أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3















المزيد.....


مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3


عبد الغني سلامه
كاتب وباحث فلسطيني

(Abdel Ghani Salameh)


الحوار المتمدن-العدد: 3739 - 2012 / 5 / 26 - 14:43
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


الكفاح من أجل الحرية

بدأ كفاح الشعب الأفريقي لنيل حريته منذ أن وطأ "البوير" الهولنديين أرضهم قبل ثلاثة قرون، وامتد أيضا ضد المستوطنين البريطانيين الذين تنافسوا مع "البوير" على مصادرة الأراضي واستعباد السكان ونهب خيرات وثروات البلاد تمهيدا للاستحواذ على كل شيء، وإقامة دولة عنصرية. في البدايات كان الصراع بين السكان الأصليين الأفارقة والمستعمرين البِيض على الأراضي والمواشي، ثم صار كفاحا سياسيا لنيل الحرية وتقرير المصير وإقامة نظام ديمقراطي.

في السنوات الأولى لتكوين اتحاد جنوب إفريقيا، ظل التطور السياسي للسود بطيئاً، وفي العام 1909 اجتمعت مجموعة من الأحزاب السياسية للسود معلنة احتجاجها على عدم إشراك السود في حكم البلاد. وأرسلت الأحزاب وفداً إلى لندن للحصول على حقوقهم المشروعة، لكن دون جدوى. وفي عام 1911 وجّه الزعيم الإفريقي "بيكسلي إيساكا سيم" نداء إلى جميع الأفارقة، دعاهم فيه إلى تناسي خلافات الماضي، وإلى الاتحاد معاً في منظمة وطنية واحدة، وقال: "نحن شعب واحد، هذه الانقسامات، والتنافس غير المشروع هي سبب كل المصائب التي نعيشها اليوم". وفي مطلع العام التالي 1912؛ اجتمع رؤساء وممثلين عن الشعب والمجتمعات الإفريقية، وممثلين عن منظمات كنسية وغيرهم من الشخصيات البارزة في مدينة "بلومفونتين"، وأعلنوا عن تأسيس المؤتمر الوطني الأفريقي(African National Congress) الذي نادى بمساواة السود بغيرهم، وذلك عن طريق الوسائل الدستورية، وقد حدد الإعلان أهداف المؤتمر الوطني الأفريقي(ANC) المتمثلة بتوحيد الأفارقة جميعا ليكونوا شعبا واحدا، وبضرورة الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.

ورغم أن السنة التي أعلن فيها عن تأسيسه شهدت مذبحة "بولهوك" البشعة، التي قُتل فيها مائة وثلاثة وثمانون من الفلاحين الأبرياء، إلا أن المؤتمر الوطني الإفريقي التزم بمنهج الحوار في تعامله مع السلطة العنصرية؛ واستمر يعتمد الحوار حتى استلام الحزب الوطني الحكم عام 1948؛ ولم يكن حتى ذلك التاريخ يتبنى الأساليب الكفاحية الأخرى، وكانت أطره التنظيمية غير فاعلة، وقاعدته الجماهيرية ضعيفة، إلا أنه كان الإطار الرئيسي والأهم في التعبير عن مطالب الشعب الإفريقي لنيل الحرية، إذ كان الحزب الشيوعي يضم في صفوفه أغلبية بيضاء, ومع ذلك أصدرت الحكومة قانون مكافحة الشيوعية في العام 1950، وكانت الحكومة تتذرع بهذا القانون لاعتقال أي شخص يناهض سياستها العنصرية؛ فتتهمه أنه شيوعي. وفي العام 1960 قامت بحظر نشاط حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي"، وبقية الأحزاب السياسية المناهضة للنظام، وظلت الحكومات المتعاقبة تضرب بيد من حديد كل المعارضين لسياسة التمييز العنصري.

تصاعدت الاحتجاجات على سياسة الفصل العنصري في عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وفي عام 1960 اندلعت مظاهرات عارمة بدعوة من حزب "المؤتمر القومي الإفريقي"، وأطلقت الشرطة الرصاص على المتظاهرين، فقتلت 69 مواطنا من السود.

وفي العام 1976 احتج طلاب المدارس السود في "سويتو" وهي من ضواحي "جوهانسبرغ" على سوء النظام التعليمي، وفرض تعليمهم اللغة الأفريكانية بدلا من الإنجليزية، فقاموا بتنظيم مظاهرات شعبية، سرعان ما تحولت إلى انتفاضة كبرى، لكن الأجهزة الأمنية تعاملت معها بمنتهى القسوة، وفتحت النار على المتظاهرين؛ فقتلت 23 شابا، وجرحت ما لا يقل عن 280 شخص.

ومع تزايد الانتقادات العالمية لسياسة التمييز العنصري، اعتمدت جنوب إفريقيا في العام 1983 دستورًا جديدًا، لكن الدستور الجديد لم يمنح السود أي حقوق سياسية، ثم أرادت تلطيف عنصريتها بإنشاء برلمان ثلاثي يضم الهنود والملونين مع إبقاء حق النقض بيد البيض، لكنه هذا العرض قوبل بالرفض، مما أدى إلى تفاقم أعمال العنف في عموم البلاد. وفي تلك الفترة برزت حركات سياسية شعبية قوية ذات صلات بحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، كان أهمها الجبهة الديمقراطية المتحدة UDF والتي اختارت "مانديلا" رئيسا فخريا لها، وقد تركز اهتمامها على تنسيق الاحتجاجات ضد الدستور العنصري الجديد، والاحتجاج على البرلمان الثلاثي (العنصري) لعام 1984، ولكن الجبهة سرعان ما أصبحت منظمة قوية ضمت تحت جناحيها ما يزيد عن ستمائة منظمة مناهضة للعنصرية من النقابات والجمعيات والاتحادات الطلابية.

ومع تصاعد الاحتجاجات محليا، وترافقها مع حركة عالمية نشطة كان الهدف منها فضح ممارسات النظام العنصري؛ بدأت دول السوق الأوروبية ودول الكومنولث والولايات المتحدة منذ عام 1986 بتطبيق حظر تجاري لبعض السلع على جنوب إفريقيا، بالإضافة للحظر العسكري. وكان الهدف من تلك العقوبات إجبار حكومة جنوب إفريقيا على إلغاء سياسة التمييز العنصري.

وفي سبتمبر عام 1989 تنحي الرئيس "بوتا" عن الحكم بسبب مرضه، واختير "دو كليرك" خلفًا له. والذي في بداية عهده بادرت الحكومة لاتخاذ بعض الإصلاحات السياسية، فرفعت الحظر عن حزب "المؤتمر الوطني الإفريقي" وبقية الأحزاب التي كانت محظورة، وأطلقت سراح بعض السجناء السياسيين ومنهم "نيلسون مانديلا". ثم شرعت بحوار مع أحزاب المعارضة حول مستقبل البلاد. وفي عام 1991 أعلن "دو كليرك" عزمه على إلغاء ما تبقى من قوانين الفصل العنصري. كما أعلن عن نيته تكوين حكومة متعددة الأعراق، وعن حق جميع المواطنين في التصويت.

سمات وخصائص كفاح المؤتمر الوطني الإفريقي

كانت المهمة الأولى أمام المؤتمر الوطني الإفريقي هي إعادة الاعتبار لشخصية الإنسان الإفريقي التي محقتها سياسة التمييز العنصري؛ فقد أدت عقود طويلة من الذل والعبودية إلى فقدان الإفريقي ثقته بنفسه، خاصة وأنه كان يعيش ظروف الفقر والجهل والتهميش، بينما الرجل الأبيض ينعم بالرفاهية، ويسكن المدن العصرية، ويمتلك أحدث الأدوات والمخترعات، وأشد الأسلحة فتكا.

وقد عبّر عن هذا التوجه أحد قادة المؤتمر الوطني الإفريقي "ليمبيدي" الذي كان يمقت عقدة النقص التي يشعر بها السود، ويندد بما أسماه عبادة الغرب والأفكار الغربية وتأليهها، وكان يؤكد على أن الشعور بالنقص هو العائق الأكبر أمام التحرير، ويؤمن بأنه ينبغي على الإفريقيين تحسين صورتهم أمام أنفسهم في أذهانهم أولاً وقبل أي شيء. ومن أجل رفع معنويات مواطنيه كان يقول: "إن لون بشرتي جميل كجمال التربة السوداء في إفريقيا الأم".

بعد حظر الأحزاب السياسية ومنعها من ممارسة أي نشاط (بعد مجزرة شاربفيل)، برزت "حركة الوعي بالهوية السوداء"، وقامت بدور هام لملء الفراغ الناشئ عن تغييب الأحزاب الكبرى عن الساحة، ولعبت دورا كبيرا في تعبئة قطاعات كبيرة من شباب المدن الأفارقة لمعارضين لنظام الفصل العنصري. وكانت هذه الحركة منهجا فلسفيا أكثر من كونها تنظيما حركيا، تقوم فلسفتها على أن تحرير السود أنفسَهم أولا من عقدة النقص المتأصلة في نفوسهم نتيجة ثلاثة قرون من سيطرة البيض هو المقدمة الضرورية لتحررهم من الظلم، وتخلصهم من نظام الفصل العنصري. وقد شكلت أفكار "الوعي الذاتي" للأفارقة السود بداية محفزة لما أصبح أيديولوجيا نضالية مؤثرة بصورة هائلة، في شحن الأجيال من قادة سياسيين، ناشطين، أكاديميين تقدميين ومصلحين اجتماعيين، وكان ذلك في مرحلة حاسمة من مراحل الكفاح التحرري.

وقد أتت جهود النضال في هذا الاتجاه أكُلها، وأثمرت عن جيل جديد مختلف، مؤمن بذاته، يتوق لنيل حريته، وتسري في عروقه دماء جديدة، ويعمل بذهنية إيجابية فاعلة، وقد بدأت الروح الإفريقية تدب في صفوفه، فيما تذوب الفوارق العرقية شيئا فشيئا، لتحل محلها الشخصية الإفريقية بمعناها الأشمل؛ فصار الأسْود يرى نفسه إفريقيا قبل أن يكون من الكوسا أو الزولو أو التسوانا.

المهمة الثانية التي اضطلع بها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي هي صهر التناقضات الموجودة في شعوب جنوب إفريقيا في بوتقة القومية الإفريقية، وقد آمن "ليمبيدي" بأهمية بث الروح القومية الإفريقية، فكتب مقالا تاريخيا بهذا الخصوص جاء فيه: "التاريخ المعاصر هو تاريخ القومية؛ وقد اختُبرت القومية في نضال الشعوب ولهيب المعارك، وأثبتت أنها العلاج الوحيد ضد التسلط الأجنبي وضد الاستعمار الحديث؛ ولهذا تسعى القوى الاستعمارية العظمى لإحباط كافة التيارات القومية عند الشعوب التي تخضع لاستعمارها، وقد شوهت الدعاية الاستعمارية القومية ووصفتها بالشيطان، أو بأنها ضيقة، وهمجية وغير متحضرة، وفي المقابل وصفت كل من يتماهى مع مشروعها الاستعماري، ومن يقدم لها الخدمات بأنه تقدمي وتحرري ومتحضر وواسع الأفق".

وقد رأى مانديلا أن هذه الكلمات لامست وترا حساسا لديه؛ فهو ممن عاش فترة الاستعمار البريطاني، وكان مع التوجهات التي ترى أن البيض متحضرين ومثقفين ومتفوقين، وكان منساقا باتجاه النخبة السوداء التي كانت تسعى السلطات لتشكيلها، وهي التي ستكون متساوقة تماما مع المشروع الاستعماري. لكن مانديلا تنبه لخطورة هذا التوجه، وآمن بأن الطريق الصحيح هو النضال تحت راية القومية الإفريقية.

النضال الإفريقي لم يقتصر على أسلوب واحد، بل أخذ أكثر من شكل، وكان متصاعدا متراكما ومصمما في نفس الوقت؛ بالرغم مما أصابه من إخفاقات وتراجع، وبالرغم من قسوة ووحشية رد الحكومة العنصرية عليه؛ وقد شكَّلَ منهج الحوار مع الحكومة الركيزة الأولى في مسيرة الكفاح التحرري للمؤتمر الوطني الأفريقي؛ إذْ اتسم نضال المؤتمر الوطني الإفريقي في الفترة الأولى منذ تأسيسه عام 1912 وحتى استلام الحزب الوطني الحكم عام 1948؛ بالتزامه منهج الحوار في تعامله مع السلطة العنصرية؛ حيث آمنت قيادة المؤتمر آنذاك بإنسانية البيض في جنوب أفريقيا وإمكانية التغيير بالحوار، وأنه يمكن الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق الإقناع؛ ولكن هذه القناعات تغيرت بعد أن كشف النظام عن جوهرة الاستيطاني اللاإنساني؛ حين واصل سياسة الاقتلاع والترحيل ضد الأفارقة السود ونزع ملكياتهم. ومع ذلك، لم تتخل قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي عن السعي لإيجاد حلول من خلال الحوار. ولكن مع إضافة واستكمال استراتيجيات أخرى؛ هدفها الضغط على النظام العنصري من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات.

مع زيادة انتهاكات حقوق السود، وبعد الإعلان عن الفصل العنصري سياسة رسمية للدولة؛ تداعت بعض القيادات الشابة التي رأت أن الحزب فقد روح المواجهة والقدرة على الصدام والتحدي، وأصبح معزولا عن الجماهير، فقاموا بتأسيس رابطة شباب المؤتمر الوطني الأفريقي، وهي جناح تابع للحزب وامتداد له، كان من بين قادتها "نيلسون مانديلا"، "والتر سيسلو" و"أوليفر تامبو"، أخذوا يطالبون من داخل المؤتمر بتغييرات في الإستراتيجية، وارتأوا أن هناك حاجة لإتباع تكتيكات أكثر قوة وتأثيراً؛ كالدعوة للإضراب والعصيان المدني والمقاطعة وتحدي السلطات، وعدم الرضوخ لقوانين الدولة العنصرية. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الخطوات الاحتجاجية تتطلب أوسع مشاركة جماهيرية، وبالتالي كان على الحزب تقوية أطره التنظيمية وتفعيلها، والتقرب أكثر من الجماهير. وقد تم تبنى هذا النهج من قبل المؤتمر عام 1949، وهو العام الذي تلا استلام الحكم من قبل الحزب الوطني.

ولما كان نظام الفصل العنصري يهدف إلى تكريس الفصل التام بين المجموعات العرقية المختلفة من خلال القوانين، بما فيها فرض قوانين وقيود صارمة على الحركة والتنقل، وكذلك الترحيل الإجباري؛ فقد عمدت حملات التحدي إلى كسر قوانين وأنظمة الفصل العنصري؛ كطلب خدمات مكاتب البريد المخصصة لـ"البيض فقط"، واستخدام القطارات المخصصة للبيض، وكسر قوانين التنقل العنصرية، وقيام الهنود و"الملونين" والـمتطوعين البيض بدخول البلدات الأفريقية بدون الحصول على تصاريح. فضلا عن حملات الإضراب عن العمل. وأصبح النضال الشعبي المدني الركيزة الثانية للكفاح التحرري للمؤتمر الوطني الأفريقي.

في عام 1960 تم إطلاق حملات عصيان ضد قانون التنقل المعروف بِ"قانون المرور"؛ وفي آذار من نفس العام طلب المؤتمر القومي الإفريقي من الناس ترك تصاريحهم في البيوت والتجمع في مراكز الشرطة، حتى لو أدى الأمر إلى اعتقالهم، فبادرت الشرطة بفتح النار على الحشود السلمية في "شاريفيل"، وقتلت العشرات. هذا الحدث وضع نهاية لطريقة الاحتجاج السلمي التي استمرت لعدة عقود من الزمن؛ حيث تم حظر المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) وحزب المؤتمر القومي الأفريقي ((PAC، كما تم اعتقال الآلاف من النشطاء.

ومع أهمية الحوار والمقاومة المسلحة في محاصرة نظام الفصل العنصري؛ إلا أن هذه الأنماط من النضال الجماهيري الواسع شكّلت الركيزة الأكثر أهمية في النضال داخل البلاد؛ والتي عبرت عن نفسها في الحملات الشعبية التي قادها المؤتمر الوطني الأفريقي؛ مثل "حملة التحدي" ضد القوانين غير العادلة للخمسينيات. وكان أهم ما أنجزته الحركة الجماهيرية هو تشكيل الحركة الجماهيرية الديمقراطية (MDM)، التي تمكنت من إملاء الفراغ الناشئ عن حظر النشاطات والتشكيلات السياسية، بما فيها حظر نشاطات المؤتمر الوطني الأفريقي. وكان أهم ما حققته الحركة هو تجميع وتوحيد جميع التشكيلات المناهضة للأبارتهايد؛ بما فيها نقابات عمالية واتحادات تجارية، منظمات طلابية، منظمات نسوية، منظمات غير حكومية، مكونات مجتمع مدني، تشكيلات أكاديمية، وتشكيلات متعاطفة من قطاع الأعمال وغيرهم. وقد عملت جميع هذه التشكيلات تحت مظلة الجبهة الديمقراطية الموحدة (UDF) التي واصلت الحملات المنظمة ضد نظام الأبارتهايد، وكان من بينها "حملة المليون توقيع" التي تدين الفصل العنصري، مقاطعة الإيجار في"سويتو"، والإضراب عن الطعام لمدة يومين احتجاجا على استثناء المواطنين السود من المشاركة في الانتخابات البرلمانية.

وفي العام 1960، نجح مانديلا في إقناع قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي بتبني خيار الكفاح المسلح، وتم الإعلان عن تأسس الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي (أوفخنتو ويسيزوي) المعروف اختصارا "MK"، ويعني رمح الأمة. وكان هدفه الرئيسي مهاجمة وتخريب مواقع عسكرية وأهداف محددة دون إيقاع إصابات، ودون مهاجمة المدنيين.

وهكذا أصبحت المقاومة المسلحة الركيزة الثالثة للكفاح التحرري للمؤتمر الوطني الأفريقي، وقد اعتبر مانديلا تلك الخطوة بأنها حاسمة في تاريخ الحزب الذي ظل خمسين عاما يعتبر العمل السلمي ونبذ العنف من صميم سياسته بلا جدال أو نقاش. وأضاف: "سيكون الحزب من الآن فصاعدا تنظيما مختلفا؛ فقد وضعنا أقدامنا على طريق جديد تحفه المخاطر؛ إنه طريق العنف المنظم الذي ليس بمقدورنا أن نعلم نهايته، وقد أصدرنا تعليمات مشددة للمقاتلين بأنا لن نقبل بأي خسائر في الأرواح، فإذا لم تحقق الأعمال التخريبية النتائج التي نسعى إليها، فسوف ننتقل إلى المرحلة التالية وهي حرب العصابات. وكنّا نأمل أن أعمال من هذا القبيل سوف تجبر الحكومة على الجلوس حول مائدة المفاوضات".

وفي تبنيه الكفاح المسلح كان الحزب متأثرا بأجواء تلك المرحلة في الستينات؛ إذْ بدأ الاستعمار ينكشف عن مناطق كثيرة من القارة السمراء، وبدأت العديد من الدول الإفريقية تنال استقلالها، وفي المناطق التي لم ينحسر عنها الاستعمار مثل جنوب غرب إفريقيا بدأ الكفاح المسلح ضده يتعاظم ويتزايد؛ ففي ناميبيا قامت منظمة "سوابو" بسلسلة من العمليات العسكرية، وكذلك تصاعدت المواجهات وحرب العصابات في الجنوب الشرقي في الموزمبيق، وزيمبابوي (روديسيا) حيث تحالف حزب زابو مع المؤتمر الوطني الإفريقي ضد حكم الأقلية البيضاء، وأيضا في الوسط في أنجولا.

ومع أن الحزب تبنى الكفاح المسلح، إلا أنه ظل مؤمنا بالكفاح السلمي المدني؛ وفي ممارسته للعنف المسلح كان حريصا على تجنب القتل وسفك الدماء؛ وقد كان القس الجنوب إفريقي "دزموند توتو" يدعو إلى حل "لاعنفي" في الكفاح من أجل الحرية الذي نهض إليها السود في بلاده، على غرار غاندي ومارتن لوثر كنغ وستيفن بيكو، وكان يؤمن بأن القمع ينزع الإنسانية عن القامع بقدر ما ينزعها عن المقموع. وكان ينصح أصحابه دائما أن يصونوا كرامتهم، ويذكّرهم بأن لا أحد بمقدوره أن يسلبهم إياها. وفي جنازة الزعيم الطلابي "ستيفن بيكو" الذي قضى تحت التعذيب في إحدى مخافر الشرطة بجنوب إفريقيا العام 1977. كان أكثر من 30 ألف شخص حضروا تلك الجنازة، وينتابهم شعور بالحزن الممزوج بالغضب بالكاد استطاعوا كظمه. في ذلك اليوم حثهم القِس "توتو" على الغفران، كما كان يفعل مرات عديدة من قبل وكما فعل تكرارا من بعد؛ الغفران للشهداء وللخونة على حد سواء، فحث أصدقاء الفقيد على الصلاة من أجل قادة البلاد ومن أجل الشرطة، ولاسيما قوى الأمن وحراس السجن حتى يدركوا أنهم أيضا بشر. وقال توتو: "إني أسألكم أن تصلوا من أجل البيض في جنوب إفريقيا". ولذلك مُنح توتو جائزة نوبل للسلام العام 1984 تقديرا لكفاحه السلمي ضد التفرقة العنصرية. كما كان قد منح من قبله زعيم المؤتمر الوطني الإفريقي "ألبرت جون لوتولي" جائزة نوبل للسلام عام 1960، وأيضا الزعيم مانديلا نال نفس الجائزة عام 1993.

أما القائد "ستيفين بيكو" فقد كان يهدف لتغيير الوعي الأسود بجنوب أفريقيا، تبعاً لمقولته الشهيرة: "أقوى سلاح في يد المقهورين هو عقلهم ووعيهم". ومقولته أيضا: "لقد بدأنا مسعى للإنسانية الحقيقية، وفي مكان ما في الأفق البعيد، يمكننا أن نرى الجائزة المتألقة، دعونا نسير للأمام بشجاعة وتصميم، مستمدين القوة من محنتنا المشتركة ومن أخوّتنا، ومع مرور الوقت سنكون في وضع يمكننا فيه أن نمنح جنوب أفريقيا، لتكون هي الهدية الأعظم- بوجه أكثر إنسانية".

مع تواصل النداءات لحملات الدعم والمساندة الأممية من بقية العالم، ومع توسعها، وزيادة زخمها، تشكلت الركيزة الرابعة للكفاح، وهي مواصلة الجهود من أجل ممارسة ضغط دولي على النظام عبر المقاطعة، وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات، وهي الإستراتيجية التي بدأها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي منذ وقت مبكر، حيث ناشد زعيم المؤتمر الإفريقي الشعب البريطاني عام 1959 لمقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. ومنذ تلك اللحظة فصاعدا؛ أرسل المؤتمر الوطني الأفريقي الوفود لإطلاع المجتمع الدولي على ممارسات نظام الفصل العنصري، والحاجة الضرورية لعزله ومقاطعته، وفرض عقوبات اقتصادية عليه؛ فقد توجه "مانديلا" إلى أثيوبيا لحضور القمة الإفريقية وللقيام بجولات مكوكية على معظم دول القارة لكسب الدعم السياسي، والحصول على معونات عسكرية تمهيدا لانطلاقة العمل المسلح.

وقد كان الضغط الدولي، وحملة الانتقادات والعقوبات الموجهة ضد نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا من بين أهم عوامل انهيار النظام فيما بعد، وعلى سبيل المثال، ولتوضيح أثر الانتقادات الدولية على النظام، فقد أثارت مذبحة شاربفيل (1960) اضطرابات في جميع أنحاء البلاد، وتسببت للحكومة في أزمة وحرج شديدين، فقد توالت الاحتجاجات الغاضبة من كل أنحاء العالم، بما في ذلك الخارجية الأمريكية، وتدخل مجلس الأمن الدولي لأول مرة في شؤون جنوب إفريقيا بإلقاء اللوم على الحكومة، ومطالبتها باتخاذ إجراءات لتحقيق المساواة بين كل الأجناس، وقد أدت موجة الانتقادات الدولية لانهيار سوق جوهانسبرغ للأوراق المالية، ومبادرة العديد من رؤوس الأموال للفرار من البلاد، وبدأ الكثيرون من البيض باتخاذ تدابير الهجرة، وأخذ البعض يطالبون الحكومة بتقديم تنازلات للسود.

الركيزة الخامسة في نضال المؤتمر الوطني الإفريقي هي المفاوضات المباشرة مع العدو، وقد بدأها "مانديلا" بنفسه أثناء وجوده في السجن وبشكل سري، لقناعته أن المفاوضات هي المحصلة الطبيعية لجميع مسارات الكفاح، وأنها تتويج للتراكمات النضالية، ثم خاضها الحزب علنا، لكن دون أن يسقط الخيارات الأخرى كالمقاومة المسلحة والشعبية والضغوطات الدولية. وبعد تحرره وفي أثناء زيارته لسجناء مضربين في سجن جزيرة روبن، قال لهم مانديلا: "إني متعاطف معكم، وأعلم أن كل جندي يتمنى أن يهزم عدوه في ساحة المعركة، لكن النصر بهذه الطريقة وفي حالة مثل حالتنا غير ممكن، فقد انتقل النضال إلى مائدة المفاوضات".

نرجو المتابعة في الحلقة القادمة لنعرف كيف انهار النظام العنصري
قراءة الموضوع كاملا
http://abedelghani.blogspot.com/



#عبد_الغني_سلامه (هاشتاغ)       Abdel_Ghani_Salameh#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 1-2
- الفيزون في جامعة النجاح
- سبعة أشكال في حُبِّ وكُرْه الجَمال
- أثر الربيع العربي على المرأة العربية
- عيد الأم في الربيع العربي
- الإيمو .. الضحية والجلاد
- المتضامنون الأجانب والقرضاوي وزيارة القدس
- الموقف الملتبس من الثورة السورية
- هروب معلم وتلاميذه من المدرسة
- توطين جماعات الإسلام السياسي
- كيف واجهوا اللحظات الأخير قبل الموت ؟
- الفن على جبهة الصراع
- في عيد الحب
- فتاوى على الهواء، وبأسعار منافسة
- كيف أصبحت إيران المهزومة قطب إقليمي ؟
- فتيات سجينات – قصص مروعة
- إشكالية المرأة الإعلامية - الإعلاميات الفلسطينيات نموذجا .
- نساء بلا وجوه
- عندما نكتب عن غزة
- توقعات العام 2012


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - عبد الغني سلامه - مسيرة الحرية في جنوب إفريقيا العنصرية 2-3