدان العربية، شهد العالم ولا يزال يشهد، شعوبا وجماهير معدمة شبه امية تواجه اعظم وارقى الدول والجيوش الاوروبية والغربية. والمشهد الفلسطيني ـ الاسرائيلي، والعراقي ـ الاميركي، اليوم، يجسد بشكل نموذجي هذه التراجيديا الانسانية. وحتى في ظروف روسيا السوفياتية السابقة والاتحاد السوفياتي السابق، فإن الانتصار السياسي وقيام ما سمي النظام الاشتراكي او السوفياتي، لم يكن يعني بشكل اوتوماتيكي تحقيق اقتصاد متطور يفوق الرأسمالية في المتروبولات الرأسمالية المتقدمة، وهو الامر الذي كان يقتضي تحقيق تراكم للرأسمال (بالمعنى الانساني للثروة الاقتصادية) لا يمكن ان يتم الا بعد اجيال عديدة وفترة تاريخية كافية. وهنا ايضا كان يوجد "فجوة حضارية" (بالمعنى المادي المسطح، اي "الرأسمالي"، لـ"الحضارة!") بين التركيبة الاقتصادية/المجتمعية السوفياتية والتركيبة الاقتصادية/المجتمعية الرأسمالية الغربية، ولا سيما ان الرأسمالية الغربية كان لها "أفضلية" لا تستطيع الاشتراكية مجاراتها فيها، وهي انها ـ اي الرأسمالية الغربية ـ لم تكن ولا هي الان تغتني بـ"حسناتها" و"افضلياتها" ذاتها وحسب، بل انها تغتني اكثر، وبالدرجة الاولى، بـ"سيئاتها" و"نواقصها"، اي بما تقوم به من نهب وسلب للاطراف، وخصوصا للبلدان الشرقية المستعمرة وشبه المستعمرة، عبر تصدير الرساميل والقروض والتجارة الدولية وفرض عملات الدول الرأسمالية الكبرى، ولا سيما العملة الاميركية، كعملة "دولية" تسيطر من خلالها على اقتصادات جميع دول العالم "المتخلف"، الخ الخ. واذا تجردنا جدلا عن السلبيات الخاصة التي رافقت النظام السوفياتي، بدءا من الستالينية، فلا شك ان الجماهير العمالية والشعبية السوفياتية كانت عرضة لضغط معنوي ونفسي وسياسي كبير بسبب وجود هذه "الفجوة" بين الاقتصاد "الاشتراكي" واقتصاد البلدان الرأسمالية المتقدمة، وهي الفجوة الناشئة بالاساس عن التخلف الشديد لروسيا والبلدان الاشتراكية الاخرى، قبل قيام الثورة الاشتراكية في كل منها، بالمقارنة مع البلدان الرأسمالية المتقدمة ولا سيما المتروبولات. ـ فما الذي كان، ولا يزال، يقوم بـ"ردم" او تعويض هذه "الفجوة"، ويدفع الجماهير لتحمل التضحيات الجسام، خلال الثورات وحروب التحرير، بمواجهة دول وجيوش متقدمة اقوى منها بكثير، وكذلك ما الذي كان يدفع جماهير البلدان "الاشتراكية" لتحمل الحرمانات والضغوط المعنوية في نضالها لبناء المجتمعات الاشتراكية وتطوير اقتصادها الوطني "الاشتراكي"؟! برأيي، ان الرومانسية الثورية كانت هي العامل المحرك الرئيسي لجميع حركات النضال والتحرر والتغيير والتقدم، الاجتماعي والوطني والقومي، على مدى مئات السنين الماضية، وفي جميع البلدان بدون استثناء. ويكفي ان نسوق هنا بعض الامثلة التاريخية المعاشة: ـ عند قيام "كومونة باريس" في 1871، وهي اول تجربة ثورة شيوعية في التاريخ العالمي المعاصر، وصفها كارل ماركس ـ من خلال معايشته لها ـ بالقول "ان البروليتاريا الفرنسية كانت تقتحم السماء". وبعد سقوط "الكومونة"، عمدت القوى الرجعية المنتصرة الى الاعدام الفوري لاكثر من ثلاثين الف عامل باريسي اسير. حيث كانت "فرق الموت" تطوف الشوارع وتعتقل المواطنين العاديين، وتطلب منهم فتح ايديهم، فمن رأته ذا يدين مخشوشنتين من العمل استنتجت انه عامل. وبهذه "القرينة التجريمية" بالانتماء الطبقي كانت تعمد الى سوقه الى حائط الاعدام فورا، باعتبار انه "كومونار" (اي مشارك في الكومونة) حتى لو لم يكن فعلا كذلك، لمجرد الشك بأنه عامل. فما الذي كان يحرك هؤلاء العمال والفقراء الباريسيين، الذين لم يكونوا يملكون من حطام الدنيا سوى ايديهم العارية وقبضاتهم المخشوشنة؟! وما هي القوة الدافعة التي كانت تدفعهم "لاقتحام السماء"؟! هل هي حسابات "توازن القوى الستراتيجي"، غير الموجود اصلا، بينهم وبين القوة الاقتصادية/الاجتماعية والاخلاقية/الدينية والسياسية والعسكرية للطبقات المالكة المستبدة؟! ام ان تلك القوة الدافعة كانت تتمثل في: الايمان الانساني البسيط بعدالة قضية الانسان الكادح، امام جبروت الوحش الرأسمالي، الاستغلالي والاحتكاري؟! اي بكلمات اخرى ان تلك القوة لم تكن شيئا آخرا سوى: الرومانسية الثورية!! ـ خلال الحرب العالمية الاولى كان الجيش القيصري الروسي يعد 14 مليون جندي، كانوا في غالبيتهم الساحقة من العمال الفقراء والفلاحين الروس المعدمين والاميين (الذين كانت اوروبا تسخر منهم بلقب: موجيك) الذين ألبسوا على عجل لباس الجندية وزج بهم في أتون تلك الحرب الاستعمارية، بمواجهة قوات المحور الالماني المتفوقة، جيدة التدريب والتسليح. وقد ابيدت جماهير الجنود الروس كالذباب، بالطيران والغازات السامة والدبابات الحديثة، التي مزقتهم وسحقتهم بجنازيرها سحقا وعجنت اشلاءهم مع الوحول في الخنادق. ولم يكن زج الجنود الروس البؤساء في المعارك ـ المجازر، الخاسرة سلفا، سوى نتيجة منطقية للحسابات البراغماتية العنصرية، القائمة على التضحية بالدم الروسي الرخيص، لأجل توفير "الدماء الزرقاء" لقوات "التحالف" الانكليزية والفرنسية والاميركية. ان فلول هذه الجموع الروسية المهزومة والمسحوقة، سيئة التغذية، سيئة اللباس، سيئة التسليح (التي لم يتبق لها من "قيمة" او "قوة" تعتد بها، سوى الشعور الغريزي او الوعي الدفين بـ"انسانيتها") قد ارتدت الى بطرسبرج وموسكو وكل مدينة ودسكرة وقرية في الروسيا القيصرية، وقامت بالثورة الدمقراطية ضد الحكم القيصري في شباط 1917، ومن ثم بالثورة الاشتراكية العظمى في اكتوبر 1917. وهكذا حلت "العشرة الايام التي هزت العالم"(!)، حسب تعبير الصحفي الشيوعي الاميركي جون ريد. ايضا ما هي القوة الدافعة التي مكنت هؤلاء المعدمين من الامساك بزمام التاريخ العالمي، وتغيير وجهته، مرة والى الابد، في الامس والان وبعد الان؟! أليست هي ايضا الرومانسية الثورية؟! ـ بعد إعلان السلطة السوفياتية، غداة انتصار ثورة اكتوبر الاشتراكية العظمى في روسيا، وفي معمعان الصراع المستميت لتحرير شعوب الامبراطورية الروسية السابقة واقامة الاتحاد السوفياتي على انقاضها، تعرضت الدولة السوفياتية الوليدة لحرب التدخل الاستعماري، التي شاركت فيها جيوش 14 دولة اجنبية. ولو اجرينا اي موازنة عقلانية وبراغماتية بين قوة الجمهورية السوفياتية الفتية في 1918، وقوة الدول الاجنبية الـ14 التي هاجمتها، جنبا الى جنب قوة فلول القيصرية وما كان يسمى "الروس البيض"، لخرجنا باستنتاج سريع انه من الجنون واللامعقول مجرد طرح مثل هذه الموازنة. ومع ذلك، فقد انتصرت الرومانسية واللامعقولية، على "الواقع" العقلاني. ـ والشيء ذاته يقال عن الموازنة بين قوة هتلر وموسوليني والهيروهيتو لدى مهاجمة الاتحاد السوفياتي، بالمقارنة مع قوة الاخير. ومع ذلك فإن "الانصار" ـ اي قوات المقاومة الشعبية السوفياتية ـ والجيش الاحمر قد نجحوا في انقاذ الاتحاد السوفياتي واوروبا والعالم بأسره من الوحش النازي، وفي القضاء عليه في عقر داره. الاعجوبة السوفياتية ـ وقد فشلت حرب التدخل الاستعماري ضد الدولة السوفياتية، غداة الثورة، ولكنها اثخنت الدولة الثورية حديثة الولادة بالمزيد من الجراح والدمار والخراب المريع، فوق ما كانت قد خلفته الحرب العالمية والحرب الاهلية. ومع كل هذه التركة الثقيلة، لم تلبث الدولة السوفياتية الفتية ان تعرضت لحربين من نوع آخر: الاولى ـ الارهاب "الابيض"، والتخريب الاقتصادي الداخلي، من قبل الطبقات الاستغلالية الساقطة وانصار النظام القيصري السابق. والثانية ـ الحصار الاقتصادي الخارجي القاتل الذي فرضته الدول الاستعمارية على اختلافها على الدولة السوفياتية المثخنة بالجراح. وقد تسببت هاتين الحربين بانهيار اقتصادي شبه تام في تلك الدولة، وحدثت مجاعة مريعة حصدت الملايين، وعانى منها عشرات الملايين. ومع ذلك، ومن قلب هذا الدمار والاقتصاد المساوي العدم، والجوع والاوبئة والموت الجماعي، قامت اعجوبة بناء الاقتصاد السوفياتي، الذي اصبح بعد حوالى نصف قرن ثاني اكبر اقتصاد في العالم بعد الاقتصاد الاميركي؛ وفوق هذه القاعدة الاقتصادية تم ايضا بناء وتسليح وإطعام وتدريب الجيش الاحمر والقوات السوفياتية المسلحة، التي لولاها لسيطر هتلر لاحقا على كل اوروبا الغربية ومستعمراتها، بما فيها العربية. ولو أتيح لهتلر ان يحطم القوة السوفياتية، لأمكنه السيطرة على المصادر الهائلة للنفط والخامات والمياه والقمح والغذاء في الاتحاد السوفياتي، ولتمكن رومل حينذاك من القيام بما يشبه "النزهة" الى الخليج العربي ـ الفارسي والسيطرة على منابع النفط الرئيسية في العالم. وفي مثل هذا السياق المحتمل للاحداث ما الذي كان يقف في وجه هتلر من ان يقوم، بين الهزل والجد، بسحق الجيوش الاميركية "المدللة" الآتية من وراء المحيط، وبعزل الدولة الاميركية نفسها وتهديدها ومن ثم ضربها في عقر دارها. في مثل تلك الدولة "الاشتراكية" الجديدة المفلسة والمتخلفة، ماذا كانت القوة الدافعة لتلك الجموع، من انصاف الجياع، لابسي الاسمال وانصاف العراة، كي تعمل في اقسى الظروف الطبيعية، وحتى في اثناء الشتاءات الروسية القاسية، وبدرجات حرارة تصل الى الخمسين تحت الصفر، وتقوم بشق الطرقات ومد سكك الحديد، وحفر المناجم، وبناء الاحواض الاصطناعية ومحطات توليد الكهرباء والمعامل والمصانع والمزارع والمرافئ وصروح العلم والتعليم والمستشفيات الخ الخ، ومن ثم ان تجترح الاعجوبة الاقتصادية السوفياتية؟! هل كان عند تلك الجموع مشروع مارشال كما كان في اوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، او حريري وسوليدير وسنيورة، كما كان في لبنان بعد حربه المشؤومة؟! او هل كان عندها حسابات "الحوافز المادية" لخروشوف؟! او حسابات "اقتصاد السوق" و"الانفتاح الاقتصادي" و"التجارة الحرة" و"لوائح شروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي" و"العلاج بالصدمة" وما اشبه ذلك من الحسابات "الواقعية" البراغماتية لغورباتشوف؟! ام ان القوة الدافعة لتلك الجموع لم تكن ايضا سوى الرومانسية الثورية لدى الانسان "السوفياتي" العادي الذي ـ مثله مثل اي انسان آخر ـ كان يطمح لأن يلبس افضل، ويأكل افضل، ويكون له مسكن افضل، الخ الخ، ولكنه في الوقت نفسه كان يدرك تماما انه اولا ـ كإنسان ـ هو "شيء" جوهري مختلف، اعظم واثمن واهم من كل مأكل وملبس ومسكن، وانه اذا فقد هذا الجوهر الانساني، يتحول الى بهيمة، وينطبق عليه قول السيد المسيح "ماذا ينفع الانسان، لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟!". وبالرغم من كل نكران الجميل الذي يقابل به اليوم الشعب الروسي العظيم، وبقية شعوب الاتحاد السوفياتي السابق، بحجة الموقف النقدي من الستالينية والبيروقراطية، اللتين كانت الشعوب السوفياتية ذاتها اولى ضحاياهما، لا بد من التذكير ان الاقتصاد السوفياتي هو الذي اضطلع، ولعشرات السنين، بدور القاعدة الاقتصادية التي قدمت ما لا يحصى من المساعدات الاخوية لشعوب اوروبا الشرقية، وللبلدان المتحررة حديثا من الاستعمار القديم، وللتدريب والتسليح شبه المجاني لجيوش تلك البلدان، من اجل تعزيز استقلالها الوطني. ويمكن القول ان الاتحاد السوفياتي، وفي الحساب الاخير المواطن ـ الكادح السوفياتي، كان موضع استغلال وابتزاز على هذا الصعيد. ومثال البلدان العربية هو مثال صارخ. وللذين يعتقدون، عن حسن نية: "انه قد قضي الامر! وان الاشتراكية قد ذهبت الى الابد! وان دور روسيا السوفياتية قد انتهى!"، ارى من المناسب ان اقدم الملاحظة التالية: ان التاريخ ليس لعبة تسلية، وليس من شيء أساسي وجوهري يذهب سدى او يـُنسى! ان جماجم عشرات ملايين الهنود الحمر الذين قامت الولايات المتحدة الاميركية فوق عظامهم ستظل تمور تحت التراب، حتى تزعزع هذا الكيان الظالم. وان الانسان "الرومانسي"، الذي جسده السوفياتي الاول اذا صح هذا التعبير، هو الذي اجترح المعجزة السوفياتية، الاقتصادية وغير الاقتصادية. ولا يغير في هذه الحقيقة ان هذه الاعجوبة قد شوهتها، ثم دمرتها، فيما بعد "الواقعية" البراغماتية للسلطة "السوفياتية!!"، الستالينية وما بعدها!! وفي ظروف الانهيار السوفياتي الراهن، فإنه يبدو ظاهريا ان هذا الانسان السوفياتي "الرومانسي" العملاق قد غاب عن الساحة. ولكن الواقع ان هذا "الانسان التاريخي" قد غاب عن الروزنامة الراهنة، ولكنه لم يغب من التاريخ. ولهذا فهو حتما "لم يمت"، وهو لا يزال يقبع، "نائما" نوما عميقا، في "الضمير المستتر" لشعوب الاتحاد السوفياتي السابق، ولا سيما الشعب الروسي، هذا الشعب الاورو ـ آسيوي العظيم، الذي قدم اعظم ما قدم للانسانية في تاريخها المعاصر، بمأثرتيه: الثورة الاشتراكية والقضاء على النازية والعنصرية. وهذا "الانسان التاريخي" سيستيقظ حتما في لحظة تاريخية نوعية مفاجئة، لن تستطيع التقاطها اجهزة المخابرات الغربية، بكل كومبيوتراتها وتقنياتها المتطورة وجيوش جواسيسها، لسبب بسيط هو ان هذه الاجهزة نفسها ليست شيئا آخر سوى نتاج للحسابات "الواقعية" البراغماتية، المرتبطة بالحاضر والماضي، وهي غريبة تماما عن ان تفهم جوهر الانسان الحقيقي، لانها مشدودة الى المحافظة على "الستاتيكو" القائم، وعاجزة من ثم عن ان يكون لها اي دور حقيقي في سبر أغوار الانسان واستشراف المستقبل الانساني. من واقعنا العربي/الاسلامي ونأتي الى بعض امثلة من واقعنا العربي البائس والاسود: ـ في بعض قراءاتي لاحد الادباء المصريين، الذين عايشوا الاحتلال الانكليزي لمصر، وللاسف انه لا يخطر على بالي اسمه الان، انه كان يسمع كثيرا على لسان المواطنين العاديين المصريين عبارة "معليش"، ولم يستطع ان يلتقط معناها تماما. ويروي الكاتب انه في احد الايام وقعت امامه حادثة "عادية" و"بسيطة" وهي ان احد الجنود او الضباط الانكليز المحتلين ارتكب مظلمة، صفع او شيء من هذا القبيل، بحق مواطن مصري بسيط. فما كان من المواطن المغلوب على امره الا ان نظر مغتاظا الى الانكليزي وهو يدمدم: "معليش". ويقول الكاتب: في هذه اللحظة ادركت تماما معنى كلمة "معليش"!!، التي تضمر الرغبة في الانتقام، في اللحظة والشكل المناسبين، ضمن الامكانات الضعيفة والمفاهيم "المتخلفة"، ولكن بالارادة الحرة، لذلك المواطن البسيط! ـ واذا تجردنا عن الجانب الفقهي والديني واللاهوتي، الذي ليس هو موضوعنا من قريب او بعيد، واخذنا فقط الجانب "الواقعي" والحياتي المعاش: النفسي والسياسي والاقتصادي والعسكري الخ، في تحليل الصيحة الاسلامية الكلاسيكية، ونعني بها صيحة "الله اكبر!" (طبعا ليس صيحة امثال الدكتاتور المجرم و"المسلم" المنافق صدام حسين، بل صيحة المجاهدين الشرفاء والجماهير الشعبية الاسلامية المسحوقة) لوجدنا انها تكثف بشكل خاص تلك الرومانسية الثورية، التي تتولى بامتياز ردم "الفجوة" بين الامكانيات الهائلة لقوة الاعداء، على كل الاصعدة، بالحسابات الجامدة والبراغماتية الباردة، وبين الامكانيات المتواضعة للثوار والجماهير الشعبية العربية والاسلامية الفقيرة، ولكن الذين يمتلكون من قوة الارادة وروح التضحية ما يجعلهم قادرين على اجتراح المعجزات بابسط الامكانيات. وماذا يضير، في هذه الحالة، اذا كان بعض المجاهدين المؤمنين يعتقدون جازمين في قرارة نفوسهم ان جندا سماويا وجبريل وطيورا ابابيل تقاتل الى جانبهم ضد الامبريالية والصهيونية العالمية؟! ـ واخيرا وليس آخرا، مثال "واقعي" متكرر، نكاد نشاهده او نشاهد مثله كل يوم على الفضائيات العربية وغير العربية: أم فلسطينية تبكي ولدها الشهيد ذا الست او السبع او العشر سنوات، الذي أطلقت عليه الدبابة الاسرائيلية نيران رشاشاتها، مانعة رجال الاسعاف من الاقتراب من جثمانه المصاب، وتركته ينزف حتى الموت. وتندب تلك الام الثكلى ابنها الطفل الشهيد وهي، بين الدمعة الحرى والاخرى، تتفاخر: "يا نور عيني، كان يروح كل يوم "ليرمي" مع اترابه، قبل ان يذهب الى المدرسة، او بعد ان يعود منها" (اي انه كان يروح، فيما يشبه الفرض المدرسي اليومي، ليرمي بيده الطفولية الحجارة الصغيرة على الدبابات الاسرائيلية الهائلة، التي تقتحم كل يوم مخيم اللاجئين الذي يعيش فيه، ذلك المخيم البائس بكل المقاييس، الذي تعافه الحيوانات ذاتها، والذي يتكدس في امثاله ملايين اللاجئين الفلسطينيين منذ عشرات السنين). ان هذا الطفل الشهيد لا يختلف بشيء عن اي طفل فلسطيني وعراقي وعربي عادي. وان هذه الام التي كانت تبارك طفلها وهو يذهب لـ"الرمي"، ثم تتفاخر به شهيدا، هي ايضا لا تختلف بشيء عن اي ام فلسطينية وعراقية وعربية عادية. فما هي القوة التي كانت تدفع هذا الطفل الفلسطيني الشهيد ليذهب كل يوم ويمارس هذه الرياضة الروحية/الجسدية الخطرة، اي مطاردة الدبابات الاسرائيلية و"رمي" الحجارة عليها، معرضا نفسه، مع كل خطوة، للموت المؤكد على ايدي الصهاينة ـ هتلريي العصر؟! وما هي القوة الدافعة لأمه الثكلى، والارجح الارملة، والمعدمة، التي تحتار كيف ستطعم بقية اولادها الصغار، في المواجهة المصيرية مع الآلة الوحشية الجبارة، العسكرية والسياسية والمالية والاعلامية، لاميركا واسرائيل؟! هل هذه القوة هي قوة الحسابات البراغماتية، التي تسلحت بها انظمتنا العربية "الوطنية والتقدمية" بمواجهة اسرائيل، والتي بها افقرت شعوبنا، واستأسدت عليها، وطغت وبغت واستبدت، بمثل ما تفعل اسرائيل بالشعب الفلسطيني وربما اكثر؛ ونعني بها حسابات "التوازن الستراتيجي" وبقاء او عدم بقاء "السلطة الوطنية والتقدمية" و"انصاف آلهتها" ومارشالاتها، وقصورها ومنافعها وخيراتها المنظورة وغير المنظورة؟! ام ان هذه القوة هي الشعور المتراكم، في قرارة نفوس اطفالنا الابرياء انفسهم، بالحقد المقدس على الظلم اللاانساني، والشوق للانتقام لدم الاخوة والآباء والاقرباء والاصدقاء الذين سقطوا شهداء، والحلم بحياة افضل؟! وهو ما ينبع من صلب الرومانسية الثورية التي تحولت الى قوة كامنة فطرية حتى لدى اجيالنا الصاعدة. ان هذه الظاهرة تخرج عن قدرة استيعاب "انصاف آلهتنا"، الذين لم يعودوا يفقهون شيئا خارج الحسابات البراغماتية، التي لا يمكن، من الجهة المقابلة، ان تفهمها شعوبنا ولا حتى اطفالنا؟! وهنا نسال: ان الامبريالية العالمية الاميركانو ـ صهيونية تمتلك افظع جيوش العالم، وافتك و"ارقى" الاسلحة، وجيوشا جرارة من الخبراء والاعلاميين العملاء والمخططين الستراتيجيين، على كل الاصعدة، بأمرتهم اعقد الكومبيوترات وارقى التكنولوجيا العلمية والمعلوماتية. فهل هذه الجيوش والخبرات والتكنولوجيا هي الاقوى، ام هذا الطفل الشهيد البريء، الذي يروح "ليرمي" قبل وبعد ان يذهب الى المدرسة؟! في رأيي، واظن في رأيك ورأي اي وطني عاقل ايضا، ان تلك الجيوش والقوى الغاشمة انما هي قوة وحشية جبارة، تستطيع ان تقتل وتدمر على اوسع نطاق، ولكنها لا تستطيع ان تقدم اي شيء ايجابي للانسانية المعذبة، التي لا تحتاج الى المزيد من القتل والدمار والعذاب والظلم، بل الى التحرر من القوى الغاشمة والظالمة، ايا كانت، وعلى رأسها الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية. ولهذا، فإن هذه القوة هي محكومة بالهزيمة، لانها قوة رجعية تشد التاريخ الى الوراء، وتدافع، بكل "واقعية" براغماتية، عن واقع مرفوض انسانيا، وهو الى زوال تاريخيا. ولذلك فقد اصبحت فعلا "نمرا من ورق" يمكن ان يخيف الحكام والجنرالات المتسلطين، ولكنه لا يخيف حتى اطفالنا انفسهم. اما ذلك الطفل، ببريق الامل المظفر والفرح الصافي في عينيه العربيتين، وهو يصيب الدبابة الاسرائيلية بحجره، فهو الاقوى، لانه ـ وبدون ان يجري اي "حسابات" براغماتية لا يفهمها اصلا!! ـ هو الذي يدافع عن الوجود الكريم والمستقبل العتيد المرجو للانسانية المعذبة، كل الانسانية، وهو الذي يعبر موضوعيا عن الحتمية التاريخية لسقوط جميع انظمة الظلم والاستغلال والاستبداد والاحتلال والاستعمار والامبريالية!! هذه هي الرومانسية الثورية، بشكل خاص، والرومانسية الانسانية بشكل عام، كما افهمها انا على الاقل! وجهان للواقعية والسؤال هو: كيف امكن ويمكن لهذه الرومانسية "اللاعقلانية" و"اللاواقعية" ان تتفوق على الحسابات "العقلانية" و"الواقعية" للبراغماتية السياسية؟ لقد كان هذا السؤال مطروحا بشدة بالامس. اما الآن، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستفراد اميركا والامبريالية الاميركانو – صهيونية بمركز القطب العالمي الاوحد، فإن السؤال نفسه اصبح مطروحا بشدة لا مثيل لها في السابق. واعتقد ان مقاربة الجواب تكمن في التالي: ان الافكار، كل الافكار، من اكثرها واقعية الى اكثرها رومانسية وطوباوية، هي في الاساس ظاهرة نوعية معنوية، غير مشيأة، بمواجهة الظاهرة المادية الملموسة للاشياء. ولكن حين يصبح لأي فكرة "جمهورها"، الذي يتبناها ويعمل لتحقيقها، فإن هذه الفكرة تتحول الى "قوة مادية" تقاس بقوة حضور وفعل "الجمهور الخاص" المؤمن بتلك الفكرة. وتثبت التجربة التاريخية ان "الجمهور" (بمعنى الجماعة الفاعلة من الناس) هو "قوة مادية حية وعاقلة" تتفوق على "القوة المادية الميتة، السكونية، والغريزية، للطبيعة والاشياء والحيوانات". وبمقدار ما إن بعض الافكار والايديولوجيات، وفي مراحل تاريخية معينة، تعبر، مواربة او مباشرة، عن الضرورة التاريخية، بعكس "الوقائع" والمعطيات المادية التي تعاكس تلك الضرورة، فإن مثل هذه الافكار، متى تبنتها الجماهير الشعبية الواسعة، التي هي ـ في الحساب الاخير ـ صانعة التاريخ، تتحول الى "قوة مادية" واقعية، لا تستطيع ان تقف امامها اي قوة اخرى. وهذه، باختصار، هي "حكاية" (= رومان، بالفرنسية، التي تشتق منها عبارة: رومانسية) المسيحية مع الطغمة العليا اليهودية والامبراطورية الرومانية، و"حكاية" الاسلام مع الاريستوقراطية العشائرية في الجاهلية والامبراطوريتين الفارسية والبيزنطية، و"حكاية" الثورات الاشتراكية وحركات التحرير الوطني المعاصرة مع الامبراطوريات الرأسمالية، الكولونيالية والامبريالية، في العصور الحديثة. ولبعض "اليساريين" و"التقدميين" و"الدمقراطيين" وخاصة "الشيوعيين" الذين ينذهلون، وينبطحون، الان امام اميركا، نقول: ان اميركا، وبمقدار ما هي جزء من هذا العالم، فإن كل غنى وخبث الصهيونية، وكل عجائبية "يهوه" او اي عجائبية اخرى "يهودو ـ مسيحية" يتلطى خلفها جورج بوش وامثاله، وكل الجبروت الاقتصادي والعسكري للدولة الاميركية، لن تجعل من اميركا استثناء في التاريخ البشري، طالما ان البشر انفسهم، كل البشر لا الاميركيين والصهاينة فقط، هم الذين يصنعون التاريخ الفعلي، الواقعي، وإن بمعتقدات وهمية احيانا كثيرة، وبحوافز "رومانسية" في اغلب او في كل الاحيان. البراغماتية السياسية 5 ـ تعزى البراغماتية بشكل خاص الى الاميركيين. وربما كانت البراغماتية "اكتشافا" اميركيا، ولكنها ليست بأية حال "اختراعا" اميركيا. فهي ـ اي البراغماتية ـ كانت على الدوام الاساس الفكري والعملاني، المصلحي، لكل قوة قائمة وسلطة سائدة. واذا اخذنا اي مرحلة تاريخية على حدة، نجد انه يوجد دائما قوة قائمة وسلطة سائدة لهما الغلبة والتفوق، بالمنطق والمفاهيم البراغماتية. ولكن اذا نظرنا الى التاريخ في حركته الدائمة، الصاعدة، نجد ان القوى المتسلطة جميعا، وبالرغم من تفوقها بالحسابات الواقعية المادية المباشرة، تؤول الى الهزيمة والزوال، امام قوة الافكار والحركات "الرومانسية" اللاواقعية. ونكتفي بالوقوف عند المثالين الرئيسيين التاليين: أ ـ ان كل الامبراطوريات الجبارة الظالمة، التي قامت في التاريخ، كانت تمتلك كل مقومات القوة، حتى في لحظات زوالها بالذات، ومع ذلك فهي جميعا قد زالت، مفسحة المجال، بهذا الشكل او ذاك، للافكار الجديدة، و"الاحلام" واحيانا "الاوهام" كي تشق طريقها الى ارض الواقع. ب ـ ان القوى الثورية، الاشتراكية والتقدمية والدمقراطية والتحررية الوطنية، قد انتصرت، وجاءت الى السلطة، بقوة "الرومانسية الثورية"، ومن خارج الحسابات "الواقعية" المبتذلة للبراغماتية السياسية، بما فيها الحسابات البراغماتية لقيادات، او بعض قيادات، تلك القوى ذاتها. ولكن خلال وجودها في السلطة اخذت تلك القوى تنحرف عن جادة الصواب، وتنغمس في مستنقع البراغماتية والحسابات المادية "الواقعية". ونجد هنا ان كل الانحرافات، والارتكابات، والهزائم، التي وقعت في البلدان الاشتراكية، وفي ما كان او لا يزال يسمى انظمة الحكم الوطنية والتقدمية في البلدان العربية (بدءا من الستالينية و"نقيضها" الخروشوفية والغورباتشوفية، مرورا بالناصرية والقذافية والاسدية، وصولا الى الحكم الصدامي الاسود في العراق) كانت سببا جوهريا في ما آلت اليه بلدان المعسكر السوفياتي السابق، والبلدان العربية عامة، وذات الانظمة "الوطنية والتقدمية" خاصة. وقد حدث كل ذلك لان قيادات الاحزاب الشيوعية والوطنية والقومية والتقدمية الحاكمة، وبتأثير مغريات السلطة، قد تخلت عن النقاء الثوري الاولي، وما سميناه الرومانسية الثورية، وانغمست ـ وبالاصح غرقت ـ في منافع السلطة والحسابات البراغماتية المصلحية، التي انتجت انظمة الحكم الدكتاتورية الرهيبة، من جهة، وفتحت الطريق للخيانة المستورة والمكشوفة، من جهة اخرى. ولا بأس من التذكير ببعض الامثلة الواقعية، التي تكشف بلا رحمة درامية هذا المسار: # ان ابن ستالين، الذي كان ضابطا في الجيش الاحمر ووقع اسيرا لدى الالمان، قد اندفع للانتحار المتعمد في معسكر الاعتقال النازي، والقى بنفسه على السياج الشائك، مستفزا الحرس كي يطلقوا عليه النار. وهو فضل الموت على هذه الصورة، لأنه اخذ يعاني من "عقدة" معاملته المميزة بوصفه ابن الزعيم السوفياتي. وهذه التضحية تدل على رواسب وطنيته الروسية وقناعاته الشيوعية الاولية، وهذا فخر له. ولكن ذلك لا يغير شيئا في حقيقة الستالينية، وان النظام الستاليني كان قد تحول الى كابوس واشبه شيء باحتلال فعلي لشعوب الاتحاد السوفياتي، قبل الاحتلال الهتلري. # ولقد قتل ابنا صدام حسين على ايدي القوات الاميركية الغازية. وهذا ايضا يدل على انهما في الحساب الاخير كانا ببساطة "انسانين عربيين" و"مواطنين عراقيين"، فضلا الموت على الاستسلام. ولكن هذا لا يغير شيئا في طبيعة النظام الصدامي وفي حقيقة تعاملهما السابق، هما بالذات، تعاملا استباحيا ووحشيا، مع ابناء الشعب العراقي العظيم، بما يشبه تعامل المحتلين الاميركيين اليوم، بل ربما أسوأ. # اما ابن نيكيتا خروشوف، سيرغيي خروشوف، فإنه لم يكن له حتى شرف الموت كابن ستالين وابني صدام، بل هو لم يكتف، حتى قبل ان ينتهي عهد والده، بأن يرسل ابنته للدراسة في اميركا، بل تحول هو نفسه الى عميل اميركي مباشر، وافتتح "مركز ابحاث!!" "خاص به!!" في اميركا. # واما ميخائيل غورباتشوف، الذي كان للاسف رئيس الحزب الشيوعي والدولة السوفياتيين، فقد تحول هو نفسه الى "باحث" و"مستشار" (اي عميل وجاسوس) لدى الاميركيين!! وهذه هي "واقعية" البراغماتية السياسية، وما جنته على الجماهير والشعوب المكافحة!! التطور المتفاوت للرأسمالية 6 ـ ومع كل ذلك، فلا يمكن لأحد القول إن الرومانسية الثورية هي من نسج الخيال المجنح، ولا علاقة لها بالواقع. بل بالعكس، فهي وليدة الظروف التاريخية المعاشة، واكثر "واقعية" من البراغماتية السياسية. ولننظر الى ذلك عن قرب: ـ ان كارل ماركس هو اعظم عالم اجتماع في الازمنة الحديثة، واكبر محلل للرأسمال والنظام الرأسمالي، الذي يعتبر وريث كل شرور الماضي وأصل كل شرور العصر الحديث. وقد كان ماركس يحلم (واقول "يحلم" بشكل مقصود، علما ان ماركس لم يكن بأي شكل من الاشكال "حالما طوباويا" كما كان ولا يزال يتهمه البعض، كي يبرروا او يغطوا "سفالتهم" الحقيقية بـ"طوباويته" الوهمية) بأن "الثورة الاشتراكية" ستقوم اولا في البلدان الرأسمالية الاكثر تقدما في اوروبا واميركا، وان "الاشتراكية" ستكون "خطوة متقدمة" على "الرأسمالية المتقدمة" في آخر مراحلها وفي ارقى بلدانها. طبعا لو حدث ذلك كذلك، لكان الذي سيقوم بالثورة، ومن ثم ببناء النظام الاشتراكي "المحلوم به علميا" (على طريقة ماركس) هو البروليتاريا المتقدمة، المتعلمة والمثقفة، ولا سيما شرائحها الاكثر تقدما وعلما وثقافة وتجربة سياسية، بقيادة الشيوعيين الصادقين، في المجتمع البرجوازي الدمقراطي المتقدم. وفي مثل هذه الحالة كان يمكن الحديث عن "حسابات" و"موازين" و"توازنات"، علمية وثقافية وسياسية واقتصادية وانتاجية الخ الخ.، بين النظام الرأسمالي المتقدم المهزوم، وبين النظام الاشتراكي الجديد المولود من رحمه او على انقاضه. ولكن الذي جرى على ارض الواقع، وخارج اي حلم، هو انه لا الثورات المعادية للكولونيالية والامبريالية فقط، بل، وبالاخص، الثورات الاشتراكية ذاتها ايضا قد جرت في البلدان المتخلفة والاشد تخلفا. فكيف نفسر هذا "الخلل التاريخي"، حيث اصبح الاولون اخيرين والاخيرون اولين؟! ـ ربما لا يختلف اثنان على ان العالم الانساني، او المجتمع البشري ككل، هو وحدة متكاملة. ومن ثم، فإن الثورة الاشتراكية في هذا البلد او ذاك، هذه المنطقة او تلك، بمقدار ما هي مسألة وطنية داخلية او مسألة اقليمية خاصة، فهي في الوقت نفسه، وبالمقدار نفسه واكثر، جزء عضوي اساسي من حالة التمرد والثورة على الحالة العالمية للظلم الاجتماعي والوطني والاتني و"الديني" والقومي والعنصري. وبالتالي فإنها تجري على خلفية الطابع العالمي الشامل للنظام الرأسمالي، وبموجب القوانين المسيرة له. وهذا يعني ان الاهمية والانعكاسات والمضاعفات، العالمية، للثورة الاشتراكية في اي بلد، توازي وربما تفوق اهميتها الوطنية والاقليمية. و"الواقع"، الواقع المادي الملموس بالذات ـ وليس اي معطى غيبي او نفسي او مزاجي او معنوي او اي شيء آخر من هذا القبيل ـ هو الذي اعطانا قيام الثورة الاشتراكية ليس في البلدان المتقدمة، بل على وجه التحديد في البلدان غير المتقدمة والمتخلفة، بل والاكثر تخلفا، نسبيا ومطلقا، كروسيا والصين والفيتنام وكوبا؛ هذا ناهيك عن قيام الثورات التحررية الوطنية وضد الدكتاتوريات ايضا في بقية ارجاء العالم الفقير والمتخلف، ولا سيما في اسيا وافريقيا واميركا اللاتينية. ومن ثم فإن السبب في هذا الانقلاب في اتجاه رياح التغيير، اذا صح التعبير، يكمن في صلب "الواقع" ولا يناقض الماركسية في شيء (بل بالعكس، فإن هذا الواقع، بوجود ماركس وبدونه، يؤكد الماركسية اكثر). ويعود هذا السبب الى ان النظام الرأسمالي، القائم على الملكية الخاصة والمزاحمة، هو بطبيعته الخاصة محكوم بقانون التطور المتفاوت، ليس في النطاق الوطني ـ الاجتماعي "الداخلي" وحسب، بل ـ بالنتيجة ـ وفي النطاق الكوسموبوليتي ايضا، الذي يتخذ اليوم شكل "العولمة"، التي يريدنا اليوم بعض الانتهازيين والوصوليين، ولا سيما من الماركسيين السابقين، ان نصدق انها ـ اي العولمة ـ هي تغير نوعي في الطبيعة الاساسية، الاستغلالية ـ التناحرية، للرأسمالية. وبفعل هذا القانون، فإن النظام الرأسمالي، ومنذ نشوئه بالذات، كان يتجه بشدة للانتقال الى "مرحلة اعلى" من تطوره، وهي المرحلة التي انتجت عصر الكولونيالية والامبريالية والعنصرية والفاشية والصهيونية. وفي هذه "المرحلة الاعلى" فإن الظلم الناتج عن الاستغلال الرأسمالي قد تركز اكثر ما تركز، وتجلى أكثر ما تجلى، في البلدان الافقر والاضعف والاكثر تخلفا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وفكريا. وكان من الطبيعي، والواقعي تماما، ان تأتي ردة الفعل التاريخية الاعنف، ضد الرأسمالية، في زيها "الاخير" الكولونيالي والامبريالي، من الشعوب والبلدان الاكثر عرضة للاستغلال والظلم، اي الشعوب والبلدان الافقر والاضعف والاقل تطورا. ان بعض "التقدميين السابقين" او "اليساريين السابقين" او "الماركسين السابقين" او "الشيوعيين السابقين"، (مثل العفيف الاخضر من تونس، وسعدالدين ابرهيم من مصر، وفخري كريم من العراق)، يظهرون الان انبهارهم المسرحي الرخيص امام "الدمقراطية" الغربية وحتى الاسرائيلية، في وقت تقوم فيه جيوش الغزو والاحتلال، الاسرائيلية والاميركية، بسحق جماهيرنا الشعبية الفقيرة والمظلومة، وتعمل المستحيل لتغيير خريطة الشرق الاوسط، ليس بهدف قلب الانظمة الرجعية التي اقامتها ودعمتها في السابق اميركا نفسها، بل لاجل "تجديد" تلك الانظمة، وتنصيب ودعم أنظمة حكم "جديدة"، أقلوية، عميلة ودكتاتورية. وبصرف النظر عن كل النوايا "الدمقراطية" الطيبة، (والطريق الى جهنم مفروش دائما بالنوايا "الطيبة")، وباسم هذه "الدمقراطية" المزيفة يتحول هؤلاء "المثقفون!!" الكوسموبوليتيون، من حيث يريدون او لا يريدون، الى مطايا صغيرة لحملة الغزو "الجنكيزخاني" الجديد، الاميركي، للعالم اجمع، وبالاخص للعالم العربي. وهم بذلك يؤكدون انهم لم يكونوا يوما تقدميين او يساريين او ماركسيين او شيوعيين حقيقيين، اذ ينسون او يتناسون ان الرأسمالية، التي، في مرحلة صعودها الاولي، اعطت الدمقراطية البرجوازية، انما هي نفسها التي، في "مرحلتها الاعلى"، مسخت الدمقراطية وكشفت عن وجهها الحقيقي عندما اعطت ايضا: العنصرية والفاشية والكولونيالية والامبريالية والصهيونية. مستويا التطور للرأسمالية 7 ـ ان النظام الرأسمالي، بطبيعته وجوهره، وبحكم قوانين تطوره ذاته، وبالاخص قانون التطور المتفاوت، كان من المحتم ان يمر بمرحلتين متميزتين نوعيا، الا انهما مترافقتان ومتداخلتان زمنيا. اي انهما ليستا مرحلتين متتابعتين زمنيا، بل هما في الحقيقة مستويان لتطور النظام الرأسمالي، حيث انهما كانا يسيران جنبا الى جنب، سواء بالنسبة للبلد الرأسمالي الواحد، او بالنسبة لمختلف البلدان الرأسمالية الرئيسية، مأخوذة بمجملها. وهاتان المرحلتان ـ المستويان هما: المرحلة الاولى ـ التي يمكن تسميتها مرحلة التأسيس، او مرحلة التطور (او التراكم) الاولي للرأسمال. في هذه المرحلة فإن المحور الرئيسي لهذا التطور كان يتركز في "الاطار الوطني" لكل بلد رأسمالي، وبشكل اوسع في "الاطار الداخلي" للمنطقة الجغرافية الاولى التي قامت وانتشرت فيها الرأسمالية في تلك المرحلة، ونعني بها اوروبا الغربية، ومن ثم ما يسمى "العالم الجديد". وفي هذه المرحلة الاولى، او المستوى الاولي للتطور الرأسمالي، فإن مركز ثقل الضغط الاستغلالي الرأسمالي على الجماهير العمالية والشعبية، وكذلك مركز ثقل ضغط المزاحمة فيما بين الرأسماليين أنفسهم، كانا يقعان داخل كل بلد رأسمالي ـ أم، واستطرادا داخل الدول الرأسمالية ـ الأم؛ ـ اي ان ثقل الضغط المتولد عن عملية التراكم الاولي للرأسمال، بكل اشكال تناقضاته، كان يتركز على "الداخل"، حيث كانت الرأسمالية تشق طريقها نحو تقدمها، داخل بلدانها، وداخل منطقتها الخاصة، بالدرجة الاولى، على حساب معاناة مجتمعها الخاص، بكل الوجوه الاقتصادية والنفسية والاخلاقية والسياسية والفكرية والعقائدية والامنية والعسكرية. وقد اسفرت هذه المرحلة عن تفاقم التناقضات الداخلية في المجتمعات الرأسمالية "داخل بيتها الخاص"، الى الحد الاقصى، اي الى درجة بدا معها افق تطور البلدان الرأسمالية ـ الام مسدودا تماما، على قاعدة النظام الرأسمالي وقوانينه الخاصة. من هنا كان ظهور الافكار الاشتراكية، بمختلف اشكالها، بدءا من الاشتراكية الاخلاقية (الاشتراكية الطوباوية)، مرورا بالاشتراكية الاصلاحية (الاشتراكية التريدينيونية او النقابية، والسياسية ـ البرلمانية)، انتهاءا بالاشتراكية الثورية، او الاشتراكية العلمية (التي جسدتها الماركسية بشكل خاص). واذا اجرينا مراجعة لتلك المرحلة الاولية للتطور الرأسمالي، في اوروبا الغربية واميركا، نجد انها كانت مليئة بشتى اصناف الاضطهادات والمظالم الفظيعة، والقمع الاسود الرهيب، التي شاركت فيها الكنيسة نفسها، وبالاضرابات العامة، والحركات والاضطرابات السياسية والدينية الكبرى، والثورات، والحروب الداخلية والمابينية، الاوروبية والاميركية، بما فيها الحروب الدينية التي استمر بعضها عشرات السنين وحتى قرنا بكامله. و"الحلم" الماركسي بقيام الثورات، او الثورة الاشتراكية في البلدان الرأسمالية المتقدمة، انما يرتكز الى هذه المرحلة الاولى، او المستوى الاول، من التطور الرأسمالي. الى هنا تبدو الماركسية، ارتباطا بالفترة التي عاش فيها كارل ماركس (1818 ـ 1883) وفريدريك انغلز (1820 ـ 1895)، وكأنها "ظاهرة محدودة جغرافيا"، اي "ظاهرة اوروبية غربية" وحسب، غير صالحة للتطبيق على المجتمعات غير الاوروبية الغربية (والاميركية الشمالية)، او "ظاهرة محدودة تاريخيا"، "عجزت" عن رؤية امكانيات خروج الرأسمالية من ازمتها العامة في بلدانها ـ الام، عبر أفق تطورها العالمي ـ الكوسموبوليتي، المتمثل في "مرحلتها" او "مستواها" الأعلى: الكولونيالية والامبريالية. ولكن الماركسية ذاتها، في عصر ماركس وبعده (ولا سيما عبر الاسهام الفكري للينين، وتجربة الحركة الثورية في روسيا والصين) تؤكد بوضوح على ان الرأسمالية ليست ظاهرة "وطنية" او "قومية" او "قارية" او "إقليمية" محصورة، بل انها ظاهرة كوسموبوليتية ـ عالمية. ولا نستطيع الا ان نلاحظ هنا تقصير المنطقة العربية (واستطرادا الاسلامية) عن ان تقدم للحركة الاشتراكية العالمية، وللفكر الماركسي، اسهاما مماثلا، او شبيها، او قريبا من الاسهام الروسي والصيني. وهنا تلتقي الآلة الاعلامية الاميركية ـ الصهيونية، مع الرجعية العربية والاسلامية، للادعاء ـ في جوقة واحدة موحدة ـ ان الماركسية، او الاشتراكية العلمية، لا تصلح للمجتمعات العربية والاسلامية. ولكن هذا التقصير يعود الى اسباب "خارجية" عديدة، اهمها، اولا، هو النفور العربي/ الاسلامي المسبق من كل ما كان يأتي من "الغرب"، بما في ذلك النظريات العلمية والاصلاحية والثورية، ومنها الماركسية "غربية!!" المنشأ، وهذا النفور هو رد فعل "طبيعي" ناجم عن الدور الاستعماري الغربي في الشرق؛ وثانيا، الدور السلبي للسلطة "السوفياتية"، بشخص الستالينية، من جهة، وتغلغل بعض العناصر الصهيونية المعادية مسبقا للعرب والاسلام، في "الاممية الشيوعية" (الكومنترن)، من جهة ثانية، في محاربة الحركات الاشتراكية العربية الاساسية، التي وجدت قبل الثورة الاشتراكية والسلطة السوفياتية في روسيا. فقد عملت الستالينية والبيروقراطية السوفياتية، وكذلك العناصر الصهيونية المتسترة بالشيوعية، على مسخ الحركات الاشتراكية والشيوعية العربية القديمة الاصيلة، وفرضت عليها قيادات شيوعية "غير قومية" وتدور، بشكل عام، في فلك اجهزة الامن السياسي السوفياتي. ولكن هذا "التقصير" العربي/الاسلامي لا ينفي الطابع الكوسموبوليتي ـ العالمي للرأسمالية، والتشخيص الماركسي الاساسي للنظام الرأسمالي بشكل عام، وللكولونيالية والامبريالية بشكل خاص. وها اننا نرى بأم العين، كيف ان الحركات "القومية" و"الاسلامية" نفسها، حتى اشدها عداء مسبقا، اعمى ومسطحا، للشيوعية، تتبنى عن وعي او غير وعي مسبق، الاطروحات وادوات التحليل واساليب الكفاح الماركسية، في مواجهة الرأسمالية والكولونيالية والامبريالية، حتى حينما تعمد بعض الفصائل الماركسية السابقة الى نزع جلودها القديمة، كالافاعي، والتخلي عن مبادئها الاصلية. ان بعض "الماركسيين" يستنفرون الان كل "مواهبهم" ويشحذون كل اسلحتهم "الفكرية"، "الاخلاقية" والسياسية ضد الحركات الاسلامية المناضلة، على وجه التحديد، في الوقت ذاته الذي يتظاهرون فيه بالانبهار امام العولمة الاميركية. وهم بذلك انما يبرهنون عن وصوليتهم (حتى لا نقول: ارتزاقيتهم وعمالتهم) السياسية، كما وعن ضحالتهم الفكرية. وبوصفها ظاهرة كوسموبوليتية ـ عالمية، فإن الرأسمالية كانت تسير على مستوى، او مرحلة ثانية من التطور، ويمكن تسميتها مرحلة التحقق الشامل، العالمي، للنظام الرأسمالي، وهي المرحلة "الاعلى"، الكولونيالية والامبريالية، للرأسمالية. وفي هذه المرحلة، فإن مركز الثقل الرئيسي لضغط التقدم الرأسمالي كان يقع على التوسع "الخارجي" (اي خارج "الاطار الوطني" لكل بلد رأسمالي، وخارج "المنطقة الرأسمالية" الاوروبية ـ الاميركية بشكل عام). وهذا يعني انه في هذه المرحلة ينتقل ثقل مركز الضغط الاستغلالي للرأسمالية من "الداخل" الى "الخارج"، ليقع على كاهل الجماعات العنصرية والاتنية والدينية "الخارجية"، "الاخرى"، المتمثلة بالشعوب والبلدان الفقيرة لآسيا وافريقيا واميركا اللاتينية، التي تحولت الى مستعمرات وشبه مستعمرات والى مدى حيوي لتصدير الرساميل. وبحكم الاختلاف "الانساني ـ الوجودي": الاتني، والديني، والقومي، والعنصري، بين البلدان الرأسمالية ـ الام، وبلدان الاطراف، من جهة؛ وبحكم المنطق الاساسي للاستغلال الرأسمالي، القائم على اللااخلاقية، والذرائعية، والمصلحية، والبراغماتية، التي تبرر كل شيء في سبيل "الربح" وتكديس الرساميل، من جهة ثانية؛ بحكم هذين العاملين، ففي هذه المرحلة، وفي هذه المناطق "الخارجية"، فإن الاستغلال الرأسمالي، ذا الطابع التناحري الطبقي (الاجتماعي ـ الاقتصادي) بالاساس، اتخذ طابعا تناحريا نوعيا جديدا هو طابع التمييز النوعي (الانساني ـ الوجودي): عنصريا، قوميا، اتنيا ودينيا، بكل ما ينجم عنه من اشكال النبذ والتهميش والتجهيل والتخليف والتجويع والابادات الجماعية "السلمية" البطيئة و"العنفية". وبذلك فإن الرأسمالية، في سعيها اللاانساني المتوحش لتكديس الرساميل، لم تكتف بقسمة المجتمع الى: مستغـِلين ومستغـَلين، مالكين ومحرومين، برجوازيين وبروليتاريين؛ بل هي ـ بالاضافة الى ذلك، وكنتيجة منطقية لذلك ـ قسمت البشر الى "نوعين": اسياد وعبيد، أعلون وأدنون، متفوقون ومنحطون. وبذلك فإن الوجود، مجرد الوجود الانساني بحد ذاته، لعناصر وشعوب وقوميات واقوام وجماعات بأسرها، في قارات بأسرها، اصبح مهددا في طبيعته الانسانية، وفي امكانية استمراره، من قبل الرأسمالية، في عصرها التوسعي الكولونيالي الامبريالي. وفي هذه المرحلة ايضا، فإن مركز الثقل في المزاحمة فيما بين الرأسماليين انفسهم انتقل ايضا الى "الخارج"، اي ان محور هذه المزاحمة لم يعد الصراع للسيطرة على "السوق الداخلي"، بل الصراع للسيطرة على المستعمرات ومناطق النفوذ لمختلف الدول الرأسمالية الام ـ اي المتروبولات، على حساب ما يسمى الاطراف، ولا سيما في الشرق (بمعناه الواسع). ولعله من المناسب تشبيه المرحلة الرأسمالية الاولية بالطيران الكلاسيكي، حيث تقوم الطائرة بشق الهواء امامها بواسطة مراوحها، كي يمكنها التقدم الى الامام. اما المرحلة الثانية، الكولونيالية الامبريالية، فيمكن تشبيهها بالطيران النفاث، حيث تعمد الطائرة الى اطلاق قوة ضغط الى الوراء، مساوية لمعادلة وزنها وجسمها وسرعة انطلاقها، كي يمكنها ان تتقدم بشكل انسيابي مرن الى الامام. وبقدر ما تزداد قوة الضغط الى الوراء، بقدر ما يخف الضغط الأمامي عن الطائرة ويزداد تقدمها وانسيابها المرن الى الامام. اي ان الضغط الرأسمالي، بمختلف اشكاله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية، وبأبشع اشكاله الطبقية والعنصرية والقومية والدينية، كان يتركز على "الخلف"، في طردية عكسية مع التقدم الرأسمالي، وتخفيف الضغط على "الداخل" المتروبولي. وبكلمات اخرى، فإن تقدم البلدان الرأسمالية ـ الام، المتروبولات، اصبح بالتدريج مدينا بكليته تقريبا للاستغلال الكولونيالي والامبريالي البشع، اللامتناهي، للمستعمرات وشبه المستعمرات والبلدان الفقيرة والضعيفة والمتخلفة. وحينما اصبحت شعوب بأسرها، ولا سيما الجماهير الشعبية، الفلاحية والعمالية والحرفية، الفقيرة، في المستعمرات وشبه المستعمرات، تعيش "على حافة الموت"، او حتى "مع الموت"، بالمعنى الحرفي للكلمة، فإن الطبقة العاملة ذاتها، في البلدان الامبريالية ـ الام، المتروبولات، اصبحت تتمتع بامتيازات ومكاسب حياتية، ما كانت لتتمتع بها، لولا الاستغلال الحيواني المضاعف لشعوب البلدان الفقيرة والضعيفة. وبذلك، فإن النهب والاستغلال الكولونيالي والامبريالي لـ"الاطراف"، اصبح يضطلع بدورين: الاول ـ مضاعفة ارباح الاستغلال الرأسمالي، على اساس معاملة الشعوب الفقيرة والضعيفة كـ"قطعان من الحيوانات"، محرومة من اي "حقوق انسانية". والثاني ـ دور صمام امان لحركة المعارضة الشعبية للرأسمالية، ولا سيما الحركة الاشتراكية، داخل المتروبولات، حيث ـ بالتدريج ـ تحولت تلك الحركة ذاتها الى ملحق وتابع "معارض!" لانظمة الحكم الكولونيالية والامبريالية الغربية. ويمكننا اليوم ان "نستمتع" ونحن نرى بأم العين كيف ان بعض "الاشتراكيين" امثال طوني بلير، يضطلعون بدور كلاب صيد لدى الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية. ونرى "شيوعيين سابقين" امثال رومانو برودي وبعض الاحزاب "الشيوعية السابقة" في المنظومة السوفياتية السابقة، يكتفون بدور "شهود الزور"، او يتسابقون نحو المقابر الجماعية ومدننا وقرانا المدمرة، التي تنعب فيها غربان بوش وشارون، املا في الحصول على بعض فتات الغزو الاميركي الجديد للعالم العربي/الاسلامي. ووصلت درجات التفاوت بين البلدان الامبريالية الناهبة والبلدان "الاطرافية" المنهوبة حدود اللامعقول، والتناقض الوجودي شبه المطلق. فأصبحت مشاهد الحياة الكرنفالية في الغرب الامبريالي، ملازمة لمشاهد الفقر المخيف والجوع والامراض والاوبئة والموت الجماعي في العالم الفقير. وعلى هذه الخلفية المتناقضة المريعة، فإن "الدمقراطية الغربية"، ولا سيما الاميركية (التي تجري فيها الكرنفالات الباذخة امام اعين مئات ملايين الجياع المحرومين من رغيف الخبز، والمرضى المحرومين من الدواء المحتكر) تظهر كمساخر احتفالية، اشبه بمساخر حلبات المصارعة حتى الموت في عهد الامبراطورية الرومانية القديمة، الهدف منها لا تعظيم "الدمقراطية"، بل تعظيم الظلم، وبالنتيجة قتل آخر نبضات التضامن الانساني في العالم الرأسمالي المتوحش. وفي هذه الحالة، كان من "الواقعية" التامة ان الجماهير والشعوب "الخارجية" ـ الاطرافية، هي التي اصبحت الاكثر شعورا بالظلم الرأسمالي، المغلف بالكولونيالية والامبريالية. وبالتالي فإن هذه الشعوب هي التي اصبحت، ولا تزال، الاميل للمبادرة الى التمرد والثورة، من ضمن "الواقع" ولا شيء آخر سوى "الواقع"، الذي تعيش فيه. وحينما كانت هذه الجماهير والشعوب الاطرافية، الفقيرة والمتخلفة، تأتي الى الثورة، كان من الطبيعي ان تأتي اليها ليس من مواقع الرأسمالية المتقدمة، بما في ذلك "ترف" الدمقراطية البرجوازية التي لم ولن تعرفها قط، بل ان تأتي الى الثورة، حاملة معها "تخلفها" المفروض عليها فرضا، بما في ذلك الرد على العنف الإلغائي اللاانساني، بعنف مماثل، والتمسك بـ"التقاليد" والمفاهيم الايديولوجية الخاصة، التي ارادت الامبريالية مسخها او محوها من الذاكرة التاريخية لتلك الشعوب، كشرط ومقدمة لمسخ واستعباد هذه الشعوب نفسها. الانتكاسة الحضارية العالمية 8 ـ وفي هذه المرحلة الثانية، الكولونيالية ـ الامبريالية، للرأسمالية، وبالتواطؤ الموضوعي المقصود وغير المقصود، أي إما بتزامن الافعال، او بالتعاون المباشر او غير المباشر، بين القوى الاستعمارية الغربية الصاعدة والطغمة المالية اليهودية العالمية والكنيسة الغربية، من جهة، وبين الغزاة "الشرقيين"، التتار/المغول والعثمانيين، من جهة ثانية، تم القضاء على مراكز الحضارة العالمية الكبرى القديمة: بغداد (1258م)، القسطنطينية (1453م) والاندلس (1492م). وقد اكتملت هذه الدورة الانتكاسية للحضارة العالمية بنشوء الامبراطورية العثمانية واجتياحها للوطن العربي. وهنا لا بد لنا من تقديم ملاحظة اساسية، لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة حول "اسلامية" الامبراطورية العثمانية: ان هذه الامبراطورية لم يكن بامكانها ان تقوم، بدون التواطؤ بين الهمجية العشائرية ـ العسكرية للقبائل العثمانية (كقوة تنفيذ) وبين القوة المالية والسياسية والعسكرية للدول الكولونيالية والامبريالية الغربية الصاعدة وللطغمة المالية اليهودية العالمية، التي ـ اي الاخيرة ـ بعد ان جنت ما جنت في الاندلس، وبعد ان انكسرت شوكة العرب ودالت دولتهم، ادارت لهم ظهر المجن، و(استنادا الى القرابة الدينية بين اليهود العبرانيين واليهود الخزر، والقرابة العنصرية، الطورانية الاصل، بين اليهود الخزر والعثمانيين) تحولت للتمركز في الاستانة (القسطنطينية المعثمنة) والانطلاق منها للعب دورها الاستغلالي الطفيلي العالمي. ونذكر هنا انه لم تمر سوى عشرين سنة بعد الاجتياح العثماني لبلاد العرب (1516م)، حتى بدأ توقيع اتفاقيات "الامتيازات الاجنبية" (اول اتفاقية وقعها السلطان سليمان القانوني في 1536م). والخلاصة: ان الامبراطورية العثمانية لم تكن في الواقع سوى "واجهة اسلامية ـ شرقية" للنفوذ والتسلط الرأسمالي الغربي، حيث اضطلع ما كان يسمى "الباب العالي" (بـ"مفاتيحه" اليهودية) بدور جابي اموال من "الشعوب الشرقية" لمصلحة الرأسمالية الغربية. وفي محصلة تاريخية فإن الفتح العثماني كان اشبه شيء بـ"حملة صليبية تاسعة" تحت رايات "اسلامية". وكانت الدول الغربية تكافئ السلاطين وجيوش الانذال المحيطين بهم، بتزويدهم بجيوش اخرى من الحريم والغلمان والخصيان، وبالدفاع عن الاستانة كلما كانت تتعرض لأي تهديد. "اكتشاف" اميركا وإضاعة العرب وفي هذه المرحلة بالذات من تطور النظام الرأسمالي العالمي، حدثت عمليتان انحداريتان كبريان ومترابطتان، غيرتا سلبيا وبعمق مجرى التاريخ العالمي بأسره، وهما: 9 ـ الاولى ـ سقوط العرب، وإزاحتهم ـ الى قرون قادمة ـ من مسرح التاريخ العالمي. وردا على طغاة "العصر الاميركي"، الذين يحاولون اليوم ان يبنوا مجدهم السياسي بالتحامل على العرب، بما في ذلك التحامل على الاسلام، الذي هو جزء لا يتجزأ من الدور الحضاري العالمي للعرب، لا بد ان نتوقف قليلا عند هذه النقطة: ان إزاحة العرب، في هذه المرحلة، من مركز التأثير العالمي، قد شكلت نكسة كبرى، لا تزال تفعل فعلها السلبي الى الان، في مصائر جميع شعوب العالم بلا استثناء، من اصغرها الى اكبرها، ومن ادناها الى اقصاها. فالمنطقة العربية، او ما نسميه "الوطن العربي الكبير" (لا بالمعنى العنصري ـ الديني الضيق، الذي يحصر العرب فقط بعرب شبه الجزيرة العربية، بل بالمعنى الحضاري الواسع الذي يشمل جميع الشعوب العريقة للمنطقة الناطقة اليوم بالعربية) كان منذ القديم مهدا للحضارات الكلاسيكية ـ الام، من النيل الى الفرات، وملتقى للحضارات الكبرى من الهند والصين الى روما وبيزنطية؛ ومن ثم، وانطلاقا من هذا الموقع الحساس، فإن الوطن العربي الكبير قد اكتسب بالتدريج، ثم اضطلع تاريخيا، بدور عالمي مميز مزدوج هو انه كان: اولا، المركز الرئيسي للتوازن والتفاعل الحضاري العالمي. وثانيا، خط الدفاع الاول بوجه الاجتياحات والغزوات الهمجية والاستعمارية من الغرب باتجاه الشرق، ومن الشرق باتجاه الغرب. ويكفي ان نشير هنا الى المثالين التاليين: أ ـ دور الوطن العربي في تحطيم القوتين الغازيتين المتحالفتين: الصليبية (الغربية) ـ والتتارية/المغولية (الشرقية) في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بالرغم من ان الايوبيين والمماليك هم الذين كانوا في هذه المرحلة يحكمون الدولة العربية ـ الاسلامية. فالايوبيون والمماليك كانوا يتمتعون بمغانم السلطة، وهم قد اضعفوا الطابع الاساسي، العربي، للدولة العربية ـ الاسلامية ودورها العالمي، الا انهم، وخلافا للعثمانيين فيما بعد، لم يغيروا هذا الطابع. ب ـ بالرغم من الاستقلال السياسي للاندلس العربية، عن جسم الدولة العربية ـ الاسلامية المفككة، الا ان الاندلس العربية كانت تضطلع بدور مميز، في قلب اوروبا الغربية، كجزء اساسي من الدور الحضاري العربي ـ الاسلامي العام. وكانت هناك علاقة وثيقة بين المنارتين الحضاريتين: الاندلس العربية، والقسطنطينية البيزنطية، الامر الذي كان لا يروق، او في غير مصلحة، القوى الاستعمارية في اوروبا الغربية، التي لم تتخل يوما عن مشاريعها التوسعية، بالرغم من هزيمة الحملات الصليبية. وكان من شأن استمرار ونجاح وتطور العلاقات الايجابية البناءة بين الاندلس (كمركز للحضارة العربية ـ الاسلامية) والقسطنطينية (كمركز للحضارة الاوروبية عامة، والاوروبية الشرقية خاصة) ان يفتح الطريق لصفحة جديدة مشرقة وخلاقة في التاريخ البشري، الامر الذي هو في غير مصلحة القوى الصليبية الاوروبية الغربية، ذات الميول والتطلعات التوسعية والمطامع الاستعمارية. وهذا ما دفع تلك القوى للتعجيل في حشد امكانياتها والتضافر مع الغزاة العثمانيين، ذوي النزعات الهمجية والمطامع التسلطية، ومع فلول اليهود الخزر، الذين سبق للروس ان حطموا دولتهم على الفولغا. وهكذا تشكل، سرا وعلنا، حلف حقيقي صليبي ـ عثماني ـ يهودي. وقد عمل هذا الحلف، اولا، على اسقاط القسطنطينية، وقطع الطريق على امكانية تحالفها مع الروس وتحويلها الى قاعدة قوية للمسيحية الشرقية، المنفتحة على الاندلس، وعلى الحضارة العربية ـ الاسلامية خاصة والشعوب الشرقية عامة. وبسقوط القسطنطينية (المسيحية الشرقية) على يد العثمانيين، خسر العرب "سندهم الاوروبي" الرئيسي، وهكذا فتحت الطريق امام سقوط الاندلس على يد الصليبيين (المسيحيين الغربيين). وقد مهد ذلك الطريق امام سقوط الوطن العربي ككل تحت جحافل الفتح العثماني، المدعوم من اوروبا الغربية (الصليبية) ومن الطغمة اليهودية العليا الباحثة عن مصالحها الطبقية ـ الفئوية الضيقة (بشقيها: العبرانيين، الفارين من الاندلس، والخزر، الفارين من امام الروس). وبسقوط المركز العالمي المميز للعرب، بدأ عصر انحداري في تاريخ البشرية تميز بعلامتين رئيسيتين: I ـ اختلال التوازن الحضاري العالمي، لمصلحة الكولونيالية والامبريالية الغربية، ولا يزال هذا الاختلال ماثلا الى اليوم، وهو يزداد تفاقما يوما عن يوم. II ـ ازالة العقبة الستراتيجية الرئيسية ـ اي العربية ـ التي كانت تقف بوجه الغزو الاستعماري للشرق. ومن ثم فتح الطريق واسعة وتشريع جميع الابواب للاستعمار بمختلف اشكاله وجنسياته. وبنتيجة ذلك، وفي هذه المرحلة بالذات، بدأ تسابق محموم بين جميع دول اوروبا الغربية، حتى اصغرها واتفهها تاريخيا وحضاريا وقوة عسكرية، في القرصنة ونهب خيرات الشرق والاستيلاء على اراضيه واستعباد شعوبه. ومثلما ان فلسطين اعتبرت "الارض الموعودة" من قبل يهوه لبني اسرائيل، فإن الشرق، مهد الابجدية والعلوم والفنون والزراعة والحـِرَف والقوانين والاخلاقيات والجماليات والفلسفة والاديان، ـ هذا الشرق العظيم، أبو التاريخ وأم البشرية، اصبح بمثابة "الارض الموعودة" للكولونيالية والامبريالية، وصار يسمى حرفيا "الاراضي البكر" و"اراضي ما وراء البحار". ومنذ تلك الحقبة فإن شعوب الشرق، في نظر الاستعماريين الغربيين "المتمدنين"، لم تعد تعتبر في مصاف البشر، ونزع عنها مفهوم "الحق"، واصبحت شعوبا مستباحة، حتى في وجودها الجسدي ذاته، وخاضعة فقط لمنطق "القوة"، كالحيوانات تماما. ان هذا الفعل الغربي في الشرق لا يمكن تشبيهه الا بفعل "أوديب" الذي قتل أباه وزنى بأمه. وحينما وعى فظاعة جريمته، عمد الى فقء عينيه بيديه. وان مسار التاريخ العالمي بأسره سيختلف جذريا، عندما يعي هذا الغرب الامبريالي ـ الصهيوني فظاعة ما فعل ويفعل؟ ان اوروبا الغربية، نظرا لما عانته على ايدي النازية، التي ظهرت فيها، ومن ثم القضاء عليها من قبل السوفيات، ونظرا لانعكاس انهيار النظام الكولونيالي القديم على يد حركات التحرير الوطني، فإنها – اي اوروبا الغربية - تتقدم، وإن ببطء وتردد، نحو تغيير مسلكها الانساني العام. اما الامبريالية الاميركانو – صهيونية، وبحكم نشأتها الاستثنائية (كما سنعرض له لاحقا)، فإنها، على العكس من ذلك، تزداد عربدة وعدوانا واستبدادا ووحشية. ويبدو انها بحاجة لمن "يساعدها" على فقء عينيها، وقطع لسانها وشرايينها ويديها ورجليها، حتى يمكن محو "العار الاميركي" عن جبين البشرية. وبسقوط الدور العالمي الستراتيجي، الحضاري والسياسي والعسكري، للعرب، والاستعمار المباشر والنهب واسع النطاق للبلدان والقارات الشرقية، فتحت الطريق تماما امام الرأسمالية الغربية الصاعدة، كي تخلق "رديفها": الرأسمالية الاطرافية التابعة. وهكذا تحولت الطبقات المالكة والسائدة في البلدان الشرقية خاصة، والبلدان الفقيرة والضعيفة المستعمرة وشبه المستعمرة عامة، الى "جباة" واتباع و"شرطة" تعمل لصالح القوى الاستعمارية والكولونيالية الغربية، سواء كان هناك احتلال مباشر ام لا، لكل من هذه البلدان. وبتوسع السوق الرأسمالية العالمية، وتصدير الرساميل والقروض و"المساعدات" الخ، تحولت "الاستقلالات" والسيادة السياسية الشكلية لمختلف الدول الشرقية، بما في ذلك لامبراطورية عظمى كما كانت روسيا القيصرية، الى اشكال وآليات لتحقيق الهيمنة والتسلط والنهب المنفلت من عقاله، لمصلحة النظام الرأسمالي الغربي ـ الام، الذي اخذ يحقق في الشرق ارباحا خيالية لا يحلم اصحاب الرساميل الغربيون بتحقيقها في بلدانهم ذاتها. وكانت اول ضحية لهذه المرحلة الاستعمارية المخجلة، هي افريقيا السوداء. فطوال ألوف السنين، منذ قيام الدولة المصرية القديمة (الفرعونية)، مرورا بهجرات الفينيقيين وتأسيس دولة قرطاجة التي حاربت روما، ووصولا الى ما بعد الفتح العربي الاسلامي وتأسيس الدولة العربية ـ الاسلامية، ظلت افريقيا السوداء، بقبائلها وشعوبها الاضعف والاقرب الى المجتمع البدائي، ظلت تعيش بحرية وكرامة انسانية، بالرغم من بدائيتها. وكان القوس العربي الحالي، الممتد من الضفة الشرقية للبحر الاحمر، الى مصر ووادي النيل، الى اقاصي افريقيا الشمالية، يشكل درعا حقيقيا لحماية افريقيا السوداء من الاستباحة. ولكن ما ان سقط الوطن العربي، حتى بدأت عملية الاستباحة التامة لافريقيا، وبالاخص حملة صيد البشر، وبيعهم وارسالهم عبيدا الى "العالم الجديد". ومن المؤسف ان الكنيسة الغربية، التي "باركت" رحلة كريستوف كولومبوس لاكتشاف "طريق الهند؟!"، وصمتت عن غزو اميركا، كان دورها سلبيا ايضا في عملية الاستباحة المخجلة لافريقيا السوداء. واذا كانت الكنيسة الغربية قد باركت الحملات الصليبية السابقة، بالحجة الكاذبة، المغرضة والمخجلة، حول تخليص قبر السيد المسيح من الكفار المسلمين، فما هي الحجة التي جعلتها تقف مكتوفة الايدي، مؤيدة ضمنا، حملة صيد "العبيد" في افريقيا واستعمارها؟ وطبعا كانت استباحة افريقيا خطوة على طريق التوجه الشرس لاستعمار الهند والصين والشرق الاقصى بكامله. وكان دور العثمانيين، في هذه المرحلة المخجلة من التاريخ البشري، هو تكبيل الوطن العربي واذلاله وتحطيمه من الداخل، وللاسف باسم: الاسلام! 10 ـ الثانية ـ والعملية الانحدارية الثانية التي تمت في هذه المرحلة الاعلى للرأسمالية، اي مرحلة الامبريالية، هي: ظهور وتأسيس وتوطيد الدولة المسماة "الولايات المتحدة الاميركية"، كنتيجة لـ"اكتشاف" "اميركا". لقد كانت "الجائزة الكبرى" لهذا "الاكتشاف" الاستعماري "العظيم" من نصيب السكان الاصليين، الذين تمت ابادة غالبيتهم الساحقة، ولا سيما في اميركا الشمالية، على ايدي الغزاة الاوروبيين "المتمدنين"، الذين حصلوا مسبقا على المباركة السماوية للكنيسة الغربية، والدعم المالي من قبل الطغمة اليهودية العليا. وتعتبر هذه الدولة المولودة الصرف للكولونيالية والامبريالية. وبهذه الصفة بالتحديد، فإن الولايات المتحدة الاميركية "تمتاز" عن جميع الدول الكولونيالية والامبريالية الاخرى. ولا يمكن فهم اميركا، وبالاخص لا يمكن اليوم فهم ما يسمى "العولمة الاميركية" او باختصار "الأمركة"، التي تقوم على النزعة التدميرية ـ التسلطية المطلقة على العالم، الا بفهم هذه النقطة، التي يتوجب علينا النظر اليها بإمعان: أ ـ ان اي دولة كولونيالية وامبريالية اخرى، غير اميركا، قد نشأت بالاساس، كدولة رأسمالية ـ ام، نشأة تاريخية، كنتيجة او محصلة للتطور الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي ـ السياسي لمجتمعها الوطني ذاته، على ارضها الوطنية ذاتها، ولشعبها ذاته. فهي لم تغتصب "ارضها"، ولم تستعمر "شعبها". اما الدولة الاميركية فهي دولة مستعمرة، كولونيالية وامبريالية، بالولادة، اي انها بالاساس قوة خارجية، غير "اميركية"، اغتصبت ما سمي لاحقا الارض "الاميركية"، واستعمرت ـ اول ما استعمرت ـ الشعب "الاميركي" الاصلي ذاته، اي "الهنود الحمر"، الذين ابادت غالبيتهم الساحقة كي تستطيع اغتصاب ارضهم ـ "ارضها!". ثم استعبدت "الزنوج" المستجلبين بالقوة كـ"عبيد" لبناء هذه الدولة، "دولتهم ـ دولتها!!"، التي لا يملكون منها وفيها الا عبوديتهم. وهذا ما يسمى، في جانب من الصورة، الاستعمار الاستيطاني. ولم يكن يشبه اميركا، لهذا الجانب، الا "افريقيا الجنوبية" ايام "الحكم العنصري للبيض"، واسرائيل المغتصبة لفلسطين ـ حتى اليوم. ولا شك ان هناك منزلة خاصة لجماهير البيض في اميركا، وافريقيا الجنوبية سابقا، واليهود العاديين في اسرائيل. فهم ـ عنصريا ـ ليسوا عبيدا، كالعبيد "الاصليين"، ولكنهم في نفس الوقت ليسوا ـ اجتماعيا ـ "الاسياد" الحقيقيين. بل هم منزلة بين منزلتين، فهم من جهة: احتياط ورصيد بشري لـ"الاسياد"، في حال استمرار "السيادة". وهم، من جهة ثانية: موضوع للاستغلال النسبي من قبل "الاسياد"، ويصح فيهم تعبير "العبيد البيض"، وهذا ما يجعلهم احتياطا ورصيدا بشريا لعملية الكفاح من اجل التخلص من نظام "السيادة ـ العبودية". ب ـ ان اي دولة امبريالية اخرى قد مرت بمرحلتين للتطور، كما سبق واسلفنا، وهما: مرحلة التراكم الاولي للرأسمال، وهي مرحلة اولية "داخلية"، والمرحلة الامبريالية العليا، وهي مرحلة "خارجية" بصورة رئيسية. بحيث ان الكولونيالية والامبريالية ظلتا ظاهرة فعل "خارجي" للدولة المعنية. وبالتالي فإن درجة تسميم شعب هذه الدولة بالعنصرية، التي تقوم عليها الكولونيالية والامبريالية، ظلت نسبية. وقولة ماركس "ليس حرا الشعب الذي يستعبد غيره"، تنطبق تماما على البلدان الكولونيالية والامبريالية الاوروبية، حيث ان الصراع الطبقي الداخلي، بين الطبقة الرأسمالية والطبقات العمالية والشعبية، كان يدفع الطبقات الاخيرة، بشكل دائم وشبه يومي، لادراك بشاعة ظاهرة الاستعمار والامبريالية، وارتباطها بالتقسيم الطبقي. وبفعل الصراعات الاجتماعية والسياسية داخل المجتمعات "الامبريالية"، ظلت هذه الظاهرة غير اساسية، "غير وطنية" و"خارجية" بالنسبة لشعوب المتروبولات الاوروبية الغربية. اما فيما يتعلق بالدولة الاميركية، فهي كانت، من الاساس ومنذ اللحظة الاولى لنشوئها، دولة كولونيالية امبريالية "داخلية"، والعنصرية كانت هي الحجر الاساسي في تكوينها. ولذلك فهي، اي الدولة الاميركية، قد تحولت فورا الى معسكر تجمع كبير لجميع اصناف المجرمين والقتلة واللصوص والمغامرين الاحتكاريين والاستعماريين والصهاينة، الذين كانوا ولا زالوا يشكلون "النسيج البشري" الاساسي للدولة الاميركية، بمعزل عما يسمى "الشعب الاميركي"، الذي هو فعليا "شعب" مغتصَـب ومستعمَـر، كأي شعب مستعمر آخر. واذا اردنا اجراء اي مقارنة، بين اميركا والدول الامبريالية الاخرى، نرى ان اي دولة اخرى هي امبريالية بشكل عارض (تاريخيا)، نسبي، جزئي ومرحلي. اما الدولة الاميركية فهي امبريالية بشكل اساسي، مطلق، كلي ونهائي. ونرى ان اي دولة كولونيالية وامبريالية اخرى، تكون افضل بالنسبة لشعبها ذاته، بدون الكولونيالية والامبريالية، والعنصرية التي تقومان عليها. وهذا ما تؤكده تجربة المانيا وايطاليا واليابان مع العنصرية والفاشية والنازية. اما بالنسبة لاميركا، فالامر يختلف جوهريا: اذ بدون العنصرية والكولونيالية والامبريالية، فإن الدولة الاميركية لا تعود هي نفسها، ولا يمكنها ان تستمر بالوجود كدولة. فقد قامت هذه الدولة، اول ما قامت على جماجم الهنود الحمر وسواعد "العبيد" الافارقة و"العبيد البيض" من العاطلين عن العمل والفائض النسبي من السكان في اوروبا. وتكون فيها، اذا صح التعبير، "شعبان" مختلفان: 1 ـ شعب امبريالي مستعمـِر، قوامه الطبقات الغنية والميسورة من الانغلو ـ ساكسون البروتستانتيين واليهود الاغنياء. 2 ـ وشعب "آخر" تماما، مستعمـَر، مؤلف من الزنوج وبقايا الهنود الحمر، ومن المهاجرين الملونين والبيض من غير الانغلو ـ ساكسون واليهود، ومن فقراء الانغلو ـ ساكسون واليهود. ان الامبريالية (بصفتها وهويتها "الاوروبية" حينذاك) قد "اكتشفت" اميركا و"استوطنتها". ولكن الدولة الاميركية (اي الظاهرة الامبريالية، كقوة غزو استعماري وحركة رأسمالية ناشطة) لم تلبث ان "استقلت" عن اوروبا، و"تأمركت"، اي اصبحت "امبريالية خاصة"، تتميز عن الامبريالية الاوروبية بأنها بدون تاريخ "قبل امبريالي"، اي انها "امبريالية خالصة" نشأت "في ذاتها" و"لذاتها"، على "ارضها"، ويبدأ "تاريخها" بحالتها الإمبريالية "الاميركية" فقط. وقد تحولت "هذه" الدولة الامبريالية الاميركية، بطبيعة الحال، الى مركز استقطاب وتفعيل مضاعف لكل سلبيات النظام الرأسمالي العالمي، في مرحلته الاعلى، الامبريالية، بسبب عملية تكوينها "المميزة" بالذات، كاستعمار "داخلي" لـ"شعبها" ذاته، وكامبريالية "خالصة" غير خاضعة للحالة "الوطنية" و"الاجتماعية" و"الانسانية" لأي شعب كان، كما هي الحال بالنسبة لأي امبريالية اخرى، تظل مرتبطة داخليا بالحالة الوطنية لـ"شعبها". وبهذه الخصائص الكولونيالية والامبريالية التي تميز نشوء الدولة الاميركية، فإنها مثلت وتمثل اكبر لعنة في تاريخ البشرية، وتبدو اليوم بالاخص اشبه بالسرطان الذي يهدد العالم بأسره. ومع ذلك فإن مؤسسيها، والقيمين عليها اليوم، ونكاد نقول غالبية سكانها العنصريين، لم يخجلوا ولا يخجلون من وضع تمثال لـ"الحرية"(!!) على بابها، في مدينة نيويورك، مصاصة دماء الشعوب، وعاصمة الاحتكارات والكتل المالية الدولية والصهيونية العالمية. ومن الطبيعي ان الامبريالية الاميركية، ممثلة بالدولة الاميركية المرتبطة عضويا بالصهيونية العالمية، تشعر الان بالهلع "الوجودي"، وهي ترى وتلمس الاتجاه التاريخي المتزايد لانهيار وزوال الظاهرة الامبريالية، والنزعات الامبريالية، في العالم. وهي لذلك تتجه الان للوقوف بوجه هذا الاتجاه، والحلول في اي مكان تغيب فيه شمس الامبريالية، ولـ"اعادة اكتشاف" العالم "اميركيا!!"، اي اعادة استعماره، كما، وبالطريقة نفسها التي سبق وتم فيها "اكتشاف = استعمار" "اميركا" ذاتها. لقد كانت "اميركا!"، منظورا اليها من زاوية الدولة "الامبريالية الخالصة" التي نشأت على الارض "الاميركية": اما "الهنود الحمر" واما "العبيد" (الزنوج اولا، ومن ثم "البيض" ايضا). والعالم الذي تسعى الدولة الاميركية الان لـ"اعادة اكتشافه"، اي اعادة استعماره، لن يكون بالنسبة لها اي شيء آخر سوى: اما "هنودا حمرا" او "عبيدا". و"العولمة الاميركية" او "الامركة" لا تعني عمليا شيئا آخرا سوى تقسيم العالم بأسره الى ثلاثة اقسام: 1 - "مقبرة جماعية للهنود الحمر"، للتخلص من السكان غير المرغوب فيهم، ولا سيما "الاعداء" والمعارضين. 2 - "معسكر اعتقال واشغال شاقة" لعبيد العمل. 3 - احتياط كبير من "فائض السكان"، الذي تعمل الدوائر الامبريالية ـ الصهيونية وآلياتها المختصة لتحويله الى "قطعان بشرية" من المرضى جسديا ونفسيا، المصابين بنقص التغذية او السمنة والبلادة الذهنية، والمخدرين بالمخدرات والمشروبات المغشوشة والجنس وافلامه و"ادبياته"، وشتى الانواع الهابطة من الرقص والغناء والفنون، والمستلـَبي الارادة بشتى "التسليات" الضارة، كالقمار والمراهنات، و"الالعاب" عديمة النفع، والهادفة الى الالهاء و"قتل وقت" الانسان وتعطيل تفكيره، مثل غالبية الالعاب الالكترونية و"حل الكلمات المتقاطعة" وغيرها. حتمية التصادم الاميركي ـ العربي 11 ـ لقد تمت هزيمة الصليبيين في الشرق العربي، وبالتالي انكفاء مشروع التوسع الاستعماري الغربي في الشرق، في وقت كانت فيه الرأسمالية، كنظام اقتصادي ـ اجتماعي جديد، في بدايات انطلاقها في اوروبا. وأدت هذه الهزيمة الى خنق "التطور الطبيعي" للرأسمالية، في وجهها التوسعي الكولونيالي الامبريالي، الذي هو في اساس طبيعة وجودها. وبنتيجة ذلك اخذت اوروبا تغلي بتناقضاتها، كمرجل ليس له متنفس. وبطبيعة الحال، ادى ذلك الى تصعيد العداء للعرب والمسلمين (و"ملحقهم" اليهودي، حتذاك)، وهو ما وجد انعكاسه في الاندلس، من اضطهاد غير مبرر للعرب والمسلمين واليهود، حتى منهم الذين تنصروا، وفي تشكيل محاكم التفتيش سيئة الذكر، التي اصبحت مضرب مثل في الظلم والظلامية. وفي هذه الاجواء العنصرية المقيتة، بدأ التفتيش المحموم عن طرق الالتفاف حول المنطقة العربية، لتجنب العبور فيها، ولمهاجمتها من الخلف اذا امكن. وجاء "الاكتشاف الصدفوي" لاميركا ليعطي "متنفسا" هائلا لهذه الميول الكولونيالية والامبريالية الاوروبية، التي كانت تصطدم اصطداما مميتا بـ"الجدار العربي". وفي اي تحليل للدولة الاميركية، علينا ان لا ننسى ان اهم خاصة تميز منشأ وطبيعة وجود هذه الدولة، كتجمع كولونيالي امبريالي، هي "معاداة العرب". فهذا "التجمع" يدرك تماما ان السبب ـ الحافز لـ"اكتشاف" اميركا، وبالتالي علة وجود هذا التجمع بالذات، هو التخلص نهائيا من "العائق التاريخي"، الذي تشكله المنطقة العربية امام الهيمنة الامبريالية على العالم. واذا كانت اميركا اليوم تأخذ على عاتقها المهمة غير المشرفة للصدام مع العرب والمسلمين، وضرب الوطن العربي وتمزيقه واعادة استعماره بأي شكل كان، كشرط مسبق يستحيل بدونه فرض الهيمنة الامبريالية على العالم، فإنما هي ـ اي اميركا ـ "تحقق ذاتها التاريخية"، بـ"استكمال رحلة كريستوف كولومبوس"، اي "متابعة" المهمة الاساسية التي وجدت بسببها، ولاجلها، الدولة الاميركية. وهذا يعني ان "معاداة العرب" تمثل ليس فقط الجينة الاساسية في تكوين اميركا، بل اصل وجودها ذاته. وهي لا تستطيع الاستمرار في الوجود، و"تحقيق ذاتها" كدولة، الا عبر الحرب على العرب. ان هذه الحالة السرطانية في تاريخ الاجتماع البشري، التي سميت "اميركا" (على اسم احد القراصنة ـ "المستكشفين")، لم يكن بالامكان ان تنشأ، وان تتفاقم، وان تتم المذابح الجماعية ضد الهنود الحمر، وان يتم صيد "العبيد" في افريقيا وسوقهم كالحيوانات الى اميركا، لو كان العرب لا يزالون يضطلعون بدورهم التاريخي كمركز للتفاعل والتوازن الحضاري بين الشعوب والتوازن الستراتيجي العالمي. والآن، وبالرغم من كل حالة الضعف، والتفكك، والتخلف، العربية، فإن الوطن العربي هو الذي يقف، بالدرجة الاولى، "حجر عثرة" امام الخطر السرطاني الاميركي، الذي يتهدد العالم بأسره. ويتضح اكثر فأكثر ان هذا الخطر لن يزول، ويفتح الطريق، من جديد، وفي مستوى جديد، لاعادة التوازن والتفاعل الحضاري العالمي، الا بشرطين هما: 1ـ تحطيم القوة الغاشمة الرئيسية التي تمخضت عنها المرحلة الكولونيالية ـ الامبريالية الاعلى للرأسمالية، والتي تمثلها بشكل خاص "الولايات المتحدة الاميركية" المدعومة من الصهيونية. 2ـ عودة الوطن العربي للاضطلاع بدوره الحضاري ـ التاريخي ـ الانساني الشامل، بوصفه المركز العالمي الرئيسي للتوازن الستراتيجي والتفاعل الحضاري بين الشعوب. وان سقوط المنظومة السوفياتية، والعزلة الكبرى للصين، وتأثيرها الدولي الثانوي، بالرغم من تعدادها الكبير وصعودها الذاتي، يؤكدان انه لا بديل جغرافي ـ تاريخي، او جيوبوليتكي، عن الدور الاستثنائي الخاص للوطن العربي، الذي حصل عليه بفضل موقعه المتوسط في وسط العالم، من جهة، وطبيعة المخاض التفاعلي الحضاري والاندماجي الحر، الطويل الامد، لنشوء الامة العربية من القبائل والاتنيات والشعوب القديمة التي تكونت منها هذه الامة العظيمة، من جهة ثانية. وبالرغم من كل القشور الخارجية التضليلية، كشعارات الحرب على الارهاب، والتخلف العربي والاسلامي، ونشر الدمقراطية، وما اشبه من الاضاليل التي تستخدم لذر الرماد في العيون، ليس من الصدفة ابدا انه، بعد ان سقطت كل الحالات الاستعمارية ـ الامبراطورية "الاخرى"، بمواجهة "الامبراطورية المتميزة" او "الحالة السرطانية" الاميركية، فإن العلامة المميزة للتاريخ العالمي من الان فصاعدا اخذت تتمحور اكثر فأكثر حول الصراع العربي ـ الاميركي على وجه التحديد. وان مصير العالم بأسره اليوم اصبح مرهونا بنتائج هذا الصراع. وعلى هذا الصعيد، لا بد من التأكيد انه ليس هناك من خلاف جوهري مع اي من المنادين الشرفاء بـ"الاصلاح" في المجتمع العربي والاسلامي. ولكن لهؤلاء نقول، بالاستناد الى التجربة والواقع التاريخيين بالذات: انه لا يمكن نجاح الاصلاح في اي بلد عربي او اسلامي، وفي اي بلد في العالم قاطبة، بوجود القوة الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية. فهذه القوة، التي جاءت كبديل واستمرار للصليبية، والتي نشأت وترعرعت فوق جماجم الهنود الحمر والزنوج، والتي تكمن في اساس وجودها نزعة القضاء على الامة العربية واستعمار الشرق والهيمنة على العالم، لا يمكن ان تكون في اي وقت، وفي اية حال، وفي اي بلد، قوة "تحرير" و"اصلاح" و"دمقراطية". بل العكس هو الصحيح: ان القضاء على هذه القوة هو الشرط الاولي لأي اصلاح كان، في أي مجتمع كان، وفي أي بلد كان. والدور العربي هو دور رئيسي في هذه العملية التاريخية، منذ البداية، والى النهاية. ومثلما ان روسيا القديمة، "المتخلفة"، "المتوحشة"، الاستبدادية واللادمقراطية، هي التي قامت في الماضي بالثورة الاشتراكية، وفتحت الطريق لتحطيم النظام الكولونيالي القديم ولفتح آفاق جديدة امام اوروبا الرأسمالية، وامام العالم، غير الافق الكولونيالي والامبريالي، فإن الوطن العربي، ومن ورائه العالم الاسلامي بأسره، بكل تخلفه السياسي والاجتماعي، هو المرشح اليوم للتصدي لآخر معاقل الكولونيالية والامبريالية ولتخليص نفسه، وتخليص العالم معه، من الوحش الاميركانو ـ صهيوني. المارونية السياسية 12 ـ جوابا على دفاعك المتأخر عن المارونية السياسية في لبنان اقول: أ ـ بهذا الشكل او ذاك، لقد هزمت المارونية السياسية في لبنان شر هزيمة، ولا اقول قضي عليها تماما (وهذا طبعا ما اتمناه)، ولكن ذلك لم يؤد ابدا الى قيام دولة اسلامية في لبنان، بل ان الصحيح هو العكس، اي ان لبنان ابتعد اكثر عن مثل هذا الاحتمال، ذلك ان "حزب الله" ذاته (الذي سبق لبعض الاوساط التي انبثق عنها، او التي كانت على حواشيه في بداية انبثاقه في مطلع الثمانينات، ان طرحت شعار "الجمهورية الاسلامية" في لبنان ونشرت خريطة لبنان مكتوبا عليها "الجمهورية الاسلامية اللبنانية") ـ ان "حزب الله" هذا نفسه، الذي اصبح اكبر قوة سياسية جماهيرية واكبر قوة مقاومة شعبية مسلحة ضد اسرائيل في لبنان (وضد اميركا اذا "جاءت اليه" لا سمح الله)، هو نفسه اليوم يمثل اكبر ضمانة لعدم قيام جمهورية اسلامية في لبنان. وقد اكد ذلك زعيمه السيد حسن نصرالله، وكبار المرجعيات الشيعية في لبنان كالسيد محمد حسين فضل الله والامام الراحل محمد مهدي شمس الدين رحمه الله. وانا لا اظن ان مثل هؤلاء القادة الفكريين والسياسيين الكبار كانوا او هم الان "يمزحون" او "يلعبون" بالتاريخ. كما ان "حزب الله" خاصة، والقوى الاسلامية الفاعلة عامة، في لبنان، هي الضمانة الرئيسية لاستمرار الوجود المسيحي الكريم في هذا البلد القائم على التعددية الاتنية والمذهبية والثقافية. ولا بد ان اذكر هنا، انه في السنة الماضية، حينما قام السيد محمد خاتمي، رئيس الجمهورية الاسلامية الايرانية، بزيارة لبنان، أشاد بشكل خاص بالصيغة التعددية اللبنانية، متفقا بذلك تمام الاتفاق مع نظرة الفاتيكان الى الصيغة اللبنانية. واكد الرئيس الخاتمي ان الجمهورية الاسلامية الايرانية تطمح هي نفسها للاقتداء بالصيغة التعددية اللبنانية. وخلافا لكل ما قيل ويقال عن ان الحركة الوطنية اللبنانية كانت قد هددت في يوم من الايام او هي تهدد اليوم الوجود المسيحي في لبنان، انا اشدد هنا على القول: إن الوجود المسيحي لم يكن يوما موضوع خلاف او حتى مجرد نقطة بحث، من اي طرف جدي، ايا كان، في لبنان. والقوى الوطنية اللبنانية والقومية العربية عامة، بما فيها الاسلامية خاصة، لا تجد اي غضاضة في الاعتراف بالدور النهضوي العربي الذي اضطلع به الكتاب والشعراء والمثقفون المسيحيون في القرن التاسع عشر والنصف الاول من القرن العشرين. ولكن الخلاف، والصراع الشديد، نشأ مع قسم، قسم وحسب، من المسيحيين خاصة، ولكن ليس المسيحيين فقط، الذين ارتضوا العمالة لاسرائيل والسير في ركابها، والقتال معها ولمصلحتها، باسم "لبنان" و"السيادة اللبنانية" ومواجهة "التجاوزات الفلسطينية" الخ الخ. ولا ادري ماذا كانت اوجه اعتراض الصديق الاستاذ العفيف الاخضر على اطروحات الشهيد الكبير كمال جنبلاط. فالبرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية، الذي سبق وطرحة كمال جنبلاط عشية الحرب اللبنانية في 1975، كان برنامجا اصلاحيا معتدلا جدا، ولم يكن موضع اختلاف عدائي حتى مع حزب الكتائب نفسه (الذي انا شخصيا اعتبر انه يتاجر بالمسيحية والمسيحيين، وانه "البؤرة الجرثومية" الاولى والرئيسية في لبنان خاصة، وفي الوسط المسيحي العربي عامة، للخيانة الوطنية والعمالة للغرب الامبريالي واسرائيل، ولمعاداة الوطنية والوطنيين، العروبة والعرب، الاسلام والمسلمين). وفي اثناء حرب السنتين (1975 ـ 1976) حينما توغلت قوات الحركة الوطنية في جبل لبنان، ووصلت الى عمق ما يسمى "المناطق المسيحية" وكانت على وشك الانتصار، دخلت القوات السورية الى لبنان، بدعوة من "الجبهة اللبنانية" "المسيحية!!" وبموافقة ضمنية من الاميركيين، تحت الشعار الكاذب حول "حماية المسيحيين". وحينذاك لم يكن المسيحيون هم المهددين، بل "عملاء اسرائيل" واذنابها اللبنانيين، من كل الطوائف، الذين ارتكبوا المجازر ضد انصار "الحزب القومي السوري" وغيرهم من المسيحيين الوطنيين، ابناء المناطق المسيحية بالذات. وفي جميع المناطق التي دخلتها القوى الوطنية، عوملت الجماهير المسيحية، وحتى "الكتائبيين" العاديين والمعتدلين انفسهم، بكل رعاية. وهذا ما تشهد به الوقائع التاريخية، ويشهد به اليوم ابناء تلك المناطق الذين عايشوا احداث تلك الفترة (ومثال واحد وحسب، وهو: ان الاستاذ ميشال سماحة، وهو من الكتائبيين القدماء البارزين، وشغل منصبا وزاريا في "عهد اتفاق الطائف"، جرى اعتقاله حينذاك من قبل القوى الوطنية، وعومل باحترام، وطلب منه فقط رفع صورة بشير الجميل من بيته، ثم اطلق سراحه وترك يذهب حيث يشاء مقابل الوعد بعدم التشويش واطلاق التصريحات الكاذبة). ولم يكن همّ "المسيحيين المتصهينين" الدفاع عن المسيحيين كما كانوا يدعون، بل كان مشروعهم يقوم على تحويل المنطقة التي سيطروا عليها عسكريا الى "اسرائيل مسيحية"، وذلك ضد ارادة غالبية اللبنانيين: المسلمين، والمسيحيين الوطنيين الذين اضطهدوا وقتل بعضهم وشردوا من منازلهم حتى قبل اندلاع الحرب بسنوات (وانا واحد من هؤلاء)، بل والمسيحيين العاديين غير المتصهينين، بما في ذلك رجال الدين المسيحيين المعتدلين. حتى البطريرك انطونيوس خريش، ابن بلدة عين ابل الجنوبية التي كانت تحت الاحتلال الاسرائيلي، جرت محاربته واهانته، لأنه رفض مسايرة الاحتلال والطلب الى الشباب المسيحيين في المناطق المحتلة ان يتجندوا مع عملاء اسرائيل. وقد خطف المتصهينون سكرتيره الخاص، وهو ابن عمه المونسنيور خريش، وقتلوه ورموا جثته في واد. كما نظموا مظاهرة استفزازية ضد البطريركية وقذفوا ابوابها بالحجارة وشتموا غبطة البطريرك. وقد تابعوا استفزازاتهم حتى اجبروه على الاستقالة سنة 1986. ولم يكن كمال جنبلاط يتحمل اي مسؤولية في كل ذلك، لسبب بسيط هو أنه لم يكن "موجودا". ولا شك ان الاستاذ العفيف الاخضر كان يعرف تماما ان التفاهم مع اسرائيل ذاتها كان اسهل من التفاهم مع هذه العصابة الاجرامية العميلة، وانه مع كل دمقراطيته وليبيراليته وسلمويته ومعارضته للتطرف الاسلاموي، فإنه ـ اي العفيف ـ حينما كان في لبنان، كان من غير الممكن ان يخطو خطوة واحدة في منطقة سيطرة تلك العصابة، والا لكان الان في ذمة الله، لا لشيء الا لانه "ولد" مسلما او عربيا. ولو قدر لمخطط كمال جنبلاط (اذا صح اطلاق هذا التعبير) ان ينجح، لكان مسار الاحداث اللبنانية كلها، والاوضاع الفلسطينية والعربية برمتها (بما في ذلك زيارة السادات المشؤومة للقدس المحتلة وتوقيع اتفاقية كامب دايفيد وبقية المسبحة المشؤومة) قد اتخذت منحى آخر تماما. ولكن الاوضاع العربية المتردية لم تكن لتسمح بهذا "النشاز اللبناني". وقد تم التدخل الرسمي العربي في لبنان، لوقف هذا "النشاز". وكان رأس كمال جنبلاط، ورأس الامام موسى الصدر، ورأس الحركة الوطنية اللبنانية، بعض الثمن. واذا كان للعفيف الاخضر من اختلاف مع كمال جنبلاط في ذلك الوقت، فأنا على ثقة ان الاستاذ العفيف عليه ان يراجع حساباته بدقة، او هو يكون قد فعل. اما بخصوص الديمقراطية في لبنان، فإن ضمانتها الرئيسية كانت على الدوام، ولا تزال الى اليوم وستبقى غدا: الحركة الوطنية اللبنانية، بما في ذلك او بالاخص في ذلك: المقاومة الوطنية والاسلامية. اما اولئك "المسيحيون الدجالون"، المشبوهون والمرتزقة والعملاء، فقد برهنوا بالممارسة انهم ألد أعداء استقلال لبنان، وألد اعداء الدمقراطية. فهم انفسهم الذين "جمعوا الصيف والشتاء على سطح واحد"، إذ انهم هم الذين أدخلوا اولا الى لبنان القوات السورية، لحمايتهم باسم "حماية المسيحيين". وبعد ان حققوا غرضهم، لم يكتفوا بأن اداروا ظهرهم للسوريين، بل انهم غدروا بالضباط والجنود السوريين المساكين، وقسم كبير منهم من المسيحيين السوريين، الذين كانوا يعسكرون في "مناطقهم" وقاموا "الامس" بحمايتهم، وذبحوهم غدرا كالنعاج في 1978. كما ساروا بركاب الاحتلال الاسرائيلي للبنان، وشاركوا في تدمير بيروت والجبل والبقاع وغيرها من المناطق اللبنانية، بهدف تحويل لبنان الى محمية اسرائيلية وإخضاعه لحكم دكتاتوري عميل، يكونون هم على رأسه. والان يبدو بوضوح، على ارض الواقع، ان تحقيق الهزيمة العسكرية لهؤلاء "المسيحيين الدجالين"، وانتصار المقاومة الوطنية والاسلامية على الاحتلال الاسرائيلي للبنان، كانا شرطين مسبقين ومقدمتين ضروريتين لتحقيق الانجازات الوطنية التالية: اولا ـ اعادة الوفاق والوحدة الوطنية الى جبل لبنان، كأساس وشرط تاريخي لاعادة الوفاق والوحدة الوطنية اللبنانية، التي يتحمل "المسيحيون الدجالون" واسيادهم الاميركيون والاسرائيليون المسؤولية الاولى عن زعزعتها. ثانيا ـ طرح موضوع الوجود العسكري والامني السوري في لبنان، ورفع هيمنة الاجهزة الاستخبارية والجماعات المستفيدة من الفساد والتهريب والارهاب والتسلط على لبنان، ولكن ليس على قاعدة العداء لسوريا والشعب السوري الشقيق، والانجرار في مخطط الارهاب الدولي الاميركي ـ الصهيوني ضد البلدان العربية والاسلامية، بل على قاعدة التآخي القومي اللبناني ـ السوري ومواجهة مخططات الهيمنة الدولية لاميركا. ثالثا ـ اعادة بعض ملامح الدمقراطية الى لبنان، بالرغم من الهيمنة السورية الحالية. وها ان المسيحيين اليوم، في السلطة وفي المعارضة، وعلى رأسهم جبهة "قرنة شهوان" التي تنضوي تحت جبة البطريرك الماروني مار نصرالله صفير، يقولون ما يشاؤون. كما ان مجلس المطارنة الموارنة يصدر ما يشاء من البيانات التي تتناول كل الحياة السياسية اللبنانية، بما في ذلك الاعتراض الصريح والصارخ على الوجود والممارسات الخاطئة لاجهزة النظام السوري في لبنان. وهم يلقون التفهم والاحترام التام. واذا كان من خطر يهدد او يمكن لا سمح الله ان يتهدد المسيحيين في لبنان، فهو سيتأتى من اولئك "المسيحيين" الكاذبين، عملاء اسرائيل واميركا، الذين، مثلهم مثل جميع العملاء، ليسوا سوى قميص قذر ينبغي ان يرمى الى مزبلة التاريخ. الدمقراطية والعلمانية 13 ـ اخيرا آتي الى أطروحتك الأخطر، وهي الاطروحة التي تدفع "اليسار" العراقي، وربما غيره من فصائل "اليسار" العربي، ولا سيما الشيوعيين، الى استبدال "مرجعيتهم" السوفياتية السابقة، حتى لا اقول سيدهم: اجهزة الاستخبارات السوفياتية السابقة، بـ"مرجعية" جديدة و"سيد" جديد هو الاحتلال الاميركي، وذلك بحجة "الدمقراطية" و"العلمانية" التي تستخدم لـ"فرش طريق جهنم بالنوايا الحسنة"، على طريقة "حق يراد به باطل". والذي يقبل الاحتلال الاميركي اليوم، سيقبل الاحتلال الاسرائيلي ايضا. والذي يتورط بتأييد الاحتلال اليوم، بحجة "الدمقراطية" و"العلمانية" الكاذبتين، سيكون مضطرا غدا للاستمرار في السير في ركب الاحتلال، حينما تنفضح الاكذوبة "الدمقراطية"، التي تتضمن، فيما تتضمن، احتمال جلب "اسلاميين" (موالين علنا او سرا للاميركيين) الى السلطة، بواسطة "صندوق الاقتراع" هذه المرة، وليس مباشرة بالدبابة الاميركية، كما سبق وجاؤوا بالجلبي وعلاوي. وهذه الاطروحة "اليسارية" الخطيرة تكمن، حسبما تعرضه في رسالتك، في القول إن "ازمة المجتمعات العربية الاسلامية..." تنحصر لا في شيء آخر، بل في التالي: اولا ـ "ازمة الاسلام مع مفهوم الدولة الحديثة....". ثانيا ـ "ازمة التركيبة المجتمعية العربية مع مفهوم الدولة الحديثة....". وعلى ما يبدو ان اخشى ما يخشاه "اليساريون" و"الدمقراطيون" و"العلمانيون" وخصوصا "الشيوعيون" العراقيون، هو ـ حسب تعبير الاخ الخزرجي ـ "ان تصل القوى الاسلامية الى السلطة، هذه القوى التي بدأت تفرض سيطرتها على الشارع العراقي الان، كما بدأت تعمل على أسلمة المجتمع العراقي تدريجيا". في الماضي، حينما كانت التبعية للسوفيات هي العلامة الفارقة لـ"الشيوعيين" العراقيين والعرب الآخرين، وكانوا جزءا "ايديولوجيا" و"سياسيا" من ألاعيب "الحرب الباردة" بين المعسكرين، الشرقي والغربي، كانوا يقولون غير ذلك. وبكلمات اكثر تحديدا كان الشيوعيون يقولون ان التناقض الرئيسي بالنسبة للشعوب وحركات التحرير العربية هو التناقض مع الامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة. اي ان التناقض مع انظمة الحكم الرجعية ذاتها كان يدرج في سياق التناقض مع الامبريالية، ولا سيما الاميركية، وكجزء منه. الآن نجد ان ما كان الشيوعيون يسمونه انظمة الحكم الرجعية، ولا سيما دول الخليج النفطية، لا تزال منسجمة مع نفسها وتاريخها، وقد سارت في ركاب الاحتلال الاميركي للعراق، ايضا باسم "التحرير" و"الدمقراطية" و"الاصلاح" و"التغيير"، ولا ننسى طبعا بيت القصيد ما يسمى "مكافحة الارهاب" "الاسلامي"، الذي حل محل الشعار القديم حول "مكافحة الشيوعية الهدامة"! فما، ومن ذا الذي تغير، بين الامس واليوم؟؟!! هل غيرت الامبريالية الاميركية والصهيونية واسرائيل، طبيعتها؟! وهل اصبحت الانظمة العربية الرجعية، الاوتوقراطية والنفطية، انظمة تقدمية، دمقراطية وشعبية؟! لا شيء ابدا من هذا القبيل. بل ان الذي تغير هم هؤلاء "اليساريون" و"الشيوعيون" بالذات، الذين "نقلوا البندقية من كتف الى كتف" واستداروا 180 درجة ليطلقوا النار، من مواقع متراس الاحتلال الاميركي هذه المرة، باتجاه المقاومة الشعبية المشروعة للاحتلال، خاصة، وباتجاه الشعوب العربية والاسلامية عامة، وهو ما يسمونه ـ بجوقتهم المشتركة مع بوش ـ "الاسلام" و"التركيبة المجتمعية العربية". ولا يسعني، اولا، الا ان اقدم لهؤلاء نصيحة اخوية، استوحيها من الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري، الذي قال يوما لعملاء الاستعمار: "وعلام يوغل في الحماسة راقص بأشد مما ينفخ الزمار"؟. ذلك أن الاميركيين انفسهم سيبحثون عن "حلفاء" "اسلامويين" و"عروبجيين"، في العراق وغير العراق. وحينذاك فإن "اليساريين" و"الشيوعيين" السائرين اليوم في ركاب الاميركيين، سيوضعون مضطرين امام خيارين، كل منهما اصعب من الاخر: ـ اما ان يقبلوا جميع وصفات وإملاءات مطابخ المخابرات والاجهزة الاميركية، بما فيها اكثرها اذلالا وخيانة للمصالح القومية والوطنية والشعبية، والتي تتناقض على خط مستقيم مع كل ما له علاقة بالدمقراطية والاصلاح، ودعنا من الاشتراكية والشيوعية، اللتين اصبحتا "موضة قديمة" بالنسبة لاصحابهما السابقين انفسهم. ـ واما ان يطلعوا "فرق عملة" مرة اخرى، تماما كما طلعوا "فرق عملة" في السابق على يد نظام صدام حسين بعد توقيعه اتفاقية "الصداقة الدائمة" مع الاتحاد السوفياتي، وتقديمه جلود الشيوعيين العراقيين كعربون "وفاء" لتلك "الصداقة" (ومن مهازل القدر، ان خبراء التعذيب النفسي والجسدي الذين كانت تعتمد عليهم الاجهزة القمعية الوحشية لنظام صدام، كانوا بشكل خاص من عناصر "الكا جي بي" السوفياتية و"الشتازي" الالمانية "الدمقراطية"، الذين كانوا يشملون بـ"رعايتهم الرفاقية" المعتقلين الشيوعيين ايضا). وقد سبق للمرحوم علي صالح السعدي ان "ندب نفسه" قبل وفاته، معلنا ندمه على قتل الشيوعيين في انقلاب 1963، قائلا (عن حزب البعث): "لقد جئنا الى السلطة في قطار اميركي". وأنا من الذين يعتقدون ان الاميركيين، ومهما خدمهم الشيوعيون العراقيون، والعرب الاخرون، لن يكونوا أرحم بهم من "الرفاق" السوفيات، لا سيما وانهم سيكونون "اقل ثقة بهم"، لأنهم سيعاملونهم على قاعدة: ان الذي يغير "سيده الاصلي" بسهولة، يمكن له ايضا ان يغير بسهولة اكبر "سيده الجديد المستعار"! والذي ينظر الآن بعيون مفتحة الى ما يجري في العراق يكاد يرى بالعين المجردة امرين متعارضين: الاول ـ التنامي الصاروخي للمقاومة الشعبية، السياسية والمسلحة، للاحتلال وحلفائه واعوانه. والثاني ـ ان الاميركيين (بالرغم من كل التبجحات الفارغة، التي تلقى في الهواء لاجل الاستهلاك الاعلامي او التضليلي)، يعرفون مسبقا ويزدادون قناعة يوما عن يوم بعجزهم عن كسر شوكة المقاومة للاحتلال. ولهذا، فهم يحاولون منذ الآن تطبيق الشعار الذي توصلوا اليه في نهاية الحرب الفيتنامية، الا وهو شعار "فيتنمة الحرب"، اي ضرب الفيتناميين بالفيتناميين. والعراق، بتلونه القومي والديني والمذهبي والاتني والسياسي، وبـ"الثارات" والجروح العميقة التي سببتها وخلفتها فيه مرحلة النظام الاسود السابق، هو اكثر "اهلية" من الفيتنام لـ"عرقنة الحرب". ولن يكون من خلاص للاميركيين في العراق، اذا كان لهم من خلاص، الا عن هذا الطريق. ولذلك فإن المحتلين، الى جانب البطش الشديد والوحشية المتناهية التي يبدونها ضد جماهير الشعب العراقي الباسل، يعملون بمنتهى الخبث للعب على الجميع، وضرب الجميع بالجميع، ما استطاعوا الى ذلك سبيلا، بما في ذلك اللعب على مختلف فصائل المقاومة ومحاولة "احتواء" اي طرف كان، وبمختلف الوسائل الممكنة. وفي الاوضاع "التاريخية" الموروثة، والظرفية الملموسة، للعراق، فإن "اليساريين" و"الشيوعيين" هم أسهل و"ارخص" و"انسب" "كبش محرقة" يمكن للاميركيين ان يضحوا به، كرمى لمن يميل للتعاون معهم من "الاسلامويين" او "القومجيين" "العروبجيين" او "الكردويين". واذا كان البعثيون قد جاؤوا الى السلطة في السابق في "قطار اميركي"، فإن كل من سيأتي الى السلطة في الظروف الراهنة للعراق لن يأتي اليها الا بـ"الحذاء العسكري الاميركي" ليس اكثر. طريق الخلاص وليسمح لنا الاخ الخزرجي ان نستنتج من ذلك: أ ـ ان التناقض الرئيسي للامة العربية قاطبة، وللشعب العراقي بمختلف فئاته واطرافه وطوائفه وعشائره واحزابه، قبل ثورة 1958 وبعدها، قبل انقلاب 1963 وانقلاب 1968 وبعدهما، قبل واثناء وبعد سقوط النظام الكريه لصدام حسين، كان ولا يزال: التناقض مع الامبريالية والصهيونية، وعلى رأسها الامبريالية الاميركية. وقد جاء الاحتلال الاميركي للعراق ليزيل كل المعطيات الجانبية والحلقات المتوسطة، التي كانت تخفي جزئيا التناقض الرئيسي، وليؤكد هذه الحقيقة التاريخية بشكل صارخ. والذي لا يدرك هذه الحقيقة فهو، بكل بساطة الحقيقة، ينتحر سياسيا، ويفتح الطريق لـ"ينحروه" جسديا. وفي الماضي كانت التهمة الاكبر التي يوجهها الشيوعيون، بالاخص، الى نظام صدام، انه "صنيعة الاميركيين" او"يخدم الاميركيين" او "ينفذ السياسة الاميركية". ب ـ ان طريق الخلاص الوحيد لـ"العلمانيين" و"اللاطائفيين" و"اليساريين" و"الشيوعيين" لا يمر ابدا في مغازلة الاحتلال، بأية حجة كانت، بل يكمن حصرا وبالتحديد في: الالتزام التام بالمقاومة الشعبية المسلحة ضد الاحتلال، لا بالتأييد فقط، بل وبالممارسة العملية بالاخص. ومن السذاجة، بل الغباء المطلق، ان يعتقدن احد ان اميركا وحلفاءها قد جاؤوا الى العراق بكل هذه الجيوش العرمرمية، وقدموا، ويستمرون في تقديم كل هذه الخسائر، بشريا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا، كي يرحلوا هكذا ببساطة، بناء على انتخابات ما "عراقية"، او قرار ما من هيئة الامم المتحدة، او ما اشبه ذلك من "الالاعيب". فالاميركيون وحلفاؤهم هم الذين يلعبون هذه "الالاعيب" السياسية، "الدمقراطية" و"الاصلاحية"، على الصغار والضعفاء والاغبياء. وهم بالتأكيد لا يسمحون لاحد ان يلعب، عليهم او ضدهم، نفس الالاعيب الخاصة بهم. ولنا على ذلك مثال، مكرر حتى الابتذال، في عشرات قرارات الامم المتحدة ضد اسرائيل، بما في ذلك القرار الاخير لمحكمة العدل الدولية ضد جدار الفصل العنصري الذي تبنيه اسرائيل. وقديما قال المثل العربي "من جرب المجرب، كان عقله مخرب". ولا نعني بذلك ان لا نسعى بمختلف الطرق لفضح الاحتلال الاميركي والاسرائيلي وأي احتلال كان، سياسيا وعزله دوليا، بما في ذلك الحصول على القرارات والمواقف الدولية المؤيدة للحق العربي، بل نعني ان "ما أخذ بالقوة، لا يسترد الا بالقوة". وقد ثبت بالتجربة العربية بمواجهة اسرائيل، ان "القوة" هنا لا تعني حتى قوة الانظمة العربية، بل تعني بالتحديد قوة المقاومة الشعبية العربية. (ولننظر بإمعان الى "تجربة" مصر الناصرية، ثم "الساداتية"، من جهة، و"تجربة" سوريا الاسد وفشل تحرير الجولان عن طريق خطة "التوازن الستراتيجي" وحرب تشرين 1973، بالرغم من كل بطولات الجندي العربي، كما عن طريق خطة "السلام العادل والشامل"، من جهة ثانية، وتجربة المقاومة الوطنية والاسلامية في لبنان الضعيف، التي نجحت في اجبار الجيش الاسرائيلي على الانسحاب، من جهة ثالثة). ان لنا في كل ذلك عبرا ثمينة، لمن يريد ان يعتبر: فالالتزام بالمقاومة ضد الاحتلال، وممارستها العملية، هو الطريق الوحيد لجعل "العلمانيين" و"الدمقراطيين" و"اليساريين" و"الشيوعيين" اصحاب "كلمة مسموعة" لدى مختلف الجماهير الشعبية العراقية عامة، ولدى الفصائل الاخرى من المقاومة، بما فيها الفصائل الاسلامية، خاصة. والا، فإن كل شعارات "الدمقراطية" و"العلمانية"، تحت جزمة الاحتلال، لن تكون اكثر من فقاقيع كلامية تذهب حتما ادراج الرياح، ويكون مصير اصحابها حتما في مهب الريح، كيفما تقلبت رياح الاحداث المصيرية في العراق اليوم. الاختلاف ضمن الوحدة واذا اخذنا في تحليل المجتمع العربي، بما فيه مجتمع ذو مستوى عال للحراك السياسي والروح الكفاحية، كالمجتمع العراقي، نجد انه ينقسم الى ثلاث تيارات جماهيرية رئيسية: أ ـ التيار الاجتماعي (الشيوعي، الاشتراكي، الدمقراطي، العلماني، الخ). ب ـ التيار الوطني (القطري العراقي، والقومي العربي). ج ـ التيار الديني (ويهمنا هنا جدلا التيار الاسلامي، بمختلف فصائله وتنظيماته وتياراته واتجاهاته واحزابه). على خلفية هذه التيارات الثلاثة، كانت ولا تزال توجد مروحة كبيرة من المنظمات والاحزاب. وبدون اي تقليل من شأن واسهامات اي حزب او تنظيم، على حدة، وانما فقط لتسهيل النقاش، نختزل جدلا هذه التيارات في ثلاثة احزاب (بمعنى فئة سياسية كبرى) رئيسية هي: الشيوعيون، القوميون، الاسلاميون. (ومع خصوصية الوضع الكردي، فإن هذا التصنيف الافتراضي القسري يشمل الاكراد ايضا، مع العرب او بموازاتهم). فاذا عدنا الى التاريخ السياسي الحديث للعراق، نجد انه حتى ثورة 14 تموز 1958، فإن العلامة المميزة للعلاقات بين هذه الاحزاب الكبرى كانت تمتاز اساسا بالايجابية وبالتعاون فيما بينها، من خلال "الجبهات الوطنية" المعقودة على مستوى القيادات ذاتها، او بدون تلك الجبهات، على مستوى العلاقات النضالية التلقائية الطيبة فيما بين المناضلين في الشارع الشعبي الوطني. والتاريخ العراقي حتذاك انما كان تاريخ النضال المشترك بين هذه الاحزاب، التي كانت تسمى ايضا القوى الوطنية والتقدمية والدمقراطية (بالمعنى العام العريض) ضد الاستعمار البريطاني والدول الامبريالية (حلف بغداد) والقوى الرجعية والسلطة الملكية العميلة. الصراع على السلطة اما بعد 14 تموز 1958 ووصول القوى الوطنية والتقدمية العراقية الى السلطة، فقد انعكست الآية، للاسف، 180 درجة. ومنذ ذلك التاريخ اصبح التاريخ السياسي المباشر للعراق يتمحور حول الصراع بين هذه القوى الوطنية والقومية والتقدمية (او الاحزاب الكبرى الثلاثة) بالتحديد. وقد لطخ هذا "الصراع الاخوي" صفحات التاريخ العراقي الحديث بأنهار من دماء قادة ومفكري وكوادر ومناضلي ومناصري تلك الاحزاب. واصبح العدو الرئيسي، بشخص الامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة، "يختبئ" خلف هذا "الصراع الاخوي". خلال هذا التاريخ النضالي والدموي، بمآثره ومآسيه، ببطولاته ومخازيه، نلاحظ ما يلي: أ ـ ان مختلف الاحزاب العراقية الكبرى كانت تلتقي فيما بينها، وتتعاون، وعلى الاقل تتهادن، حينما تكون في صفوف المعارضة للسلطة القائمة. ب ـ ان عامل النزاع الرئيسي بين هذه الاحزاب كان دائما موضوع السلطة بالتحديد. وهذا ينسحب على المسألة الكردية، وعلى مسألة الوحدة العربية التي طرحت على العراق في عهد عبدالكريم قاسم، وفي عهد الجزارين "القوميين"، ولا سيما "البعث"، منذ انقلاب شباط 1963، حتى انقلاب صدام على "البعث" باسم "البعث" نفسه. فهاتين المسألتين القوميتين الكبريين، بالنسبة للعراق وبالنسبة للعرب والاكراد عامة، لم تكونا موضوع نزاع حقيقي (نظري وفكري وسياسي و"قومي") في الشارع العربي والكردي، وفي الاحزاب العراقية الكبرى، كمسألتين قوميتين بحد ذاتهما، بل كانتا ذريعتين للنزاع حول السلطة، فيها وخارجها، معها او ضدها الخ الخ. الاحزاب والجماهير والتقسيم السياسي الذي اجريناه جدلا الى ثلاثة احزاب سياسية كبرى، هو تقسيم نسبي، والانتساب او الالتحاق الجماهيري بكل من هذه الاحزاب كان على الدوام التحاقا ظرفيا ومشروطا، ولا يقوم ابدا على انقسام ايماني او ايديولوجي او مفاهيمي، نهائي او شبه نهائي. فالاساس في التزام جماهير تلك الاحزاب، والاحزاب نفسها، هو الوحدة الوطنية ضد العدو المشترك: الامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة. اما الافتراق، والخلاف، والتناحر الحزبي، الذي ينطبق عليه توصيف "الصراع الاخوي" داخل الصفوف الوطنية، فكان على الدوام يرتبط بالشعارات والمناهج والممارسات السياسية المرحلية. فجماهير الحزب الشيوعي هي في غالبيتها الساحقة مؤمنة دينيا، وهي في الوقت نفسه وطنية وقومية. وجماهير الحزب القومي هي ايضا مؤمنة دينيا وذات قناعات اجتماعية راسخة. وجماهير الحركات الاسلامية هي ايضا وطنية وقومية وذات قناعات راسخة في العدالة الاجتماعية والنضال ضد الظلم. وعند هذه النقطة لا بد من ايراد الملاحظات التالية: ـ هناك دائما جانبان، للنظر والمناقشة والمحاكمة الفكرية، لكل حركة سياسية كبرى او اساسية، ومنها الحركة (بمعنى الحركات، من وجهة النظر التنظيمية) الاسلامية. وهذان الجانبان او الوجهان هما: أ ـ الجانب العقائدي، الايديولوجي، الفلسفي، الديني، الايماني الخ. ب ـ والجانب السياسي، الفكري ـ الاجتماعي والفكري ـ الاقتصادي، وما ينتج عنه من ممارسة سياسية الخ. وبطبيعة الحال لا يمكن الفصل الميكانيكي بين هذين الجانبين في التكوين الفكري والحوافز النضالية لأي حركة سياسية جدية. ولكن نقطة الارتكاز، في نهاية المطاف وفي التحليل الاخير وفي الموقف النهائي، واخيرا في مصير كل حركة، يتوقف على مواقفها وممارستها السياسية، بكل اشكالها السلمية والمسلحة الخ. فالجماهير الشعبية، كمحصلة عامة، لا تسير مع هذه الحركة او تلك، او تتخلى عنها، او تقف ضدها، بناء على "المحاكمات" الفكرية والايديولوجية والدينية والايمانية المجردة، بل بناء على الشعارات والبرامج السياسية لكل حركة، ومن ثم ممارساتها ونضالاتها المبنية على تلك الشعارات والبرامج. والحركة الاسلامية لا تشذ عن هذه القاعدة. واذا كان الاميركيون، وحلفاؤهم القدماء والجدد، يلطمون الان الصدور وينادون بالويل والثبور، بسبب الجماهيرية الواسعة التي تحوزها الحركات الاسلامية، فإننا نرد عليهم بأن هذه الجماهير كانت دائما جماهير مؤمنة دينيا، ومع ذلك كانت اكثر توزعا في التزامها السياسي. واذا كانت هذه الجماهير نفسها "تغلـّب" الان الخيار "الاسلامي"، فهذا لا يعني ابدا انها انتقلت من حالة لاايمانية او حالة كفر الى حالة ايمانية (تحديدا اسلامية)، بل يعني بالضبط انها انتقلت من خيار سياسي، الى خيار سياسي اخر مغاير. ومن ثم فإن الخيار "الاسلامي" الان هو خيار سياسي بامتياز. ولا بد ان نتذكر انه حتى الامس القريب كانت هذه الجماهير ذاتها تسير خلف الشيوعيين (للمثال وحسب: حينما جاء الرئيس السوفياتي الاسبق أنستاس ميكويان لزيارة العراق في 1959 على ما اذكر، كان في استقباله مليون ونصف المليون عراقي. وحينذاك كان المرحوم الشهيد سلام عادل، الامين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي، يقول "ان السلطة هي في يدنا، كما هو الخاتم في الاصبع"). كما كانت هذه الجماهير تسير بكثافة غير معهودة خلف القوميين، الناصريين والبعثيين الخ (حينما قامت الوحدة بين سوريا ومصر، وجاء عبدالناصر الى دمشق في شباط 1958، ذهب حشد جماهيري لبناني للقائه قدر بـ600 الف مواطن، ووصلت مقدمة رتل السيارات والباصات الى دمشق في حين كانت مؤخرته لا تزال في بيروت). ولكن بعد الفشل السياسي للشيوعيين (بكداش وغيره) والقوميين (صدام وغيره)، ولا سيما بعد انهيار الناصرية وظهور الساداتية على انقاضها، وانهيار الاتحاد السوفياتي وظهور الغورباتشوفية الخائنة، فإن القسم الاكبر من هذه الجماهير ذاتها، "الشيوعية" و"القومية" السابقة، اخذ يتحول للالتفاف حول الحركات الاسلامية. وهذا لا يعني بأية حال تخلي تلك الجماهير عن القناعات القومية والنضال لاجل التقدم والدمقراطية والعدالة الاجتماعية والاشتراكية، بل يعني الالتزام بمتابعة النضال، ولا سيما الكفاح المسلح، ضد العدو الرئيسي: الامبريالية والصهيونية والرجعية العميلة. وهناك نقطة ايجابية اخرى لصالح الحركات الاسلامية الجهادية، تساعدها على الاستقطاب الجماهيري، هي انها لم تتلطخ بأوساخ السلطة، كما تلطخت الاحزاب والقوى الاخرى. ونحن طبعا نستثني "الاسلاميين" السلطويين التابعين لبعض الانظمة النفطية الخليجية، الذين هم في الغالب "اسلاميون" منافقون، مدجنون ومأجورون وخدم للسلطة التي اوجدتهم ليس الا. وقد اسهم هذا "التلاقح النضالي"، اذا صح التعبير، في رفع المستوى التنظيمي والسياسي والكفاحي لجميع الاحزاب والحركات السياسية "الاسلامية". واذا اخذنا "حزب الله" في لبنان كنموذج، نجد، وبسبب هذا التلاقح النضالي بالدرجة الاولى، أن قواعده الجماهيرية وكوادره الحزبية والسياسية والعسكرية، الذين كانوا حتى الامس القريب "شيوعيين" او "قوميين"، واصبحوا الان "اسلاميين"، هم اغنى تجربة وارفع مستوى، سياسيا وتنظيميا وكفاحيا، من الاحزاب الشيوعية والقومية، التي اتوا منها. وهذا يجد انعكاسه، بطبيعة الحال، في المواقف العامة للقيادة والخط السياسي والكفاحي العام للتنظيم "الاسلامي" المعني. لقد سال الكثير من الدماء، كما اسلفنا، فيما بين الاحزاب (او القوى) الوطنية العربية الرئيسية الثلاثة: الاسلاميين، القوميين واليساريين. وقد استفادت الامبريالية والصهيونية والرجعية العربية الى اقصى الحدود من هذا "الصراع الاخوي" العبثي. ان الاختلاف في الرأي هو امر طبيعي. ولكن غير الطبيعي هو الذهاب في الاختلافات الفكرية والسياسية الصادقة الى حدود العداء غير المبرر، والقمع والمذابح. والمطلوب الان، لا سيما في العراق المحتل، ليس نكء الجراح القديمة، واستعادة التاريخ المشؤوم للنزاعات، بل العمل بكل الوسائل الممكنة للحوار الصادق، الشجاع والمسؤول بين مختلف اطراف القوى الوطنية العربية (والكردية): الاسلامية والقومية واليسارية. والاحتلال الاميركي للعراق، بكل همجيته وظلاميته وبشاعته، له هذه "الحسنة": وهي انه ـ موضوعيا ـ يعطي الفرصة التاريخية لمختلف القوى الوطنية الشريفة ان تعود لتوحيد صفوفها بوجه الاعداء الرئيسيين للشعب العراقي وللامة العربية بأسرها، على قاعدة مقاومة الاحتلال. الرافعة الاسلامية ان العامل الاسلامي، بامتداده التاريخي، وبوجوهه الدينية والفكرية والسياسية والصراعية، على المسرحين العربي والعالمي، هو عامل غير متجانس، بل ومتناقض. ولا شك بوجود خط رجعي ـ سلطوي ـ استبدادي، في العامل الاسلامي. هذا الخط بالذات هو الذي لعب الدور "الداخلي" الرئيسي في تخريب وتفكيك وانحطاط الدولة العربية ـ الاسلامية، والقضاء على وجهها الحضاري الصاعد، وفي التمهيد لوضع الامة العربية العظيمة تحت رحمة المستبدين والغزاة والمستعمرين الاجانب، "المسلمين" والاوروبيين. وهذا الخط هو الذي اضطلع اخيرا بدور الركيزة "الداخلية" للاستعمار والامبريالية، والحليف الضمني والمكشوف للصهيونية. الا انه لا يمكن ايضا لاحد ان ينكر انه كان ولا يزال يوجد في العامل الاسلامي خط آخر، مضاد للاول، هو الخط الشعبي الثوري. وهذا الخط هو الذي اضطلع تاريخيا، ويضطلع حاليا، بدور رئيسي في صراع الجماهير الشعبية الاسلامية ضد السلطات الاستبدادية الاسلامية ذاتها، وخصوصا ضد الاستعمار والاحتلالات والامبراطوريات الاستعمارية. وفي كل الحالات، السلبية والايجابية، كان دور العرب في تحريك العامل الاسلامي، ولا يزال، دورا رئيسيا، وذلك نظرا لطبيعة نشأة الاسلام، كدين، وكسلطة، وكظاهرة ومؤسسة فكرية ـ سياسية، وكحركة كفاحية، انطلاقا من البيئة العربية، وارتباطا بخصائصها. وللاسف ان اميركا والصهيونية والرجعية العربية استطاعوا استخدام العامل الاسلامي ـ اساسا عبر الاسلاميين العرب ـ في الصراع ضد السوفيات. ولولا العامل الاسلامي، لما انهزم السوفيات في افغانستان، ولما انهار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية بالشكل الذي انهارا فيه. كما استخدموا العامل الاسلامي لتفكيك جمهورية يوغوسلافيا السابقة ـ احد اركان حركة عدم الانحياز، واهم اصدقاء العرب تقليديا. كما يجري الان استخدام العامل الاسلامي ضد الشعب الروسي، اعظم صديق للعرب، وذلك في غير مصلحة الشعوب الاسلامية في الاتحاد السوفياتي السابق، وفقط لمصلحة اميركا واسرائيل والرجعية العربية. ولكن هذا لا يجب ان يمنعنا من ان نرى الوجه الاخر للهضبة وهو: ان التراث الاسلامي الشعبي الثوري والتيار الاسلامي المناضل هو اداة هائلة بيد العرب، يمكنهم تحريكه، ولا سيما في المرحلة التاريخية الراهنة، واستخدامه ضد الاعداء التاريخيين للامة العربية، الذين هم في الوقت نفسه اعداء الانسانية جمعاء. وعن هذا الطريق يمكن، من جهة، لحركة التحرير الوطني والقومي والاجتماعي العربية ان تخطو نحو ما يسمى "تحديث الاسلام" و"مصالحته مع العصر"، ويمكن، من جهة ثانية، للامة العربية ان تخطو من جديد للاضطلاع بدورها الحضاري الريادي على النطاق العالمي بأسره. والقوى القومية واليسارية العربية امامها فرصة تاريخية كبرى (لا تزال تفوتها) للتعاون مع التيار الوطني الاسلامي، و"استغلال" العامل الاسلامي على الساحة الدولية، في الصراع ضد الامبريالية الاميركية والصهيونية العالمية وضد الرجعية العربية ذاتها، التي ما زالت تتاجر بالاسلام لصالح انظمتها العفنة، ولصالح اميركا واسرائيل. ولبعض "الطليعيين" الاقزام، الذين يغرقون في الروزنامه ويغيب عن انظارهم التاريخ، لعله من المفيد التذكير بالتجربة الثورية في روسيا القيصرية في مطلع القرن العشرين: حيث نجد ان الشيوعيين البلاشفة، بالرغم من كل العوائق التي كانت تفصلهم عن الاسلام والمسلمين، استطاعوا ايجاد "لغة مشتركة" مع الجماهير الاسلامية المسحوقة في روسيا القيصرية، واستنهاضها للوقوف الى جانبهم في الصراع ضد السلطة الاستبدادية الروسية، والاقطاع المحلي العشائري ـ الديني (الاسلامي)، والتدخل الاستعماري الاجنبي. وربما يكون من المناسب ان نسأل غينادي زيوغانوف، الامين العام للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية، وطبعا جميع الشيوعيين الروس والعرب والاكراد وغيرهم: كيف كان الشيشانيون والاذربيجانيون وغيرهم من الشعوب الاسلامية، في الربع الاول من القرن العشرين، يناضلون من اجل الاشتراكية، ومن اجل الانضمام للاتحاد السوفياتي الجديد، جنبا الى جنب الروس؟ وهل اصبحوا الان "اقل" او "اكثر" "اسلامية"؟ كما نسأل: لماذا كان قائد كردي (زعيم عشائري تقليدي وشخصية دينية) كالشيخ محمود الحفيد، يكتب الى لينين قائلا "ان الشعب الكردي يعتبر الشعب الروسي محرر الشرق"، في حين ان قائدا ثوريا تقدميا كرديا، كعبدالله اوجلان، لم يستطع، بعد اكثر من ثلاثة ارباع القرن، ان يجد الحماية لدى الشيوعيين الروس (ودعنا من سلطة سليل الكا جي بي الروسية)، حينما لجأ الى روسيا، بعد ابعاده القسري من "سوريا الاسد"؟ وللاسف اننا، في الحالة العراقية (وغير العراقية) نرى، بالعكس، ان قسما كبيرا من الشيوعيين واليساريين يهادنون الاحتلال، حتى بعد سقوط نظام صدام، وهو ما كانوا يتحججون به سابقا لـ"مهادنة" الاميركيين. وأنهم يركزون معركتهم ضد التيار الاسلامي، مما يساعد الرجعية العربية على متابعة تنفيذ سياستها الحربائية المتاجرة بالاسلام، وفي الوقت ذاته يدفع اليساريين للوقوف الواعي او غير الواعي الى جانب الاحتلال، مما يفقدهم مصداقيهم التاريخية كقوى مناضلة من اجل التحرر الوطني والدمقراطية الحقيقية. لانه لا دمقراطية من دون تحرر وطني وقومي. "الدمقراطية" الاستنسابية، الدكتاتورية والاحتلال وهنا أجد من الضروري ان نتوقف بشكل خاص عند النقطة الهامة، وهي: التخوف الذي يبديه الاخ الخزرجي، وهو طبعا ليس تخوفا فرديا، من "سيطرة الاسلاميين على الشارع" و"أسلمة المجتمع". ان الخشية التي يبديها الاخ الخزرجي من "الاسلام" و"التركيبة المجتمعية العربية" تأتي، عن قصد او بغير قصد، في "تناغم" او كـ"رجع صدى" للحملة الصليبية الاميركية والصهيونية ضد "الاسلام"، ولاجل ما يسمى "الاصلاح" و"الدمقراطية" في "الشرق الاوسط الكبير". ولكن بالرغم من ذلك، فإننا نلاحظ ـ من خلال التاريخ الدامي، الغني بالاحداث والدروس الكبرى، للعراق الحديث ـ ان العلامة المميزة الرئيسية للخلافات والنزاعات بين الاحزاب العراقية الثلاثة الكبرى، التي اشرنا جدلا اليها، لم تكن يوما المسائل الايمانية (دينيا) والايديولوجية (فلسفيا وعقائديا) والمفاهيمية الستراتيجية (سياسيا، كمفهوم الدمقراطية والعلمانية وما اشبه)، بل كانت تتمحور حول الشعارات والمواقف السياسية الراهنة، ولا سيما من خلال المواقف من السلطة القائمة. وهذا ينطبق بامتياز على الوضع الراهن. إذ ان الخلاف بين الشيوعيين والاسلاميين مثلا، او بين الاسلاميين والقوميين (بمن فيهم فلول نظام صدام)، او بين العرب والاكراد، ليس على الايمان بالاسلام، او الاشتراكية، او العروبة، او الحقوق القومية للشعب الكردي، بل هو بالتحديد حول الموقف من الاحتلال ومن السلطة الكاراكوزية التابعة له. ولهذا فإننا ندعو امثال الاخ الخزرجي لعدم التخوف من امكانية فوز "الاسلاميين" بالثقة الشعبية وبالانتخابات، اذا تم تحرير العراق من الاحتلال، وجرت انتخابات دمقراطية فعلا. اما تطبيق المفاهيم الدمقراطية عشوائيا وانتقائيا واستنسابيا، ومواجهة "الاسلاميين" باللادمقراطية، حتى ولو نجحوا "دمقراطيا"، كما جرى في اعقاب فوز "جبهة الانقاذ الاسلامية" بالانتخابات في الجزائر؛ واما "التأبط شرا" من فوز الاسلاميين بثقة الشارع العراقي، فإنه سيقود حتما الى التطرف والمجازر، والى ظهور الدكتاتوريين الصداميين، "العروبيين" او "الدمقراطيين" (كبدل عن ضائع عن "الشيوعيين") او "الاسلاميين"، من جديد. وهذا هو بالضبط ما يريده المحتلون الاميركيون والصهاينة، الساعون بأيديهم وارجلهم لتفكيك و"لبننة" العراق. فهل هذا ما يريده ايضا الستاليني القديم، والغورباتشوفي لاحقا، فخري كريم وامثاله من "الاصدقاء" الجدد للاحتلال الاميركي للعراق والوطن العربي، الذين يتحججون بـ"الاصلاح" و"العلمانية"، ويتسترون بـ"الدمقراطية" الكاذبة والوهمية، وعينهم على دكتاتورية واقعية، تعطيهم "حصتهم" من "كعكة السلطة"، ولو كانت سلطة عراقية مزيفة، وواجهة حقيقية واداة للاحتلال؟! ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
-
من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
-
الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن
...
-
العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
-
أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا
...
-
مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|