أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 3-3















المزيد.....



مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 3-3


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3741 - 2012 / 5 / 28 - 11:08
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


كيف سقط نظام الفصل العنصري ؟!

الكاتبان "بنغاني نجيليزا" من جنوب أفريقيا، و"أدري نيوهوف" من هولندا، وهما مناضلان مناهضان للعنصرية وقد عاشا تجربة جنوب أفريقيا، يريان أن سر قوة المؤتمر الوطني الإفريقي الذي جلب له النصر يكمن في "الرؤية"؛ وهي الرؤية التي حددها "ميثاق الحرية" وتبناها الحزب، ومن خلالها عبَّر بوضوح عن رؤيته لمستقبل شعب جنوب أفريقيا؛ حيث عرف الميثاق هذه الرؤية كما يلي: "نحن شعب جنوب أفريقيا، نعلن للجميع في بلادنا، ونريد للعالم بأسره أن يعلم؛ أن جنوب أفريقيا هي ملك لكل من يعيش فيها، السود والبيض والملونين، وأية حكومة لن تستطيع ادعاء ممارسة السلطة دون الاستناد إلى إرادة الشعب كله؛ ولما كان أبناء شعبنا قد حُرموا من حقهم الطبيعي في الأرض، وحرموا من الحرية والسلام من قبل حكومة قامت على أساس الظلم والإجحاف؛ ولهذا لن تكون بلدنا مزدهرة وحرة حتى يعيش شعبنا بأخوة فيما بينهم، ويتمتعون بحقوق متساوية وفرص متكافئة؛ وهذا لن يكون إلا في دولة ديمقراطية مبنية على إرادة الشعب بكامله؛ دولة تستطيع تأمين الحقوق الطبيعية للناس بدون تمييز بسبب العرق، أو اللون، أو الجنس، أو المعتقد. ولهذا؛ نحن شعب جنوب أفريقيا، البيض والسود، وعلى قدم المساواة مع كل إخوتنا في الوطن، نعلن تبني ميثاق الحرية هذا، ونحن نتعهد بالكفاح موحدين معا؛ ولن تعوزنا الشجاعة ولا القوة حتى ننتصر وتتحقق التغييرات الديمقراطية على أرض الواقع".

وقد شكّل ميثاق الحرية الوثيقة الرئيسية لحركة النضال الجماهيري؛ إذْ جاء معبّراً عن آمال وطموحات الشعب، وهو مزيج من الأهداف العملية والمبادئ والشعارات صيغت بلغة أدبية منمقة، يضع في المقام الأسمى إلغاء التمييز العنصري وتحقيق المساواة في الحقوق بين الجميع، ويدعو أنصار الحرية للمشاركة في بناء مجتمع ديمقراطي لا عنصري في جنوب إفريقيا، وأصبح هذا الميثاق نورا يهتدي به المناضلين من أجل التحرير. وصار مثله مثل إعلان الاستقلال الأمريكي، وإعلان حقوق الإنسان الفرنسي، والإعلان الشيوعي.

ولما كان هذا الميثاق نقلة نوعية في الخطاب السياسي لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، فقد اعترض البعض من داخل الحزب على ما جاء فيه، خاصة التكتل الإفريقي المعادي للشيوعية والبيض؛ باعتبار أن الميثاق ينادي بدولة تختلف جذريا عن تلك التي ظل ينادي بها طوال تاريخه، وعبروا عن خشيتهم من تأثر صياغة الميثاق بلغة الشيوعيين، ما يدل على تغلغلهم داخل الحزب. ولكن مانديلا ينفي ذلك، ويقول: "الميثاق لم يتطرق للقضاء على الطبقات والملكية الخاصة، ولم يتبنى شيء من مبادئ الاشتراكية العلمية، لكنه دعا لتأميم المناجم والمصارف والصناعات الاحتكارية، لأن ذلك خطوة ضرورية للخروج بالاقتصاد من سيطرة وهيمنة البيض". واعتبر الميثاق وثيقة ثورية بالفعل، لأن التغييرات التي نادى بها لا يمكن أن تتحقق بدون تغيير التركيبة الاقتصادية والسياسية في جنوب إفريقيا، قائلا: "ليس القصد أن يكون الميثاق رأسماليا أو اشتراكيا؛ بل هو دعوة للقضاء على الظلم وتحقيق العدالة، وإنهاء نظام التمييز العنصري الذي يجسد كل الظلم والطغيان".

وفي نفس العام 1958 أكد "البرت لوثلي"، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي آنذاك، على هذه الرؤية، حيث قال: "التساؤل هو: هل هذه الرؤية لمجتمع ديمقراطي في جنوب أفريقيا هي رؤية قابلة للتحقيق أم أنها مجرد سراب ؟ أقول، إنها قابلة للتحقيق، فمن طبيعة الإنسان أن يتوق ويكافح من أجل الحرية، "جرثومة" الحرية موجودة في داخل كل فرد، في داخل كل شخص ينتمي إلى الإنسانية. والواقع؛ أن تاريخ البشرية هو تاريخ العمل والنضال من أجل الحرية، وأن ذروة إنجازات البشرية كانت الحرية وليس العبودية، وكل إنسان يناضل من أجل الوصول لتلك الذروة".

إشكالية القضية في جنوب إفريقيا

بدأت قضية جنوب إفريقيا مع قُدوم المستوطنين البيض (في منتصف القرن السابع عشر)؛ الذين استولوا على معظم الأراضي، وأقاموا حُكماً يقوم على أساس التفرقة العنصرية؛ جعل من أغلبية السكان في درجة أدنى بكثير من الأقلية البيضاء الحاكمة، دون أن يتمتعوا بأية حقوق مدنية أو سياسية. وعلى هذا الأساس يمكن تلخيص قضية جنوب إفريقيا بأن الشعب كان يطالب بحريته وكرامته وحقوقه الطبيعية، والتخلص من نظام الفصل العنصري. ولكن هل كان كل الشعب موحدا خلف هذا الهدف ؟ أم أن في عمق القضية الرئيسية تكمن الكثير من التفاصيل والقضايا الفرعية ؟

وكما أشرنا في المقدمة فإن شعب جنوب أفريقيا يتكون من عناصر عديدة؛ الأفارقة السود يشكلون نحو ثلاثة أرباع الشعب، الملونين والهنود يشكلون أكثر من 10% ، فيما يشكل البيض نحو 15% من السكان. ولكل مجموعة عرقية مطالب وهموم تختلف عن المجموعات الأخرى، وإن كانت الأكثرية تتفق على المطلب الرئيسي الأهم، وهو التخلص من حكم الأقلية البيضاء. ولكن هناك من كان يدعو لإلقائهم في البحر، وهناك من يدعو لترحيلهم، بل وترحيل الهنود والملونين معهم، وهناك من يدعو للتعايش السلمي بين الجميع. وكان هناك من يعتبر أن الأولوية هي إبراز الهوية القومية الإفريقية في مواجهة هوية البيض، وآخرون يعتبرون أن جوهر النضال طبقي بين الفقراء البيض والسود على حد سواء ضد الطبقة الحاكمة المستغلة، فيما كان المؤتمر الوطني يسعى لإقامة دولة ديمقراطية غير عنصرية يعيش فيها الجميع على قدم المساواة وبدون تمييز، بما فيهم البيض.

كان يمثل تطلعات السود (المؤمنين بالقومية الإفريقية) المؤتمر القومي الإفريقي، والهنود المؤتمر الهندي، فيما مثلت المنظمة الشعبية الإفريقية الملونين، أما البيض المناهضين لنظام الحكم والرافضين لسياسة التمييز العنصري فقد مثلهم مؤتمر الديمقراطيين البيض، بالإضافة للحزب الشيوعي الذي كان يضم مناضلين من مختلف الأعراق. وطبعا هناك العديد من الأحزاب الأخرى مثل الحزب الإفريقي المسيحي الديمقراطي، الحزب الديمقراطي، جبهة الحرية، حزب إنكاثا، ولكن يبقى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي الأهم والأكبر؛ فهو الذي قاد النضال من أجل الحرية على مدى قرن من الزمان. وفي الجانب المقابل كان الحزب الوطني الحاكم الذي يمثل اليمين الوطني المتشدد، وحزب المحافظين الذي يمثل أقصى اليمين، والحزب الاتحادي التقدمي الذي يمثل المعارضة.

المعضلة الأولى التي واجهت النضال الإفريقي تمثلت في التركيبة القبلية لشعب جنوب إفريقيا، والتي سادت لمئات السنين؛ وكانت خلالها القبائل تأخذ شكل الممالك، حيث يحكم كل منطقة معينة سلالة ملكية. وكان على هذه الممالك التي تنتمي لعصر ما قبل الحداثة أن تواجه عدوا تمكن من إقامة دولة عصرية بالمفهوم الحديث للدولة، وبما تقتضيه من وجود برلمان منتخب وقضاء وحكومة وجيش وشرطة وإعلام وصناعة ... ومن ناحية ثانية فلربما ساعد هذا الوضع (القبلي) في تثبيت نظام البانتوستونات فيما بعد؛ إذ وجد بعض "الملوك" مصلحتهم فيه، لذلك أعلنوا تأييدهم للحكومة، والتي في المقابل دأبت على دعم قوة القبائل التقليديين لتعادل بها نفوذ حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، كما منحتهم امتيازات معينة. وهذا ما أضعف من القوة القانونية لمطالب الشعب في حق تقرير المصير.

لكن نظام البانتوستونات لم يكن موضع قبول شعبي؛ بل كان يُنظر إليه كنوع من الخيانة الوطنية، لذلك ظهرت حالات عديدة من الصراع الداخلي ضد هذا النظام، ووقعت حوادث اغتيال أكثر من مرة ضد رموز البانتو. وهو ما أضعف من قوة الجبهة الداخلية.

وفي نهاية الثمانينات وعشية إسقاط نظام الفصل العنصري، تفاقمت مشكلة نظام البانتوستونات على نحو خطير، فقد آثرت بعض القبائل من شعب الزولو والتي كان يمثلها حزب "إنكاثا" إلا أن تُبقي على صلتها الحميمة بالحكومة، نظرا لتقاطع مصالحهما؛ وأعلنت عن محاربتها للمؤتمر الوطني الإفريقي، وعن رفضها لدستور الدولة المقترح الذي يطالب بإنهاء الممالك (بما فيها مملكة الزولو)، وإقامة دولة موحدة. الأمر الذي أدى لسلسلة من أعمال العنف والتفجير والمذابح قام بها أعضاء من حزب "إنكاثا" على مرأى ومسمع حكومة الفصل العنصري، بل وبتشجع منها.

المعضلة الأخرى تمثلت في غياب الرؤية المشتركة لجميع شعوب أفريقيا الجنوبية وأحزابها السياسية، وعدم إجماعهم على تحديد الخصم الرئيسي وعلى تحديد أولويات الصراع؛ وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال انشقاق مجموعة عن المؤتمر الوطني الإفريقي في نيسان 1960، وإعلانهم عن تأسيس المؤتمر القومي الإفريقي.
وفي هذا الصدد يقول مانديلا أن العلاقات بين المؤتمر القومي الإفريقي والمؤتمر الوطني الإفريقي كانت منذ البداية تنحو نحو التنافس لا التعاون. وأنه لم يكن متفاجئ من ميلاد حزب المؤتمر القومي الإفريقي؛ فقد كان يسمع أصوات القوميين الإفريقيين ترتفع عاليا داخل حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منذ سنوات عديدة، وقد لاحظ محاولاتهم حجب الثقة عن اللجنة التنفيذية، ومعارضتهم ميثاق الحرية بحجة تعارضه مع مبادئ القومية الإفريقية. وفي مرحلة لاحقة اكتشف أن جل نشاط حزب المؤتمر القومي الإفريقي كان منصبا على تشويه صورة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وقد لمس مانديلا ذلك خلال جولته التي شملت بلدان عربية وإفريقية وغربية.

وكان حزب المؤتمر القومي الإفريقي يرفع شعار إفريقيا للإفريقيين كما أمريكا للأمريكيين. وكان يدعو للإطاحة بحكومة البيض وإقامة حكومة أفريقية الأصل تكون للإفريقيين فقط، اشتراكية المضمون ديمقراطية الشكل، مع رفض كامل للوجود الشيوعي بأي شكل، واعتبار البيض والهنود أقليات أجنبية دخيلة لا مكان لها في جنوب إفريقيا، التي هي بلد للإفريقيين دون سواهم. ونظرا لعداء المؤتمر القومي الإفريقي للشيوعية فقد أصبح الابن المدلل للصحافة الغربية وللخارجية الأمريكية، التي أشادت بميلاده خنجرا في قلب اليسار الإفريقي. حتى أن الحزب الوطني الحاكم رأى في هذا الحزب الجديد حليفا مستقبليا؛ لأنه وجده انعكاسا لعدائهم المشترك للشيوعيين، وتأييدا لسياستهم الخاصة بالتنمية المنفصلة للجماعات العرقية؛ أي أنهما التقيا على عداء الشيوعية، ورفض الاندماج بين المجموعات العرقية؛ لذلك بالغ الحزب الوطني الحاكم وأيضا الخارجية الأمريكية في وصف قوة وحجم المؤتمر القومي الإفريقي بما يحقق لهم أغراضهم الخاصة.

وفي الجانب المقابل كان ملايين البيض (وأيضا الهنود والملونين) من الجيل العاشر، وُلدوا على أرض جنوب إفريقيا، وباتوا يرونها وطنا لهم، ولا يعرفون وطنا غيرها، ويعتبرون أنفسهم هم الذين جلبوا الحضارة والتكنولوجيا والرخاء لهذا البلد، ولهم امتيازات وحقوق ومصالح يخشون عليها. لكن تاريخ علاقتهم بالآخرين تاريخ أسود، وبينهما فجوة يصعب جسرها، وليس من السهولة أن يتقبل الطرفان بعضهما البعض؛ ومع ذلك لم يكن أمام الأطراف المتنازعة ترف الخيارات، وليس أمامهم إلا أن يجدوا طريقة ما للتعايش السلمي.

مسار المفاوضات

في نهاية الثمانينات، وبعد سنوات مريرة من الكفاح، والمعاناة، كان من الواضح أن الوضع لا بد وأن يتغير؛ وقد بدا في الأفق ملامح تغيرات جذرية عديدة ستكون عماد المرحلة المقبلة، ولفهم أفضل لمعطيات تلك المرحلة، وكيف كان يفكر قادتها، لنقرأ ما كتبه مانديلا عن تلك الحقبة المفصلية من تاريخ البلاد: "حاربنا حكم الأقلية البيضاء ثلاثة أرباع القرن، وخضنا النضال المسلح لأكثر من عقدين من الزمن، أزهقت أرواح كثيرة من الطرفين، وظل العدو محافظا على قوته وتصميمه. ورغم دباباته وطائراته فلا بد أنه أحس بأنه يرتكب خطأ تاريخيا فادحا؛ فالحق بيدنا، ولكنا لا نملك القوة الكافية. وأصبح واضحا في ذهني أن النصر العسكري بعيد المنال، إن لم يكن مستحيلا، وأنه لم يعد من الحكمة أو معقولا أن يستمر الطرفان في فقدان آلاف – إن لم نقل ملايين – الأرواح في حرب لا طائل منها ولا ضرورة لها، وأنه لا بد أن الحكومة قد باتت مقتنعة أن أوان الحوار قد آن".

لكن الحوار في تلك الظروف كان موضوعا حساسا؛ إذْ يعتبره الطرفان علامة ضعف وخيانة، وبالتالي لن يقبل أحد الطرفين بالجلوس للحوار ما لم يقدم الطرف الثاني تنازلات هامة. فمن ناحية كانت الحكومة ترى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي منظمة شيوعية إرهابية، ومن ناحية ثانية كان حزب المؤتمر يرى أن الحكومة عنصرية وفاشية ولا مجال للحديث معها.

وفي تلك الفترة كتب مانديلا في مذكرته لرئيس الدولة "بوتا": "إني أتخوف من شبح دولة في جنوب إفريقيا تنقسم إلى معسكرين يعادي كل منهما الآخر: البيض في جانب والسود في الجانب الآخر ويذبح بعضهما بعضا". ولتفادي ذلك عرض مانديلا البدء بمفاوضات مباشرة، دون شروط الحكومة الثلاثة، وهي: نبذ العنف، الانفصال عن الحزب الشيوعي، والتخلي عن مطلب حكم الأغلبية. واعتبر مانديلا أن أغلب المشاكل بين الطرفين تعود إلى غياب الاتصال بينهما، وأن كثير منها يمكن أن يحل بالمحادثات. ومع قناعة الحكومة بمضمون ما كتبه مانديلا، إلا أنه لم يكن من السهل عليها تقبله، وبالتالي ترجمة ذلك إلى أفعال.

قبل البدء بالمفاوضات تعمدت السلطات اصطحاب "مانديلا" أثناء وجود في السجن في جولة خارجية، تركزت على مناطق البيض، ليرى بنفسه الثراء الفاحش والرخاء المفرط الذي يتمتع به البيض، وكيف أن هذه الأحياء الغنية الهادئة المستقرة لم تتأثر بحياة السود في الضواحي التي تعج بالفقر والبؤس، والتخلف، وتوشك أن تتحول إلى ساحات حرب أهلية . ولعل ذلك كان من أشكال الحرب النفسية، ليخوض مانديلا المفاوضات بذهنية التابع لا بعقلية القائد المسيطر.

وقبل الشروع فعليا بالمفاوضات بين حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والحكومة (البيضاء)، حدد مانديلا رؤيته للإطار العام للمفاوضات؛ بحيث يتم البت في قضيتين أساسيتين: الأولى حُكم الأغلبية داخل دولة واحدة، والثانية هي مخاوف البيض في جنوب إفريقيا تجاه هذا المطلب، وإصرارهم على ضمانات بأن حكم الأغلبية لا يعني تسلط السود على الأقلية البيضاء. وأن مهمة حزب المؤتمر وحكومة الحزب الوطني هي التوفيق بين هاتين القضيتين.

وعندما انطلقت المفاوضات أجاب مانديلا على نقاط الخلاف بين الطرفين؛ فأكّد في جولاته التفاوضية على أن توجهات حزبه قومية، وأنها لم تكن شيوعية في يوم من الأيام، وأن الحزب يلتزم تماما بتعهداته لبناء مجتمع غير عنصري، استنادا إلى ما جاء في ميثاق الحرية، على أساس الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. مؤكدا حرص المؤتمر بأن تشعر الأقلية البيضاء بالأمان في جنوب إفريقيا الجديدة.

وكان الكفاح المسلح أولى وأهم القضايا التي طُرحت للنقاش، وقد استغرق نقاشها أشهر طويلة، كانت الحكومة تلحُّ على أن ينبذ حزب المؤتمر العنف أولاً، وأن يتخلى عن السلاح قبل البدء بالمفاوضات، وحتى قبل أن يُسمح لمانديلا مقابلة الرئيس "بوتا"، حيث كانت الحكومة تعتبر العنف المسلح جريمة لا يمكنها القبول بها.
وفي المقابل اعتبر مانديلا أن الدولة هي المسؤولة عن العنف، وأنها الطرف الظالم وليس المظلوم، وهي التي تملي على الحزب والجماهير أشكال النضال ووسائله؛ فإذا استخدمت الدولة العنف فليس أمام الضحية إلا اللجوء للعنف، وفي هذه الحالة يكون العنف دفاعا عن النفس. وإذا اختارت الدولة الوسائل السلمية سيعتمد الحزب الوسائل السلمية. وأن المشكلة ليست في نبذ العنف، بل هي في الحقيقة أن الحكومة ترفض مقاسمة السلطة مع السود.

النقطة الثانية على جدول المفاوضات كانت تحالف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع الحزب الشيوعي؛ حيث تبنى الحزب الوطني الحاكم أثناء فترة الحرب الباردة أشد المبادئ وأكثرها تطرفا في عدائها للشيوعية، واعتبار الاتحاد السوفيتي إمبراطورية الشر، ولم يكن سهلا أبدا زحزحة الحزب عن هذه المبادئ؛ لذلك كان يصر على أن يعلن حزب المؤتمر الوطني الإفريقي تخليه عن تحالفه مع الحزب الشيوعي قبل البدء بالمفاوضات. لكن رد مانديلا كان قويا؛ فاعتبر أنه من غير المعقول أن يقبل أي مناضل يحترم نفسه بأن يتلقى أوامر من الجهة التي يعاديها، أو أن يتخلى عن حليف قديم إرضاءً لعدوه، لأن ذلك سيفقده مصداقيته أمام شعبه. لكنه أكد في نفس الوقت على أن الحزب الشيوعي وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي حزبان منفصلان ومستقلان يتميز كل منهما عن الآخر، ولكنهما يشتركان في أهداف قريبة المدى مثل الإطاحة بحكومة التمييز العنصري، أما الأهداف البعيدة فهي ليست واحدة.

القضية الثالثة، كانت التأميم؛ فقد عبّر الحزب الحاكم عن خشيته من قيام حزب المؤتمر في - حال استلامه الحكم – تأميم كل شيء في البلاد. كان رد مانديلا بأن حزبه يسعى لتحقيق توزيع أكثر عدالة لدخل بعض الصناعات الاحتكارية، وبالتالي قد يشمل التأميم بعضا منها، مؤكدا أن برنامج الحزب ليس اشتراكيا. كما عبّرت الحكومة عن خشيتها من تعرض حقوق الأقلية للخطر في حال حكم الأغلبية، وتساءلت عن الوسائل التي ستستخدمها الأغلبية لضمان حقوق الأقلية البيضاء. وكان رد مانديلا بأن حزبه يؤمن بالمساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن لون بشرتهم، وأن ميثاق الحرية يتحدث عن توحيد الناس على أساس القانون، وأنه لا يسعى للتخلص من أحد، ولن يلقي بالبيِض في البحر، لأنهم مواطنون أفريقيون. موضحا أن رفض الحكومة حُكم الأغلبية هو محاولة مكشوفة للاحتفاظ بالسلطة منفردة. وداعيا السلطة أن تدرك بأن السلم الأهلي وحكم الأغلبية وجهان لعملة واحدة، وأن هذه البلاد لن تعرف الأمن والسلام إلا بتطبيق حكم الأغلبية الديمقراطي. ومؤكدا على أهمية الدور الذي سوف يلعبه البيض في أي ترتيبات سياسية جديدة، لأن عزل البيض أو تنفيرهم، يعني تدمير البلاد كليا، وأن طردهم لن يجلب على البلاد سوى الخراب والدمار.

وتحت ضغط النضال الجماهيري، والضغوطات الدولية، وتماشيا مع المتغيرات الجذرية التي بدأت تضرب في أماكن عديدة من العالم مع نهاية الثمانينات، اضطرت الحكومة للقيام بإصلاحات كبيرة لتحسين صورتها دوليا، والتخفيف من حدة الانتقادات بحقها؛ فشرع "دو كليرك" بصورة منظمة بتفكيك لبنات النظام العنصري لبنةً لبنة؛ ففتح الشواطئ للمواطنين من كافة الأجناس والأعراق، وأعلن عن نيته إلغاء قانون المحافظة على المرافق المنفصلة، وهو القانون الذي ظل لسنوات عديدة أساسا لنظام التمييز العنصري الأصغر. ثم أعلن عن حل جهاز إدارة الأمن القومي المختص بمحاربة القوى المناهضة للتمييز العنصري.

ولكن على ما يبدو أن الحكومة لم تكن حتى ذلك التاريخ جادة وصادقة في نيتها إلغاء نظام الفصل العنصري كليا، وأنها كانت تماطل وتراوغ لكسب الوقت والتكيف مع الظروف الدولية والمحلية الجديدة، والالتفاف على الإرادة الشعبية. وربما كان في ذهنها أن الإصلاحات التي تقوم بها ستكون كافية لتخفيف العقوبات الدولية المفروضة عليها، وكافية لإخراجها من عزلتها الدولية. وعلى المستوى الداخلي كانت تحاول إيجاد مقترحات - تعتبرها تنازلات جوهرية - الهدف منها الخروج بأقل الخسائر، أو الاحتفاظ بالسلطة لأطول مدى ممكن، ومن ضمن هذه المقترحات "الخطة الخماسية"، التي تقدم بها الحزب الوطني وتضمنت حقوق الجماعات العرقية، على أساس المساواة في الحقوق بين جميع المجموعات العرقية والجنسية في جنوب إفريقيا, وقد حدد الحزب الوطني هذا المفهوم كوسيلة لضمان حقوق الأقلية البيضاء وضمان استمرارها بالحكم في المستقبل. لذلك فقد رفض المؤتمر الوطني الإفريقي هذا الطرح، باعتبار أنه يسعى لتحديث التفرقة العنصرية بدلا من إلغائها، وأنها محاولة لتقديم نظام التمييز العنصري من الباب الخلفي، وأن الحزب الوطني يستعمل حقوق الأقليات العرقية حصان طروادة للمحافظة على السلطة.

وعن رئيس الحكومة "دوكليرك" الذي قاد عملية التحول داخل الحزب الوطني الحاكم، يقول مانديلا: "رغم مظاهر التقدمية التي تصاحب أعمال دوكليرك، فإنه ليس ذلك المخلص العظيم، بل هو رجل براغماتي يؤمن بأسلوب التدرج وسياسة الخطوة خطوة، كما أنه لم يكن يهدف من وراء إصلاحاته أن يفقد السلطة، بل على العكس تماما، كان هدفه الحفاظ على السلطة في أيدي الأفريكان تحت أي إدارة جديدة؛ فهو لم يكن على استعداد للتفاوض على إنهاء حكم الرجل الأبيض".

ومع استمرار الضغوطات الخارجية، وتصاعد النضال الجماهيري، في الوقت الذي رأت فيه الحكومة كيف أطاحت رياح التغيير بمعسكر الدول الاشتراكية، وأن العالم آخذ بهذا الاتجاه؛ فأدركت أنه لا مناص من التغيير؛ ففي شهر شباط 1990، وقف الرئيس "دو كليرك" أمام البرلمان، وأقدم على ما لم يُقدم عليه أحد من أسلافه قط؛ فقد أعلن عن الخطوات الأولى في تفكيك النظام العنصري والتمهيد لدولة ديمقراطية في جنوب إفريقيا، فأعلن عن رفع الحظر عن المؤتمر الوطني الإفريقي والمؤتمر القومي الإفريقي والحزب الشيوعي وإحدى وثلاثين منظمة سياسية كانت ممنوعة، وأعلن عن الإفراج عن سجناء سياسيين، وعن إلغاء عقوبة الإعدام. ثم قال: "لقد حان الوقت للمفاوضات".
ولكن في الوقت الذي نادى فيه "دوكليرك" بالبدء بالمفاوضات، كانت الحكومة تهيئ الظروف لاندلاع حرب أهلية بين السود، ومن الواضح أن هدفها تفتيت جبهة الخصوم، والحيلولة دون قيام دولة واحدة تحكمها الأغلبية، وذلك من خلال إظهار عجز السود عن إقامة دولة حديثة، وإبراز تخلفهم وتعطشهم للقتل، وسفكهم لدماء بعضهم البعض؛ فكانت الحكومة تدعم حزب "إنكاثا" ضد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

فقد كان للحزب الوطني الحاكم إستراتيجية بعيد المدى لإضعاف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وهي تشكيل حلف معاد قوامه حزب حرية إنكاثا، وبعض الملونين؛ من خلال إقناع الملونين بأن حزب المؤتمر يعاديهم، ومساندة رغبة "بوتيليزي" زعيم حزب إنكاثا بالاحتفاظ بقوة الزولو وهويتهم ومكتسباتهم في إطار نظام الحكم الاتحادي الفدرالي، كبديل عن الدولة الواحدة.

ومن الجدير بالذكر أن أغلبية أعضاء حزب "إنكاثا" من قبائل الزولو، وكان يتزعمه "بوتوليزي"، وهو من أحفاد ملك الزولو العظيم، وعن هذا الزعيم يقول مانديلا: "عندما خرجتُ من السجن كان بوتوليزي من أهم الشخصيات على الساحة السياسية في جنوب إفريقيا، فهو رئيس وزراء إقليم كوازولو، لكن شعبيته داخل صفوف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي كانت شبه معدومة. ورغم معارضته الشديدة لنظام الفصل العنصري، ورفضه إعلان كوازولو إقليما مستقلا كما كانت ترغب السلطات، فقد ظل بوتوليزي شوكة في حلق الحركة الديمقراطية؛ إذْ أنه عارض النضال المسلح، وانتقد بشدة انتفاضة سويتو (1976)، وقاد حملة ضد العقوبات الدولية المفروضة على جنوب إفريقيا، وكان يرفض فكرة قيام دولة واحدة في جنوب إفريقيا".

ومع مطلع العام 1990، بدأ مسلحو "إنكاثا" حربهم ضد المؤتمر الوطني الإفريقي خاصة في إقليم ناتال، فأضرمت النيران في قرى بحالها، وقُتل المئات وشُرد آلاف آخرون، وتكررت التفجيرات وأعمال القتل، ووقعت مذابح جماعية، وصارت البلاد بأسرها على شفير حرب أهلية. وقد تجاوز عدد الضحايا في عام 1990 لوحده ألفان وخمسمائة قتيل. ولم تجدي توسلات ومناشدات "مانديلا" الجماهير الغاضبة وقف الاقتتال، فكان واضحا أن "إنكاثا" ماضٍ في حربه دون رحمة. وأن هذه الحرب وأعمال التخريب كانت تتصاعد كلما اقتربت الحكومة وحزب المؤتمر من التوصل لاتفاق. وكانت كل هذه الأعمال تحدث على مرأى ومسمع الشرطة، دون أن تتدخل، بل أنه تبين فيما بعد ومن خلال تقارير صحافية أن الأسلحة التي كان يستخدمها مقاتلو "إنكاثا" أعطيت لهم من قِبَل السلطات، وأن الشرطة ومتطرفون من الحزب الحاكم الوطني الحاكم كانوا يمولون "إنكاثا" سرا. وفي مرحلة لاحقة أصدرت الحكومة قانونا يسمح للزولو بحمل ما يسمى "أسلحة تقليدية" في الاجتماعات العامة، وهذه الأسلحة هي الرماح والعصي والحراب، وهي نفسها التي كان يقتل بها أنصار إنكاثا ضحاياهم.

وقد استمر الاقتتال الداخلي سنوات عدة، وفي تموز 1992 اقترف مسلحون من "إنكاثا" مذبحة مروعة ضد مدنيين في منطقة "فال ترايننغل"، فقتلت 46 شخصا أغلبهم من النساء والأطفال، وكانت تلك المذبحة الرابعة التي يتعرض لها أنصار حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في نفس الأسبوع. فزع الناس لتلك الأعمال الوحشية واتهموا الحكومة بالتورط فيها؛ فالشرطة لا تحرك ساكنا، ولا تبذل أي جهد لمنع تلك المذابح، ولا تعتقل أحدا، ولا تحقق في أي جريمة والحكومة تلتزم الصمت. حتى أن مانديلا اتهم الحكومة بتسليمها مبلغ مليون راند لحزب إنكاثا، وهو ما نفاه رئيس الدولة. وكانت تلك أسبابا قوية لتوقف المفاوضات بين الجانبين.

وفي تلك الأجواء الساخنة تدهورت الأوضاع في البلاد إلى مستوى خطير، وكان من بين أخطر لحظات التصعيد، اغتيال الناشط "كريس هاني" ، الذي اعتبره "مانديلا" محاولة يائسة من قبل المتطرفين العنصريين البيض لمواجهة ما أصبح قدرا محتوما؛ فقد كان يفضل هؤلاء المتعصبون أن تنحدر البلاد بأسرها نحو حرب أهلية على أن تنتقل السلطة ليد الأغلبية السوداء بالوسائل السلمية.

فجر الحرية

بعد خروج مانديلا من السجن، عقد الحزب أول مؤتمر عام له في البلاد منذ حظره، وكان من بين أهم القضايا التي واجهها هي كيفية الانتقال من حركة تحرير سرية محظورة
وغير معترف بها إلى حزب سياسي شعبي يعمل في إطار الشرعية، وسيكون مسؤولاً بصورة تامة عن الدولة. فقد عمل الحزب عقود طويلة كتنظيم سري، وتأصلت فيه طبائع ووسائل العمل السري، وها هو يواجه تحدي إعادة بناء التنظيم كله من جديد على أسس جديدة، وعليه أن ينجح في الانتخابات العامة.

ولم تكن المشاكل التي سيواجهها الحزب عملية وحسب، بل هناك مشاكل فلسفية؛ إذْ أن الحفاظ على تماسك الحزب أثناء مواجهة عدو مشترك أمر يسير، أما وضع السياسات أثناء مواجهة العدو على طاولة المفاوضات فهو أمر مختلف تماما، وأول فكرة يجب على الحزب أن يتحد حولها هي قبول فكرة المفاوضات. ثم على الحزب مواجهة تحدي إقناع كافة الجماهير بجوهر رسالته التي تسعى للتعايش السلمي بين الجميع من ناحية، ومواجهة سياسات الحزب الوطني وأفكاره العنصرية من ناحية ثانية، خاصة وأن الحزب الوطني بعد تلك المرحلة أخذ يفتح أبواب عضويته للملونين والهنود والسود الساخطين، أو المناوئين لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي.

بعد جولات عديدة من المفاوضات السرية خاضتها الحكومة من طرف ومانديلا بمفرده في الطرف الثاني، دخل الطرفان بصورة علنية بجولات من المحادثات حول المحادثات استمرت قرابة السنتين، وكانت ضرورية لجسر الهوّة بينهما، وتمهد للبدء في مفاوضات حقيقية. وفي آب 1990 وقع الطرفان على "اتفاقية بريتوريا" التي بموجبها أعلن حزب المؤتمر وقفه الكامل للنضال المسلح، مقابل عفو كامل عن السجناء السياسيين، وإعادة النظر بقانون الأمن الداخلي.

ويصف مانديلا الجولات الأولى من المفاوضات قائلا: "كان منظرا رائعا أن نرى قادة الحزب الوطني الحاكم وقادة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وهم يتصافحون، فطالما ناصب الطرفان العداء لبعضهما، ولكن اليوم يكتشف كل طرف أن الطرف الآخر ليس شيطانا كما كان يظنه".

وفي أواخر العام 1991، بدأت جولات المفاوضات الحقيقية بين الحكومة ومختلف الأطياف السياسية في جنوب إفريقيا، وكانت تحت شعار "من أجل دولة ديمقراطية في جنوب إفريقيا"، وعرفت اختصارا باسم "كوديسا"، وقد عُقدت في مركز التجارة العالمي في جوهانسبرغ، بحضور ثمانية عشر وفدا يمثلون جميع الاتجاهات السياسية في جنوب إفريقيا، وبحضور مراقبين دوليين من الأمم المتحدة ودول الكومنولث والاتحاد الأوروبي ومنظمة الوحدة الإفريقية، وقد سبقتها جولات من المحادثات الثنائية بين مختلف الأطراف لتمهيد الأجواء والعمل على نجاحها.

وفي أولى أيام مباحثات "كوديسا"، صادقت جميع الأطراف المشاركة على (إعلان أهداف)، بما فيها الحزب الوطني الحاكم وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، بحيث يكون هذا الإعلان ملزما لجميع الأطراف لدعم التوجه لبناء دولة موحدة في جنوب إفريقيا، يحكمها دستور، ويحميها نظام قضائي مستقل، يضمن المساواة أمام القانون، وحماية الحريات المدنية وحقوق الأفراد، أي دولة ديمقراطية تعددية يكون فيها تداول السلطة عبر صندوق الانتخابات الذي تشارك فيه جميع فئات الشعب دون تمييز. لكن حزب "إنكاثا" رفض التوقيع على الإعلان، بناء على أن عبارة دولة موحدة في جنوب إفريقيا يترتب عليها استبعاد فكرة الاتحاد الفيدرالي. (التي كان يصر عليها لأنها تضمن مصالحه القبلية كزعيم للزولو).

لم تكن المفاوضات ولا أوضاع البلاد تسير على نحو حسن؛ بل كان المشهد العام يعمّه الاضطرابات وأعمال العنف والقتل، وكانت الحكومة تسلك سلوكا مزدوجا؛ فهي تشارك في المفاوضات، وفي نفس الوقت تدعم الجهات التي تنشر الفوضى والقلاقل، مثل حزب إنكاثا. ومن ناحية ثانية بدأت مصداقية الحزب الوطني في توجهاته الإصلاحية تتدهور، حتى في أوساط البيض كان ثمة أصوات يمينية معارضة؛ الأمر الذي دعا الرئيس "دوكليرك" للمقامرة برصيده وتنظيم استفتاء لجميع البيض على سياساته الإصلاحية ومفاوضاته مع السود. وجاءت نتيجة الاستفتاء لصالح دوكليرك، مما زاد من قوته الداخلية وتصلبه في المفاوضات أكثر، وإصراره على وضع بعض العراقيل، أو ما كان يعتبرها ضمانات لحقوق البيض؛ فكان يقترح تشكيل مجلس شيوخ غير منتخب يملك حق نقض التشريعات الصادرة عن البرلمان، وهو ما رفضه حزب المؤتمر الوطني الإفريقي واعتبره التفافا على إرادة الشعب، وعنصرية من نوع آخر.

في هذه الأجواء المشحونة، صعّد حزب المؤتمر الوطني الإفريقي من نضالاته الجماهيرية، ّونظم العديد من المسيرات الشعبية، الأمر الذي أدى لسقوط قتلى على يد الشرطة (العنصرية). وقد اعتبر مانديلا مذبحة "بيشو" ومذبحة "بويباتونغ" أنهما تمثلان الساعات الأكثر حلكة وظلمة، والتي تسبق بزوغ الفجر، حيث بدأت بعد ذلك المفاوضات بالانفراج، واقترب الطرفان من التوصل لحلول.

فقد وقع الطرفان على "وثيقة التفاهم" التي حددت الإطار العام للمفاوضات، وحددت آليات معينة لحماية المواطنين، ومنع حمل السلاح، وغيرها من أمور تنظيمية. لكن أهم ما جاء في الوثيقة هو قبول الحكومة تأسيس جمعية دستورية منتخبة تضع الدستور الجديد، وتتولى مهام المجلس التشريعي الانتقالي، وأيضا الاتفاق على الإطار الأساسي للانتقال بالبلاد نحو مستقبل ديمقراطي. لكن حزب إنكاثا رفض الوثيقة، وأعلن انسحابه من المفاوضات، وتأسيس جبهة متحالفة مع زعماء قبليين وبيض من اليمين المتطرف هدفها إنشاء وطن للأفريكان.

وبعد مباحثات مكثفة توصل الأطراف لاقتراح قيام حكومة وحدة وطنية مؤقتة لمدة خمسة سنوات، تشارك فيها جميع الأحزاب الفائزة بأكثر من خمسة بالمائة من الأصوات في الانتخابات العامة، التي تم الاتفاق على موعدها.

وفي يوم 26 نيسان 1994، توجه كل شعب جنوب إفريقيا لصناديق الانتخابات لاختيار برلمان وحكومة ورئيس جديد للبلاد، وكانت هذه أول مرة يقوم فيها السود والملونين
والهنود بانتخاب من يمثلهم. واستغرق فرز الأصوات بضعة أيام، وأسفرت عن فوز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وحصوله على 62% من الأصوات. وفي مساء 2 أيار ألقى دوكليرك "خطاب التنازل" والذي اتسم بالأدب والاحترام، فبعد ثلاثة قرون من الحكم أقرت الأقلية البيضاء بالهزيمة، وسلمت السلطة للأغلبية السوداء.
في هذه الانتخابات فاز "نيلسون مانديلا" ليصبح أول رئيس أسود لجنوب إفريقيا. وشكّل حكومة ضمت أعضاء من حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والحزب الوطني وحزب إنكاثا وغيرهم. وبعد إقرار الدستور الجديد انسحب الحزب الوطني من حكومة الوحدة الوطنية، وأصبح الحزب المعارض الرئيسي في جنوب إفريقيا.

وفي خطاب الانتصار، تحدث مانديلا، واستعرض في بدايته فظائع النظام العنصري، لكنه أكّد على ضرورة نسيان الماضي، وأهمية التسامح، ودعا كل أبناء الشعب لأن يعكفوا على بناء مستقبل أفضل للجميع. وقال موجها حديثه للبيض: "لا نريدكم أن تغادروا البلاد، فأنتم مواطنون مثلنا في جنوب إفريقيا الجديدة".
وفي كل الخطابات التالية التي ألقاها في الأقاليم، كان مانديلا يؤكد على رسالة المؤتمر الأخلاقية، والدعوة للمصالحة وتضميد الجراح، وإحياء الثقة والاطمئنان بين الجميع، وتبديد مخاوف الأقليات، خاصة البيض والملونين والهنود، ويذكِّـر بأن نضال التحرير لم يكن حربا موجهة ضد مجموعة عرقية بعينها، بل كان ضد نظام الظلم والقمع والتمييز العنصري، داعيا جميع أبناء جنوب إفريقيا بأن يتكاتفوا ويتحدوا، ويسيروا صفا واحدا نحو المستقبل.

ومن أقوال مانديلا في تلك المناسبة، والتي تبين جوهر رسالته الإنسانية: "لقد حققنا أخيرا تحررنا السياسي، وها نحن نتعهد بتحرير جميع أبناء شعبنا من قيود الفقر والحرمان والشقاء، ومن كل أنواع العنصرية والتعصب، إن هذه الأرض الجميلة لن تشهد بعد اليوم ظلم أحد من أبنائها". مضيفا: "التحولات التي تحققت، والانتصارات التي أحرزت لم تكن بجهد الأبطال والقادة فقط، بل كانت بفضل شجاعة الإنسان العادي في بلدي". "إنني أؤمن بأن في أعماق كل إنسان رصيد من الرحمة والتسامح والخير، ولا يُولد أحد وفي داخله كُره للآخرين بسبب لونهم أو عرقهم أو دينهم؛ فالكره يُكتسب فيما بعد في الأجواء غير الصحية، وما دام الإنسان قادرا على أن يتعلم الكراهية، فهو قادر على أن يتعلم الحب؛ لأن الحب أسهل وأسلس على قلوب البشر من البغضاء والكراهية. كنت أرى لمحات الإنسانية حتى لدى السجّان وحراس السجن وفي أحلك الأوقات، صحيح أنها كانت تظهر لفترات قصيرة جدا لكنها كانت كافية لطمأنتي بأن جذوة الخير باقية في نفس كل إنسان". "لقد أصبح تحرير الظالم والمظلوم رسالتي في الحياة، منذ اللحظة الأولى التي تخطيت فيها عتبة السجن. صحيح أننا حصلنا على حريتنا، لكننا لم نخـطُ سوى الخطوة الأولى في رحلتنا على طريق الحرية الطويل؛ فالحرية ليست فقط التحرر من الأغلال، لكن الحرية أن تعيش حياة تحترم فيها حرية الآخرين، وتعززها".

وفي عام 1996، أقرت جنوب إفريقيا دستورا جديدا للبلاد؛ تضمن فصولا كثيرة من مواد الحقوق والحريات والمساواة الكاملة بين جميع المواطنين. تـخلّى مانديلا عن زعامة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وأفسح المجال لنائبه "تايو مبيكي" ليصبح رئيسا للحزب. وفي عام 1999، فاز حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بمعظم مقاعد البرلمان (266 من 400 مقعد)، وانتخب أعضاء البرلمان مبيكي رئيسا للبلاد.

وهكذا دخلت البلاد طورا جديدا، ومختلفا بالكامل؛ وإن نال الشعب حريته وكرامته واستعاد إنسانيته، إلا أن مشاكل الفقر والجريمة والإيدز ما زالت تعصف بالبلاد، وتعتبر من أهم التحديات التي تواجهها حكومات جنوب إفريقيا.

وفي حزيران وتموز من العام 2010، وبينما كان الفصل صيفا في شمال الكرة الأرضية، كان الفصل شتاءً في جنوب إفريقيا، وكان هذا موعدها مع بطولة كأس العالم، والتي تنظم لأول مرة في القارة السمراء، وكانت هذه فرصة مناسبة لتظهر للعالم الوجه الجديد لجنوب إفريقيا.



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2
- الفيزون في جامعة النجاح
- سبعة أشكال في حُبِّ وكُرْه الجَمال
- أثر الربيع العربي على المرأة العربية
- عيد الأم في الربيع العربي
- الإيمو .. الضحية والجلاد
- المتضامنون الأجانب والقرضاوي وزيارة القدس
- الموقف الملتبس من الثورة السورية
- هروب معلم وتلاميذه من المدرسة
- توطين جماعات الإسلام السياسي
- كيف واجهوا اللحظات الأخير قبل الموت ؟
- الفن على جبهة الصراع
- في عيد الحب
- فتاوى على الهواء، وبأسعار منافسة
- كيف أصبحت إيران المهزومة قطب إقليمي ؟
- فتيات سجينات – قصص مروعة
- إشكالية المرأة الإعلامية - الإعلاميات الفلسطينيات نموذجا .
- نساء بلا وجوه
- عندما نكتب عن غزة


المزيد.....




- رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن ...
- وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني ...
- الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
- وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله- ...
- كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ ...
- فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
- نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
- طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
- أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 3-3