|
القصيدة سيرورة سردية : قراءة في ديوان - إنتماءات لمدن الصحو -
معين جعفر محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3738 - 2012 / 5 / 25 - 15:28
المحور:
الادب والفن
القصيدة سيرورة سردية : قراءة في " إنتماءات لمدن الصحو " للشاعر خالد الخزرجي نقد : معين جعفر محمد / العراق
هي سمة ثابتة في شعر خالد الخزرجي أن للقصيدة ، عنده ، سيرورة سردية ، محكومة بنظام يجعل الخطاب الذي تتشكل بمقتضاه ، قصصيا أكثر منه شعريا . و إذا كان هذا النحو من الأداء الشعري غير جديد على القارئ ، فإنه يؤشر فضيلة إنجاز توافرت للشاعر في القصائد الثلاث و الثلاثين التي يضمها ديوانه الجديد الموسوم ب " انتماءات لمدن الصحو " . فالمعتاد في قصائد تتخذ سيرورة سردية ، أن تمضي الأخيرة على نحو حكائي... في حين استطاع شاعرنا تخطي هذه الحدود بإخراجه سيرورة السرد من مجالها الحكائي إلى حيث تكتسب طبيعة "قصصية" ! غير أن ما يؤخذ على الشاعر الخزرجي ، في هذا المقام ، أن تركيز جهده على تحقيق استجابة لمقتضيات فعل القص ، قد شغله عما تتطلبه الصياغة الشعرية من توفر على أسلوب رفيع ، تتحقق من خلاله شعرية الخطاب الذي ينبغي أن يرتكز على ( بنية معززة بنسيج ) تتمثل فيه ( ميزة التعبير عند أية درجة معطاة ) ... على حد تعبير جون كراو رانسم . إن افتقار الخطاب إلى هذه اللازمة ، يسحب آثاره السلبية على الجهد النقدي الذي يتوخى تجلية جوهر الشعرية في الخطاب ؛ لذلك فإن أية معالجة نقدية لقصائد هذا الديوان ، لا بد لها من التركيز على المعاني المعطاة بصفتها غاية مقصودة لذاتها بغية أن تعوض عن غياب عناصر الشعرية الفنية و توفر للخطاب مبررات وجوده . يمكن عزو ذلك إلى طبيعة اللغة التي تؤدى بها قصائد هذه المجموعة ، فهي مكتوبة بلغة تتوخى التعبير المباشر ، و تحتكم إلى منطق عام ، بسبب افتقارها إلى ما يحقق استثنائيتها كلغة شعرية ... و من جراء هذا ، لا تقوى على إسناد نفسها أمام أول قراءة لها إذ تبوح بمكنوناتها دفعة واحدة طرا ، مخالفة بذلك منطق الخطاب الشعري الرصين الذي يفترض صياغة فنية رفيعة المستوى تجعل الجملة الخاضعة لها منطوية على طاقة إيحائية قابلة للتفجر و لكنها تبقى – مع كل قراءة – تخبئ خزينا من الإيحاءات المعلقة لقراءة أخرى . و لكي يتحقق هذا المطلب ، لا بد للشاعر من تخطي المحور الإختياري ، في بنينة الخطاب الشعري ، إلى حيث يتم له الإشتغال على مستوى المحور الإستبدالي الذي ، من طريقه ، يتأتى له الإرتقاء بلغته عبر خلقه أنساقا تخرج باللغة من حقل السيرورة التداولية إلى حيث تعمل بمقتضى سيرورتها الخاصة بوصفها لغة [ شعرية ] تقوم على أساس تعالقات إسنادية لا تخضع لأحكام البناء الجملوي المعتاد بقدر ما تنطوي على خرق منظم مقصود ، لهذه الأحكام ، محققة بذلك ذاتها . لكأن الشاعر خالد الخزرجي قد تعمد توجيه العملية النظمية نحو خلق شكل تتحقق من خلاله أدبية الخطاب و يسد مسد ما هو مفتقد فيه . من هنا تتأتى مسوغات التركيز على عنصر السرد بصفة الأخير منحى تمضي القصيدة على وفقه ! لعل خير أنموذج تتجسد فيه دلائل ذلك ، قصيدة ( تجليات الفتى مهران) التي يتحقق فعل القص فيها من خلال توفر عناصره الأساسية : حيث الاحتفال ب ( شخصية مركزية ) ، تتمحور حولها شخصيات ثانوية ، وأن سلوكها المرصود عبر قناة السرد ، محكوم ببعدي الزمان و المكان . يعزز هذا وجود حدث تجري معالجته في القصيدة , تغاير بتغاير هذه العناصر الثلاثة و تحولها من طور إلى آخر . يضاف إلى هذا خضوع فعل السرد هنا لنظام حيث الخطاب مقسم إلى كيانات ، يمثل كل واحد منها بنية سردية ، سرعان ما تفضي إلى بنية سردية أخرى عبر حلقة ربط ، تعمل على خلق تعالقات منطقية بين هذه الكيانات ، لتوحدها في نطاق متن حكائي يعزز تماسك عناصر الخطاب . من نحو ذلك ، أن الأسطر الثمانية الأولى تمثل بنية سردية استهلالية ، يتم من خلالها التعريف ب ( الفتى مهران ) إذ تصوره شخصا قرويا ، حزينا ، مهموما ، محبطا ، ممتحناً ( و بعينيه بحر دموع تكفن أيامه البائسه – ص 101) و إذ تبدأ عملية السرد من نقطة معينة في حياة هذه الشخصية ( يوم غادر قريته - ص 101 ) مهاجرا إلى المدينة ... فإن هذه المرحلة تشغل فضاء مداه أبيات موزعة على ثمانية أسطر ، و إن التحول إلى مرحلة سردية تالية ، يتم التمهيد له في السطر الذي يليها ( ص9 ) ، لتبدأ بنية سردية ثانية يجري فعل السرد فيها بطريقة الاسترجاع ( فلاش باك ) ؛ و هنا تسلط الأضواء على الأبوين هذه المرة ، و العلاقات الأسرية للذات المروية عنها ، و من خلال ذلك ، ينكشف النقاب عن سمة أخرى ، تعد سببا للحزن و الهم اللذين يفترسانه، و تعمق الشعور بالتعاطف مع هذه الذات الإنسانية ، و ذلك حين يتبين كونه المعيل الوحيد لأسرته ... و هكذا حتى تحين مرحلة لاحقة نجد ( مهران ) فيها قد استبد به شعور بالاغتراب و هو يعيش في كنف بيئة غير بيئته التي نشأ و ترعرع فيها أصلا . يتعمق هذا الشعور حيث تحقق القصيدة تباينا بين ( مهران ) الأمس و ( مهران ) الحاضر : فالأول الذي عاش ( منبهرا بضياء الفوانيس – ص 104 ) صار يود لو يستطيع التطبع و التكيف لأضواء المدينة وشوارعها : ( ليته الآن يألف هذا الضياء / و هذي الشوارع – ص 104 ) ثم تشتد الأزمة النفسية التي تعصف بهذه الشخصية ، إذ يتبين أنه ( .. لم يألف النوم في غرف " الصاج " / لم يعرف " الأتكيت " – ص 104 ) إن هذه الأزمة التي تعالج في هذه القصيدة عبر الرمز الإنساني ( مهران ) ، هي أنموذج لحالة اجتماعية واسعة تحكي وضع أناس يعيشون أسيري أحلام كاذبة ، سببها الانبهار بحياة المدينة و ما تعد به من مغريات . هكذا يتبلور القصد المبيت في ثنايا الخطاب الشعري – القصصي ، متمثلا بتسفيه هذا الانبهار و ترسيخ قيمة عليا تتمثل في انتصار الطبععلى التطبع ، السجية المتأصلة على النزوة الطارئة ! و ذلك إذ يفيء مهران إلى رشده ( ... يرتد ، يجتاز كل حدود مداراته / يتشبث ، أتعبه الدوران و لكنه / ثابت / ثابت كالشجر – ص 107 ) و إذا كان الشاعر خالد الخزرجي في قصيدة ( تجليات الفتى مهران ) ، معنيا بعرض أزمة الآخر ، فانه في قصيدة ( الساعة ) يطرح أزمته الذاتية بصفته شاعرا خاضعا لضغوط قوتين خارجيتين ، هما صوت طفلته التي تلح مطالبة إياه بالتخلي عن مبررات وجوده – الكتب و ما ترمز إليه من مغزى كبير في حياته – و صوت الزوجة وهي تجادله محاولة دفعه بالاتجاه الآخر نفسه ... و من جراء هذا الوضع ، ينتابه شعور بالإحباط يتخذ شكل مفارقة ذات وجهين متعارضين ، يعمقان الإحساس بالخيبة و انقطاع الرجاء ، بالنسبة لشاعر كرس معظم حياته لفنه ليكتشف في لحظة عابرة عجزه عن الوفاء بمتطلبات الارتقاء بالمستوى المعيشي لأسرته و الوصول بها إلى وضع يتيح لها أن تحيا الحياة العصرية التي هي حلم مشروع لكل أسرة : ( رأسي كالموقد يغلي ، طفل يلثغ : / بابا .. / دع كتب الشعر ، النثر ، الكلمات الجوفاء / الوقت المرسوم يمر ، تجادلني زوجتي : هل غيرنا أصناف أرائكنا ؟ - ص 5 ) . بعد كل ما تقدم ذكره ، و بناء عليه ، ألا يحق لنا أن نتساءل : هل يكفي القصيدة التشبث بمعانيها المعطاة كوسيلة لتحقيق هويتها الاجناسية بوصفها " قصيدة " أولا ثم ، بعدئذ " شعرية " ؟ و هل يكفي اللجوء إلى أسلوب السرد القصصي المنظم ، إجراءا لتعويض الخطاب عما هو مفتقد فيه ؟
إن الإجابة على هذين التساؤلين واردة ضمن تناولنا للنماذج المشار إليها آنفا ، حيث يتعذر علينا التعامل مع النص خارج حدود معانيه المباشرة ، لخلو تلك النماذج من العناصر الأسلوبية التي يمكن الانطلاق منها لبلورة سمات فنية يفترض توافرها في الخطاب الشعري و التي يمكن التوفر عليها من طريق خلق علاقات إسنادية خارقة للمألوف ، من شأنها الخروج باللغة من نطاق الاستعمال التداولي إلى حيث تحقق خلق صور استثنائية تستفز الذهن و توقظه من سبات العادة ! لا أعني بهذا أن افتقاد هذا المطلب مطلق في اللغة المؤداة بها قصائد هذه المجموعة ، بل ما أعنيه أن تحققه يتم على نطاق ضيق في سطور من هذه القصيدة أو تلك ! من نحو الأسطر الأربعة لتي تستهل بها قصيدة ( خذ وردة الجمر .. اعطني اسمي ) التي تتسم لغتها بانزياح صارخ و تعتمد ، أصلا ، على ما يسميه قدامى العرب النحويون ب ( المعنى غير الحقيقي ) الذي يتمخض عادة عن عبارات تطلق عليها ، في النقد الجديد ، تسمية " العبارات الكاذبة " ، التي تعد واقعة أسلوبية مناسبة لخلق مناخات خاصة عبر حالة يجري تمثلها ذهنيا و لكن من المعاياة إدراكها ، و إن سر متانة نسيجها و موطن قوتها ، كامن في ميزتها هذه : ( خلعت بنفسجة ثياب الغيم ، / و انتبذت مكانا من رماد .. / و توضأت بدم النجوم .. و فضضت ورد الندى / و رمت أجنتها البلاد ! – ص 44 ) يلاحظ هنا أن إسناد الفعل ( خلعت ) إلى ( بنفسجة ) قد ترتبت عليه أنسنة الأخيرة ، و إن سوق ( ثياب ) بصفتها مفعولا للفعل نفسه ، يبدو منطقيا في الظاهر ، إلا انه يفقد سمته هذه بإضافته إلى ( الغيم ) الذي ينتقل بالمضاف من حقل الأشياء الملموسة إلى المجردات ، ينسحب ذلك على الجملة الثانية المعطوفة حيث نجد أن وصف المفعول به ( مكانا ) بالفضلة من الجار و المجرور ( من رماد ) قد أدى إلى إحداث انحراف في سيرورة المنتوج الدلالي المحمول في طياتها ؛ على النحو نفسه ، يلاحظ أن اكتناز العبارة الشعرية و شحنها بطاقة إيحائية ، متأت من هذه التعالقات الاسنادية التي تخرج على نطاق المألوف لتدخل في حقل الصياغة اللغوية الاستثنائية ، فيترتب على هذا خضوع النسق اللغوي لمنطق خاص ، تتبلور في ضوئه فنية الخطاب الذي يصبح ، في هذه الحالة ، مكتفيا بذاته ، حيث اللغة لا تحيل إلى أي شيء خارجها ، بل إلى ذاتها فحسب ! هذا من جهة . و من جهة أخرى ، فقد توافرت في هذه الأسطر سمات فنية أخرى ، تعزز البناء الشكلاني للقصيدة ؛ من نحو ذلك ، مثلا ، ابتداء الجمل بأفعال ماضية خلقت متوالية تمثلت فيها بنية إيقاعية ، كان يمكن أن تزداد تبلورا لو أنها تحررت من ثقل واو العطف ، تعززها موسقة الأبيات و تنغيمها من طريق عدد من التماثلات الصوتية الواقعة في أواخر المفردات ، مثل التاء في : ( خلعت ، انتبذت ، توضأت ، فضضت ، رمت ) ثم استعمال كلمات ذات أحرف لينة قابلة للمد ، يسرت عملية تنغيم الجملة الشعرية و إدامة التدفق الموسيقي فيها ، من نحو الألف غير المكفوفة عملا ، في ( ثياب ، مكان ، رماد ، الندى ، البلاد ) و كذلك الواو في ( النجوم ) .
معين جعفر محمد / العراق
#معين_جعفر_محمد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المعنى : الحركة من المؤلف إلى القارئ
-
نقد استجابة القارئ لستانلي فيش / كتابة : كريس لانغ
-
قصيدة شعرية
-
مدونة الأعراف
-
بعض خصائص النظرية المعاصرة/ ح 2
-
بعض خصائص النظرية المعاصرة
-
قصيدة رثاء
-
رثائية
-
قصائد قصيرة جدا
-
قصائد شعرية
المزيد.....
-
مصر.. تأييد لإلزام مطرب المهرجانات حسن شاكوش بدفع نفقة لطليق
...
-
مصممة زي محمد رمضان المثير للجدل في مهرجان -كوتشيلا- ترد على
...
-
مخرج فيلم عالمي شارك فيه ترامب منذ أكثر من 30 عاما يخشى ترح
...
-
كرّم أحمد حلمي.. إعلان جوائز الدورة الرابعة من مهرجان -هوليو
...
-
ابن حزم الأندلسي.. العالم والفقيه والشاعر الذي أُحرقت كتبه
-
الكويت ولبنان يمنعان عرض فيلم لـ-ديزني- تشارك فيه ممثلة إسرا
...
-
بوتين يتحدث باللغة الألمانية مع ألماني انتقل إلى روسيا بموجب
...
-
مئات الكتّاب الإسرائيليين يهاجمون نتنياهو ويطلبون وقف الحرب
...
-
فنان مصري يعرض عملا على رئيس فرنسا
-
من مايكل جاكسون إلى مادونا.. أبرز 8 أفلام سيرة ذاتية منتظرة
...
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|