ترجمة مريم الهلال
مقدمة
مكانة المرأة في الإسلام من أكثر المواضيع خلافاً وخطورة، ليس فقط لدى المسلمات ومن يمثل حقوقهن في إطار حقوق المرأة في العالم الإسلامي، بل إنها مادة اهتمام ودراسة عند المسلمين الأصوليين أيضاً. قد يجد القارئ العادي نفسه في ارتباك نظراً للمؤلفات الكثيرة التي عالجت وما تزال تُعالج هذا الموضوع بسطحية وانحيازية. فهناك من يتحدث عما أنجز الإسلام بحق المرأة ويدعي أن الإسلام هو الذي منح المرأة حقوقها وكرامتها. وهناك من ينسب جميع السلبيات في وضع المرأة المسلمة إلى الإسلام.
وبما أننا نعني بالإسلام في هذا الكتاب القرآن والحديث، فإننا نريد أن نعالج وضع المرأة بالدرجة الأولى في هذين المصدرين، لكي نرى ما منح الإسلام المرأة من حقوق، وما أتى به من سلبيات بالنسبة لها. وعلاوة على ذلك سنراجع بعض التفاسير الهامة، كما نذكر آراء المتكلمين والفقهاء القدامى، وتعليقات الأصوليين المعاصرين ومواقفهم تجاه النقاد الغربيين والشرقيين من دعاة حقوق المرأة.
وكما سيتضح في الأبواب القادمة، فإنه ليس بوسعنا دائماً ذكر الشواهد القرآنية لدى معالجتنا وضع المرأة في الشريعة، إذ كثيراً ما يسكت القرآن عن هذا الموضوع أو ذاك، وإن كان الموضوع مما يعود إلى صلب الشريعة. وهناك أمور يتطرق إليها القرآن دون أن يصفها بالتفصيل.
الفصل الأول
المرأة في القرآن
تظهر المرأة في القرآن في ثلاثة جوانب: أولاً: ككائن بيولوجي واجتماعي. ثانياً: كمؤمنة. وثالثاً: بكونها من شخصيات القصص القرآنية عن سير الأنبياء ومصير نسائهم.
وبغض النظر عن زوجة أبي لهب عم محمد، وزينب إحدى زوجات محمد التي يشير إليها القرآن تلميحاً، فإن مريم أهم شخصية أنثوية في القرآن، حيث يُطلق اسمها على السورة التاسعة عشرة، ولا يذكر القرآن امرأة قط باسمها سوى مريم. أما النساء الأخريات التي ترد قصصهن في القرآن فلا يذكر أسماءهن، بل يضيفهن إلى أزواجهن، وهن: حواء، وامرأة عمران (آل عمران 3: 53) وامرأة العزيز (يوسف 21: 03) وامرأة فرعون (القصص 82: 9) وامرأة لوط (التحريم 66: 10) وامرأة إبراهيم (هود 11: 17) وامرأة نوح (التحريم 66: 10).
إن ما يقوله القرآن عن المرأة ككائن بيولوجي واجتماعي يمكن اعتباره موضوعياً، وليس من شأنه أن يبخسها حقوقها، رغم أن الشعار السائد في هذا الباب هو: "الرجال قوَّامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم" (النساء 4: 43). ويجعل القرآن في السورة الثالثة أم مريم المكتئبة لولادتها "أنثى" تتكلم: "رب إني وضعتها أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى" (آل عمران 3: 63). نجد في مثل هذه الآيات القرآنية محاولة محمد "إسقاط" التصوُّر البدوي عن المرأة على حادث في التوراة والإنجيل (4).
أما فيما يتعلق بالخلق فإننا لا نجد في القرآن أي تمييز في الرُّتبة بين الرجل والمرأة، وإن كان آدم هنا هو الإنسان الأول، كما ذكر الكتاب المقدس "إنه خلق الزوجين الذكر والأنثى" (النجم 35: 54). و"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا. إن أكرمكم عند الله أتقاكم. إن الله عليم خبير" (الحجرات 94: 31). يخاطب الله في أوامره ونواهيه وما فرضه من تشريعات كلا الجنسين.
بعد هذا البحث المقتضب عن المرأة ككائن بيولوجي واجتماعي وشخصية من شخصيات القصص القرآنية، نريد الآن أن ندرس "المؤمنة" في القرآن. وتشكل الآيات القرآنية التي تتعلق بالمرأة كمؤمنة الركن والقاعدة لوضع المرأة التشريعي والاجتماعي. وكما سنرى في الأبواب القادمة، يمكن إدراك هذا الموضوع بدراسة مكانة المرأة بالمقارنة بالرجل في الزواج والطلاق والشهادة والميراث والحجاب واتخاذ الإماء. إن عدم المساواة بين الرجل والمرأة، على حساب المرأة، تبرز في هذه الأبواب بشكل واضح رغم محاولات المسلمين الغيارى والمستشرقين الأوروبيين في تأويل وتعطيل النصوص، التي تُظهر أحياناً عكس ما يقصده القرآن وما يفهمه المسلم العادي. وسنذكر كلما سنحت الفرصة آراء وحجج المتكلمين والفقهاء ممن يلوذون بالتأويل والتعطيل للقرآن والحديث.
كل من اهتم بالإسلام وتصفَّح القرآن يعرف أن الأحكام الواردة فيه بحق المرأة تشكل جزءاً لا بأس به من القرآن. وكما هو معروف فإن السورة الرابعة تُدعى "سورة النساء" وهي من السور الطوال. قبل أن نبدأ في بحث وضع المرأة التشريعي نود التطرق مرة أخرى إلى مكانة المرأة بالنسبة للرجل.
الفصل الثاني
مقام المرأة
فيما يتعلق بمقام المرأة ككائن بيولوجي واجتماعي لا يوجد تمييز قرآني بين المرأة المسلمة وغير المسلمة، لأن الرجال قوامون على النساء، سواء كن مسلمات أو غير مسلمات، ولأن الذكر ليس كالأنثى (آل عمران 3: 63). ومما يساعدنا على فهم العقلية السائدة ما نقرأه في انتقاد القرآن لعادات مشركي مكة: "أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ألكم الذكر وله الأنثى. تلك إذاً قسمة ضيزى" (النجم 35: 19-22). إن القرآن الذي يدين وأد البنات عند العرب المشركين يحيطنا في نفس الوقت علماً بالتصور السائد حينذاك عن المرأة: "وإذا بُشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشر به أيمسكه على هُون أم يدسه في التراب. ألا ساء ما يحكمون" (النحل 61: 85 و95).
إن سلمنا بما ورد في القرآن بحق المرأة في المجتمع الجاهلي، وبما سجله المؤرخون المسلمون وهم يبذلون قصارى جهدهم في إثبات أن الإسلام حسّن وضع المرأة ونقلها من قعر الهاوية إلى حياة كريمة، يجب أن نعترف بأن الإسلام لم يستطع تحقيق إصلاح كبير في هذا الميدان، لوجود نفس التصورات عن المرأة في معظم البقاع الإسلامية. إن من أهم الأسباب لهذه الظاهرة كان "المنهج الذرائعي" الذي اتَّبعه محمد، وهو الذي تبنى حتى التقاليد الجاهلية. لانتصار دعوته. ولم تكن غايته القصوى تأسيس نظام أخلاقي جديد، بل تحقيق النصر النهائي له "لا إله إلا الله. محمد رسول الله" وإرغام البدو على الاعتراف بسيادة الله على الآلهة جمعاء.
كما ذكرنا في السطور السابقة فإن أهم آية قرآنية يوردها الفقهاء برهاناً على أن المرأة دون الرجل هي: "الرجال قوامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وما أنفقوا من أموالهم" (النساء 4: 43).
يقول الطبري: "يعني بذلك جل ثناؤه (الرجال قوامون على النساء) الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم". ويذكر عدة روايات نورد بعضها: رعن ابن عباس قال هم (أي الرجال) أمراء، عليها أن تطيعه فيما يأمرها الله به من طاعته، وطاعته أن تكون محسنة إلى أهله. وعن الضحاك قال: الرجل قائم على المرأة يأمرها بطاعة الله، فإن أبت فله أن يضربها ضرباً غير مبرحٍ، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه" وقال السدي: "يأخذون على أيديهن ويؤدبونهن".
أما سبب نزول هذه الآية فيُذكر أن رجلاً لطم امرأة فأتت النبي تلتمس القصاص، فجعل النبي بينهما القصاص فنزلت "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى إليك وحيه" (طه 02: 411). ونزلت "الرجال قوامون على النساء". يذكر ابن عباس في رواية عما يعنيه القرآن ب ربما فضل الله بعضهم على بعض" فيقول "إن الله فضل الرجال على النساء بالعقل والقسمة في الغنائم والميراث"(6).
والشيخ محمد عبده (5091-9491) الشهير بموقفه المعادي للتقليد الأعمى والملقَّب ب "المصلح" يكتشف في هذه الآية مظاهر جديدة لتفوُّق الرجل على المرأة: روما به الفضل قسمان فطري وكسبي، فالفطري هو أن مزاج الرجل أقوى وأكمل وأتم وأجمل، وإنكم لتجدون من الغرابة أن أقول إن الرجل أجمل من المرأة، وإنما الجمال تابع لتمام الخلقة وكمالها، وما الإنسان في جسمه الحي إلا نوع من أنواع الحيوانات، فنظام الخلقة فيها واحد. وإننا نرى ذكور جميع الحيوانات أكمل وأجمل من إناثها كما ترون في الديك والدجاجة والكبش والنعجة والأسد واللبوة. ومن كمال خلقة الرجال وجمالها شعر اللحية والشاربين، ولذلك يُعد الأجرد ناقص الخلقة ويتمنى لو يجد دواء ينبت الشعر وإن كان ممن اعتادوا حلق اللحية. ويتبع قوة المزاج وكمال الخلقة وقوة العقل وصحة النظر في مبادئ الأمور وغاياتها، ومن أمثال الأطباء والعلماء: "العقل السليم في الجسم السليم". ويتبع ذلك الكمال في الأعمال الكسبية، فالرجال أقدر على الكسب والاختراع والتصرف في الأمور. فلأجل هذا كانوا هم المكلفين أن يقفوا على النساء وأن يحموهن، ويقوموا بأمر الرئاسة العامة في مجتمع العشيرة التي يضعها المنزل، إذ لا بد في كل مجتمع من رئيس يرجع إليه في توحيد المصلحة العامة".
ويحرز عباس محمود العقاد (9881-4691) وهو من أشهر الأدباء العرب في القرن العشرين، في هجماته على المرأة، عداءً "قياسياً" فيقول: "فالمرأة تشتغل بإعداد الطعام منذ طبخ الناس طعاماً قبل فجر التاريخ، وتتعلمه منذ طفولتها في مساكن الأسرة والقبيلة، وتحب الطعام وتشتهيه. ولكنها بعد توارث هذه الصناعة آلاف السنين لا تبلغ فيها مبلغ الرجل الذي يتفرغ لها بضع سنوات، ولا تجاريه في إجادة الأصناف المعروفة ولا في ابتداع الأصناف والافتنان في تنويعها وتحسينها، ولا تقدر على إدارة مطبخ يتعدد العاملون فيه من بنات جنسها أو من الرجال. كذلك الأمر بالنسبة لصناعة التطريز وعمل الملابس، إنها من صناعات النساء القديمة في البيوت، ولكنها تعول على الرجال في أزيائها ولا تعول فيها على نفسها". إن المرأة في زعم العقاد ليس لها نصيب من العلم أو التفكير العلمي، حتى النساء الشهيرات في ميدان العلم لم يكن بوسعهن إحراز أي نجاح في العلوم لو لم يكن هناك إرشاد وتأييد رجالهن: "إن اسم السيدة ماري كوري، أول الأسماء التي يذكرها القائلون بالمساواة التامة بين الجنسين، ولو صح أن هذه السيدة تضارع علماء الطبقة الأولى من الرجال، لما كان في هذا الاستثناء النادر ما ينفي أنه استثناء نادر. إلا أن الواقع في حالة هذه السيدة خاصة بعيدة من أن تُحسب بين حالات الاستثناء في مباحث العلم، لأنها لم تعمل مستقلة بعيدة عن زوجها، ولم يكن عملها من قبيل الاختراع والابتداء". أما الرياء والكيد فهما صفتان أصليتان للمرأة: "إن الرياء الأنثوي الذي يصح أن يُقال فيه إنه رياء المرأة خاصة، إنما يرجع إلى طبيعة في الأنوثة تلزمها في كل مجتمع ولا تفرضها عليها الآداب والشرائع، ولا تفارقها باختيارها أو بغير اختيارها، بل لعلها هي تأبى أن تفارقها لو وُكل إليها الاختيار فيه .. فارق أساسي بين الرجل والمرأة يوجد في العلاقة الجنسية. إن الرغبة الجنسية عندها تنفصل عن الغريزة النوعية في معظم أيامها، فليست الرغبة الجنسية بحكم الطبيعة عبثاً في وقت من الأوقات عند الرجل".
هذا هو العقاد الذي يراه الكثيرون في الشرق والغرب مفكراً عبقرياً، والذي يعتقد أن المرأة شر لا بد منه، وهي لا تملك موهبة ولا فضيلة أبداً: "وليس في أخلاق المرأة المحمودة خلق أخص بها وألصق بأنوثتها من هذه الخلائق الثلاث وهي: الحياء والحنان والنظافة، ومعوَّلها فيها على وحي الطبع أو على وحي الرجل، وأحرى أن يكون ذلك ديدنها في جملة الصفات التي تولاها الرجال منذ القدم .. فليس الحنان الطبيعي بصالح التقدير خلق الرحمة في المرأة حين يتصل بإملاء الوجدان الأدبي وسلطان الضمير، وإنما يصلح لتقدير هذا الخلق فيها أن تقارن بين عطف الرجال وعطف النساء على الأطفال من أبناء الآخرين، فربما شوهد الرجل وهو يعطف على أبناء زوجته من غيره كما يعطف على أبنائه، ويسوّي بينهم في البر والمعاملة ولو من قبيل التجمل ورعاية الشعور. وتملك المرأة غير هذا السلوك في معاملة أبناء الزوج من غيرها، فلا ينجو الأبناء أحياناً من التعذيب والتشفي وتعمد الإذلال والإيذاء. "ومساك الأخلاق الأول عند المرأة هو الاحتجاز الجنسي، وهو من الغريزة التي يتساوى فيها إناث الحيوان، وليس من الإرادة التي يتميز بها نوع الإنسان بجنسه، والبون بعيد جداً بين هذا الاحتجاز الجنسي وبين فضيلة الحياء التي تُعد من فضائل الأخلاق الإنسانية".
ويقول أحمد شلبي في ما تفوَّق به الرجل على المرأة: "إنه أطول منها، وعظامه أضخم من عظامها، وهو أثقل وزناً منها، وعضلاته أقوى، ومخه أكبر من مخها وكذلك قلبه".
وما نجده في مجموعات الأحاديث عن المرأة ليس إيجابياً بحقها: هناك آثار مروية عن محمد يصف فيها النساء كمن ينقصهنَّ العقل والفهم: "عن أبي سعيد الجندي قال: خرج رسول الله ص في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمرَّ على النساء فقال (يا معشر النساء تصدَّقن فإني أُريتكن أكثر أهل النار) فقلن: فيم يا رسول الله: قال (تكثرن اللعن، وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبّ الرجل الحازم من إحداكن) فقلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال (أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟) فقلن بلى. قال (فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلِّ ولم تصُم؟) قلن: بلى. قال: (فذلك من نقصان دينها). في المصادر الكلامية يذكر كدليل على نقصان عقل المرأة أنه لا يوجد بينهن من اشتهرت بالعلم والمعرفة "وأما نقصان العقل فمعلوم أن النساء أندر عقولاً من الرجال؟ أن النجابة واللُّبانة إنما يوجدان فيهن في النادر الشاذ، وعقلاء النساء وذوات الحزم والفطنة منهن معدودات. ومن بهذه الصفة من الرجال لا تحصى كثرة". كان بإمكان الفقيه والعلامة الذي أتى بهذه الحجة الباهرة على نقصان العقل لدى المرأة أن يجد السبب الأساسي في الأخبار المروية عن محمد: "لا تنزلوهن في الغرف ولا تعلموهن الكتابة (يعني النساء) وعلموهن الغزل وسورة النور" أو: "لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب، واستعينوا عليهن بالعرى وأكثروا لهن من قول "لا" فإن "نعم" تغريهن على المسألة".
والذي يدرس الأحاديث المتصلة بالنساء لا يسعه إلا طرح السؤال عن الحكمة من وراء خلق المرأة إذ: "من تسعٍ وتسعين امرأة واحدة في الجنة وبقيتهن في النار" "إلا أن النار خُلقت للسفهاء وهن النساء، إلا التي أطاعت بعلها". "هلكت الرجال حين أطاعت النساء" و"ما تزال الرجال بخير ما لم يطيعوا النساء".
ويخبرنا محمد بسبب آخر يدفع الرجل إلى أن يخاف ويحترز من المرأة: "إياكم والنساء، فإن أول فتنة بين بني إسرائيل كانت بسببهن" و"ما أخاف على أمتي فتنة أخوف عليها من النساء والخمر" "لولا المرأة لدخل الرجل الجنة".
وليس للمرأة أن تتصرف وكأن لها بجانب الرجال ما يوحي بنفوذ أو قدرة، فإن محمداً "نهى النساء أن يتكلمن إلا بإذن أزواجهن". و"ليس للنساء نصيب في الخروج إلا مضطرة، إلا في العيدين: الأضحى والفطر. وليس لهن نصيب في الطرق إلا الحواشي" و"ليس للنساء وسط الطريق". و"ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام" "المرأة المؤمنة في النساء كالغراب الأعصم في الغربان. فإن النار خُلقت للسفهاء، وإن النساء أسفه السفهاء" وإذا أرادت المرأة أن تبرئ نفسها من هذه التهمة عليها أن تخدم زوجها.
وصف محمد المرأة (في روايات مختلفة عنه) بأنها خلق "نجس". وفي حديث عند مسلم أنه "ثلاث يفسدن الصلاة: المرأة والكلب والحمار" "قال رسول الله: يقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرجل، الحمار والكلب الأسود والمرأة. فقلتُ: ما بال الأسود من الأحمر والأصفر والأبيض؟ فقال: يا أخي سألت رسول الله كما سألتَني فقال: الكلب الأسود شيطان". في رواية لابن عباس يُذكَر المجوسي واليهودي والخنزير بجانب المرأة من مفسدات الصلاة، وصلاة المسلم تفسد "إذا مروا بين يديه على قذفة حجر".
ولدينا عدة أحاديث حيث يذكر محمد النساء مع الحيوانات في نفس السياق "إن المرأة دابة سوء" "ولا أحسب النساء خُلقن إلا للشر". ويبدو أن المرأة مصدر الشرور والشؤم فكرة متأصلة عند محمد، وهي الفكرة المعادية للمرأة والتي ترجع جذورها إلى التقاليد اليهودية ترافقنا في مصنفات الحديث بوجوه مختلفة: "الشؤم في ثلاث: الفرس والمرأة والبيت". "للمرأة ستران: القبر والزوج. قيل: فأيهما أفضل؟ قال: القبر".
بعد هذه الآثار والأخبار عن المرأة، والتي تشكل جزءاً يسيراً نظراً لغِنى الروايات الصحيحة منها والمنكرة، يبدو كلام الشيخ محمود شلتوت استهزاءً ساخراً بالقارئ إذ يقول عن مكانة المرأة في الإسلام: "إنها مكانة لم تحظَ المرأة بمثلها في شرع سماوي سابق، ولا في اجتماع إنساني تواضع الناس فيما بينهم" ويضيف: "إن الإسلام منح المرأة كل خير وصانها عن كل شر، ولم يأبَ عليها سوى ما دفعتها إليه هذه المدنية الكاذبة (يعني الغرب) من حرية جعلت المرأة الغربية إذا ما خلت إلى ضميرها الإنساني، تبكي دماً على الكرامة المفقودة والعرض المبتذل والسعادة الضائعة".
الفصل الثالث
صورة المرأة في الأدب العربي
أثَّرت تصورات محمد والفقهاء القدامى عن المرأة في الأدب العربي، وشاركت في تكوين صورة خيالية للمرأة في أدب المسامرة. قد يسأل القارئ: "أَمَا كان بالإمكان أن نترك هذا الموضوع جانباً؟". غير أننا وجدنا أنفسنا مضطرين إلى أن ننقل ما ورد في مؤلفات الأدباء بحق النساء، لأنها وخاصة ما يعود إلى العهد العباسي وما بعده لم يفقد من "شعبيته" شيئاً. فلا مفرَّ إذاً من دراسة الأدب إذا أردنا تقديم صورة واقعية عن المرأة في الإسلام.
يُنسَب إلى علي بن أبي طالب قوله: "المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لا بد منها". وأما مشورة النساء فهي من "علامات الساعة" "لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، ولا تعد بكرامتها نفسها ولا تطمعها في أن تشفع بغيرها. وإياك والتغاير في غير موضع غيرة". ويذهب الجاحظ (المتوفي 868) إلى ما ذهب إليه محمد فيما يتعلق بنقصان عقل النساء فيقول: "وقد رأينا النساء، والنساء أضعف من الرجال عقولاً، والصبيان أضعف عقولاً منهم، وهم أبخل من النساء، والنساء أضعف عقولاً من الرجال. ولا نعلم في الأرض شراً من صبى: هو أكذب الناس وأنمّ الناس وأشرّ الناس وأبخل الناس وأقل الناس خيراً وأقسى الناس قسوة". ويقارن الشاعر الأموي الفرزدق النساء بالحيات:
يأنسن عند بعولهن إذا خلوا وإذا هُمُ خرجوا فهن خفارُ
وفي "البيان والتبيين" للجاحظ تذكر النساء، في نفس الباب مع النوكى (الحمقى) وأصحاب العي والحمق والصبيان وينقل ابن عبد ربه من "عبدة" الخبير في أمور النساء الأبيات التالية:
فإن تسألوني بالنساء فإنني عليم بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأسُ المرء أو قلَّ مالُه فليس له في ودّهن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمته وشر خ الشباب عندهن حجيب
ولا يكتفي ابن عبد ربه بنقل ما ورد في أشعار العرب وأخبارهم، بل يورد أيضاً من حِكم الأنبياء: "في حكمة داود عليه السلام. وجدت من الرجال واحداً في ألف ولم أجد واحدة في النساء جميعاً". بالرغم من غدرها ومكرها وما إليه من الصفات المذمومة تبقى المرأة: النساء والإماء منهن على وجه الخصوص متاعاً لا يمكن للرجال التخلي عنه. وصف الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان (586-507) الأمَة المفضلة بقوله: "من أراد أن يتخذ جارية للخدمة فليتخذها رومية" ونختبر من "حِكَم" الأدباء أن المرأة تزداد شراً في شيخوختها: "وقالوا: آخر عمر الرجل خير من أوله، يثوب حلمه، وتثقل حصاته، وتخمد شرارته، وتكمل تجارته. وآخر عمر المرأة شر من أوله، يذهب جمالها، ويندب لسانها، ويعقم رحمها، ويسوء خلقها". وأما جمالها فقالوا: "إن الجارية الحسناء تتلوَّن بلون الشمس، فهي بالضحى بيضاء وبالعشي صفراء" غير أن الجمال وحده لا يكفي، بل يجب أن تكون حليمة مبتسمة، عزيزة في قومها ذليلة عند زوجها وولوداً". وأما من أراد إنجاب صبي قوي البنية فعليه أن يُغضبها فثمَّ يقع عليها.
إلى هنا رأينا ما ورد في آثار القدامى عن المرأة. وكان من الطبيعي أن يظن الإنسان أن علماء الإسلام والكتاب المسلمين في العصر الحديث لهم معايير أخرى وتصورات مختلفة عن "الجنس اللطيف" ولكن الواقع يخيب الأمل، إذ هناك عدد غفير ممن يدافعون عما قيل عن المرأة من سخافات ويبررونها بشتى الوسائل. يعتبر عباس محمود العقاد الذي لا يمكن نسبته إلى الدوائر الأصولية ممن تطرفوا في الهجوم على المرأة وجعلوا احتقارها متعة لأنفسهم: يدعي العقاد أن آراءه الشاذة عن المرأة تؤيدها نتائج العلوم الحديثة وينقل من Christian E قوله في سياق الدفاع عن تعدد الأزواج: "التعدد ضروري للمحافظة على السلالة الآرية". وسننقل آراء العقاد بشأن المرأة في الأبواب القادمة، ولكن نورد هنا تحليل العقاد "الفيلسوف" لظاهرة قلة الحياء لدى المرأة: "هذا الحياء الذي تمليه الآداب تدين به المرأة على قدر اتصاله بشعور الرجل نحوها ونظرته إليها، فإذا اجتمع النساء معاً بعيداً عن أعين الرجال نسينه ولم يكترثن له، ولم يبالين شيئاً مما يبالينه وهنَّ بأعين الرجل في المحضر والمغيب. فالمرأة لا تتوارى عن المرأة في الحمام، ولا يعنيها أن تستر عضواً من أعضائها، إلا أن تستره مداراة لعيب وخوفاً من منافسة النظائر والأتراب".
وإذا غضضنا طرفاً عن قصص الحب المذكورة في الأدب العربي، والتي تظهر المرأة فيها في مساواة كاملة لحبيبها أو زوجها، فهناك صورة سلبية للغاية لها عند الأدباء القدامى والمحدثين. لقد انتقد هذا الموضوع المستنكر والمقلق المفكر الإسلامي جمال الدين الأفغاني (8381-7981) والكاتب المصري قاسم أمين (3681-8091) الذي أوقف جل حياته على الكفاح ضد الظلم المرتكب بشأن المرأة. إن قضية المرأة في نظر قاسم أمين (كانت) من قضايا الحضارة، ومشكلة اجتماعية يجب حلها، وإلا فإنه يبقى مجرد حلم، لا يمكن تحقيق أي تقدم فيه في المجتمع المصري. يقول قاسم أمين: "المرأة تساوي الرجل، وظروفها البائسة ترجع إلى ظلم الرجال الذين لم يمنحوها فرصة التصرف في الحرية وروح المسؤولية، بل أرغموها على الجهل المطبق بمختلف الذرائع. وتكمن جذور هذا الظلم في جهل العلماء (المسلمين) بكيان المرأة: "من الغرابة بمكان أن العلماء تسابقوا في تكبيل وتقييد المرأة بكل ما يمكن تصوره من شرائع وقوانين غير إنسانية وكأنها شيطان يجب حبسها، وهم أجهل الناس بظروفها".
الفصل الرابع
الزواج
يستعمل القرآن لعقد الزواج لفظين هما: الزواج والنكاح. والنكاح هو المشهور في الشريعة ويفيد أربعة معانٍ عند الفقهاء كما وردت في القرآن: التزويج والجماع والهبة والحلم. وأما النكاح بمعنى التزويج فقوله: رلا تَنكحوا المشركات حتى يؤمِنّذ (البقرة 2: 122) يعني لا تتزوجوهن وكقوله: "فانكحوهن بإذن أهلهن" (النساء 4: 52) وقوله: "فانكحوا ما طاب لكم من النساء" (النساء 4: 3) يعني تزوجوا. وقوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" (النور 42: 3) يعني لا يتزوج.
والوجه الثاني أي الجماع في قوله: "حتى تنكح زوجاً غيره" (البقرة 2: 032) يعني حتى يجامعها زوج غيره وتجامع زوجاً غيره.
الثالث: النكاح الهبة، قوله: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين" (الأحزاب 33: 05). وهذه الواهبة لا تحل لأحد غير النبي.
والرابع: النكاح الحلم في قوله: "ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح" (أي الحُلم) (النساء 4: 6).
وقد أجمع الفقهاء على أن "النكاح" يعني الجماع أصلاً، ويستعمل بمعنى عقد الزواج مجازاً لأنه الوسيلة المشروعة لذلك ويحلله. ولا يجوز "النكاح" إلا بعد عقد الزواج الذي يتم بين الرجل والمرأة أي "العاقدين" وولي المرأة في حضور شاهدين. وللنكاح ركنان وهما جزآه اللذان لا يتم بدونهما: أحدهما الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه، وثانيهما القبول، وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه، فعلى الزوج دفع ما يُسمى مهراً وصداقاً. إن قبول ولي المرأة هو الشرط الأساسي لشرعية عقد الزواج. لأنه "لا نكاح إلا بوليّ". وسنعالج موضوع عقد النكاح بالتفصيل فيما بعد. وليس للزواج كيان قدسي في الإسلام كما هو الحال في الكنيسة الكاثوليكية، غير أنه ميثاق غليظ لا يجوز العبث به إذ يقول القرآن: رقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاًذ (النساء 4: 12). يُبنى النكاح في الإسلام على عقد مدني، وهذا العقد لم يكن من الضروري تسجيله كتابة.
الفصل الخامس
حقوق الزوج على الزوجة
اهتم الفقهاء في باب النكاح بحقوق الزوجين بعضهما على بعض، ووضعوا نصب أعينهم حقوق المرأة على زوجها. وأدل خبر على صحة هذا الوضع قول الشافعي: "النكاح نوع رق، فهي رقيقة له. فعليها طاعة زوجها مطلقاً في كل مطلب منها في نفسها، مما لا معصية فيه". وهناك أحاديث تؤيد هذا الموقف: "لا ينظر الله إلى امرأة لا تشكر لزوجها وهي لا تستغني عنه" و"لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح البشر أن يسجد لبشر لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها". وعن عائشة: "سألت النبي أي الناس أعظم حقاً على المرأة: قال: زوجها. قلت: فأي الناس أعظم حقاً على الرجل؟ قال: أمه". وفي إحياء علوم الدين: "وكان رجل قد خرج إلى سفر وعهد إلى امرأته ألا تنزل من العلو إلى أسفل. وكان أبوها في الأسفل فمرض. فأرسلت المرأة إلى رسول الله تستأذن في النزول إلى أبيها. فقال رسول الله (ص) "أطيعي زوجك". فمات. فاستأمرته فقال: أطيعي زوجك. فدُفن أبوها. فأرسل رسول الله يخبرها أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها". إن طاعة المرأة زوجها من دعائم الإيمان عند الغزالي: "إذا حصلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها دخلت جنة ربها" وينسب الغزالي هذه الرواية إلى محمد. قالت عائشة وهي تروي عن محمد: ""سألت فتاةٌ رسولَ الله: يا رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ قال: لو كان من فرقه إلى قدمه صديد فلحسته ما أدت شكره". روى ابن عباس: "أتت امرأة من خثعم إلى النبي فقالت: إني امرأة أيم وأريد أن أتزوج، فما حق الزوج؟ قال: إن من حق الزوج على الزوجة إذا أرادها فراودها على نفسها وهي على ظهر بعير لا تمنعه. ومن حقه ألا تعطي شيئاً من بيته إلا بإذنه، فإن فعلت ذلك كان الوزر عليها والأجر له. ومن حقه ألا تصوم تطوعاً إلا بإذنه، فإن فعلت جاعت وعطشت فلم تقبل منها. وإن خرجت من بيته بغير إذنه لعنتها الملائكة حتى ترجع إلى بيته أو تتوب". وفي رواية ضعيفة: "أقرب ما تكون المرأة من وجه ربها إذا كانت في قعر بيتها، وإن صلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في المسجد، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها".
ربما يرجع سبب هذا الحرص على بقاء المرأة في مخدعها إلى ما يُروى عن رسول الإسلام: "للمرأة عشر عورات، فإذا تزوجت ستر الزوج عورة واحدة، فإذا ماتت ستر القبر العشر عورات".
ويسرد الغزالي حقوق الزوج على زوجته كما يلي:
"حقوق الزوج على الزوجة كثيرة، وأهمها أمران، أحدهما الصيانة والستر. والآخر ترك المطالبة مما وراء الحاجة، والتعفف عن كسبه إذا كان حراماً. وهكذا كانت عادة النساء في السلف. كان الرجل إذا خرج من منزله تقول له امرأته أو ابنته: إياك وكسب الحرام، فإنا نصبر على الجوع والضر ولا نصبر على النار. وهمَّ رجل مِن السَّلف بالسفر، فكره جيرانه سفره، فقالوا لزوجته لِمَ ترضين بسفره ولم يدع لك نفقة؟ فقالت: زوجي منذ عرفته عرفته أَكالاً وما عرفته رزاقاً، ولي رب رزاق. يذهب الأكال ويبقى الرزاق".
"ومن الواجبات عليها أن لا تفرط في ماله، بل تحفظه عليه. قال رسول الله (ص) "لا يحل لها أن تُطعِم من بيته إلا بإذنه، إلا الرطب من الطعام الذي يُخاف فساده، فإن أطعمت عن رضاه كان لها مثل أجره. وإن أطعمت بغير إذنه كان له الأجر وعليها الوزر". ومن حقها على الوالدين تعليمها حسن المعاشرات وآداب العشرة مع الزوج".
ومن حقوقه عليها أن:
"تحفظ بعلها في غيبته، وتطلب مسرته في جميع أمورها، ولا تخونه في نفسها وماله، ولا تخرج من بيتها إلا بإذنه، فإن خرجت بإذنه فمختفية في هيئة رثة، تطلب المواضع الخالية دون الشوارع والأسواق، محترزة من أن يسمع غريب صوتها أو يعرفها بشخصها، لا تتعرف إلى صديق بعلها في حاجاتها، بل تتنكر على من تظن أنه يعرفها أو تعرفه. همُّها صلاح شأنها وتدبير بيتها، مقبلة على صلاتها وصيامها. وإذا استأذن صديق لبعلها على الباب وليس البعل حاضراً لم تستفهم، ولم تعاوده في الكلام، غيرة على نفسها وبعلها، وتكون قانعة من زوجها بما رزق الله، وتقدم حقه على حق نفسها، وحق سائر أقاربها، متنظفة في نفسها، مستعدة في الأحوال كلها للتمتع بها إن شاء، مشفقة على أولادها، حافظة للستر عليهم، قصيرة اللسان عن سب الأولاد ومراجعة الزوج. وقد قال (ص) "أنا وامرأة سفعاء الخدين كهاتين في الجنة، امرأة آمت (كرهت) من زوجها وحبست نفسها على بناتها حتى ثبنَ أو مُتْنَ" وقال صلى الله عليه وسلم "حرم الله على كل آدمي الجنة يدخلها قبلي. غير أني أنظر عن يميني فإذا امرأة تبادرني إلى باب الجنة فأقول: ما لهذه تبادرني؟ فيُقال يا محمد، هذه امرأة حسناء جميلة، وكان عندها يتامى لها فصبرت عليهن حتى بلغ أمرهن الذي بلغ، فشكر الله لها ذلك".
"ومن آدابها أن لا تتفاخر على الزوج بجمالها، ولا تزدري زوجها لقبحه. فعلمت أنها امرأة صالحة لها زوج تتزين له".
ومن آداب المرأة ملازمة الصلاح والانقباض في غيبة زوجها، والرجوع إلى اللعب والانبساط وأسباب اللذة في حضور زوجها، ولا ينبغي أن تؤذي زوجها بحال. رُوي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله (ص) "لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين: لا تؤذيه قاتلك الله! فإنما هو عندك دخيل يوشك أن يفارقك إلينا".
يلخص الفقيه الحنفي الكاساني حقوق الرجل تجاه زوجته بقوله: "منها حل النظر واللمس من رأسها إلى قدمها في حالة الحياة، لأن الوطء فوق النظر واللمس فكان إحلاله إحلالاً للمس والنظر من طريق الأولى. وهل الاستمتاع بها بما دون الفرج في حالة الحيض والنفاس فيه خلاف. ومنها ملك المتعة وهو اختصاص الزوج بمنافع بعضها وسائر أعضائها استمتاعاً أو ملك الذات والنفس في حق التمتع على اختلاف مشايخنا في ذلك، لأن مقاصد النكاح لا تحصل بدونه. ومنها ملك الحبس والقيد، وهو صيرورتها ممنوعة عن الخروج والبروز لقوله تعالى "أسكِنوهن" (الطلاق 56: 6). والأمر بالإسكان نهيٌ عن الخروج والبروز والإخراج، إذ الأمر بالفعل نهيٌ عن ضده. لأنها إن لم تكن ممنوعة عن الخروج والبروز لاختل السكن والنسب لأن ذلك مما يريب الزوج ويحمله على نهي النسب وللرجل أن يمنع زوجته وبناته عن الخروج لكي لا تكون فتنة علاوة على خطر "اختلال النسب".
وفي نهاية هذا الفصل أريد أن أنقل ما جاء في كتاب صدر حديثاً عن واجبات المرأة تجاه زوجها:
عليها أن تتجنب الوقوف في الشرفات
عليها أن تحتجب من استقبال الرجال على الأبواب
عليها أن لا تخرج وهي متعطرة
عليها أن تطيل ثيابها ولا تقلد الكافرات
عليها أن لا تحدّث بصوت عال
عليها أن لا تسير في وسط الطريق
عليها أن لا تختلط بالرجال ولا أن تصافحهن.
وأما ما يجب عليها فيذكر المؤلف بإيجاز
كوني غضيضة الصوت، شريفة القول في أثناء سيرك.
سيري في جانب الطريق، واحذري وسط الطريق.
احذري الوقوف عند الباب مستشرفة لدخول الضيف.
لا تكثري من الخروج من بيتك لغير ضرورة.
لا تتركي حجابك لأي ظرف من الظروف خارج البيت.
تنبَّهي عند وقوفك في الشرفات ماذا تلبسين.
أحذري مصافحة الرجال الأجانب، والسفر بغير محرم فكلاهما من المعاصي، وبدع نساء زماننا.
أحذري أن تضيعي وقتك سدىً وعبثاً، فأكثري من التسبيح، والاستغفار أثناء سيرك بصوت لا يسمعه غيرك.
أقلي من التلفُّت، وكوني غضيضة الطرف.
أنت ضعيفة، وفي حاجة إلى رحمة ربك، فارفعي إليه كفيك دائماً طالبة العفو بعد الذنب، والعافية بعد الحسنة.
الفصل السادس
حقوق الزوجة على الزوج
قال محمد في "خطبة الوداع": "أما بعد أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً ولهن عليكم حقاً، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله".
رُوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص: قال لي رسول الله: يا عبد الله ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: فلا تفعل، صم وافطر، وقم ونم، فإن لجسدك حقاً عليك، وإن لزوجك عليك حقاً، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها وتكسوها إذا طعمت أو اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح، ولا تهجر إلا في البيت".
ومن حقوق المرأة على زوجها أن يحميها. قال محمد: "إني أحرِّجُ عليكم حق الضعيفين: اليتيم والمرأة" ومن حقوقها عليه ممارسة الجماع إذ "الوطء واجب على الرجل إذا لم يكن له عذر، وبه قال مالك. وإن سافر عن امرأته لعذر وحاجة سقط حقها على القسم والوطء وإن طال سفره، ولكن إن يكن له عذر أو إن اعتذر عن إبائه الجماع غير مرة، فرق بينه وبينها. وإذا كانت له امرأة حرة لزمه المبيت عندها ليلة من كل أربع ليال، وإن كان له نساء فلكل واحدة منهن ليلة من كل أربع ليال. ومن حقوقها عليه أن يعامل أزواجه بعدل. وجاء في الحديث: "من كانت له امرأتان يميل مع إحداها على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط".
الفصل السابع
أهمية النكاح (الزواج) في الإسلام
الزواج حسب القرآن أمر مرغوب فيه: "وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم" (النور 42: 23). وهو سُنّة النبي محمد: "النكاح من سنّتي. فمن لم يعمل بسُنتي فليس مني، وتزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم. ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصيام فإن الصوم له وجاء" وهو نصف الإيمان: "إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين فليتق الله في النصف الباقي" . وأما عند الفقهاء فهو فرض في حالة التوقان، أي فمن وجد في نفسه شوقاً إلى النكاح ولم يتزوج وهو قادر على ذلك من الناحية المادية فهو مذنب، مثله مثل مرتكب الكبيرة .
لقد حرم محمد العزوبة وورد في الحديث: رما في الجنة أحد إلا له زوجتان، وإنه ليرى ساقهما من وراء سبعين حلة، ما منها من عزب" وفي مسند أحمد بن حنبل: "إن سنتنا النكاح. شراركم عزّابكم، وأراذل موتاكم عُّزابكم" . سأل محمد رجلاً يدعى عكاف إذا كان متزوجاً فرد: "اللهم، لا!" قال: رهل لك جارية؟ذ قال: "لا" قال: "وأنت موسر؟ذ قال: "نعم". قال: "أنت إذاً من إخوان الشياطين. إن كنت من إخوان النصارى فأنت منهم ، وإن كنت منا فشأننا التزويج" . يرغّب محمد الرجال في الزواج لأن النساء يأتين بالبركة والغنى: "تزوجوا النساء فإنهن يأتين بالمال" ورركعتان من المتزوج (وفي رواية: المتأهل) أفضل من سبعين ركعة من العزب" .
ونتعلم من الآثار المروية أن الزواج ليس سنة محمد فحسب، بل هو سنة الأنبياء أيضاً: "من كان على ديني ودين داود وسليمان وإبراهيم فليتزوج إن وجد إلى النكاح سبيلاً، وإلا فليجاهد في سبيل الله. إن استشهد يزوجه الله من الحور العين، إلا أن يكون يسعى على والديه أو في أمانة للناس عليه" . إذاً فمن لم يتزوج، يعرّض نفسه للعنة الله وملائكته: "لعنة الله والملائكة والناس أجمعين على رجل تحصر، ولا حصور بعد يحيى بن زكريا" .
ولكن يبقى الإنجاب السبب الأهم: عن جابر قال: ركنت مع رسول الله في غزوة، فلما قفلنا تعجلت على بعير قطوف، فلحقني راكب من خلفي فالتفتُّ فإذا أنا برسول الله. قال: ما يعجلك؟ قلت: إني حديث عهد بعرس. قال: فبكراً تزوجت أم ثيباً؟ قلت: بل ثيباً. قال: فعليك بالكيس الكيس" (أي الولد) .
ويبدو أن لاحتقار العُزاب وكونهم ممن يُشتبَه بهم في المجتمعات الشرقية تاريخاً وتقليداً! فمن لم يتزوج يجعل نفسه عُرضة لمختلف التهم: "عن ابراهيم بن مسرة. قال، قال لي طاوس: لتنكحن أو لأقولن لك ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور" .
الفصل الثامن
أهمية النكاح عند الفقهاء
يقول الفقهاء: "ليس للمسلمين عبادة شرعت من عهد آدم إلى الآن ثم تستمر في الجنة إلا النكاح والإيمان" . وأما علاقة النكاح بالعبادة فيقول ابن همام: "هو أقرب إلى العبادات، حتى أن الاشتغال به أفضل من التخلي عنه لمحض العبادة" . إن أهمية النكاح ومكانته العليا هذه عند الفقهاء تكمن في كونه "سبباً لوجود الإسلام والمسلم" فلذا أولاه العبادات والجهاد، وإن كان عبادة لأن النكاح سبب لما هو المقصود منه وزيادة. فإنه سبب لوجود المسلم والإسلام والجهاد سبب لوجود الإسلام فقط وفي رد المحتار: "قدمه على الجهاد، وإن اشتركا في أن كلاً منهما سبب لوجود المسلم والإسلام، لأن ما يحصل بأنكحة أفراد المسلمين أضعاف ما يحصل بالقتال، فإن الغالب في الجهاد حصول القتل والذمة" .
علاوة على ذلك فإن هناك "مصالح أخرى" تتعلق بالنكاح، فمنها حفظ النساء والنفس من الزنا، فالنكاح هو الوسيلة الوحيدة لملك المتعة . وهناك من يدعي أن النكاح فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الإيمان، حتى أن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم. أما الشافعي فقد ذهب إلى أنه مباح كالبيوع. واستدلوا على أنه فرض أو واجب بوجوب الامتناع عن الزنا، فقالوا: "إذا كان الامتناع عن الزنا واجباً، ولا يتوّصل إليه إلا بالنكاح، فما لا يُتّوَصل إلى الواجب إلا به يكون واجباً" . إلا أن الفقهاء يستبعدون الشهوة أن تكون بمعنى النكاح، إذ لو كان الأمر هكذا لاكتفى النبي، الذي تزوج من غير زوج، بزوجة واحدة لا يوجد على ما يبدو اتفاق عند الفقهاء على أن النكاح (الزواج) واجب. ودليل المخالفين لوجوب الزواج قول القرآن: "فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" (آل عمران 3: 93). "وهذا خرج بمخرج المدح ليحيى بكونه حصوراً، والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة. ولو كان واجباً لما استحق المدح بتركه، لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح . يرفض السرخسي هذه النظرة فيقول: "إن النكاح سنة محمد بينما التبتل كان من شريعة يحيى، فينبغي للمسلم اتباع سنة محمد . إن ازدياد الأمة يبقى المصلحة العليا بإجماع الفقهاء، إذ سيباهي محمد سائر الأمم يوم القيامة بكثرة أمته" .
الفصل التاسع
الزواج عند الصوفيين
لا يوجد ما يمكن "تسميته" موقفاً صوفياً عن الزواج، بل نرى أمامنا مواقف متضاربة تمنعنا عن استنتاجات عامة، ولكن بما أن الإسلام الصوفي - على العكس من الإسلام الأصولي الجامد في محتواه النظري - استطاع أن يصبغ شرائح واسعة ومختلفة في المجتمعات الإسلامية بصبغته الخاصة، وذلك بفضل كيانه المتنوع والمندمج بالخلفية الثقافية للبلد. ويجدر بنا أن ننقل فيما يلي آراء الصوفيين الإيجابية والسلبية حول الزواج.
الذين يرفعون قدر الزواج إلى واجب مطلق يسندون موقفهم هذا إلى أحاديث وإلى الأمر الواضح في القرآن حيث لم يذكر الله في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين. قالوا: "إن يحيى قد تزوج ولم يجامع، وفعل ذلك لينال الفضل وإقامة السنة، وقيل لغض البصر. وأما عيسى فإنه سينكح إذا نزل الأرض ويولد له" . وفي حديث يورده الغزالي قال محمد: "إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه. إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" وفي حديث ضعيف: رمن نكح لله وأنكح لله استحق لولاية الله" . وفي رواية عن ابن عباس قال: "لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج" يعلق الغزالي عليه: "يحتمل أنه جعله من النسك، ولكن الظاهر أنه أراد به أنه لا يسلم قلبه لغلبة الشهوة إلا بالتزويج، ولا يتم النسك إلا بفراغ القلب" . وينسب إلى ابن مسعود قوله: "لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزباً". وعن معاذ بن جبل، ماتت امرأتان له في الطاعون، وكان هو أيضاً مطعوناً فقال: "زوجوني فإني أكره أن ألقى الله عزباً" .
وحُكي أن بعض العباد في الأمم السالفة فاق أهل زمانه في العبادة، فذكر لنبي زمانه حُسن عبادته، فقال: "نِعم الرجل هو، لولا أنه تاركٌ لشيءٍ من السُنة". فاغتم العابد لما سمع ذلك، فسأل النبي عن ذلك، فقال: "أنت تارك للتزويج" فاغتم العابد لما سمع ذلك، فقال: لست أحرمه ولكني فقير، وأنا عيال على الناس. فقال: "أنا أزوجك ابنتي". فزوَّجه النبي ابنته . وقال بشر بن الحرث: فضل عليَّ أحمد بن حنبل بثلاث: يطلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلبه لنفسي فقط. باتساعه في النكاح وضيقي منه، ولأنه نصب إماماً للعامة. ويقال إن أحمد تزوج في اليوم الثاني من وفاة أم ولده عبد الله وقال: أكره أن أبيت عزباً. وقال بشر بن يمينية: كثرة الناس ليست من الدنيا، لأن علياً كان أزهد أصحاب رسول الله وكان له أربع نسوة وسبع عشرة سرية. فالنكاح سنة ماضية وخلق من أخلاق الأنبياء. وقالوا: "فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد" .
ولكن إن كان الانقطاع عن الدنيا والزهد في لذاتها من أهم دعائم السلوك الصوفي، فليس من الغرابة أن نجد في الأدب الصوفي آراء معادية للزواج. قد رأينا في الباب السالف كيف برهن بعض الفقهاء على أن النكاح ليس واجباً بواسطة الآية القرآنية حيث يذكر يحيى "حصوراً" و"من الصالحين" (آل عمران 3: 93) غير أن القائلين بوجوب النكاح احتجوا بأنه تزوج ولكن لم يجامع. وفيما يتعلق بالمسيح فتُذكر أحاديث عديدة عن زواجه بعد مجيئه ثانيةً - إن تأويلات وحكايات من هذا القبيل هي محاولة تأكيد الزواج كمؤسسة في الإسلام من جهة، وتبرير "التعددية" في بيت محمد من جهة أخرى. وحيث لا يكفي القرآن في الدلالة على كراهية الزواج، وليس من حديث صحيح يوحي بهذه الكراهية، فإن الزاهد يستشهد أولاً بالحديث الضعيف: "وأما ما جاء في الترهيب عن النكاح فقد قال (ص) "خير الناس بعد المائتين الخفيف الحاذ الذي لا أهل له ولا ولد". وقال (ص) "يأتي على الناس زمان يكون هلاك الرجل على يد زوجته وأبويه وولده، يعيرونه بالفقر ويكلفونه ما لا يطيق، فيدخل المداخل التي يذهب فيها دينه، فيهلك" .
وفي الخبر "قلة العيال أحد اليسارين، وكثرتهم أحد الفقرين". وسئل أبو سليمان الداراني عن النكاح فقال: "الصبر عنهن خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار". وقال أيضاً: "الوحيد يجد من حلاوة العمل، وفراغ القلب، ما لا يجد المتأهل". وقال مرة: رما رأيت أحداً من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته الأولى". وقال أيضا: "ثلاث من طلبهن فقد ركن إلى الدنيا: من طلب معاشاً أو تزوج امرأة، أو كتب الحديث" . وقال الحسن: "إذا أراد الله بعبد خيراً، لم يشغله بأهل ولا مال". وقال ابن أبي الحواري: "تناظر جماعة في هذا الحديث، فاستقر رأيهم على أنه ليس معناه أن لا يكونا له، بل أن يكونان له ولا يشغلانه. وهو إشارة إلى قول أبي سليمان الداراني: رما شغلك عن الله من أهل ومال وولد، فهو عليك مشئوم. وبالجملة لم يُنقل عن أحد الترهيب عن النكاح مطلقاً، إلا مقروناً بشرط. وأما الترغيب في النكاح، فقد ورد مطلقاً بغير شرط. فلنكشف الغطاء عنه، بحصر آفات النكاح وفوائده .
الفصل العاشر
صفات الزوجة المثلى
إذا كان الزواج في هذ المقام من الأهمية فكان من الطبيعي أن يهتم الفقهاء بصفات الزوجة المفضلة لكي تحقق أهداف الزواج المثلى في تصورهم. وبإمكاننا أن نلخص تلك الصفات التي يلزم وجودها أو المرغوب فيها كما يلي:
1- تكون المرأة أقل من الرجل سناً لئلا تكبر بسرعة فلا تلد، والغرض الصحيح من الزواج إنما هو التناسل الذي به تكثر الأمة ويعز جانبها. وتكون أقل منه في الجاه والعز والرفعة والمال، لأن الرجال قوامون على النساء (آل عمران 3: 34) حافظون لهن. ونقرأ الحديث المروي عن محمد: "تُنكح النساء لأربع: لمالها ولحسَبها ولجمالها ولدينها. فاظفر بذات الدين ترِبت يداك و"لا تزوجوا النساء لحُسنهن. فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن. ولكن تزوجوهن على الدين. ولأَمةً خرساء سوداء، ذات دين أفضل" . ومن آداب الزواج أن لا تكون المرأة طويلة مهزولة ولا قصيرة دميمة ولا سيئة الخلق، وأن لا تكون مسنة أو لها ولد من غيره، أو أمة مع قدرته على زواج الحرة . ويسكت الجزيري عما يجب على الرجل أن يتحلى به من صفات حتى يكون زوجاً مثالياً لامرأته!!!
فالمرأة الأقل سناً من الرجل هي سنة محمد، وتقول عائشة: "تزوَّجني رسول الله وأنا بنت سبع سنين. قال سليمان: أو ستّ ودخل بي وأنا بنت تسع" وتوفي عنها وهي بنت ثماني عشرة سنة . وقد صار زواج محمد بعائشة للفقهاء مشكلة عويصة، فهم لم يتفقوا على السن الذي يؤهل البنت للزواج:
"في وقت الدخول بالصغيرة، فقيل لا يدخل بها ما لم تبلغ، وقيل يدخل بها إذا بلغت تسع سنين كذا في البحر الرائق. وأكثر المشايخ على أنه لا عبرة للسن في هذا الباب، وإنما العبرة للطاقة إن كانت ضخمة تطيق الرجال ولا يُخاف عليها المرض من ذلك كان للزوج أن يدخل بها، وإن لم تبلغ تسع سنين. وإن كانت نحيفة مهزولة لا تطيق الجماع ويُخاف عليها المرض لا يحل للزوج أن يدخل بها وإن كبر سنها وهو الصحيح" وفي كتاب الفروع: "وأحسن ما تكون المرأة بنت أربع عشرة سنة إلى العشرين، ويتم نُسُو (نمو) المرأة إلى الثلاثين ثم تقف إلى الأربعين، ثم تنزل" .
2- بجانب صغر السن يفضل أن تكون بكراً. يقول محمد: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهاً وأنتق أرحاماً وأرضى باليسير". وعندما أخبره جابر بن عبد الله بأنه تزوج ثيباً قال له: "فهلا بكراً تلاعبها" وتتضح عدم مساواة البكر والثيب أيضاً في معاملة محمد أزواجه: "عن أنس بن مالك قال: إذا تزوج (محمد) البكر على الثيب أقام عندها سبعاً، وإذا تزوج ثيباً أقام عندها ثلاثاً ولو قلت إنه رفعه لصدقت ولكنه قال: "السنة كذلك" . ويجوز نكاح الثيب إذا كانت هناك حاجة تدعوه إلى ذلك، كأن يكون عنده أطفال تحتاج إلى تربيتها ممن تعوَّد التربية، أو يكون كبير السن فتصرف عنه البكر فلا تدوم بينهما الإلفة.
3- لا يبحث الفقهاء فيما يجب أن تتصف به المرأة المثالية كزوجة فحسب، بل تطرقوا أيضاً إلى ما لا يجوز من صفات مذمومة وعيوب عندها. فبينما عيوب الرجل التي يمكن أن تمنع أو تلغي زواجه تنحصر في ثلاث: الجنون والخصاء والعنت، تعد عيوب المرأة وتعلل بالتفصيل. وعيوب المرأة سبعة: الجنون والجذام والبرص والقرن والإفضاء والعرج والعمى.
أما الجنون: فهو فساد العقل، فلا يثبت الخيار مع السهو السريع زواله، ولا مع الإغماء العارض مع غلبة المرة، وإنما يثبت الخيار فيه مع استقراره.
أما الجذام: فهو الذي يظهر معه يبس الأعضاء وتناثر اللحم، ولا تجزي قوة الاحتراق، ولا تعجر الوجه، ولا استدارة العين .
وأما البرص: فهو البياض الذي يظهر على صفحة البدن لغلبة البلغم ولا يقضي بالتسلط مع الاشتباه.
وأما القرن: فقد قيل: هو العَفْل، وقيل: هو عَظْم ينبت في الرحم يمنع الوطء، والأول أشبه. فإن لم يمنع الوطء، قيل: لا يفسخ به لإمكان الاستمتاع، ولو قيل بالفسخ تمسكاً بظاهر النقل أمكن.
وأما الإفضاء: فهو تصيير المسلكين واحداً.
وأما العرج: ففيه تردد، أظهره دخوله في أسباب الفسخ، إذا بلغ الإقعاد.
وقيل: الرتق أحد العيوب، المسلطة على الفسخ، وربما كان صواباً إن منع من الوطء أصلاً، لفوات الاستمتاع، إذا لم يمكن إزالته، أو أمكن وامتنعت من علاجه.
ولا ترد المرأة بعيب غير هذه السبعة .
وفي رواية أن محمداً قال لأم سليم تنظر لامرأة: "شمّي عوارضها وانظري إلى عقبها" .
4_ الجمال صفة لا يجوز إهمالها في البحث عن الزوجة. يخبرنا حديث ضعيف بأن النظر إلى امرأة جميلة يشحذ ويقوي العين . وكما ذكرنا آنفاً فإن المرء يتزوج المرأة لثلاث، إما لجمالها أو لحسبها أو لدينها .
"عن عائشة رضي الله عنها قالت: خطب رسول الله (ص) امرأة من كلب، فبعثني أنظر إليها، فقال لي: "كيف رأيت"؟ فقلت: ما رأيت طائلاً، فقال: "لقد رأيت خالاً بخدها اقشعر كل شعرة منك على حدة" فقالت: ما دونك سرّ" .
ومن المرغوب فيه أن يكون مهرها يسيراً، قال محمد: "إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤنة".
6- غير أن كونها "ولوداً" هو أهم ما يجب توفره عند المرأة. رعن معقل بن يسار، قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أحببت امرأة ذات حسب وجمال وأنها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: لا. ثم أتاه الثانية فنهاه. ثم أتاه الثالثة فقال: تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم (02). يقول الجزيري: يحسن أن تكون ولوداً لأن العقيم لا تؤدي وظيفة التناسل المطلوب للمجتمع الإنساني". ونختتم هذا الفصل بما ورد في إحياء علوم الدين عن فوائد الزواج، والفائدة الأولى هي:
الولد: وهو الأصل، وله وضع النكاح والمقصود إبقاء النسل، وأن لا يخلو العالم عن جنس الإنس، وإنما الشهوة خلقت باعثة مستحثة، كالموكل بالفحل في إخراج البذر، وبالأنثى في التمكين من الحرث، تلطفاً بهما في السياقة إلى اقتناص الولد بسبب الوقاع، كالتلطف بالطير في بث الحب الذي يشتهيه ليساق إلى الشبكة. وكانت القدرة الأزلية غير قاصرة عن اختراع الأشخاص ابتداء من غير حراثة وازدواج، ولكن الحكمة اقتضت ترتيب المسببات على الأسباب، مع الاستغناء عنها، إظهاراً للقدرة، وإتماماً لعجائب الصنعة، وتحقيقاً لما سبقت به المشيئة، وحقت به الكلمة وجرى به القلم. وفي التوصل إلى الولد قربه من أربعة أوجه، هي الأصل في الترغيب فيه عند الأمن من غوائل الشهوة، حتى لم يحب أحدهم أن يلقى الله عزباً، الأول موافقة محبة الله بالسعي في تحصيل الولد لإبقاء جنس الإنسان. والثاني طلب محبة رسول الله (ص) في تكثير من به مباهاته. والثالث طلب التبرك بدعاء الولد الصالح بعده، والرابع طلب الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله" .
الفصل الحادي عشر
عقد النكاح في الشريعة الإسلامية
بعد أن درسنا مكانة الزواج وصفات الزوجة المثالية، نريد أن ننقل الآن من المصادر الفقهية كيف يتم عقد النكاح، وما الذي يجب توفره من شروط لعقده. فالنكاح في الحالات العادية سنة محمد كما ذكرنا سابقاً، وهذا ثابت بالأحاديث المروية عن محمد وسلوكه الشخصي في هذا المجال. قال الأحناف إن النكاح يكون فرضاً وواجباً وسنة وحراماً ومكروهاً. إن تيقن الشخص الوقوع في الزنا إذا لم يتزوج فالنكاح عندئذ فرضٌ عليه. وإذا كان للشخص اشتياق شديد إليه بحيث يخاف على نفسه الوقوع في الزنا فيكون عندئذ واجباً. ويكون سنة مؤكدة للشخص إن كانت له رغبة في ذلك وهو معتدل. وإن تيقن أنه يترتب عليه الكسب الحرام في حال زواجه فالنكاح في هذه الحالة حرام. وإذا أحس بذلك دون أن يتيقنه فعندئذ مكروه .
للنكاح ركنان وهما جزآه اللذان لا يتم بدونهما: أحدهما الإيجاب، وهو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه. ثانيهما القبول وهو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه. فعقد النكاح هو عبارة عن الإيجاب والقبول . وأما ما يتعلق بشروط النكاح ويذكرها بعض الفقهاء ضمن أركان النكاح فهناك تفصيل ممل للغاية. ولذا نذكر أهمها بالاختصار.
الشرط الأول يتصل بالصيغة، فهناك ألفاظ مخصوصة يتم بها عقد النكاح، بعضها صريحة كقوله: "زوجت" و"تزوجت" "أو زوجني ابنتك". أو عن طريق الكناية كقولها: "وهبت نفسي لك" أو "جعلت نفسي صدقة لك". الشرط الثاني هو ما يسمى بـ "اتحاد المجلس" أي يجب أن يكون العاقدان في مكان واحد، فلا نكاح بالوصية والكتابة. قد يفسد اتحاد المكان بسبب عدم الاستقرار إذا تم العقد مثلاً على دابة تسير. أو إذا عقد وهما يمشيان، فإنه لا يصح لعدم الاستقرار في مكان واحد. أما إذا عقدا على ظهر السفينة وهي تسير فإنه يصح لأن السفينة تعتبر مكاناً، وهل السيارة "الأتوميبل" اونحوه مثل السفينة أو الدابة؟ الظاهر أنها مثل الدابة فلا يصح العقد عليها عند الحنيفية .
ولا يصح النكاح إلا في حضور الشهود، وأقل نصاب الشهادة في النكاح اثنان فلا تصح بواحد، ولا يشترط فيهما أن يكونا ذكرين بل تصح برجل وامرأتين. على أن النكاح لا تصح بالمرأتين وحدهما، بل لا بد من وجود رجل معهما .
من لا يجوز نكاحها: أجمعوا على تحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. والجدات يدخلن في عموم الأمهات وبنات الأولاد وأن سفلن يدخلن في جملة البنات. وكذلك عمات الآباء والأمهات، وخالات الصنفين، وبنات أولاد الإخوة والأخوات على هذا القياس، هذا إذا كن من النسب. وأجمعوا على تحريم الأمهات والأخوات من الرضاع فأباحهن أهل الظاهر وأكثر الخوارج، وحرمهن أكثر الأمة، وذلك هو الصحيح. وأجمعوا على تحريم أمهات النساء وتحريم منكوحات الآباء وحلايل الأبناء بالعقد، وعلى تحريم الربايب بشرط الدخول. وأجمعوا على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح، واختلفوا في تحريم الاستمتاع بهما بملك اليمين. وكذلك الخلاف في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. فكل من خالف في شيء مما اختلف فيه سلف الأمة من أبواب النكاح في تحريم امرأة وإباحتها وفي شرط قد اختلفوا فيه كشهود النكاح ولفظه والولي لم يكفر .
وبالإضافة إلى ما تقدم حرم محمد على أصحابه والناس أجمعين زواج نسائه من بعده وجاء في القرآن: "وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً. إن ذلكم كان عند الله عظيماً" (الأحزاب 33: 35).
إن آراء واجتهادات الفقهاء فيما إذا كان يجب على الولي أن يستأذنها في أمر الزواج متضاربة، وما يعنونه بـ"الاستئذان" يشبه شيئاً من الشكليات، فإذنها إن كانت بكراً سكوتها، وإن بكت فهو بمنزلة سكوتها أي علامة الرضا، لأن البكاء يدل على فرط الحياء (!!) . ولكن إذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت، وإن كرهت كبيرة كانت أو صغيرة لأن للآب تزويج أولاده الصغار والمجانين وبناته الأبكار بغير إذنهم . كذلك للولي تزويج البكر والمجنونة بدون إذنهما، كذا إذا زوجها أبوها أو جدّها. ولا يبطل العقد لعيب سوى العجز (العنة) والخصاء . ومن الشروط المهمة لصحة النكاح الكفاءة، أي مساواة الرجل للمرأة وهي ست عند الأحناف: النسب والإسلام والحرفة والحرية والديانة والمال . إن الكفاءة تتعلق بالرجال دون النساء، لأن محمداً تزوج نساءً من شتى الأنساب والطوائف، ولم تكن إحداهن كفواً له . من له أب حر ومسلم فقط ليس كمن له أب وجد في الإسلام والحرية. وإذا تزوجت امرأة من ليس كفواً لها يفرق بينها وبينه، وإن أخذ وليها مهراً يدل على قبوله .
يلتزم الرجل عند عقد النكاح في حضور وليّها بدفع ما يسمى مهراً أو صداقاً. ويستحب تحديد المهر أثناء العقد، غير أنه ليس من الشروط اللازمة لصحة العقد. وحالما يتم الاتفاق على المهر، على الرجل دفع ما يسمى مهر المثل، أي مبلغاً يناسب الظروف المعاشة، وقد يتفاوت المبلغ بنسبها وحسبها، كما يختلف حسب عقلها وسنها وجمالها، وإذا أراد الرجل فسخ عقد النكاح قبل الوطء فعليه أن يدفع لها نصف المهر .
الفصل الثاني عشر
تعدد الزوجات
يقول القرآن: "وإن خفتم ألا تُقسِطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثُلاث ورُباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم، ذلك أدنى ألا تعولواذ (النساء 4: 3). إن تعدد الزوجات كان ظاهرة منتشرة في المجتمع الجاهلي أيام محمد مثله مثل الشعوب السامية آنذاك . وحصر محمد العدد بأربعٍ. وأما الإماء فسنعالجها في فصل مستقل. لقد فهم المفسرون القدامى الإذن الوارد في هذه الآية كأقصى ما يمكن تصوره في الزواج الشرعي: "ولا تنكحوا منهنّ إلا من واحدة إلى الأربع ولا تزيدوا على ذلك. وإن خفتم ألا تعدلوا أيضاً في الزيادة على الواحدة فلا تنكحوا إلا ما تخافون أن تجوروا فيهن من واحدة أو ما ملكت أيمانكم" . ويعود تعدد الزوجات إلى ذلك الصنف من الأحكام القرآنية التي لم تستطع إثبات وجودها في الشعوب الإسلامية. أغلب المسلمين متزوجون من زوجة واحدة. إنه ليست فقط العراقيل الاقتصادية التي تحول دون ذلك، بل لا ينبغي أن ننسى هنا الجانب الاجتماعي لهذه المشكلة. فزواج الرجل ثانيةً عار على عائلة زوجته الأولى. أضف إلى ذلك محاولات المسلمين المعتدلين تأويل هذه الآية بشكل يناسب متطلبات العصر. فقد ذهب قاسم أمين على سبيل المثال إلى أنه بوسع المسلم أن يستنتج من النساء 4: 3 تحريم تعدد الزوجات، لأن العدل الذي اشترطه القرآن لهذا الإذن لا يمكن تحقيقه . غير أن المسلم الملتزم، الذي يشعر نفسه مدعواً للدفاع عن كل ما ورد في كتابه الكريم وتبريره، يستشهد ب"القديم" و"الجديد" على الحكمة الإلهية الكامنة في تعدد الأزواج فيقول: إن تعدد الزوجات نظام قديم، ولكنه كان فوضى منظمة قبل الإسلام، وكان تابعاً للهوى والاستمتاع، فجعله الإسلام سبيلاً للحياة الفاضلة. والحقيقة التي ينبغي أن يعلمها كل إنسان إن إباحة تعدد الزوجات مفخرة من مفاخر الإسلام، لأنه استطاع أن يحل مشكلة عويصة من أعقد المشاكل تعانيها الأمم والمجتمعات اليوم فلا نجد لها حلاً إلا بالرجوع إلى حكم الإسلام وبالأخذ بنظام الإسلام" . إن الحجج والتبريرات التي يذكرها الكتاب المسلمون توحي بأن تعدد الزوجات لم ينص عليها إلا تكريماً للمرأة وإحساناً لها: "ماذا نصنع حين يختل التوازن ويصبح عدد النساء أضعاف عدد الرجال؟ أنحرم المرأة من نعمة الزوجية ونعمة الأمومة ونتركها تسلك طريق الفاحشة والرذيلة كما حصل في أوروبا من جراء تزايد عدد النساء بعد الحرب العالمية الأخيرة؟ أم نحل هذه المشكلة بطرق شريفة فاضلة نصون فيها كرامة المرأة، وطهارة الأسرة، وسلامة المجتمع؟ أيهما أكرم وأفضل لدى العقال أن ترتبط المرأة برباط مقدس تنضم فيه مع امرأة أخرى تحت حماية رجل بطريق شرعي شريف، أم نجعلها خدينة وعشيقة لذلك الرجل، وتكون العلاقة بينهما علاقة إثم وإجرام؟!" .
ويضيف سيد قطب في تفسيره: رفي حالة عقم الزوجة مع رغبة الزوج الفطرية، يكون أمامه طريقان لا ثالث لهما:
أن يطلقها ليبدل بها زوجة أخرى تلبي رغبة الإنسان الفطرية في النسل.
2- أو أن يتزوج بأخرى ويُبقي على عشرته مع الزوجة الأولى. وقد يهذر قوم من المتحذلقين، ومن المتحذلقات، بإيثار الطريق الأول. ولكن تسعاً وتسعين زوجة (على الأقل) من كل مائة ستتوجهن باللعنة إلى من يشير على الزوج بهذا الطريق: الطريق الذي يحطم عليهن بيوتهن بلا عوض منظور - فقلما تجد العقيم وقد تبين عقمها راغباً في الزواج - وكثيراً ما تجد الزوجة العاقر أمناً واسترواحاً في الأطفال الصغار، تجيء بهم الزوجة الأخرى من زوجها، فيملأون عليهم الدار حركة وبهجة، وأياً كان ابتئاسها لحرمانها الخاص" .
ليس من السهل أن يعتقد المرء وهو يقرأ هذا النوع من الدفاع عن تعدد الزوجات، والذي يشبه شيئاً من التهكم بأن المفكر سيد قطب لم يكن يعرف ما هو التبني (Adoption) أو أن يسأل نفسه ما الحيلة إذا كان الرجل نفسه يعاني العقم!! أو أين تبقى علاقة الود والمحبة التي تربط الزوجين بعضهما ببعض!! إن العلماء والمفكرين المسلمين المحدثين لا يقفون في الدفاع عن التعدد عند "النص" "والواقع" فحسب، بل هم يحرصون على تأييد وجهة نظرهم من خلال ما سمعوا أو قرأوا من أفكار الأوروبيين - فيخبرنا الصابوني مثلاً: لقد اختارت ألمانيا (المسيحية) التي يحرم دينها التعدد، فلم تجد خيرة لها إلا ما اختاره الإسلام، فأباحت تعدد الزوجات رغبة في حماية المرأة الألمانية من احتراف البغاء، وما يتولد عنه من أضرار فادحة وفي مقدمتها كثرة اللقطاء. وتنقلنا ما قالت "أستاذة ألمانية في الجامعة" (دون ذكر أي مصدر): "إن حل مشكلة المرأة الألمانية هو في إباحة الزوجات. إني أفضل أن أكون زوجة مع عشر نساء لرجل ناجح على أن أكون الزوجة الوحيدة لرجل فاشل تافه. إن هذا ليس رأيي وحدي بل هو رأي نساء كل ألمانيا".
يدَّعي الأستاذ الصابوني أن مؤتمر الشباب الألماني في (ميونخ) بألمانيا عام 1948 أوصى بإباحة تعدد الزوجات حلاً لمشكلة تكاثر النساء وقلة الرجال بعد الحرب العالمية الثانية . وهذا هو العقاد يستشهد تارة بالفلاسفة وتارة أخرى بمن اشتهروا بنزعتهم العنصرية من الكتاب الغربيين لكي يبصّر القارئ بعالمية التعدد فيقول: "ويرى وسترمارك أن مسألة تعدد الزواج لم يفرغ منها بعد تحريمه في القوانين الغربية، وقد يتجدد النظر في هذه المسألة كرَّة بعد أخرى، كلما تحرجت أحوال المجتمع الحديث، فيما يتعلق بمشكلات الأسرة، فتساءل في كتابه المتقدم ذكره: "هل يكون الاكتفاء بالزوجة الواحدة ختام النظم ونظام المستقبل الوحيد في الأزمنة المقبلة؟ذ ثم أجاب قائلاً: "إنه سؤال أجيب على آراء مختلفة، إذ يرى سبنسر أن نظام الزوجة الواحدة هو ختام الأنظمة الزوجية، وأن كل تغيير في هذه الأنظمة لا بد أن يتأدى إلى هذه النهاية، وعلى نقيض ذلك يرى الدكتور ليبون Le Bon أن القوانين الأوروبية سوف تجيز التعدد، ويذهب الأستاذ أهرنفيل Ehernfels إلى حد القول بأن التعدد ضروري للمحافظة على بقاء "السلالة الآرية" ثم يعقب وسترمارك بترجيح الاتجاه إلى توحيد الزوجة إذا سارت الأمور على النحو الذي أدى إلى تقريره" . يمكن أن نلخص أهم الحجج المذكورة في مؤلفات الكتّاب المسلمين اليوم دفاعاً عن تعدد الزوجات وتبريراً لوجوده في أربع نقاط:
1- يدّعون أن عدد النساء في العالم يفوق عدد الرجال، حيث تجاوز نسبة أربع إلى واحد . فإن تعدد الزوجات أحسن حل لهذه المشكلة.
2- يحتجون بأن فترة الإخصاب في الرجل تمتد إلى سن السبعين أو ما فوقها. بينما هي تقف في المرأة عند سن الخمسين أو حواليها، فلا بد من التعدد، لأن عمران الدنيا بالتكاثر والانتشار .
3- يتحدثون عن حالات واقعية مثل رغبة الزوج في إرواء الوظيفة الفطرية (أي العلاقة الجنسية) مع رغبة الزوجة عنها لعائق من السن أو من المرض. فالتعدد هو الحل الوحيد لهذه المشكلة .
ويضاف إلى تلك الحالات الخاصة التي تبيح تعدد الزوجات حيض المرأة إذا طال، ولا يسع الرجل أن يجامعها، أو اشتياق الرجل البالغ إلى "النكاح" والذي لا يمكن شفاؤه بامرأة واحدة، فيحتاج إلى أكثر من زوجة لإراحة النفس . إن الإسلام قد أباح لمثل هؤلاء الرجال تحقيق أمنيتهم في إطار شرعي لكيلا يكلمهم تضليل الشيطان . أما محمد رشيد رضا فلا يذكر حالات خاصة، بل ينطلق من كيان أو طبيعة الرجل التي تجعله من المستحيل أن يكتفي بامرأة واحدة .
4- ورابعاً مشكلة العقم. والذي يقرأ ما يقول به الكتّاب والعلماء المسلمون في العصر الحديث وهم يأتون بمشكلة العقم عند المرأة ويشرحونها نصراً لدعواهم بأن للتعدد حكماً لا يسبر غورها، يلاحظ أن العقم أقوى حجة لديهم. ولا نستغرب ذلك، إذ الولد أو دوام النسل هو سبب وجود النكاح الذي يعني الوطء، ويستعمل بمعنى الزواج مجازاً كما رأينا في الأبواب السابقة. وإذا درسنا سيرة رسول الله، نرى أن المسلم ليس بحاجة إلى الاستشهاد بالمشاكل الاجتماعية أو بالحالات الخاصة أو بما أقره "مؤتمر ميونخ" وما قالته أستاذة ألمانية لتبرير تعدد الزوجات، فإن محمداً الذي يقول عنه القرآن: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الأحزاب 33: 12) خير مثال على أن تعدد الزوجات سنة مؤكدة وليس فقط مباحاً. إذ "قال رسول الله: ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا" . والسنة كما هو المعروف هي المصدر الثاني للشريعة الإسلامية "ومن جهل بها فليس له مرشد في غياهب الشك". ويروى عن هذا المرشد قوله: "فإن خير هذه الأمة أكثرها نساءً" .
لقد حاول المسلمون المعتدلون الذين لاحظوا ما للشريعة من عيوب ونقائص إصلاح النظام الديني وتوفيقه مع متطلبات القرن العشرين. وكانت المحاولة الأولى من هذا القبيل ما قام به المصلح والمفكر الكبير جمال الدين الأفغاني (1837-1937) ونصح عدم تطبيق هذه الآية لاستحالة "العدل" إذا كان للرجل أكثر من امرأة.
بدأت مناقشة ظاهرة تعدد الزوجات منذ بداية القرن العشرين في الأوساط المتحررة، وما تزال تثور حولها موجة سخط وغضب. لقد عالج الكتّاب العرب هذا الموضوع في مؤلفاتهم التي لا تقل عن الدراسات الاجتماعية الأوروبية صرامة في الانتقاد للمجتمع، أمثال الكاتبة المصرية نوال السعداوي والأستاذة المغربية فاطمة المرنيسي.
وما يتصل بالوضع القانوني لتعدد الزوجات في العالم الإسلامي فإنه يقع تحت معاقبة القانون في تركيا وتونس. وصدر في مصر سنة 9791 قانون جاء بقيود إضافية للتعدد تمهيداً لإلغائه نهائياً، وذلك بإيحاء من زوجة الرئيس الراحل أنور السادات. وقد سمّاه الأصوليون المسلمون "قانون جيهان السادات" وقد نص هذا القانون على أن للمرأة أن تطلب الطلاق فوراً وتحتفظ بالمسكن إذا تزوج زوجها امرأة ثانية في حالة حملها . وهناك من يرى تفسير آية التعدد تفسيراً عصرياً خروجاً على الله .
الفصل الثالث عشر
نكاح المتعة
يختلف نكاح المتعة عن الزواج العادي، في أن من يتزوج زواج متعة لا يُقدم على حياة زوجية ولا دوام النسل، بل الغرض الوحيد من ورائه تحصيل رالمتعةذ في إطار رشرعيذ. أما العاقد فيكون في الغالب من بقي مدة طويلة خارج بلده لسبب من الأسباب، فيتزوج امرأة بشكل مؤقت. وتُحدد مدة الزواج في العقد الذي يُفسخ بترحال العاقد.
وتدلنا الأحاديث الواردة بشأن نكاح المتعة على أن محمداً أباحه لأصحابه لا سيما أثناء الغزوات. غير أننا نرى عمر بن الخطاب من أشد المعارضين للمتعة حيث قال: رإن رسول الله أذن لنا المتعة ثلاثاً ثم حرمها. والله! لا أعلم أحداً يتمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة. إلا أن يأتيني بأربعة يشهدون أن رسول الله أحلها بعد أن حرمها. وفي رواية نقرأ أن محمداً حرمها. غير أنها موضع خلاف بين الفقهاء، إذ رُوي عن عمران قوله: "تمتعنا على عهد رسول الله فنزل القرآن. قال رجل برأيه ما شاء".
وبغض النظر عن الخلافات في تفاصيل "المتعة" عند المذاهب السنية بإمكاننا القول أنها تساوي الزنا، بينما جعلتها الشيعة صنفاً من أصناف الزواج الشرعي. ولكن هذا لا يعني أن لا يوجد في الفقه السني ما له طابع المتعة، وإن لم يسموها "متعة". فقد يحدث مثلاً أن يتفق الرجل مع المرأة بصورة إضافية إلى عقد النكاح، ويلزمان أنفسهما بالطلاق عند انتهاء المدة التي اتفقا عليها.
وبما أن المذاهب السنية أجمعت على نسخ المتعة وتحريمها بناء على أحاديث مروية عن محمد. نريد معالجة الموضوع في الفقه الشيعي. إن مشروعية نكاح المتعة في (رأي الشيعة) ثابتة في القرآن والسنة، وما رُوي عن أئمتهم المعصومين. أما دليلهم القرآني فهو: "والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأُحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة ولا جُناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة، إن الله كان عليماً حكيماً. ومن لم يستطع منكم طَوْلاً أن ينكح المحصَنات المؤمنات، فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات، والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض، فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصَنات غير مسافحات ولا متخذاتِ أخدانٍ. فإذا أُحصنَّ فإن أتين بفاحشةٍ فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، ذلك لمن خشي العنتَ منكم، وأن تصبروا خير لكم، والله غفور رحيم" (النساء، 4: 42 و52).
ورُوي عن أبي عبد الله (جعفر الصادق، الإمام السادس للشيعة الاثني عشرية) قوله عن نكاح المتعة: "أحلها الله في كتابه، وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فهي حلال إلى يوم القيامة". فقال أبو حنيفة ذات يوم: ريا أبا جعفر، مثلك يقول هذا وقد حرمها عمر ونهى عنها؟ذ! فقال: "وإن كان فعل". قال: "إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئاً حرمه عمر". قال: فقال له: "فأنت على قول صاحبك، وأنا على قول رسول الله (ص)، فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله (ص)، وأن الباطل ما قال صاحبك". قال: فأقبل عبد الله بن عمير فقال: "يسرك أن نساءك وبناتك وأخواتك وبنات عمك يفعلن". قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السلام حين ذكر نساءه وبنات عمه.
وعن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: "سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله عليه السلام عن المتعة، فقال: أي المتعتين تسأل؟ قال: سألتك عن متعة الحج، فأنبئني عن متعة النساء أحَقٌّ هي؟ فقال: سبحان الله، أما قرأت كتاب الله عزّ وجلّ؟ "فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة" فقال أبو حنيفة: والله فكأنها آية لم أقرأها قطٌ.
وفي رواية مرفوعة من علي أن أبا حنيفة قال لأبي جعفر محمد بن النعمان صاحب الطاق: يا أبا جعفر ما تقول في المتعة، أتزعم أنها حلال؟ قال: نعم. قال: فما يمنعك أنه تأمر نساءك أن يستمتعن ويكتسبن عليك؟ فقال له أبو جعفر: ليس كل الصناعات يُرغب فيها وإن كانت حلالاً، وللناس أقدار ومراتب يرفعون أقدارهم. ولكن ما تقول يا أبا حنيفة في النبيذ، أتزعم أنه حلال؟ فقال: نعم. قال: فما يمنع أن تقعد نساؤك في الحوانيت نابّذات فيكتسبن عليك؟ فقال أبو حنيفة: واحدة بواحدة، وسهمك أنفذ. ثم قال له: يا أبا جعفر، إن الآية التي في "سأل سائل" تنطق بتحريم المتعة، والرواية عن النبي (ص) قد جاءت بنسخها. فقال له أبو جعفر: يا أبا حنيفة، إن سورة "سأل سائل" مكية، وآية المتعة مدنية، وروايتك شاذة ردية. فقال له أبو حنيفة: وآية الميراث أيضاً تنطق بنسخ المتعة، فقال أبو جعفر: قد ثبت النكاح بغير ميراث، قال أبو حنيفة: من أين قلت ذاك؟ فقال أبو جعفر: لو أن رجلاً من المسلمين تزوج امرأة من أهل الكتاب ثم توفي عنها ما تقول فيها؟ قال. لا ترث منه، قال: فقد ثبت النكاح بغير ميراث، ثم افترقا.
وحجة المذاهب السنية في نسخ "المتعة" (بجانب الأحاديث التي تطرقنا إليها) الآية: رقد أفلح المؤمنون .. الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين" (المؤمنون 32: 5) غير أن الشيعة تزعم أن هذه الآية مكية ونزلت قبل إباحة المتعة. ويبدو أن التفسير الشيعي ينسجم مع الواقع التاريخي أكثر، لأن لنا شواهد عديدة في مجموعات الأحاديث (المعتبرة لدى السنة) لم يبح فيها محمد نكاح المتعة فقط، بل أمر به أصحابه. وفي رواية عن جابر بن عبد الله أن المتعة تكون للأبد. يخبرنا ما ورد في مسند أحمد بن حنبل: "أنزل الله من الرخصة بالتمتع، وسنّ رسول الله فيه". يتضح لنا من الأخبار أن أصحاب محمد عانوا صعوبة بالغة في فهم هذه الرخصة وتوفيقها مع مبادئ الأخلاق السائدة حينذاك، كما نعرف ذلك من قول عمر.
والظاهر في الروايات الشيعية أن ليس هناك تحديد عددي لمن يريد "متعة النساء". رعن أبي عبد الله قال: ذكر له المتعة أهي من الأربع؟ فقال: تزوج منهن ألفاً فإنهن مستأجرات". وأما تعليل نكاح المتعة عند الشيعة فمن الغرابة بمكان. إذ يقولون إنه أُبيح للرجل لكي يحافظ على عفافه إن كان أعزب: "عن الفتح بن يزيد قال: سألت أبا الحسن عن المتعة فقال: هي حلال مباح مطلق لمن يغنيه الله بالتزويج (أما) من لم يغنه (الله) بالتزويج فليستعفف بالمتعة، فإن استغنى عنها بالتزويج فهي مباح له إذا غاب عنها". والإشارة هنا بالاستعفاف إلى الآية 6 في سورة النساء، غير أنها لا تتصل بموضوع المتعة كما تعترف به أشهر وأقدم التفاسير الشيعية. ومن الغريب أيضاً أن نقرأ بأنه لا يجوز متعة كل النساء، إذ هناك شروط وأوصاف للمرأة يجب توفرها. فالشرط الأول أن تكون المرأة مؤمنة وعفيفة رعن أبي جعفر أنه سُئل عن المتعة فقال: إن المتعة اليوم ليس كما كانت قبل اليوم إنهن يومئذ يؤمنَّ واليوم لا يؤمنَّ فاسئلوهن. عن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله عنها - يعني المتعة - فقال لي: حلال، فلا تتزوج إلا عفيفة، إن الله عز وجل يقول: "والذين لفروجهم حافظون" (المؤمنون 32: 5). فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك. ومن أراد أن يتزوج امرأة زواج المتعة ولا يعرف أهي عفيفة أم لا، فعليه "أن يتعرض لها، فإن أجابته إلى الفجور فليست عفيفة". وعن محمد بن أبي الفضيل قال: سألت أبا الحسن عن المرأة الحسناء الفاجرة، هل يجوز للرجل أن يتمتع منها يوماً أو أكثر؟ فقال: "إذا كانت مشهورة بالزنا فلا يتمتع منها ولا ينكحها".
وأما شروط المتعة فهي اثنان. أجل مسمى وأجر مسمى. عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول أتزوجك متعة على كتاب الله وسنة نبيه (ص)، لا وارثة ولا موروثة، كذا وكذا يوماً. وإن شئت كذا وكذا سنة، بكذا وكذا درهماً. وتسمّي من الأجر ما تراضيتما عليه، قليلاً كان أم كثيراً. فإذا قالت: نعم فقد رضيت، فهي إمرأتك وأنت أولى الناس بها. قلت: فإني أستحي أن أذكر شرط الأيام. قال: هو أضر عليك. قلت: وكيف؟ قال: إنك إن لم تشترط كان تزويج مقام ولزمتك النفقة في العدة، وكانت وارثة ولم تقدر على أن تطلقها إلا طلاق السنة.
يقول الفقهاء بعدم جواز "التمتع" من النصرانية واليهودية، عن الحسن التفليس قال: "سألت الرضا، أيتمتع من اليهودية والنصرانية؟ فقال: التمتع من الحرة المؤمنة أحب إليَّ، وهي أعظم حرمة منهما".
الفصل الرابع عشر
الطلاق
الطلاق في اصطلاح الفقهاء "رفع قيد النكاح". والرجل وحده هو المؤهَّل لتنفيذه. كان الطلاق معروفاً في شبه الجزيرة العربية قبل محمد، ويفيد فسخ عقد النكاح فوراً ونهائياً. وقد أتى القرآن بقواعد جديدة لم تكن معروفة لدى معاصريه.
يمكن أن نلخص الأحكام الواردة في المصادر الفقهية بشأن الطلاق كما يلي: الرجل يملك وحده حق التطليق، ولا يجب عليه أن يذكر سبباً. غير أنه يُعتبر مكروهاً، وعند الأحناف حراماً. أما القاعدة القرآنية للطلاق فهي الآيتان: "الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" (البقرة 2: 922) و"يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن" (الطلاق 56: 1). وأما دليل جوازه في السُنة فما روي عن ابن عمر: "أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله. فقال رسول الله: مُره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض. ثم تطهر. ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء".
يقول الفقهاء من المذهب الحنفي إن الطلاق يكون أحد الثلاث: الأفضل والحسن والمكروه (النافذ). الطلاق الأفضل أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لَمْ يجامعها فيه، وكذا لم يجامعها في حالة الحيض الذي قبله. والطلاق الحسن أن يطلقها ثلاث تطليقات في كل من الحيضة الأولى والثانية والثالثة أثناء طهرها دون أن يجامعها. وأما الطلاق المكروه أو البدعي فهو طلاقها طلقتين أو ثلاث طلقات في حيضتها بلفظ واحد. طلاق الحرة ثلاثاً، وطلاق الأمة طلقتان، ويجوز طلاق المكرهة أيضاً.
لا يستلزم الطلاق لجوازه وجود النية المطلوبة مثلاً لصحة الصلاة المفروضة، ويتم بأن يقول الرجل لزوجته: "أنت طالقة" أو "طلقتك". فإذا قال الرجل لزوجته: أنت مطلقة من هنا إلى الشام فهذا طلاق واحد له الرجعة. فإن قال: أنت مطلقة في مكة أو بمكة فينفذ طلاقها في سائر البلدان. وإن قال: أنت مطلقة غداً فيتم طلاقها بالسَّحر. وإن قال: أنت مطلقة قبل زواجي منك فهذا ليس بطلاق. ولكن إن قال: أنت مطلقة ما لم أطلقك أو إلى أن طلقتك أو حين لم أطلقك، وهي سكتت، فالطلاق نافذ .. ولكن إن قال لها: أنت مطلقة إن لم أطلقك أو إن لم أكن طلقتك، فلا تكون مطلقة إلى أن تُتوفى.
لقد أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يتم بصريح القول فحسب، بل يكون عن طريق الإشارة والكتابة أيضاً. من هذا القبيل قوله لها: "اعتدّي" أو "استبرئي رحمك!" أو "أنت واحدة"!". وفي هذا الموضوع تفصيل أفرط فيه الفقهاء. إذا طلق الرجل امرأته تطليقة واحدة فله أن يرجع إليها أثناء عدتها، ولا يلزمه إذنها، بل يكفي أن يقول لها: "قد رجعت إليك" أو "مسكتك أو أمسكتك". يبدو أن حق الرجل في "الرجعة" استغل به في عهد محمد، حيث كان الرجل يطلق امرأته ثم "يرجع" إليها قبل عدتها لكي يطلقها من جديد، ليجبرها على دفع المهر إياه، أو عتقها من الرجل، مما أدى بمحمد إلى إصلاح هذا الوضع فجاء في القرآن: "وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا. من يفعل ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزواً .. واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم" (البقرة 2: 132-232). و"فإن طلقها (أي ثلاثاً) فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره" (البقرة 2: 03) وورد في السنة تأكيداً لهذا الحكم: "أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله (ص) فقالت: يا رسول الله، إن رفاعة طلقني فبتَّ طلاقي، وإني نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظي، وإنما معه مثل الهدبة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا! حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته".
حدثني محمد بن بشار: حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال: حدثني القاسم بن محمد، عن عائشة: أن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً، فتزوجت فطلق، فسُئل النبي (ص): أتحل للأول؟ قال: "لا، حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول".
يزعم المستشرق الهولندي Juynboll أن قول القرآن: "حتى تنكح زوجاً غيره" (2: 230) قصد محمد من ورائه منح النساء حلاً وسطاً.
لقد ذهب الفقهاء من مختلف المذاهب إلى أن الرجل لا يلزمه ذكر سبب إذا طلق زوجته. بيد أن بعض الكتاب والعلماء المعاصرين يدعون عكس ذلك، فيقول الصابوني: فإذا لم تُجْد جميع وسائل الإصلاح للتوفيق بين الزوجين، كان الطلاق ضرورة لا مندوحة عنه. ومن الضرورات التي تبيح الطلاق أن يرتاب الرجل في سلوك زوجته، وأن يطلع منها على الخيانة الزوجية باقتراف (فاحشة الزنى) فهل يتركها تفسد عليه نسبه، وتكدر عليه حياته أم يطلقها؟ وهناك أسباب أخرى كالعقم، والمرض الذي يحول دون الالتقاء الجسدي، أو المرض المعدي الذي يخشى انتقاله إلى الآخر إلى غير ما هنالك من الأسباب الكثيرة. وقد جعل الله جل ثناؤه الطلاق في تشريعه الحكيم مرتين متفرقتين في طهرين - كما دلت على ذلك السنة المطهرة - فإن شاء أمسك، وإن شاء طلق وأمضى الطلاق، فيكون الزوج على بينة مما يأتي وما يذر، ولن يتفرق بالطلاق بعد هذه الروية وهذه الأناة إلا زوجان من الخير ألا يجتمعا لصالح الأسرة وصالحهما بالذات".
وكثيراً ما يتحدث الكتاب المسلمون عن إباحة الطلاق في الإسلام وأحكامه كمفخرة من مفاخر الإسلام تجاه المسيحية والقوانين الوضعية والتي حرمت النكاح إلا في حالة الزنى (كما هو الحال في المسيحية) أو قيدته بشروط تجعله شبه المستحيل، الأمر الذي يتناقض والفطرة.
ونختم هذا الفصل بقول العقاد: "شريعة القرآن الكريم في مسألة الطلاق شريعة دين ودنيا، وكل ما اشتملت عليه من حرمة الدين تابع لما شرع له الزواج أن يتجرد الزواج من مصلحته النوعية الاجتماعية، تغليباً للصبغة العبادية على مشيئة الأزواج".
الفصل الخامس عشر
نصيب المرأة من الميراث
لعلم الفرائض صلة وثيقة بالحقوق العائلية من حيث انتقال "تركة" الشخص المتوفى إلى أقربائه "العليا". ويتوقف على النظام العائلي تحديد من هو المؤهَّل للميراث، أو بعبارة أخرى من هم الوارثون. فالرجال عند العرب الجاهليين كانوا وحدهم يملكون حق الإرث، وذلك بناء على النظام الأبوي (patriarchal) وهذا بقي أيضاً طابع الشريعة الإسلامية والمبدأ الأساسي في علم الفرائض.
وتُبنى القاعدة القرآنية في تنظيم أحكام الشريعة بشأن الميراث على الآية: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كنّ نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف، ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث، فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين. آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً، فريضةً من الله، إن الله كان عليماً حكيماً" (النساء 4: 11).
وعن الأرامل: "ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهنّ ولد، فإن كان لهنّ ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين، ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد. فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم" (النساء 4: 21).
كما هو الحال في الشهادة فالمرأة تظهر في "علم الفرائض" أيضاً "كنصف إنسان" لها نصف ما للرجل، بيد أن المفسرين القدماء - مثلهم مثل الكتاب المسلمين المعاصرين - يزعمون أن هذا الوضع رفعٌ لمكانة المرأة وتكريم لها، لأنها لم تكن تملك شيئاً من الميراث في المجتمع الجاهلي إلى أن نزلت هذه الآيات: "عن السدي (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، ولا الصغار من الغلمان، لا يرث الرجل من أولاده إلا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، وترك امرأة يقال لها أم كُحة، وترك خمس أخوات، فجاءت الورثة يأخذون ماله، فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (ص)، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك، وإن كانت واحدة فلها النصف) ثم قال في أم كحة (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد. فإن كان لكم ولد فلهن الثمن).
ورُوي عن ابن عباس: "كان المال وكانت الوصية للوالدين والأقربين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين".
ويبدو أن القرآن حاول إصلاح وضع المرأة في الميراث، ولكنه لم يوفَّق - ولا نقدر أن نتوقع ذلك منه - في مساواة كاملة بينها وبين الرجل. وابن جرير الطبري (الذي يجب أن نعتبر تفسيره أقدم ما وصل إلينا بعيداً عن يد التحريف) يكتفي بسرد الروايات عن سبب نزول الآية دون أن يعلق عليها. ولكن نجد في نفس العصر الذي عاش فيه الطبري من اكتشف في طيات هذه الآية مزايا الرجل وما تفوَّق به على الأنثى، نعني المفسر والفيلسوف فخر الدين الرازي: "لا شك أن المرأة أعجز من الرجل لوجوه: أما أولاً فلعجزها عن الخروج والبروز، فإن زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك. وأما ثانياً: فلنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها. وأما ثالثاً: فلأنها متى خالطت الرجال صارت متهمة، وإذا ثبت أن عجزها أكمل وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟.
يجيب الرازي عن السؤال الذي طرحه بنفسه، فيقول: "والجواب عنه من وجوه: الأول: إن خروج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها، وخروج الرجل أكثر لأنه هو المنفق على زوجته، ومن كان خروجه أكثر فهو إلى المال أحوج. الثاني: أن الرجل أكمل حالاً من المرأة في الخلقة وفي العقل وفي المناصب الدينية، مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضاً شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، ومن كان كذلك وجب أن يكون الإنعام عليه أزيد. الثالث: إن المرأة قليلة العقل كثيرة الشهوة، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفساد قال الشاعر:
إن الفراغ والشباب والجِده مفسدةٌ للمرء أي مفسده
وقال تعالى: "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى" وحال الرجل بخلاف ذلك. والرابع: أن الرجل لكمال عقله يصرف المال إلى ما يفيده الثناء الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في الآخرة، نحو بناء الرباطات، وإعانة الملهوفين والنفقة على الأيتام والأرامل، وإنما يقدر الرجل على ذلك لأنه يخالط الناس كثيراً، والمرأة تقل مخالطتها مع الناس فلا تقدر على ذلك.
وأخيراً يأتي الرازي المعروف بأسلوبه العقلاني في تفسير القرآن برواية أنّ جعفر الصادق (الإمام السادس للشيعة الإثني العشرية) كدليل على أن القاعدة القرآنية لميراث الأنثى قاعدة شبه أزلية: "رُوي أنّ جعفر الصادق سئل عن هذه المسألة فقال: إن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم. فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل". يقول النسفي: "المراد (أي بالآية: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) حال الاجتماع، أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان، كما أن لهما سهمين. وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله والبنتان تأخذان الثلثين".
قد يجوز التسليم بأن القرآن - كما قلنا آنفاً، وكما قال المفسرون جاء بما يمكن اعتباره إصلاحاً لوضع المرأة في المجتمع الجاهلي، وإن لم يكن هذا من قبيل التسوية بين المرأة والرجل قياساً على المفهوم السائد في عصرنا. غير أن القرآن نفسه بأمسّ حاجة إلى الإصلاح من هذه الناحية، نظراً لما انجزت البشرية من تقدم في مساواة الجنسين. فهذه مشكلة المفكر أو الفقيه المسلم اليوم. فهو كمسلمٍ يؤمن أن كتابه الكريم أُنزل من السماء وليس من كلام البشر، فلا يسعه الاعتراف بوجود عيب أو نقص فيه، بل هو مضطر إلى الدفاع حتى عما يسميه الناس "إهانة للمرأة" فيزعم أن ما يسميه الناس إهانة للمرأة هي في الحقيقة تكريم لها: "ولا يزال في الناس إلى يومنا هذا من يرى أن إنسانية المرأة أقل من إنسانية الرجل. وأنها لذلك كانت في الميراث على النصف من ميراث الرجل، وكانت كذلك في الشهادة، ويقولون: إن ذلك هو حكم الإسلام وقد قرره القرآن "للذكر مثل حظ الأنثيين" (النساء 4: 11)، "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان" (البقرة 2: 282). والحق أن حكم المرأة في الميراث، ليس مبنياً على أن إنسانيتها أقل من إنسانية الرجل، وإنما هو مبني على أساس آخر قضت به طبيعة المرأة والحياة العاملة".
إن نقطة الضعف عند شلتوت وأمثاله من العلماء والفقهاء المعاصرين ممن عنوا بتبرير ما لا يمكن توفيقه مع العصر الحديث من القرآن، هي أن يفترضوا ظروفاً لا يمكن تصور وجودها إلا في ظل الشريعة الإسلامية. فعندما يتحدث شلتوت عن دور المرأة في الحياة العاملة أي كربة البيت وكمن تعيش من إنفاق زوجها، وتحملها أعباء جسيمة!! في سياق دفاعه عن "وللذكر مثل حظ الأنثيين"، ينطلق من مبدأ شبه بدائي للمجتمعات المتقدمة، أي ليس بوسع المرأة أن تشتغل خارج بيتها فتشارك مع زوجها في تدبير المعاش! وأخيراً يرى شلتوت رفي ظل هذا الأساس أن المرأة أسعد حظاً من الرجل في نظر الإسلام".
الفصل السادس عشر
شهادة المرأة
شهادة المرأة في الإسلام لا تساوي إلا نصف شهادة الرجل كما ينص القرآن والسنة على ذلك. جاء في القرآن: "واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء. أن تضل إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى"(البقرة 2: 282). لقد علل محمد هذه القاعدة بنقصان عقل المرأة: "خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمرَّ على النساء فقال: "يا معشر النساء، تصدَّقن فإني أُريتكم أكثر أهل النار، فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان عقلنا وديننا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم. قلن: بلى. قال. فذلك من نقصان دينها. نرى أن المفسرين يذكرون هذا الحديث دعماً لكون شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل. يتحدث المفسر فخر الرازي عن "نسيان المرأة" الذي يتعلق بجوهرها الذي تغلبه الرطوبة والبرودة".
ويبرر ابن قيم الجوزي مدلول آية البقرة 2: 282 بقوله: "قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى: قوله تعالى: "فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى" فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة، وهو النسيان وعدم الضبط، وإلى هذا المعنى أشار النبي (ص) حيث قال: "أما نقصان عقلهن: فشهادة امرأتين بشهادة رجل"، فبيّن أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل لا لضعف الدين، فعلم بذلك: أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال، وإنما عقلها ينقص عنه، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة: لم تكن فيه على نصف رجل، وما تقبل فيه شهادتهن منفردات: إنما هو أشياء تراها بعينها، أو تلمسها بيدها، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل، كالولادة والاستهلال، والاتضاع، والحيض، والعيوب تحت الثياب، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى كمال عقل، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره، فإن هذه معان معقولة، ويطول العهد بها في الجملة".
من الأمور المختلف فيها: متى تكون شهادة المرأة صالحة؟ وهناك روايات تذكر أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب قالا أن ليس لشهادتها في أمور الطلاق والزواج والحدود أي اعتبار. وأما نقصان العقل الوارد ذكره في الحديث فليس المراد به (كما يقول شارح البخاري) لومهن عليه، لأنه من أصل الخلقة، لكن التنبيه على ذلك تحذيراً من الافتنان بهن.
لقد لاحظ المفسرون القدامى (في النصوص الواردة عن شهادة المرأة في القرآن وفي الحديث) نقصان عقل المرأة، واحتجوا على صحة ذلك بأنواع الحجج، مثل كثرة الرطوبة في مزاجها أو أصل خلقتها، ولكن يحاول المسلمون المعاصرون تأويل وتبرير النصوص "بطريقة علمية". يبدو الإمام محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا أن يكونا من القليلين الذين أرجعوا مطالبة القرآن بامرأتين مقابل رجل واحد إلى عدم اختصاص المرأة بمجال من مجالات الحياة وليس إلى نقصان عقلها. فالأمر يعود إلى ضعف ذاكرتها في أمور ليست من اختصاصها مثل المعاملات المالية ونحوها من المفاوضات.
والذي يخجل أن ينسب إلى المرأة نقصان العقل، لكي لا يُتَّهم بالبدائية أو العداء للنساء، ينبر على أن المرأة تحت حكم العواطف، خلافاً للرجل، الأمر الذي راعاه الله، فيقول العقاد: "والقضية في الشهادة هي قضية العدل وحماية الحق والمصلحة، ولها شروطها التي يلاحظ فيها المبدأ وضمان الحيطة على أساسه السليم. والمبدأ هنا - كما ينبغي أن تتحراه الشريعة - هو دفع الشبهة من جانب الهوى، وما يوسوس به للنفس في أحوال المحبة والكراهة وعلاقات الأقربين والغرباء. وليس بالقاضي العادل من يعرض له هذا المبدأ، فيقضي بالمساواة بين الجنسين في الاستجابة لنوازع الحس، والانقياد لنوازع العاطفة، والاسترسال مع مغريات الشعور من رغبة ورهبة. فالمبدأ الذي ينبغي للقاضي العادل أن يرعاه هنا، حرصاً على حقوق الناس، أن يعلم أن النساء لا يملكن من عواطفهن ما يملكه الرجال، وأنه يجلس للحكم ليحمي الحق، ويدفع الظلم، ويحتاط لذلك غاية ما في وسعه من حيطة، لأنه أمر لا يعنيه لشخصه، ولا يحل له أن يجعله سبيلاً إلى تحية من تحايا الكياسة، أو مجاملة من مجاملات الأندية. وقديماً كانت هذه التحايا والمجاملات تجري في ناحية من المجتمع، وتجري معها في سائر نواحيه ضروب من الظلم للمستضعفين والمستضعفات تقشعر لها الأبدان".
لقد صار القول بتغلب العاطفة على المرأة، مما يؤدي بها إلى الحيدان عن العدل والموضوعية في الحكم، الحجة المفضلة عند الكتاب والفقهاء المسلمين في العصر الحاضر. فالشيخ محمود شلتوت يتكلم عن قضايا لا تقبل فيها إلا شهادة الرجل، وهي القضايا التي تثير موضوعاتها عاطفة المرأة ولا تقوى على تحملها. على أنهم قد رأوا قبول شهادتها في الدماء إذا تعينت طريقاً لثبوت الحق واطمئنان القاضي إليها، وعلى أن منها ما تقبل شهادتهما معاً. ويشرح سيد قطب ضلال المرأة (البقرة 2: 282) بعدة أسباب: "فقد ينشأ من قلة خبرة المرأة بموضوع التعاقد، مما يجعلها لا تستوعب كل دقائقه، ومن ثم لا يكون من الوضوح في عقلها. وقد ينشأ من طبيعة المرأة الانفعالية، فإن وظيفة الأمومة العضوية البيولوجية تستدعي مقابلاً نفسياً في المرأة حتماً. بينما الشهادة على التعاقد في مثل هذه المعاملات في حاجة إلى تجرد كبير من الانفعال.
الفصل السابع عشر
وضع الإماء في الإسلام
يعترف الإسلام بأن للرجل أن يملك إماءً بجانب زوجته أو زوجاته، قضاءً لحاجته الجنسية. ويقدم القرآن تعداد النساء اللاتي لا يجوز للمسلم التزوج منهن، ولكنه يستثني ما يطلق عليه "ما ملكت أيمانكم" من تلك القائمة: "حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم، وأُحلّ لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به، من بعد الفريضة. إن الله كان عليماً حكيماً" (النساء 4: 32 و42).
نقرأ في تفسير الطبري أن المراد ب"ما ملكت أيمانكم" السبايا التي فرَّق بينهن وبين أزواجهن السِّباءُ، فحُللن لمن صرن له بملك اليمين من غير طلاق كان من زوجها المربي لها. وعن أبي قلابة عن قوله (المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) يقول: كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب، فهي لك حلال إذا استبرأتها. عنه أيضاً عندما سئل عن معنى الآية: إذ سُبيت المرأة ولها زوج في قومها فلا بأس أن يطأها، إن هذا التفسير مبني بلا شك على الروايات الواردة عن محمد بشأن السبايا: "عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله بعث يوم حنين بعثاً إلى أوطاس فلتواعدوهم وقاتلوهم فظهر عليهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن أناساً من أصحاب رسول الله تحرجوا من أجل أزواجهن من المشركين. فأنزل الله في ذلك "والمحصنات من النساء". وهناك من فسر "إلا ما ملكت أيمانكم" بنساء أهل الكتاب. أما الطبري نفسه فيقول في تفسير الآية: "فواجب أن يكون كل محصنة بأي معاني الإحصان كان إحصانها حراماً علينا سفاحاً ونكاحاً، إلا ما ملكته إيماننا منهن بشراء، كما أباحه لنا كتاب الله، أو نكاح على ما أطلقه لنا تنزيل الكتاب (الله). فالذي أباحه تبارك وتعالى لنا نكاحاً من الحرائر الأربع سوى اللواتي حرمن علينا بالنسب والصهر، ومن الإماء ما سبينا من العدو، سوى اللواتي وافق معناهن معنى ما حرم علينا من الحرائر بالنسب والصهر، فإنهن والحرائر فيما يحل ويحرم بذلك المعنى متفقات المعاني، وسوى اللواتي سبيناهن من أهل الكتابين ولهن أزواج، فإن السباء يحلهن لمن سباهنّ بعد الاستبراء وبعد إخراج حق الله.
فبما أن علاقة الرجل مع الإماء لا تتصل بموضوع الزواج، وأنهن لا يملكن نظرياً ما تملكه الحرائر من حقوق وأهلية، لا يوجد في المصادر الفقهية فصل مستقل بأحوالهن التي لا تهم "كتاب النكاح" إلا بشكل غير مباشر الأمر، الذي يمكن تفسيره بأنهن لا يُعتَبرن كأشخاص بل كممتلكات صاحبهن، كما هو الحال أيضاً في العهد القديم. ولهذا السبب لا يجوز عقد الزواج بينهن وبين أصحابهن. إلا أن للرجل الحر أن يزّوج إماءه أي شخص يريده دون أن يستأذنها، فهو عندئذ بمثابة وليها. وأما أولاد الأمة من هذا الزوج فيتبعون أمهم عبيداً وإماء، سواء كان والدهم حراً أو عبداً، لأنهم ملك زوج أمهم. ولصاحب الجارية أيضاً أن يتزوجها. صحيح أن الشريعة تسمح للرجل الحر بالتمتع بجميع إمائه شريطة أن يكنَّ مسلمات (أو من أهل الكتاب) وغير متزوجات، غير أنها تؤكد على الفرق الشاسع بين هذا النوع من الزواج والزواج الشرعي العادي. وما دام الرجل الحر هو صاحب الأمة بالملكية، يمنعه حق الملك من زواجها، فعليه أن يصدقها إذا أراد زواجها. وأما أولاد الأمة من صاحبها (مالكها) فيكونون أحراراً مساوين لأولاد الرجل الآخرين في جميع الحقوق. للرجل الحر أيضاً أن يتزوج من أمة شخص آخر إن كانت مؤمنة، إن وافق مالكها على ذلك. ولكن الشريعة تأتي بشروط إضافية لمثل هذا الزواج، لأن الأولاد من هذا النوع من الزواج لا يملكون الحرية.
الفصل الثامن عشر
تأديب الرجل زوجته
جواز ضرب المرأة (في حالة النشوز) مبني على القرآن والحديث. فيقول القرآن: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً" (النساء 4: 23). وقد بذل الفقهاء والكتاب المعاصرون في العصر الحديث قصارى جهدهم في تضعيف مضمون هذه الآية، من خلال تفسيرهم "نشوزهن" بالعصيان والزنا، حيث يكون الضرب الوسيلة الأخيرة لصد المرأة عن هذا العمل الشنيع، إلا أن الفقهاء والمفسرين القدامى كانوا أكثر واقعية وصراحة. فعند الشافعي للرجل أن يضرب امرأته ولكن تركه أفضل. وأما الآية الأخرىالتي يستدلون بها على جواز ضرب النساء فهي: "وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث. إنا وجدناه صابراً، نعم العبد إنه أوّاب" (ص 83: 44). إن المخاطب هنا هو النبي أيوب. روى عن قتادة: "كانت امرأة أيوب عرضت له بأمر وأرادها إبليس على شيء فقال: لو تكلمت بكذا وكذا وأن حملها عليها بالجزع. فحلف نبي الله: لئن الله شفاه ليجلدنها مئة جلدة". يقول الجصاص: وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديباً. لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها، ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه. والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت نشازاً بقوله (واللاتي تخافون نشوزهن) إلى قوله (واضربوهن) وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديباً لغير نشوز، وقوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) فما رُوي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب، لأنه رُوي أن رجلاً لطم امرأته على عهد رسول الله فأراد أهلها القصاص فأنزل الله (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض). يقول القاضي ابن العربي: "إن الأمر بالضرب هنا أمر إباحة" ويضيف بالإشارة إلى قول عطاء بأن في ذلك كراهة، إذ روي عن محمد قوله: "إني لأكره الرجل أن يضرب أمته عند غضبه، ولعله أن يضاجعها من يومه".
ولا يجوز أن يكون الضرب مبرحاً كما ورد في حجة الفقهاء عن السنة في جواز ضرب النساء: "عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، حدثني أبي أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله. فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال: "استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان، ليس يملكون منهن شيئاً غير ذلك. إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح". يقول الصابوني إن قول محمد هذا يدل على جواز ضربها فوق حدود الأدب (7). أما كون الضرب دون التبريح فمعناه "أن لا تكسر لها عظماً أو ضرباً غير مؤثر. مع أنه هناك أحاديث عديدة في كراهية ضرب المرأة يبدو أن الفقهاء والمفسرين في مختلف العصور (حتى في يومنا هذا) اختاروا من بين الروايات ما يبيح ويحبذ تأديب النساء مثل "لا يُسأل الرجل فيما يضرب امرأته". الحديث الذي أكثروا من الاستشهاد به.
وأما متى يجوز ضرب المرأة، أو بعبارة أخرى ما هو النشوز الذي يؤهل الرجل أن يضرب امرأته كآخر وسيلة، ففيه خلاف بين العلماء. و"إن أكثر الفقهاء قد خصّوا النشوز الشرعي الذي يبيح الضرب إن احتيج إليه لإزالته بخصال قليلة كعصيان الرجل في الفراش، والخروج من الدار بدون عذر. وجعل بعضهم تركها الزينة وهو يطلبها نشوزاً، وقالوا: له أن يضربها أيضاً على ترك الفرائض الدينية كالغسل والصلاة. والظاهر أن النشوز أعم، فيشمل كل عصيان سببه الترفع والإباء. إنه من الغرابة بمكان أن يرى الفقهاء ضرب المرأة كوسيلة شرعية ليجبرها الرجل على المضاجعة ولكن الأغرب من ذلك هو محاولة الكتّاب المسلمين في القرن العشرين تبرير هذه الحجة الشاذة بما يدعون من اكتشافات علم النفس الأوروبي. فالعداء للنساء أو التعصب الأعمى أدى بأحدهم إلى الزعم (وهو ينقل حسب زعمه عن عالم أوروبي) أن المرأة تجد متعة في أن يحكمها الرجل بحكم غريزة الطاعة والانصياع لديها، وإنه كلما يضربها زوجها تزداد إعجاباً به! ولا يُحزن بعض النساء شيء مثل رجل يكون دائماً لطيفاً ودوداً. ويقول محمد زكي عبد القادر إنه يعجب النساء من الرجال من هو "صعب" لكي تكسر إرادتها بإرادته. فمع أنهن يصرخن و .. يحسسن في أعماق نفوسهن متعة الضعف تجاه قوة رجالهن. وكتب أحد الأساتذة التقدميين قبل بضع سنوات: "أما الضرب فهو في حالة إمعان المرأة في النشوز وهي تزرع البؤس في بيتها، ونفوس أولادها وذويها، وفي أعماق زوجها، ولا يظنن أحد أن في الضرب وجهاً وحشياً، إذ هنالك نساء يضربن أزواجهن، ونساء أخريات لا يسمحن بقرب الزوج إلا بعد أن يوجعهن ضرباً، أو يدميهن، وهذا ما أشارت إليه الدراسات البسيكولوجية عن الشذوذ".
يهاجم الإمام محمد عبده من يسميه ب"بعض مقلدة الإفرنج الذين يستكبرون من مشروعية ضرب المرأة الناشز، ولا يستكبرون أن تنشز وتترفع عليه، فتجعله وهو رئيس البيت مرؤوساً بل محتقراً" فيسأل: "فأي فساد يقع في الأرض إذا أبيح للرجل التقي الفاضل أن يخفض من صلف إحداهن ويدهورها من نشز غرورها بسواكٍ يضرب به يدها، أو كفٍ يهوى بها على رقبتها؟ إن كان يثقل على طباعهم إباحة هذا فليعلموا أن طباعهم رقت حتى انقطعت، وأن كثيراً من أئمتهم الإفرنج يضربون نساءهم العالمات المهذبات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، فعل هذا حكماؤهم وعلماؤهم، وملوكهم وأمراؤهم، فهو ضروروة لا يستغني عنها الغالبون في تكريم أولئك النساء المتعلمات، فكيف تستنكر إباحته للضرورة في دين عام للبدو والحضر، من جميع أصناف البشر؟.
ويضيف المصلح الكبير الأستاذ الإمام: "إن مشروعية ضرب النساء ليست بالأمر المستنكر في العقل أو الفطرة، فيحتاج إلى التأويل، فهو أمر يحتاج إليه في حال فساد البيئة وغلبة الأخلاق الفاسدة، وإنما يباح إذا رأى الرجل أن رجوع المرأة عن نشوزها يتوقف عليه، وإذا صلحت البيئة وصار النساء يعقلن النصيحة ويستجبن للوعظ، أو يزدجرن بالهجر، فيجب الاستغناء عن الضرب، فلكل حال حكم يناسبها في الشرع، ونحن مأمورون على كل حال بالرفق بالنساء واجتناب ظلمهن، وإمساكهن بمعروف، أو تسريحهن بإحسان، والأحاديث في الوصية بالنساء كثيرة جداً".
ولا يقصر العلماء في التأكد على أنه لا تضرب كل امرأة، فإنه توجد نساء (وهن الأكثرية) لا يحتجن إلى الضرب لتأديبهنّ. على أنهم يقولون إن لضرب المرأة حكمة إلهية وإلا لما كان القرآن الكريم طرحه حلاً للأزمات العائلية، الأمر الذي يجعل رفضه رفضاً حاسماً من المستحيل، فلا يدري المسلم كيف يجب أن يدافع أو يبرر هذا الأمر. فهو يأتي بالشاهد المبرر من الجندية والمدرسة، أو يقارن الضرب بالحروب التي لو لم تكن لما بقي نظام في العالم!
أما غيرهن وهن اللاتي يحاولن الخروج على حقوق الزوجية، ويحاولن الترفع والنشوز عن مركز الرياسة البيتية، بل على ما تقتضيه فطرهن، فيعرضن الحياة الزوجية للتدهور والانحلال، فقد وضع القرآن لردعهن وإصلاحهن، وردهن إلى مكانتهن الطبيعية والمنزلية، طريقين واضحين، مألوفين في حياة التأديب والإصلاح. وقد أساء المتحضّرون من أبناء المسلمين فهم هذا النوع من العلاج، ووصفوه بأنه علاج صحرواي جاف، لا يتفق وطبيعة التحضر القاضي بتكريم الزوجة وإعزازها.
إن الإسلام لم يكن لجيل خاص، ولا لإقليم خاص، ولا لبيئة خاصة، وإنما هو إرشاد وتشريع لكل الأجيال، ولكل الأقاليم ولكل البيئات. والواقع أن التأديب المادي لأرباب الشذوذ والانحراف، الذين لا تنفع فيهم الموعظة ولا الهجر، أمر تدعو إليه الفطرة ويقضي به نظام المجتمع.
وقد وكلته الطبيعة في الأبناء إلى الآباء، كما وكلته في الأمم إلى الحكام، ولولاه لما بقيت أسرة، ولا صلحت أمة. وما كانت الحروب المادية التي عمادها الحديد والنار بين الأمم المتحضرة الآن، إلا نوعاً من هذا التأديب ينتظر المهاجمين. وفي تقدير الشرائع لظاهرة الحرب والقتال "فإن بغَت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله" "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين".
والحق مرة أخرى، أن هؤلاء المتأففين من تشريع القرآن في هذا المقام ليسوا إلا متملقين لعواطف بيئة خاصة من النساء نعرفها ويعرفونها جميعاً، يتظاهرون أمامها بالحرص على كرامتها وعزتها، وعلى أن تكون في مستوى لا تعلق به الأبصار إلا على نحو خاص؟".
ولا يتخلّف الكاتب الفيلسوف عباس محمود العقاد عن المصلح الكبير الإمام محمد عبده في حججه إلا صراحة وتنوعاً في الأمثلة، فهو يجيز أن يضرب الرجل امرأته في حالة الغضب لكي يقوّم خطأها. فليس معنى الضرب طبعاً إيجابياً في كل حالة ومع كل امرأة. وإنما يُباح الضرب لأن بعض النساء يتأدبن به ولا يتأدبن بغيره. ومن اعترض على إجازته من المتحذلقين بين أبناء العصر الحديث، فإنما يجري اعتراضه مجرى التهويش في المناورات السياسية، ولا يجري مجرى المناقضة في مسائل الحياة وأخلاق الناس، لأن الاعتراض على إباحة الضرب بين العقوبات لا يصح إلا على اعتبار واحد: وهو أن الله لم يخلق نساء قط يؤدَّبن بالضرب، ولا يجدي معهن في بعض الحالات غيره. ومن قال ذلك فهو ينسى أن الضرب عقوبة معترف بها في الجيوش والمدارس، وبين الجنود والتلاميذ، وهم أحق أن ترعى معهم دواعي الكرامة والنخوة إذا جاء الاعتراض من جانب الكرامة والنخوة. وأن رؤساءهم ليملكون من العقوبات المادية والأدبية، ومن وسائل الحرمان والمكافأة، ما ليس يملكه الأزواج في نطاق البيوت المحدودة.
يمكن أن نلخص "تفكير" العقاد بشأن ضرب النساء أنه توجد بينهن من لا يمكن إصلاحها إلا بالضرب بل توجد العصبيات المريضات اللاتي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب: وقد يهزأ النساء بهذه الحذلقة التي تخلط بين مظاهر السهرات في الأندية وبين وقائع العيش ومشكلات البيوت في ناحية من نواحي الضنك والضرورة، فإن النساء ليعلمن أن عقوبة الضرب عند المرأة العصية الناشزة ليست من الهول والغرابة بهذه الصورة المزعومة في بيئات الأندية والسهرات. فربما كان من أنيقات الأندية والسهرات أنفسهن من يعرفن عن هذه الحقيقة ما يجلهه المتحذلقون والمتزوقون في مجامع اللهو والبطالة بزواق الفروسية و"اللطافة" المستعارة، فيعلمن ويعلم الكثيرون - كما قلنا في كتابنا عبقرية محمد - "أن هؤلاء النساء الناشزات لا يكرهنه ولا يسترذلنه. وليس من الضروري أن يكون من أولئك العصبيات المريضات اللاتي يشتهين الضرب كما يشتهي بعض المرضى ألوان العذاب".
ويعاني الأستاذ أحمد شلبي من الصعوبة نفسها في فهم المعارضين لضرب المرأة "لا سيما أن الضرب يطبق كوسيلة الاصلاح والتأديب فقط حيث يرجى الخير، وأنه من الحماقة أن يتصور المرء أن ليس للجنس البشري عضو يمكن إصلاحه بالضرب. أو لماذا لا يحتج هؤلاء على عقوبة الضرب في الجندية". لا ندري ما عساهم أن يقولوا لو أخبرناهم أنه أُلغيت عقوبة الضرب في المدارسوالجندية في بعض البلدان، أو أن علم النفس الحديث أثبت أن الضرب لا يصلح بل يدمر نفسية الإنسان، سواء إن كانت ضحيته طفلاً أو امرأة!!
الفصل التاسع عشر
النساء في النار والجنة
يُكثر المسلمون ذكر الحديث: "الجنة تحت أقدام الأمهات" ليدللوا على المكانة العليا التي تتمتع بها المرأة في الإسلام. وبغض النظر عن صحة هذه الرواية (التي لم ترد في المصنفات المعتبرة) وليس من السهل تقييمها إيجابياً، فإن لدينا عدة أحاديث وردت في الصحاح تفيد بأن النساء أقل ساكني الجنة: "عن عران بن حصين عن النبي ص قال: اطلعت في الجنة فرأيت أكثر خلقها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها النساء". وعن أبي هريرة قال: ركنا عنده فأما تفاخروا وأما تذاكروا فقال: "الرجال في الجنة أكثر من النساء". يخبرنا حديث ضعيف بأن "من تسع وتسعين امرأة واحدة في الجنة وبقيتهن في النار". يفسر محمد سبب ذلك: "فإني رأيتكن أكثر أهل النار لكثرة اللعن وكفر العشير". عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله: أنه قال: "يا معشر النساء تصدَّقن وأكثِرن من الاستغفار، فإني رأيتكن أكثر أهل النار. فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن". عن عمارة بن حزيمة قال: "بينا نحن مع عمرو بن العاص في حج أو عمرة فقال بينما نحن مع رسول الله في هذا الشُّعب إذ قال: انظروا هل ترون شيئاً؟ فقلنا: نرى غرباناً، ففيها غراب أعصم، أحمر المنقار والرجلين. فقال رسول الله: "لا يدخل الجنة من النساء إلا من كان منهن مثل هذا الغراب في الغربان". وجاء في حديث غريب قوله: "المرأة المؤمنة في النساء كالغراب الأعصم في الغربان فإن النار خلقت للسفهاء، وإن النساء أسفه السفهاء إلا صاحبة القسط والسراج". رُوي عن الإمام القرطبي تفسيره لكون النساء أقل أهل الجنة: "إنما كان النساء أقل ساكني الجنة لما يغلب عليهن من الهوى والميل إلى عاجل زينة الدنيا والإعراض عن الآخرة لنقص عقلهن وسرعة انخداعهن".
إذا أخذنا الأحاديث بشأن نساء أهل الجنة بعين الاعتبار فقرأناها مع ما ذكرناه أعلاه، فقد يختل التوازن النسبي أيما اختلال، إذ تُطلعنا روايات عديدة عن ملاذ أهل الجنة بأن ساكنيها سوف يرثون زوجاتهم وإماءهم! وعن أبي أُمامة قال: قال رسول الله: "ما من أحد يُدخله الله الجنة إلا زوّجه الله اثنتين وسبعين زوجة. اثنتين من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار. ما منهن واحدة إلا ولها قُبُل شهي وله ذكر لا ينثني".
يتضح من أحاديث محمد أن المؤمن في الجنة يتلقى قوة جنسية خاصة. عن أنس عن النبي قال: "يُعطى المؤمن في الجنة قوة كذا وكذا من الجماع، قيل: يا رسول الله أيطيق ذلك؟ قال: يُعطى قوة مائة". فسوف لن يحظى المؤمن في الجنة في تصور محمد بالزوجات والسراري فقط، بل: "إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي". ولكن في هذا الأمر خلاف بين العلماء، فقال بعضهم في الجنة جماع ولا يكون ولد. وعن إسحاق بن إبراهيم في حديث النبي: "إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان في ساعة ما يشتهي، ولكن لا يشتهي". وينسب بعضهم إلى محمد نفسه قوله: رإن أهل الجنة لا يكون لهم فيها ولد".
وفي رواية: "يذهب الرجال في الجنة بعد حوار قصير مع الله إلى مساكنهم حيث يُستقبلون من زوجاتهم. تسألهم زوجاتهم عن سر جمالهم الباهر الذي لم يكن لهم قبل مغادرتهم مساكنهم، فيردون عليهن بأنهم جلسوا إلى ربهم فيحق لهم ذلك". توجد أحاديث أخرى كثيرة تؤكد دوام الحياة الزوجية في الجنة أو تمتع المؤمنين بالجواري والإماء فيها. فإن زعم محمد رغم ما ورد عنه من أخبار عن كثرة الأزواج والإماء في الجنة بأن النساء أقل ساكني الجنة، فإن السبب هو هلاك رجالهن في النار لافتتانهم بهن، إذ يقول محمد: "لو لم تكن المرأة لدخل الرجل الجنة، "وطاعتهنّ أيضاً هلاكهم".
الفصل العشرون
(ختان البنات (الخفاض
مع أن الختان ليس له أصل قرآني فقد صار فريضة هامة لدى عامة المسلمين التي لا تولي ما يمكن اعتباره على نفس المستوى من المناسك والتقاليد نفس الأهمية. فالختان "بإجماع عامة المسلمين" المدخل في الإسلام وعلامة الانتساب إلى هذا الدين. يدعي الفقهاء بأن للختان مصلحة عظيمة للمسلم تفوق الألم الناشئ منه. وأما الحكمة الكامنة في عملية الختان فهي تنحية الغلفة لأن تحتها قد يكون منبتاً خصيباً لإفرازات تؤدي إلى أمراض مميتة مثل السرطان. فالختان من هذا المنطلق طريق وقائي. هذا بالنسبة للرجال. ولكن ما هي الحكمة في ختان البنات الذي يطبق في بعض البلدان الإسلامية؟ فالحكمة الأولى عندهم هي قول محمد: "الختان سُنة للرجال ومكرمة للنساء". والحكمة الثانية تكمن في كون الخفاض يزيدها حلاوة عند الرجل شريطة تطبيقها باعتدال: "عن أم عطية الأنصارية أن امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي: لا تُنهكي (أي لا تبالغي في الخفض) فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل". وأما الحكمة الثالثة لختان الأنثى فهي "تعديل شهوتها" و"تلطيف الميل الجنسي للمرأة".
يخبرنا الماوردي كيف يتم ختان الأنثى: "ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك، والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون استئصاله". وقد ذهب إلى وجوب الختان الشافعي وجمهور أصحابه، وقال به من القدماء عطاء، وعن أحمد وبعض المالكية يجب، وعن أبي حنيفة واجب وليس بفرض وعنه سنة يأثم بتركه، وفي وجه الشافعية لا يجب في حق النساء. وذهب أكثر العلماء وبعض الشافعية إلى أنه ليس بواجب. بينما يقول الفقهاء إن ختان الرجل (أي تنحية الغلفة) مصلحة وقائية لصحته البدنية. يكون الأمر بالنسبة لختان الأنثى غير هذا، فتنحية البظر للبنت تخدم بالدرجة الأولى الحد من شهوتها دون القضاء عليها (أي على شهوتها)، وهي مصلحة للمجتمع وخير لها. ومن شأنها صيانة شرف المرأة وكرامتها.
كما ذكرنا آنفاً فإن الهدف الأساسي لختان البنات عند الفقهاء هو كبح الشهوة أو الغريزة الجنسية للأنثى. فالبنت في هذه الأيام معرضة لأنواع الفتن، الأمر الذي يؤدي إلى الانحراف والفساد في المجتمع. وأخيراً نتعلم من الأستاذ شلتوت بأن النساء يقبلن الختان عن رضى تكريماً لأزواجهن، كما أنهن يكرهن النظر إلى هذه الزائدة التي بإبعادها ترتفع متعة الرجل.
الفصل الحادي والعشرون
تبعية المرأة لزوجها في العبادات
يؤكد الكتّاب المسلمون في العصر الحديث، الذي شاهد وما يزال يشاهد أعنف المعارك حول قضية المرأة في العالم الإسلامي على مساواة الجنسين من جهة التكاليف الدينية، فيقولون: بما أن القرآن كلف الرجل والمرأة بالتكاليف نفسها، وسوّى بينهما في الوعد والوعيد، فقد اعترف بذلك بإنسانيتها وأولاها المسؤولية. ويدل على هذه المساواة أن إيمان النساء كإيمان الرجال، ولها أن تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر. فالإسلام لم يقرر فقط أهليتها للإيمان والعبادة، بل دخولها الجنة إن أحسنت، ومعاقبتها إن أساءت كالرجل سواء بسواء . فقد صار اشتراك المرأة مع الرجل في الإيمان والعبادة من الحجج المفضلة والأكثر شيوعاً في هذا القرن. على أن الإسلام جاء بنوع من المساواة في هذا الميدان على أقل التقدير. ولكن الذي يسمونه في هذا السياق تارة بمساواة الجنسين في التكاليف، والمسؤولية الدينية تارة أخرى، لا يخلو مما يجعل المرء يشك في صحة هذا الزعم. فبغض النظر عن صلاة الجمعة التي لم تُفرض إلا على الرجال، وبطلان صلاتهن وصومهن الذي اعتبره محمد نقصان دينهن ، فإن المرأة تحتاج إلى إذن زوجها في أداء بعض العبادات وكيف لا؟ فإن المطلوب منها بالدرجة الأولى هو إرضاؤه وتأدية حقه: "والذي نفس محمد بيده! لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها". رُوي عن محمد أنه أذن بزيارة النساء المساجد ليلاً: "إئذنوا للنساء بالليل إلى المساجد". وفي حديث آخر يجوز خروجهن إلى الجمعة إذا لم يترتب على ذلك فتنة. ولكن خروج المرأة من بيتها يتوقف بدوره على إذن زوجها، مع العلم أنه ينبغي للرجل أن يأذن لها بذلك: رإذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها" . إذاً على المرأة أن تؤدي صلاتها في بيتها، الأمر الذي صار تقليداً عاماً في العالم الإسلامي حتى لكاد المرء يُظن أن المساجد للرجال فقط، وإن لم يرد نص صريح في هذا الشأن. أما بالنسبة للصوم (وهو أحد أركان الإسلام الخمسة) فلا بد لها من إذن زوجها: "عن أبي هريرة قال، قال رسول الله: لا تصوم المرأة وزوجها شاهد يوماً من غير شهر رمضان إلا بإذنه". يقول العلماء بكراهية صومها تطوعاً بغير إذن زوجها، فإن صامت بغير إذنه فقد أثِمت. وقال النبوي في شرح مسلم إن سبب هذا التحريم أن للزوج حق الاستمتاع بها في كل وقت، وحقه واجب على الفور فلا تفوته بالتطوع ولا بواجب على التراخي والتقييد. . ويمكن أن يساعدنا الحديث الضعيف "أيما امرأة صامت بغير إذن زوجها فأرادها على شيء فامتنعت عليه، كتب الله عليها ثلاثاً من الكبائر" على فهم العقلية السائدة في العصور الوسطى وحتى اليوم في بعض الأوساط عن المرأة وما لها من واجبات، وإن لم يثبت صدوره عن محمد نفسه. أما بالنسبة إلى الذبيحة فقد أباح محمد ذبيحة المرأة والأَمَة: "إن امرأة ذبحت شاة بحجر، فسُئل النبي عن ذلك فأمر بأكلها".
الفصل الثاني والعشرون
النبي محمد ونساؤه
نفهم من أحاديث مبكرة نوعاً ما أن محمداً كان يُكِنُّ ميلاً خاصاً إلى النساء حيث قال: "حُبِّب إليّ من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة". وعن الحسن (البصري) قال: قال رسول الله: "ما أحببت من عيش الدنيا إلا الطيب والنساء". ورد هذا الخبر في وجوه مختلفة: عن عائشة قالت: كان يعجب نبي الله من الدنيا ثلاثة أشياء: الطيب والنساء والطعام، فأصاب الاثنين ولم يصب الطعام . في ضوء هذه الآثار قد نفهم الحديث الآتي أحسن: "كمُل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وفي خبر آخر: "ما كان شيء أعجب إلى رسول الله من الخيل". "لم يكن شيء أحب إلى رسول الله بعد النساء من الخيل". مما يفسر الحكمة من وجود الخيل في الجنة . "أربع من سنن المرسلين: الحياء والتعطر والسواك والنكاح". فالمرأة خير متاع الدنيا: "إنما الدنيا متاع، وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة". أما شروط (أوصاف) المرأة الصالحة فهي أن تُفرح زوجها إذا نظر إليها، وأن تطيع إذا أمرها بشيء . لقد علّل العلماء كثرة زواج محمد وميله إلى النساء بقوته الفائقة على الجماع كما ورد ذلك على لسان النبي نفسه: "كنت من أقل الناس في الجماع حتى أنزل الله عليّ الكفيت . فما أريده من ساعة إلا وجدته". وفي رواية أخرى: "قال رسول الله: لقيني جبريل بقِدْر، فأكلت منها، وأُعطيتُ الكفيت قوة أربعين رجلاً في الجماع". وروت سلمى مولاته: "طاف النبي ليلة على نسائه التسع اللاتي توفي وهن عنده. كلما خرج من عند امرأة قال: صبّي لي غسلاً فيغتسل قبل أن يأتي الأخرى. قلت: يا رسول الله أما يكفيك غسل واحد؟ فقال النبي: "هذا أطهر وأطيب".
نود الآن أن ندرس في الفصول القادمة من كتابنا زوجات محمد وما وقع من حوادث هامة في بيت النبي، وذلك من المصادر المعترف بها لدى عامة المسلمين. رغم أن المصادر تزودنا بمعلومات متضاربة بخصوص عدد زوجات محمد ، يمكننا القول بأنهن كن ثلاث عشرة امرأة إذا أضفنا ماريا القبطية إليهن. لقد تزوج محمد هؤلاء السيدات وعاش معهن مدة معينة. ما عداهن فإن هناك اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة امرأة تزوجهن محمد دون أن يقضي معهن مدة من الزمن . ونساء خطبهن ولم يتم نكاحه، بالإضافة إلى من وهبت نفسها له .
الفصل الثالث والعشرون
زوجات محمد حسب التسلسل التاريجي
خديخة بنت خويلد: زوجة محمد الأولى التي تزوجها عام 595 أي قبل الهجرة ب 25 سنة وتُوفيت قبل الهجرة بثلاث سنين وقبل "البعثة" بعامين .
سودة بنت زمعة: تزوجها محمد في شهر رمضان بعد البعثة بعشر سنين بعد وفاة خديجة وقبل زواجه من عائشة ، وقبل الهجرة بعدة أشهر . لقد أجمعوا على أنها الزوجة الثانية لمحمد . ولكن الخلاف يدور حول السؤال عما إذا كان محمد نكح أولاً عائشة أو سودة. يقول البعض أنه (أي محمد) تزوج عائشة أولاً، لكن لصغر سنها وطأ سودة أولاً .
عائشة بنت أبي بكر: تزوجها نبي الله في شهر شوال قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد البعثة بعشرة أعوام حسب رواية لعائشة نفسها . ونكحها في شهر شوال وبعد الهجرة بثمانية شهور . وهي البكر الوحيدة بين زوجات محمد .
حفصة بنت عمر: تزوجها رسول الله في شهر شعبان، بعد الهجرة ب 31 شهراً . أو في العام الثالث من الهجرة وقبل أُحُد بشهر أو شهرين .
زينب بنت خزيمة: مات زوجها في معركة أُحُد فتزوجها محمد أي بعد الهجرة ب 31 شهراً .
أم سلمة: تزوجها محمد في رواية قبل غزوة الخندق بثلاث سنين، في العام السادس من الهجرة وتم العرس في شوال السنة الرابعة من الهجرة أو بعد بدر بثلاث سنين .
زينب بنت جحش: من شبه المستحيل التحديد الزمني لزواج محمد منها. تم الزواج إما في شهر ذي القعدة أو شعبان في السنة الخامسة للهجرة، أو في العام الثالث بعد الهجرة . وسندرس زواج محمد من زينب بنت جحش في فصل مستقل.
جويرية بنت الحارث: سُبيت أثناء غزوة بني المصطلق وكانت من جملة الغنائم، تزوجها محمد إما في السنة الخامسة أو السادسة للهجرة إذ لا يعرف بالتحديد متى وقعت هذه الغزوة. ورد في السيرة النبوية أن محمداً اشتراها من ثابت بن قيس فأعتقها فتزوجها .
صفية بنت حيي: كانت من جملة غنائم خيبر التي تم فتحها العام السادس من الهجرة، واختيرت لمحمد .
أم حبيبة: تقول القصص بشأنها إن النجاشى زوَّجها محمداً .
ماريا القبطية: أرسل المقوقس عظيم القبط حسب الروايات أربع جوارٍ إلى محمد كانت ماريا إحداهن . وصلت إلى المدينة في العام السابع . لم تلد غير خديجة وماريا من زوجات محمد ولداً صبياً.
ميمونة بنت الحارث: تزوجها محمد عام سبع من عمرة القضاء . إنها آخر أزواج الرسول
ريحانة: ليست ريحانة من رأمهات المؤمنينذ مع مكانتها المرموقة في بيت محمد . فلما وقع النبي على بني قريظة سباها رسول الله إذ كان يكون له صفي من كل غنيمة . عرض محمد عليها الإسلام ولكنها أبت، ويقال إنها أسلمت فيما بعد .
الفصل الرابع والعشرون
أزواج محمد في كتب السيرة
خديخة بنت خويلد: لما بلغ محمد خمساً وعشرين سنة من عمره تزوج خديجة بنت خويلد . كانت تاجرة وذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم. كانت أرملة في الأربعين من عمرها. عرضت على محمد أن يخرج في مال لها إلى الشام تاجراً . لقد عُرض على محمد أن يتزوجها غير أنه لم يكن واثقاً من نفسه حيث قال: "ما بيدي ما أتزوج به" . فأخذت خديجة زمام المبادرة وأعربت عن رغبتها في الزواج.
إنها الوحيدة بين زوجات محمد التي لم يتزوج امرأة حتى وفاتها . وفي رواية أنها قالت لأختها: انطلقي إلى محمد فاذكريني له. وأن اختها جاءت فأجابها بما شاء الله، وأنهم تواطؤوا على أن يتزوجها رسول الله، وأن أَبا خديجة سُقي من الخمر حتى أخذت منه، ثم دعا محمداً فزوّجه. قال سُنت على الشيخ حُلة فلما صحا قال: ما هذه الحلة قالوا ختنك محمد، فغضب وأخذ السلاح وأخذ بنو هاشم السلاح. ثم أنهم اصطلحوا . إن خديجة ولدت لمحمد ولده كلهم إلا إبراهيم: القاسم وبه كان يكنى، والطيب، وزينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة . أما إبراهيم فأمه ماريا القبطية . كانت بيضاء جعدة جميلة. رُوي عن عائشة: لما وُلد إبراهيم جاء به رسول الله إليّ فقال: انظري إلى شبهه بي. فقلت: ما أرى شبهاً. فقال رسول الله أما ترين إلى بياضه ولحمه؟ فقلت: إنه من قُصر عليه اللقاح ابيضّ .أما القاسم والطيب والطاهر فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام وهاجرن معه . بين أولاد محمد وردت أقوال غريبة بشأن إبراهيم عن محمد نفسه، حيث يروى عنه قوله: "لو عاش إبراهيم لوضع الجزية عن كل قبطي". ولما مات وهو ابن ستة عشر شهراً قال محمد إن تمام رضاعه في الجنة . عن إسماعيل السدي قال: سألت أنس بن مالك أصلَّى النبي على ابنه إبراهيم؟ قال: لا أدري رحمة الله على إبراهيم. لو عاش كان صديقاً نبياً .
سودة بنت زمعة: هي أول امرأة تزوجها محمد بعد وفاة خديجة، وذلك بعد وفاة زوجها، فأرسل إليها محمد فخطبها في رمضان سنة عشر من النبوة، قبل زواجه بعائشة. عن عائشة قالت: كانت سودة بنت زمعة وكان رسول الله لا يستكثر منها، وقد علمت مكاني من رسول الله فخافت أن يفارقها، فقالت: يا رسول الله يومي الذي يصيبني لعائشة، وأنت منه في حِل. فقبله النبي وفي ذلك نزلت: "وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحاً والصلح خيرٌ" . رُوي عن النعمان بن ثابت التيمي قال: قال رسول الله لسودة بنت زمعة: اعتدي، فقعدت له على طريقة ليلة، فقالت: يا رسول الله ما لي حب الرجال، ولكني أحب أن أُبعث في أزواجك، فأرجِعني. فرجعها رسول الله .
عائشة بنت أبي بكر: هي الزوجة الثالثة لمحمد. رُوي عن عائشة نفسها، تزوجني رسول الله في شوال سنة عشر، من النبوة قبل الهجرة بثلاث سنين وأنا ابنة ست سنين وكنت يوم دخل بي ابنة تسع سنين . أما عند ابن هشام "فتزوجها محمد وهي ابنة سبع سنين وبنى بها بالمدينة وهي بنت تسع سنين أو عشر ولم يتزوج رسول الله بكراً غيرها . وعنها: "تزوجني رسول الله وإني لألعب مع الجواري، فما دريت أن رسول الله تزوجني حتى أخذتني أمي فحبستني في البيت عن الخروج، فوقع في نفسي إني تزوجت". وفي رواية لعطية قال: خطب رسول الله عائشة بنت أبي بكر وهي صبية، فقال أبو بكر: أي رسول الله، أيتزوج الرجل ابنة أخيه؟ فقال: إنك أخي في ديني. فزوجها إياه على متاع بيت قيمته خمسون أو نحو من خمسين . ركنت ألعب مع البنات على عهد رسول الله. دخل عليّ رسول الله وأنا ألعب مع البنات. فقال: ما هذا يا عائشة؟ فقلت: خيل سليمان. فضحك".
عن عائشة قالت: "فُضلت على نساء النبي، ص بعشر". قيل: ما هنّ يا أم المؤمنين؟ قالت: "لم ينكح بكراً قط غيري، ولم ينكح امرأة أبواها مهاجران غيري، وأنزل الله، عز وجل، براءتي من السماء، وجاءه جبريل بصورتي من السماء في حريرة وقال: تزوجها فإنها امرأتك، فكنت أغتسل أنا وهو من إناء واحد. ولم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، وكان يصلي وأنا معترضة بين يديه ولم يكن يفعل ذلك بأي نسائه غيري، وكان ينزل عليه الوحي وهو معي، ولم يكن ينزل عليه مع أحد من نسائه غيري، وقبض الله نفسه وهو بين سحري ونحري في الليلة التي كان يدور عليّ فيها ودُفن في بيتي".
وسألت عائشة النبي: "من أزواجك في الجنة؟" قال: "أنت منهن". نعرف من الأخبار أن عائشة كانت أحب زوجة لمحمد بين أزواجه. سأله عمرو بن العاص: "يا رسول الله من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة. قال: إنما أقول من الرجال. قال أبوها". وأخيراً "فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام". وفي رواية أن محمداً توفي دون أن يشبع منه . وكانت عائشة بنت ثماني عشرة سنة عندما توفي النبي .
حفصة بنت عمر: تزوج محمد حفصة بنت عمر بن الخطاب. زوَّجه إياها أبوها عمر بن الخطاب وأصدقها رسول الله أربعمائة درهم، وكانت قبله عند خنيس بن حذاقة السهمي . روى سالم عن ابن عمر: "لما تأيمت حفصة لقي عمر عثمان فعرضها عليه فقال عثمان: مالي في النساء حاجة، فلقي أبا بكر فعرضها عليه فسكت، فغضب على أبي بكر، فإذا رسول الله قد خطبها فتزوجها. فلقي عمر أبا بكر فقال: إني عرضت على عثمان ابنتي فردَّني، وعرضت عليك فسكتّ. فقال أبو بكر: إنه قد كان النبي، ذكر منها شيئاً وكان سراً فكرهت أن أفشي السر".
عندما طلق محمد حفصة، أتاها خالاها عثمان وقدامة بن مظعون، فبكت وقالت: والله ما طلقني رسول الله عن شبع. فجاء رسول الله فدخل عليها فتجلببت، فقال رسول الله: إن جبريل أتاني فقال: يا محمد، أما قال راجع حفصة أو قال لا تطلق حفصة فإنها صوامة قوامة وهي زوجتك في الجنة؟ . لم تكن حفصة على ما يبدو تحظى بصداقة عائشة.
عن عائشة قالت: "كان رسول الله ص يحب الحلواء والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فيدنو منهن، فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألتُ عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عُكة من عسل فسقت رسول الله منه شربة. فقلت: أما والله لأحتالن له، فذكرت ذلك لسودة، وقلت: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك، فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير؟ فإنه سيقول لك: لا، فقولي له: ما هذا الريح؟ وكان رسول الله يشتد عليه أن يُوجد منه الريح، فإنه سيقول لك سقتني حفصة شربة عسل، فقولي جرست نحله العُرفط، وسأقول ذلك، وقوليه أنت يا صفية. فلما دخل على سودة، قال تقول سودة: والله الذي لا إله إلا هو لقد كدت أن أباديه بالذي قلت لي وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا رسول الله قلت يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال: لا. قلت: فما هذا الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت جرست نحله العرفط. فلما دخل عليّ قلت له مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت له مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت له: يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال: لا حاجة لي به، قالت تقول سودة: سبحان الله، والله لقد حرمناه. قالت: قلت لها اسكتي".
أم سلمة: واسمها هند بنت أبي أمية. زارها محمد بعد وفاة زوجها وانتهاء عدّتها منه وخطب إليها نفسها . وكان قد سمع إنها ترفض الرجال وليست لها رغبة فيهم. فسألها: فما يمنعك يا أم سلمة؟ قالت: فيّ خصال ثلاث، أما أنا فكبيرة وأنا مطفل وأنا غيور، فقال: أما ما ذكرت من الغيرة فندعو الله حتى يُذهبه عنك، وأما ما ذكرت من الكبر فأنا أكبر منك، والطفل إلى الله ورسوله .
عن عائشة قالت: "لما تزوج رسول الله، ص أم سلمة حزنت حزناً شديداً لما ذكروا لنا من جمالها، فتلطفت لها حتى رأيتها، فرأيتها والله أضعاف ما وُصفت لي في الحسن والجمال. فذكرت ذلك لحفصة، وكانتا يداً واحدةً، فقالت: لا والله إن هذا إلا الغيرة، ما هي كما يقولون. فتلطفت لها حفصة حتى رأتها فقالت: قد رأيتها ولا والله ما هي كما تقولين ولا قريب، وإنها لجميلة. قالت فرأيتها بَعْدُ فكانت لعمري كما قالت حفصة، ولكني كنت غَيْرَى".
إن عبد الرحمن بن الحارث قال: كان رسول الله ص في بعض أسفاره، ومعه في ذلك السفر صفية بنت حُيي وأم سلمة، فأقبل رسول الله، ص إلى هودج صفية وهو يظن أنه هودج أم سلمة، وكان ذلك اليوم يوم أم سلمة، فجعل رسول الله يتحدث مع صفية فغارت أم سلمة، وعلم رسول الله بعد أنها صفية فجاء إلى أم سلمة فقالت: تتحدث مع ابنة اليهودي في يومي وأنت رسول الله؟ قالت ثم ندمت على المقالة، فكانت تستغفر منها، قالت: يا رسول الله استغفر لي فإنما حملني على هذا الغيرة .
أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان): كانت زوجة عبيد الله بن جحش... لقد هاجر إلى أرض الحبشة حيث تنصر زوجها وتوفي هناك، وأما أم حبيبة فقد ثبتت على دينها . قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله بن جحش زوجي بأسوأ صورة وأشوهه ففزعت، فقلت تغيرت والله حاله، فإذا هو يقول حيث أصبح: يا أم حبيبة إني نظرت في الدين فلم أر ديناً خيراً من النصرانية، فقلت: والله ما خير لك. وأخبرته بالرؤيا التي رأيت له فلم يحفل بها وأكبَّ على الخمر حتى مات، فأرى في النوم كأن آتياً يقول يا أم المؤمنين، ففزعت فأولتها أن رسول الله يتزوجني. قالت فما هو إلا أن انقضت عدتي، فما شعرت إلا رسول النجاشي على بابي يستأذن، فإذا جارية له يُقال لها أبرهة كانت تقوم على ثيابه ودهنه فدخلت عليّ فقالت: إن الملك يقول لك إن رسول الله، ص كتب إليّ أن أزوجكه. فقالت: بشرك الله بخير. قالت: يقول لك الملك وكّلي من يزوجك. فأرسلت إلى خالد بن سعيد بن العاص فوكلته، وأعطت أبرهة سوراين من فضة وخدمتين كانتا في رجليها وخواتيم فضة كانت في أصبع رجليها سروراً بما بشرتها. فلما كان العشي أمر النجاشي جعفر بن أبي طالب ومن هناك من المسلمين فحضروا فخطب النجاشي فقال: الحمد لله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأنه الذي بشر به عيسى بن مريم، ص أما بعد فإن رسول الله كتب إليّ أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فأجبت إلى ما دعا إليه رسول الله وقد أصدقتها أربع مائة دينار. ثم سكب الدنانير بين يدي القوم. فتكلم خالد بن سعيد فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه وأستنصره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. أما بعد فقد أجبت إلى ما دعا إليه رسول الله، وزوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان، فبارك رسول الله. ودفع الدنانير إلى خالد بن سعيد بن العاص فقبضها، ثم أرادوا أن يقوموا فقال: اجلسوا فإن سنة الأنبياء إذا تزوجوا أْن يؤكل طعام على التزويج. فدعا بطعام فأكلوا ثم تفرقوا. قالت أم حبيبة: فلما وصل إليّ المال أرسلت إلى أبرهة التي بشرتني فقلت لها: إني كنت أعطيتك ما أعطيتك يومئذ ولا مال بيدي، فهذه خمسون أعطيتها فاستعيني بها. فأبت، فاخرجت حقاً فيه كل ما كنت أعطيتها فردته عليّ وقالت: عزم عليّ الملك أن لا أرزأك شيئاً، وأنا التي أقوم على ثيابه ودهنه، وقد اتبعت دين محمد رسول الله، ص وأسلمت لله، وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بكل ما عندهن من العطر. قالت فلما كان الغد جاءتني بعود وورس وعنبر وزباد كثير، فقدمت بذلك كله على النبي، ص فكان يراه عليّ وعندي فلا ينكره، ثم قالت أبرهة: فحاجتي إليك أن تقرئي رسول الله مني السلام، وتعلميه أني قد اتّبعت دينه. قالت ثم لطفت بي وكانت التي جهزتني، فكانت كلما دخلت عليّ تقول: لا تنسي حاجتي إليك. قالت فلما قدمت على رسول الله أخبرته كيف كانت الخطبة وما فعلت بي أبرهة، فتبسم رسول الله، وأقرأته منها السلام فقال: وعليها السلام ورحمة الله وبركاته .
7 - زينب بنت جحش: زواج محمد بزينب بنت جحش هو الأكثر خطورة وغرابة، الأمر الذي لا يحتاج إلى إعمال المخيلة. نعرف من الروايات أنها كانت امرأة جميلة، زوّج محمدٌ زيداً بن حارثة ابنه بالتبني إياها على الرغم من استيائها حيث قالت: "يا رسول الله لا أرضاه لنفسي وأنا أيّم قريش".
عن محمد بن يحيي بن حيّان قال: جاء رسول الله (ص) بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله، ص الساعة فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه، فلم يجده وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فضلاً فأعرض رسول الله (ص) عنها فقالت: ليس هو ههنا يا رسول الله فادخل بأبي أنت وأمي. فأبى رسول الله أن يدخل، وإنما عجلت زينب أن تلبس لما قيل لها رسول الله (ص) على الباب، فوثبت عجلى فأعجبت رسول الله، فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن: سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله. فقال زيد: ألا قلت له أن يدخل؟ قالت: قد عرضت ذلك عليه فأبى. قال: فسمعتِ شيئاً؟ قالت: سمعته حين ولى تكلم بكلام ولا أفهمه، وسمعته يقول سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد حتى أتى رسول الله فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لعل زينب أعجبتك فأفارقها. فيقول رسول الله: أمسِك عليك زوجك. فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم، فيأتي إلى رسول الله فيخبره، فيقول رسول الله: أمسك عليك زوجك، فيقول: يا رسول الله أفارقها. فيقول رسول الله: "أحبس عليك زوجك. ففارقها زيد واعتزلها وحلت، يعني انقضت عدتها. قال فبينا رسول الله جالس يتحدث مع عائشة إلى أن أخذت رسول الله غشية فسُري عنه وهو يبتسم وهو يقول: من ذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء؟ وتلا رسول الله (ص): وإذ يقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك". القصة كلها. قالت عائشة: فأخذني ما قرُب وما بعُد لما يبلغنا من جمالها، وأخرى هي أعظم الأمور وأشرفها ما صنع لها وزوجها الله من السماء. وقلت: هي تفخر علينا بهذا. قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله، (ص) تشتد فتحدثها بذلك فأعطتها أوضاحاً عليها . عن زينب بنت أم سلمة قالت: سمعت أمّي أم سلمة تقول، وذكرت زينب بنت جحش فرحمت عليها وذكرت بعض ما كان يكون بينها وبين عائشة، فقالت زينب: إني والله ما أنا كأحد من نساء رسول الله، ص إنهن زُوجهن بالمهور وزوجهن الأولياء وزوجني الله رسوله وأنزل فيّ الكتاب يقرأ به المسلمون لا يبدل ولا يغير: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه، الآية. قالت أم سلمة: وكانت لرسول الله معجبة وكان يستكثر منها، وكانت امرأة صالحة صوامة قوامة صنعاً تتصدق بذلك كله على المساكين .
تحكي لنا الروايات أن محمداً أرسل إليها زيداً يخطبها له: عن أنس بن مالك قال: لما انقضت عدة زينب بنت جحش قال رسول الله ص لزيد بن حارثة: ما أجد أحداً آمن عندي أوثق في نفسي منك، ائت إلى زينب فاخطبها عليّ. قال فانطلق زيد فأتاها وهي تخمر عجينها. فلما رأيتها عظمت في صدري فلم أستطع أن أنظر إليها حين عرفت أن رسول الله قد ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي وقلت: يا زينب أبشري، إن رسول الله يذكرك. قالت: ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها. ونزل القرآن: "فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها". قال فجاء رسول الله فدخل عليها بغير إذن .
لقد تسبب زواج محمد من زينب بنت جحش في نزول آيات عديدة من القرآن من جملتها رآية الحجابذ التي من شأنها أن تساعدنا على فهم "الحجاب" المقصود في عُرف محمد في بداية الأمر: أخبرنا سليمان بن حرب، أخبرنا حمّاد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس بن مالك قال: أنا أعلم الناس بهذه الآية آية الحجاب. لما أهديت زينب إلى رسول الله (ص)، صنع طعاماً ودعا القوم فجاؤوا ودخلوا، وزينب مع رسول الله (ص) في البيت، فجعلوا يتحدثون. فجعل رسول الله يخرج ثم يرجع وهم قعود: قال فنزلت: ريا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، ولكن إذا دعيتم فادخلوا وإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم، والله لا يستحيي من الحق، وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجابذ . فقام القوم وضرب الحجاب .
وفي رواية عن أنس قال: أولم رسول الله ص إذ بنى بزينب فأشبع المسلمين خبزاً ولحماً، ثم خرج إلى حجر أمهات المؤمنين يسلم عليهن ويدعو لهن فيسلمن عليه ويدعون له، وكان يفعل ذلك صبيحة مبناه. فرجع وأنا معه، فلما انتهى إلى بيت زينب إذا رجلان في ناحية البيت قد جرى بهما الحديث، فلما أبصرهما رسول الله (ص) رجع عن بيته. فلما رأى الرجلان النبي، (ص) انصرف عن بيته وثبا مسرعين. قال أنس: ما أدري أنا أخبرته بخروجهما أو آخرُ، فرجع حتى دخل البيت فأرخى الستر بيني وبينه، وأنزل الله آية الحجاب .
رُوي عن محمد قوله: "أطولكن باعاً أسرعكن لحوقاً بي" فكانت نساؤه يتطاولن إلى الشيء. وإنما عنى رسول الله بذلك الصدقة، وكانت زينب امرأة صفياً، فكانت تتصدق به، فكانت أسرع نسائه لحوقاً به .
عن عائشة قالت: يرحم الله زينب بنت جحش، لقد نالت في هذه الدنيا الشرف الذي لا يبلغه شرف، إن الله زوجها نبيه (ص) في الدنيا ونطق به القرآن، وإن رسول الله قال لنا ونحن حوله: أسرعكن بي لحوقاً أطولكن باعاً، فبشرها رسول الله بسرعة لحوقها به، وهي زوجته في الجنة .
عن عروة عن عائشة أم المؤمنين قالت: لما توفيت زينب بنت جحش جعلت تبكي وتذكر زينب وترحم عليها، فقيل لعائشة في بعض ذلك فقالت: كانت امرأة صالحة. قلت: يا خالة أي نساء رسول الله (ص) كانت آثر عنده؟ فقالت: ما كنت أستكثره ولقد كانت زينب بنت جحش وأم سلمة لهما عنده مكان، وكانتا أحب نسائه إليه فيما أحسب بعدي .
8 - زينب بنت خزيمة (أم المساكين): كانت زوجة الطفيل بن الحارث الذي طلقها. كان لقبها في الجاهلية أم المساكين. كانت تزويجه إياها في شهر رمضان على رأس أحد ثلاثين شهراً من الهجرة فمكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت في آخر ربيع الآخر وصلى عليها رسول الله ودفنها بالبقيع رُوي عن محمد بن عمر أنه سأل عبد الله بن جعفر كم كان سنها يوم ماتت، قال ثلاثين سنة أو نحوها
9 - جويرية بنت الحارث: عن عائشة قالت: أصاب رسول الله نساء بني المصطلق فأخرج الخُمس منه ثم قسمه بين الناس، فأعطى الفرس سهمين والرجل سهماً، فوقعت جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار في سهم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، وكانت تحت ابن عم لها يقال له صفوان بن مالك بن جذيمة ذو الشفر فقتل عنها، فكاتبها ثابت بن قيس على نفسها على تسع أواق، وكانت امرأة حلوة لا يكاد يراها أحد إلا أخذت بنفسه. فبينا النبي (ص) عندي إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها، فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي (ص) وعرفت أنه سيرى منها مثل الذي رأيت. فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيد قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمت فوقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبني على تسع أواق، فأعنّي في فكاكي. فقال: أوخير من ذلك؟ فقالت: ما هو؟ فقال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: قد فعلت. وخرج الخبر إلى الناس فقالوا: أصهار رسول الله ص يسترقون! فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقهم مائة أهل بيت بتزويجه إياها، فلا أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها، وذلك منصرفه من غزوة المريسيع .
ويتبين من الروايات أن نساء محمد استهزأن بها، فقلن إن محمداً إنما تزوجها إشفاقاً لها وتكرماً. فقالت جويرية: "يا رسول الله أن نساءك يفخرن عليّ. يقلن لم يتزوجك رسول الله. فقال: ألم أعظم صداقك؟ ألم أعتق أربعين من قومك؟".
عن أبي قلابة أن النبي (ص) سبى جويرية بنت الحارث فجاء أبوها إلى النبي (ص) فقال: إن ابنتي لا يسبى مثلها فأنا أكرم من ذاك فخلّ سبيلها. قال: أرأيت إن خيرناها أليس قد أحسنا؟ قال: بلى وأديت ما عليك قال: فأتاها أبوها فقال: إن هذا الرجل قد خيرك فلا تفضحينا. فقالت: فإني قد اخترت رسول الله ص قال: قد والله فضحتنا .
تدل الروايات أنه حظيت لدى محمد بمعاملة الزوجة حيث ضرب عليها الحجاب وكان يقسم لها كما يقسم لنسائه .
صفية بنت حيي بن الأخطب: "لما غزا رسول الله ص خيبر وغنمه الله أموالهم سبى صفية بنت حيي وبنت عم لها من القموص، فأمر بلالاً يذهب بهما إلى رحلة، فكان لرسول الله (ص) صفي من كل غنيمة، فكانت صفية مما اصطفى يوم خيبر. وعرض عليها النبي ص أن يعتقها إن اختارت الله ورسوله. فقالت: أختار الله ورسوله. وأسلمت فأعتقها وتزوجها وجعل عتقها مهرها، ورأى بوجهها أثر خضرة قريباً من عينها فقال: ما هذا؟ قالت: يا رسول الله رأيت في المنام قمراً من يثرب حتى وقع في حجري، فذكرت ذلك لزوجي كنانة فقال: تحبين أن تكوني تحت هذا الملك الذي يأتي إلى المدينة؟ فضرب وجهي واعتدت حيضة. ولم يخرج رسول الله من خيبر حتى طهرت من حيضتها، فخرج رسول الله من خيبر ولم يعرس بها، فلما قرب البعير لرسول الله ليخرج، وضع رسول الله رجله لصفية لتضع قدمها على فخذه فأبت ووضعت ركبتها على فخذه وسترها رسول الله وحملها وراءه، وجعل رداءه على ظهرها ووجهها ثم شده من تحت رجلها وتحمل لها وجعلها بمنزلة نسائه. فلما صار إلى منزل يقال له تبار على ستة أميال من خيبر مال يريد أن يعرس بها، فأبت عليه فوجد النبي (ص) في نفسه من ذلك. فلما كان بالصهباء وهي على بريد من خيبر قال رسول الله ص لأم سليم: عليكن صاحبتكن فامشطنها. وأراد رسول الله أن يعرس بها هناك. قالت أم سليم: وليس معنا فسطاط ولا سرادقات، فأخذت كسائين أو عباءتين فسترت بينهما إلى شجرة فمشطتها وعطرتها. قالت أم سنان الأسلمية: وكنت فيمن حضر عرس رسول الله (ص) بصفية مشَّطناها وعطرناها، وكانت جارية تأخذ الزينة من أوضأ ما يكون من النساء وما وجدت رائحة طيب كان أطيب من ليلتئذ، وما شعرنا حتى قيل رسول الله يدخل على أهله وقد نمصناها ونحن تحت دومة. وأقبل رسول الله (ص) يمشي إليها فقامت إليه، وبذلك أمرناها، فخرجنا من عندهما وأعرس بها رسول الله هناك وبات عندها، وغدونا عليها وهي ترى أن تغتسل، فذهبنا بها حتى توارينا من العسكر، فقضت حاجتها واغتسلت، فسألتها عما رأت من رسول الله (ص)، فذكرت أنه سر بها ولم ينم تلك الليلة ولم يزل يتحدث معها، وقال لها: ما حملك على الذي صنعت حين أردت أن أنزل المنزل الأول فأدخل بك؟ فقالت: خشيت عليك قرب يهود. فزادها ذلك عند رسول الله، وأصبح رسول الله فأولم عليها هناك وما كانت وليمته إلا الحيس، وما كانت قصاعهم إلا الأنطاع، فتغدى القوم يومئذ، ثم راح رسول الله فنزل بالقصيبة وهي على ستة عشر ميلاً .
عن أبي هريرة قال: لما دخل رسول الله (ص) بصفية بات أبو أيوب على باب النبي (ص) فلما أصبح رسول الله كبر ومع أبي أيوب السيف، فقال: يا رسول الله كانت جارية حديثة عهد بعرس، وكنت قتلت أباها وأخاها وزوجها فلم آمنها عليك. فضحك رسول الله وقال له خيراً .
ريحانة بنت زيد: عن عمر بن الحكم قال: أعتق رسول الله ريحانة بنت زيد بن عمرو بن خناقة، وكانت عند زوج لها محب لها مكرم، فقالت: لا أستخلف بعده أبداً، وكانت ذات جمال، فلما سُبيت بنو قريظة عُرض السبي على رسول الله، فكنت فيمن عرض عليه فأمر بي فعزلت، وكان يكون له صفي من كل غنمية، فلما عزلت خار الله لي فأرسل بي إلى منزل أم المنذر بنت قيس أياماً حتى قتل الأسرى وفرق السبي، ثم دخل عليّ رسول الله فتحييت منه حياء، فدعاني فأجلسني بين يديه فقال: إن اخترت الله ورسوله اختارك رسول الله لنفسه. فقلت: إني أختار الله ورسوله. فلما أسلمت أعتقني رسول الله وتزوجني وأصدقني اثنتي عشرة أوقية ونشاً كما كان يصدق نساءه، وأعرس بي في بيت أم المنذر، وكان يقسم لي كما كان يقسم لنسائه، وضرب عليّ الحجاب. وكان رسول الله معجباً بها، وكانت لا تسأله إلا أعطاها ذلك، ولقد قيل لها: لو كنت سألت رسول الله بني قريظة لأعتقهم، وكانت تقول: لم يخل بي حتى فرق السبي. ولقد كان يخلو بها ويستكثر منها، فلم تزل عنده حتى ماتت مرجعه من حجة الوداع فدفنها بالبقيع، وكان تزويجه إياها في المحرم سنة ست من الهجرة .
عن محمد بن كعب قال: كانت ريحانة مما أفاء الله عليه، فكانت امرأة جميلة وسيمة، فلما قتل زوجها وقعت في السبي فكانت صفي رسول الله (ص)، يوم بني قريظة، فخيرها رسول الله بين الإسلام وبين دينها فاختارت الإسلام، فأعتقها رسول الله وتزوجها وضرب عليها الحجاب، فغارت عليه غيرة شديدة فطلقها تطليقة وهي في موضعها لم تبرح فشق عليها وأكثرت البكاء، فدخل عليها رسول الله (ص)، وهي على تلك الحال فراجعها، فكانت عنده حتى ماتت عنده قبل أن توفي (ص).
ميمونة بنت الحارث: كانت آخر امرأة تزوجها رسول الله، وذلك سنة سبع في عمرة القضية. عن علي بن عبد الله بن عباس قال: لما أراد رسول الله (ص)، الخروج إلى مكة عام القضية بعث أوس بن خولي وأبا رافع إلى العباس فزوجه ميمونة، فأضلا بعيريهما فأقاما أياماً ببطن زابغ حتى أدركهما رسول الله بقديد وقد ضما بعيريهما، فسارا معه حتى قدم مكة فأرسل إلى العباس فذكر ذلك له، وجعلت ميمونة أمرها إلى رسول الله (ص)، فجاء رسول الله منزل العباس فخطبها إلى العباس فزوجها إياه . أهمية هذا الزواج تكمن في السؤال عما إذا كان يجوز للمحرم في الحج أن يتزوج، إذ تقول الروايات إن محمداً تزوج ميمونة وهو محرم .
الفصل الخامس والعشرون
النساء اللائي تزوجهن محمد دون أن يجامعهنّ، ومن فارق منهن
1- الكلابية: هي فاطمة بنت الضحاك أو عمرة بنت يزيد الكلابية أورد الرواة روايات متضاربة عن سبب مفارقة محمد إياها. وفي رواية عن عائشة قالت: فلما دخلت عليه بعد الزواج فدنا منها، قالت: "إني أعوذ بالله منك. قال رسول الله: لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك" ويدعي البعض أن محمداً تركها لبياض لها وهناك من يزعم أنها فقدت عقلها بعد رفضها إياه.
2- أسماء بنت النعمان الكندية: عن ابن عباس قال: تزوج رسول الله أسماء بنت النعمان، وكانت من أجمل أهل زمانها وأشبه قال: فلما جعل رسول الله يتزوج الغرائب قالت عائشة: قد وضع يده في الغرائب يوشكن أن يصرفن وجهه عنا. فلما رآها نساء النبي حسدنها فقلن لها: إن أردت أن تحظي عنده فتعوَّذي بالله منه إذا دخل عليك. فلما دخل وألقى الستر ومد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك. فقال: الحقي بأهلك. وفي رواية من أبي أسيد قال: تزوج رسول الله امرأة من بلجون فأمرني أن آتيه بها، فأتيته بها فأنزلتها بالشوط من وراء ذباب في أطم، ثم أتيت النبي فقلت: يا رسول الله جئتك بأهلك، فخرج يمشي وأنا معه. فلما آتاها أقصى وأهوى ليقبلها، وكان رسول الله إذا أقبل لنساء أقعى وقبّل فقالت: أعوذ بالله منك. لقد قيل لمحمد إنها خُدعت وهي حَدَثة، ولكنه لم يراجعها.
3- قتيلة بنت قيس: روى ابن عباس: فلما استعاذت أسماء بنت النعمان من النبي خرج والغضب يعرف في وجهه، فقال له الأشعث بن قيس: لا يسؤك الله يا رسول الله، ألا أزوجك من ليس دونها في الجمال والحسب. قال: من؟ قال: أختي قتيلة. قال: قد تزوجتها. قال: فانصرف الأشعث إلى حضرموت ثم حملها حتى إذا فصل من اليمن فبلغه وفاة النبي، فردها إلى بلاده وارتدت معه فيمن ارتد.
4- مليكة بنت كعب الليثي: تزوج النبي مليكة بنت كعب، وكانت تذكر بجمال باهر بارع، فدخلت عليها عائشة فقالت لها: أما تستحين أن تنكحي قاتل أبيك؟ فاستعاذت من رسول الله فطلقها في قومها النبي فقالوا: يا رسول الله إنها صغيرة وإنها خدعت فارتجعها، ولكنه أبَى.
5- بنت جندب: تزوج رسول الله بنت جندب. قال محمد بن عمرو وأصحابنا ينكرون ذلك ويقولون لم يتزوج رسول الله كنانية قط.
6- سبا بنت الصلت: تزوجها محمد ولكنها ماتت قبل أن تصل إليه. وفي رواية عبد الله بن عبيد: جاء رجل من بني سليم إلى النبي فقال: يا رسول الله إن لي ابنة من جمالها وعقلها ما أتى لأحد الناس عليها غيرك، فهم النبي أن يتزوجها ثم قال: وأخرى يا رسول الله ما أصابها عندي مرض قط، فقال له النبي: لا حاجة لنا في ابنتك، تجيئنا تحمل خطاياها. لا خير في مال لا يُرزأُ منه، وجسد لا ينال منه.
7- ليلى بنت الخطيم: عن ابن عباس قال: أقبلت ليلى بنت الخطيم إلى النبي ص وهو مولي ظهره الشمس فضربت على منكبه، فقال: من هذا أكله الأسود؟ وكان كثيراً ما يقولها، فقالت: أنا ابنة مطعم الطير ومباري الريح. أنا ليلى بنت الخطيم، جئتك لأعرض عليك نفسي. تزوجني. قال: قد فعلت، فرجعت إلى قومها فقالت قد تزوجني النبي (ص)، فقالوا بئس ما صنعت أنت امرأة غَيْرَى والنبي صاحب نساء تغارين عليه فيدعو الله عليك فاستقيليه نفسك، فرجعت فقالت: يا رسول الله أقلني، قال قد أقلتك. قال فتزوجها مسعود بن أوس. عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: كانت ليلى بنت الخطيم وهبت نفسها للنبي (ص) فقبلها وكانت تركب بغلتها ركوباً منكراً، وكانت سيئة الخلق فقالت لا والله لأجعلن محمداً لا يتزوج في هذا الحي من الأنصار، والله لآتينه ولأهبن نفسي له. فأتت النبي (ص) وهو قائم مع رجل من أصحابه، فما راعه إلا بها واضعة يدها عليه، فقال: من هذا أكله الأسد؟ فقالت: أنا ليلى بنت سيد قومها، قد وهبت نفسي لك. قال قد قبلتك ارجعي حتى يأتيك أمري، فأتت قومها، فقالوا: أنت امرأة ليس لك صبر على الضرائر، وقد أحلّ الله لرسوله ص أن ينكح ما شاء. فرجعت فقالت إن الله قد أحل لك النساء وأنا امرأة طويلة اللسان ولا صبر لي على الضرائر، واستقالته فقال رسول الله قد أقلتك.
8- أم هاني بنت أبي طالب: عن ابن عباس قال: خطب النبي ص إلى أبي طالب ابنته أم هانئ في الجاهلية، وخطبها هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم، فتزوجها هبيرة. فقال النبي (ص) يا عم زوجت هبيرة وتركتني، فقال يا ابن أخي إنا قد صاهرنا اليكم والكريم يكافئ الكريم. ثم أسلمت ففرق الإسلام بينها وبين هبيرة، فخطبها رسول الله (ص) إلى نفسها، فقالت والله إن كنت لأحبك في الجاهلية فكيف في الإسلام، ولكني امرأة مصبية وأكره أن يؤذوك. فقال رسول الله: خير نساء ركبن المطايا نساء قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده. عن أبي صالح مولى أم هانئ: قال خطب رسول الله أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله إني موتمة وبنيَّ صغار. قال فلما أدرك بنوها عرضت نفسها عليه، فقال أما الآن فلا، لأن الله أنزل عليه ريا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن إلى قوله اللاتي هاجرن معك" ولم تكن من المهاجرات. وقال غيره فولدت لهبيرة بن أبي وهب جعدة وعمراً ويوسف وهانئاً بني هبيرة.
9- ضباعة بنت عامر بن قرط بن مسلمة: عن ابن عباس قال: كانت ضباعة بنت عامر عند هوذة بن علي الحنفي، فهلك عنها فورثته مالاً كثيراً، فتزوجها عبد الله بن جدعان التيمي، وكان لا يولد له. فسألته الطلاق فطلقها، فتزوجها هشام بن المغيرة فولدت له سلمة، فكان من خيار المسلمين، فتوفي عنها هشام وكانت من أجمل نساء العرب وأعظمهن خلقاً، وكانت إذا جلست أخذت من الأرض شيئاً كثيراً، وكان يغطي جسدها بشعرها، فذكر جماله عند النبي (ص) فخطبها إلى ابنها سلمة بن هشام ابن المغيرة، فقال حتى استأمرها وقيل للنبي ص إنها قد كبرت، فأتاها ابنها فقال لها إن النبي (ص) خطبك اليّ، فقالت ما قلت له؟ قال: قلت حتى استأمرها، فقالت وفى النبي (ص) يُستأمر؟ ارجع فزوجه. فرجع الى النبي فسكت عنه.
10- صفية بنت بشامة: عن ابن عباس قال: خطب النبي ص صفية بنت بشامة بن نضلة العنبري، وكان أصابها سباء فخيرها رسول الله فقال إن شئت أنا وإن شئت زوجك، فقالت بل زوجي، فأرسلها فلعنتها بنو تميم.
11- أم شريك بنت غزية: عن علي بن الحسين: أن المرأة التي وهبت نفسها للنبي ص أم شريك امرأة من، وفي رواية عن عكرمة أنها المعنية في الآية: "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين". وفي رواية عن منير بن عبد الله الدوسي: روهي التي وهبت نفسها للنبي وهي من الأزد، فعرضت نفسها على النبي (ص) وكانت جميلة وقد أسنّت فقالت إني أهب نفسي لك وأتصدق بها عليك، فقبلها النبي (ص). فقالت عائشة ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير. قالت أم شريك: فأنا تلك. فسماها الله "مؤمنة" فقال "وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي" فلما نزلت هذه الآية قالت عائشة: "إن الله ليسرع لك في هواك".
12- خولة بنت حكيم بن أمية: عن هاشم بن محمد عن أبيه قال: كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي (ص) فأرجأها، وكانت تخدم النبي (ص) وتزوجها عثمان بن مظعون فمات عنها.
13- أُمامة بنت حمزة بن عبد المطلب: عن ابن عباس قال: أريد رسولَ الله على بنت حمزة فقال: إنها ابنة أخي من الرضاعة، وإنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. فزوجها رسول الله سلمة بن أبي سلمة، فكان النبي يقول: رهل جزيت سلمة!".
14- خولة بنت الهذيل في رواية للشرقي بن القطامي تزوجها رسول الله فهلكت في الطريق قبل أن تصل إليه.
15- شرافة بنت خليفة: عن عبد الرحمن بن سابط قال: خطب رسول الله امرأة من كلب، فبعثت عائشة تنظر إليها فذهبت ثم رجعت فقال لها رسول الله: ما رأيت؟ فقالت ما رأيت طائلاً. فقال لها رسول الله: لقد رأيت طائلاً. لقد رأيت خالاً بخدها اقشعرت كل شعرة منك. فقالت يا رسول الله ما دونك سر. عن مجاهد قال: كان رسول الله ص إذا خطب فرُد لم يعد، فخطب امرأة فقالت استأمر أبي، فلقيت أباها فأذن لها، فلقيت رسول الله فقالت له، فقال رسول الله: قد التحفنا لحافاً غيرك.
الفصل السادس والعشرون
قصة زواج محمد من زينب بنت جحش عند المفسرين
صار زواج محمد من زينب بنت جحش عند المفسرين القدامى مشكلة عويصة تحتاج إلى تبرير وتعليل لما انطوى عليه من حوادث غريبة لا تنسجم مع الآداب والأعراف التي جاء بها محمد للبشرية على ما يزعم المسلمون. ولكن قبل أن نذكر آراء المفسرين وحججهم لتأويل ما حدث وتبريره، يجدر بنا أن ننقل هنا ما سجله ابن سعد في طبقاته، والطبري في تاريخه:
"عن محمد بن يحيي بن حبّان قال: جاء رسول الله ص بيت زيد بن حارثة يطلبه، وكان زيد إنما يقال له زيد بن محمد، فربما فقده رسول الله ص الساعة فيقول: أين زيد؟ فجاء منزله يطلبه فلم يجده. وتقوم إليه زينب بنت جحش زوجته فُضلاً فأعرض رسول الله (ص) عنها فقالت: ليس هو هاهنا يا رسول الله فادخل بأبي أنت وأمي. فأبى رسول الله أن يدخل وإنما عجلت زينب أن تلبس لما قيل لها رسول الله (ص) على الباب، فوثبت عجلى فأعجبت رسول الله. فولى وهو يهمهم بشيء لا يكاد يُفهم منه إلا ربما أعلن: سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد إلى منزله فأخبرته امرأته أن رسول الله أتى منزله. فقال زيد: ألا قلتِ له أن يدخل؟ قالت: قد عرضتُ ذلك عليه فأبى. قال: فسمعتِ شيئاً؟ قالت: سمعته حين ولى تكلم بكلام ولا أفهمه، وسمعته يقول سبحان الله العظيم سبحان مصرف القلوب. فجاء زيد حتى أتى رسول الله فقال: يا رسول الله بلغني أنك جئت منزلي فهلا دخلت؟ بأبي أنت وأمي يا رسول الله لعل زينب أعجبتك فأفارقها. فيقول رسول الله: أمسك عليك زوجك. فما استطاع زيد إليها سبيلاً بعد ذلك اليوم، فيأتي إلى رسول الله فيخبره، فيقول رسول الله: أمسك عليك زوجك، فيقول: يا رسول الله أفارقها. فيقول رسول الله: احبس عليك زوجك. ففارقها زيد واعتزلها وحلت، يعني انقضت عدتها. قال فبينا رسول الله جالس يتحدث مع عائشة، إلى أن أخذت رسول الله غشية فسُري عنه وهو يبتسم وهو يقول: من يذهب إلى زينب يبشرها أن الله قد زوجنيها من السماء. وقلت: هي تفخر علينا بهذا. قالت عائشة: فخرجت سلمى خادم رسول الله (ص) تشتد فتحدثها بذلك، فأعطتها أوضاحاً عليها.
فكانت زينب تفخر على نساء النبي وتقول: "زوَّجكن أهلكن وزوَّجني الله من فوق سبع سموات". لقد أجمع المفسرون على أن هذا الحدث (أي ما دار بين محمد وزينب من جهة وبينه وبين زيد من جهة أخرى) سبب لنزول الآية التالية: "وإذ تقول للذي أنعم الله عليه: وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه. فلما قضى زيد منها وطراً (5) زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً وكان أمر الله مفعولاً" (الأحزاب 33: 73).
لقد أدّى زواج محمد من زينب وهي زوجة ابنه زيد بالتبني إلى اتهامات ضد محمد، فقال المنافقون: "محمد يحرم نساء الولد وقد تزوج امرأة ابنه زيد" وفي رواية عن عبد الله بن عمر: "ما كنا ندعوه (أي زيداً) إلا زيد بن محمد". فاستلزمت هذه التهمة التي لم يوجهها المنافقون فقط إلى محمد نزول وحي آخر: "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، ولكن رسول الله وخاتم النبيين، وكان الله بكل شيء عليماً" (الأحزاب 33: 04). فقال عبد الله بن عمر: رما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد حتى نزلت "ما كان أبا أحد من رجالكم".
تأويل الآية عند المفسرين المسلمين
يشرح المفسرون المسلمون الآية (33: 73) كما يلي: "اذكر يا محمد. إذ قلت لزيد امسك عليك زوجك واتق الله في أمرها فلا تطلقها ضراراً وتعللاً بتكبرها وذلك أن زينب بنت جحش فيما ذكر رآها رسول الله فأعجبته وهي في حبال مولاه لألقى في نفس زيد كراهتها لما علم الله مما وقع في نفس نبيه ما وقع، فأراد فراقها، فذكر ذلك لرسول الله زيد، فقال له رسول الله (أمسك عليك زوجك) وهو (ص) يحب أن تكون قد بانت منه لتنكحها (واتق الله) وخف الله في الواجب له عليك في زوجتك.
وفي رواية عن وهب: قال ابن زيد: "كان النبي (ص) قد زوج زيد بن حارثة زينب بنت جحش، ابنة عمته، فخرج رسول الله ص يوماً يريده، وعلى الباب ستر من شعر، فرفعت الريح الستر فانكشفت وهي في حجرتها حاسرة، فوقع إعجابها في قلب النبي (ص). فلما وقع ذلك كرهت إلى الآخر، فجاء فقال: يا رسول الله إني أريد أن أفارق صاحبتي، قال: مالكَ، أرابك منها شيء؟ قال: لا، والله ما رابني منها شيء يا رسول الله، ولا رأيت إلا خيراً، فقال له رسول الله ص: (أمسك عليك زوجك واتق الله) فذلك قول الله تعالى (وإذ تقول للذي أنعم الله عليك وأنعمت عليه امسك عليك زوجك واتق الله، وتخفي في نفسك ما الله مبديه) تخفي في نفسك إن فارقها تزوجتها".
عن علي بن حسين قال: كان الله تبارك وتعالى أعلم نبيه ص أن زينب ستكون من أزواجه، فلما أتاه زيد يشكوها قال: "اتَّق الله وأمسك عليك زوجك" قال الله "وتخفي في نفسك ما الله مبديه". عن عائشة قالت: لو كتم رسول الله ص شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله لكتم "وتخفي في نفسك ما الله مبديه، وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه".
قال الحسن: ما أنزلت عليه آية كانت أشد عليه منها، قوله "وتخفي ما نفسك ما الله مبديه" ولو كان نبي الله ص كاتماً شيئاً من الوحي لكتمها. "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" قال: خشي نبي الله ص مقالة الناس.
بين المفسرين القدامى يبقى ابن كثير الوحيد الذي يرفض أقدم الروايات الواردة عما حدث بين محمد وزينب، دون أن يلجأ إلى أي تعديل أو تبرير لذلك فيقول: "إن ابن جرير وابن أبي حاتم ذكرا أخباراً كثيرة في هذا الشأن نتركها هنا لأنها ليست بصحيحة". غير أن ابن كثير الذي يطعن في صحة تلك الأخبار زاعماً أنها غير صحيحة، لا يجد حرجاً في الاستشهاد برواية متأخرة تقول: "تخفي في نفسك ما الله مبديه" يعني: مع أن الله أخبرك يا محمد بأن زينب ستكون من أزواجك قلت لزيد: "أمسك عليك زوجك".
المشكلة الكبرى عند الرازي هي "خوف رسول الله" في قوله: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه". ولكن هذا ليس إشارةً إلى أن النبي خشي الناس ولم يخشَ الله، بل المعنى: الله أحق أن يخشاه وحده ولا تخشى أحداً معه وتخشى الناس أيضاً، فاجعل الخشية له وحده". ولا يَخفى على أحد أن تفسير الرازي هذا لم يكن معروفاً قبله، وأنه بلا شك من إنتاج خياله.
أما الزمخشري فيتناول جوانب أخرى في تحليله للقصة فيقول: وعن عائشة رضي الله عليها: لو كتم رسول الله ص شيئاً مما أُوحي إليه لكتم هذه الآية. فإن قلت: فماذا أراد الله منه أن يقوله حين قال له زيد أريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له افعل فإني أريد نكاحها. قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك، أو يقول له أنت أعلم بشأنك حتى لا يخالف سره في ذلك علانية، لأن الله يريد من الأنبياء تساوي الظاهر والباطن والتصلب في الأمور والتجاوب في الأحوال والاستمرار على طريقة مستتبة، كما جاء في حديث إرادة رسول الله (ص) قتل عبد الله بن أبي سرح واعتراض عثمان بشفاعته له أن عمر قال له: لقد كان عيني إلى عينك. هل تشير إليّ فأقتله؟ فقال إن الأنبياء لا تومض، ظاهرهم وباطنهم واحد. فإن قلت: كيف عاتبه الله في ستر ما استهجن التصريح به ولا يستهجن النبي التصريح بشيء إلا والشيء في نفسه مستهجن وقالة الناس لا تتعلق إلا بما يستقبح في العقول والعادات وماله لم يعاتبه في نفس الأمر ولم يأمره بقمع الشهوة وكف النفس عن أن تنازع إلى زينب وتتبعها، ولم يعصم نبيه ص عن تعلق الهجنة به وما يعرضه للقالة. قلت: كم من شيء يتحفظ منه الإنسان ويستحي من إطلاع الناس عليه، وهو في نفسه مباح متسع وحلال مطلق لا مقال فيه ولا عيب عند الله. وربما كان الدخول في ذلك المباح سلماً إلى حصول واجبات يعظم أثرها في الدين ويحل ثوابها. ولو لم يتحفظ منه لأطلق كثير من الناس فيه ألسنتهم إلا من أوتي فضلاً وعلماً وديناً ونظراً في حقائق الأمور ولبوبها دون قشورها. ألا ترى أنهم كانوا إذا طعموا في بيوت رسول الله (ص) مرتكزين في مجالسهم لا يريمون مستأنسين بالحديث وكان رسول الله (ص) يؤذيه قعودهم ويضيق صدره حديثهم والحياء يصده؟ ولو أبرز رسول الله ص مكنون ضميره وأمرهم أن ينتشروا لشقَّ عليهم ولكان بعض المقالة فهذا من ذاك القبيل، لأن طموح قلب الإنسان إلى بعض مشتهياته من امرأة أو غيرها غير موصوف بالقبح في العقل ولا في الشرع، لأنه ليس بفعل الإنسان ولا وجوده باختياره، وتناول المباح بالطريق الشرعي ليس بقبيح أيضاً وهو خطبة زينب ونكاحها من غير استنزال زيد عنها ولا طلب إليه، وهو أقرب منه من زر قميصه، أو يواسيه بمفارقتها مع قوة العلم بأن نفس زيد لم تكن من التعلق بها في شيء، بل كانت تجفو عنها ونفس رسول الله (ص) متعلقة بها، ولم يكن مستنكراً عندهم أن ينزل الرجل عن امرأته لصديقه ولا مستهجناً إذا نزل عنها أن ينكحها الآخر، فإن المهاجرين حين دخلوا المدينة آستهم الأنصار بكل شيء، حتى أن الرجل منهم إذا كانت له امرأتان نزل عن إحداهما وأنكحها المهاجر وإذا كان الأمر مباحاً من جميع جهاته ولم يكن فيه وجه من وجوه القباحة ولا مفسدة ولا مضرة بزيد ولا بأحد بل كان مستجرّاً مصالح، ناهيك بواحدة منها أن بنت عمة رسول الله أمنت الأيمة والضيعة ونالت الشرف وعادت، أما من أمهات المسلمين إلى ما ذكر الله عز وجل من المصلحة العامة في قوله لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، فبالحري أن يعاتب الله رسوله حين كتمه وبالغ في كتمه بقوله "أمسك عليك زوجك واتق الله" وأن لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر والثبات في مواطن الحق حتى يقتدي به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق، وإن كان مراً".
لم يطرأ جديد على قائمة الحجج التي أتى بها الزمخشري، والرازي فنرى كيف يحاول الكتاب المسلمون بنفس الحجج والطرق تأويل هذه القصة بل الدفاع عنها. حيث يظنون أن في طياتها حكماً مكنونة، لم ينضج فهم البشر بَعْدُ لسبر غورها. ونلاحظ وجود تناسق غريب بين المتزمتين ممن يدعون بأصوليين وأصحاب الإصلاح ودعاة التقدم. فيتحدث محمد حسين هيكل بصدد "تفنيده" لمزاعم V.Vacca بشأن زينب في دائرة المعارف الإسلامية عن مفخرة من مفاخر محمد التي جعل منها المستشرقون والمبشرون قصة حبٍ. أما زينب بنت جحش وما أضفى المستشرقون والمبشرون عليها من أستار الخيال حتى جعلوها قصة غرام ووله، فالتاريخ الصحيح يحكم بأنها من مفاخر محمد، وأنه وهو المثل الكامل للإيمان قد طبق فيها حديثه الذي معناه: لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ويكفي لهدم كل القصة التي قرأت عنها من أساسها أنه هو الذي خطبها على زيد مولاه. هذا ولا يهمل العلامة هيكل أن يضيف: "كان بمقدورنا أن نجنِّبه هذه الأقوال جميعاً بقولنا: فلتكن صحيحة، فماذا فيها ما يطعن على عظمة محمد أو على نبوته ورسالته؟ إن القوانين التي تجري على الناس لا سلطان لها على العظماء، فأولى ألا يكون لها سلطان على المرسلين والأنبياء. ألم ير موسى خلافاً بين رجلين، هذا من شيعته وهذا من عدوه، فوكز الذي من عدوه وقضى عليه، وهذا قتل محرم! مخالف للقانون. مع ذلك لم يخضع موسى للقانون، ولم يطعن ذلك في نبوته ولا في رسالته ولم يطعن في عظمته. وشأن عيسى في مخالفة القانون أكبر من شأن موسى ومن شأن محمد ومن شأن الأنبياء المرسلين جميعاً. فليس يقف أمره عند بسطة في القوة أو الرغبة، بل خرج بمولده وبحياته على قوانين الطبيعة!".
فلنضع هذه المغالطات جانباً وندع المسلمين يبحثون عن العلاقة "القائمة" بين قتل موسى رجلاً غير مذنب من جهة، ومولد عيسى من العذراء من جهة أخرى، وما له بسبب يتصل بما حدث بين محمد وزينب. فالغرابة في الأمر هي أن يورد العلامة هيكل كحجة دامغة تزويج محمد زينب بزيد ليدحض دعوى الخصوم القائلة بأن الأمر قصة غرام ووله! - ولا نظن أن هيكل ليس له عهد بما ورد في المصادر الموثوق بها من أن النبي "وقع في قلبه بعد زواجها من زيد!". أما الصابوني فيستبعد علاقة غرام أو حب في هذا الزواج إذ "كيف يقدم إنسان امرأة لشخص وهي بكر حتى إذا تزوجها وصارت ثيباً رغب فيها؟" ويهاجم الصابوني من يسميهم المستشرقين والمبشرين الدساسين الذين ادعوا أن الله عاتب محمداً لما يخفيه في قلبه من رغبة في زينب. غير أن "تلك الافتراءات للمستشرقين والمبشرين" وردت في طبقات ابن سعد وتاريخ الطبري وتفسيره كما نقلت في الكتب المؤلفة بعدهما، وابن سعد والطبري لم يكونا من أعداء الإسلام ولا مستشرقين دساسين، ولم يعرفا أن محمداً تزوجها فقط لإلغاء وإبطال حكم التبني الحجة التي لم تكن معروفة في عهد الطبري.
ويوجد الآن بين المسلمين الأصوليين أو الكتّاب المسلمين الذين تحظى مؤلفاتهم بإعجاب الأصوليين من اكتشف في ميل النبي إلى النساء فضيلة أخرى له. إذ برهن النبي بذلك على أنه بشر بكل معنى الكلمة. إن هذه الحجة الحديثة التي عبرت عنها عائشة عبد الرحمن لأول مرة بصراحة يجب اعتبارها انتقاداً للكتّاب الذين يحاولون تبرئة الرسول من كل شعور بشري، فتقول تعليقاً على كلام محمد حسين هيكل في شأن زواج النبي من زينب (ولا يخفى على أحد استهزاؤها اللاذع به): رهل لي أن أقول بعد هذا إن "الدكتور هيكل" أخطأ من حيث أراد الدفاع عن الرسول؟ ذلك أنه بإنكاره ميل الرسول إلى زينب، ورفضه أن يكون ص تعلق بها، قد ألقى على المسألة ظلالاً من الريبة، توهم أن هذا التعلق خطأ لا يجوز على الرسول ومنقصة يجب أن ننزهه عنها. وما في الأمر شيء من ذلك قط، إنما هي البشرية تتعرض لما لا تملك دفعه من أهواء، فتتسامى وتترفع في نبل وعفة، ثم تأبى إلا المضي في الامتناع عما أحل الله دفعاً لمقالة الناس، ويأبى الله على رسوله ألا أن يُقدم على زواج كهذا أباحَه الشرع، وقضت به مصلحة عامة هي "ألا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً". ومصلحة أخرى خاصة "هي أن تأمن زينب - بنت عمة الرسول - الأيمة والضيعة، وتنال الشرف بأن تغدو من أمهات المؤمنين. ومن هنا كان عتاب الله لرسوله، حين كتم الأمر وبالغ في كتمه، والله لا يرضى له إلا اتحاد الضمير والظاهر، والثبات في مواطن الحق، حتى يقتدي به المؤمنون فلا يستحيوا من المكافحة بالحق وإن كان مراً".
الفصل السابع والعشرون
زواج محمد من أمهات المؤمنين في الجدل الإسلامي المعاصر
من الطبيعي أن يتحير المسلم في أمره ويسأل نفسه كيف تزوج نبيُّه إحدى عشرة سيدة بينما يبيح القرآن تعدد الأزواج إلى أربع كأقصى حد، ويشترط في ذلك العدل الذي يستبعده أكثر الفقهاء والكتّاب خاصة في العصر الحاضر، ويطلب من كل مسلم أن يتخذ نبيه أسوة حسنة، فيتَّبع سنته الشريفة لا سيما في ميدان الزواج إذ روى عنه قوله: "النكاح من سنتي".
سألت فتاة مصرية في الستينات الشيخ محمود الغراب: "ما هي الحكمة في أن الله تعالى أباح للنبي عليه السلام التزوج بأكثر من أربع؟ إن عللنا ذلك بكثرة النسل فإنه لم يرزق من بعضهن بولد، وإن عللناه بأن الله أراد أن يمتعه (ولا مؤاخذة) قلنا إن مقام النبوة أرفع من ذلك. إني أعرف سبب زواجه بواحدة كانت زوج شخص تبناه إذ جاء ذكر زواجها في القرآن الكريم: "زوَّجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم". وأما غيرها فلا أعرف سبب زواجه بهن وحكمته، وأنّى لمثلي أن تدركه، وهذا النوع من البحث لا يدركه إلا العلماء والباحثون، فلعلكم مجيبون ببيان وافٍ ولفضيلتكم عظيم احترامي".
يتحدث الشيخ محمود الغراب في مستهل جوابه عن مسألة كثر فيها الكلام وزلت فيها أقدام، فيقول: "كل عمل يصدر منه (محمد) لا يكون إلا عن حكمة علمناها أو عجزنا عن إدراكها. هذه المسألة يا سيدتي من خصوصياته عليه السلام، بمعنى أنه عليه السلام بعد أن شرَّع قصر الرجال على أربع من النساء كان يحل له التزوج من غير أن يتقيد بهذا العدد، ولكن يا سيدتي من تتبع أصل التشريع في ذلك يرى أن النبي كان مضيقاً عليه في هذا أكثر من أمته، ولم يكن له تشريع خاص لقصر التوسعة عليه في هذا الأمر". دعونا نقرأ أولاً الغراب وهو يشرح حجته الغريبة هذه:
"من المعلوم أنه قبل أن يشرع تحديد الزوجات بأربع كان يحل لكل رجل أن يجمع في عصمته من النساء ما شاء من العدد، لا فرق بين نبي وغيره، بل الكل كان في ذلك سواء. فلما جاء التشريع الخاص بالعدد أمر النبي من عنده زيادة على أربع أن يمسك أربعاً ويفارق الباقي، وشرع الطلاق وحل استبدال المرأة بغيرها، أما بالنسبة للنبي عليه السلام، فجاء التخيير من الله لزوجاته: "يا أيها النبي قُل لأزواجك إن كنتُن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلاً، وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيماً" فاخترن الطرف الثاني، فأُكرمن بأن اعتُبرن أمهات المؤمنين، وقصر عليه السلام عليهن فقط من بين نساء المؤمنين كزوجات، وحرم عليه طلاقهن ومنع استبدالهن بغيرهن، وفي ذلك تضييق شديد بالنسبة لما أُجيز لأمته، وفي ذلك يقول الله تعالى: ريا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن، وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك، وبنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك، وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي... لا يحل لك النساء من بعد، ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن، إلا ما ملكت يمينك".
نرى أن الشيخ محمود الغراب يخلط أموراً لا يمت بعضها لبعض بصلة. فبالنسبة لآية التخيير مثلاً فإنها لم تنزل قصراً على محمد وتحديداً لأزواجه، بل إنذاراً وتحذيراً لهن حتى لا يثقلن على رسول الله طلباً لعرض الدنيا. وبغض النظر عن أن الآية (33: 82-23) لا تشكل أي تدخل تشريعي في الحياة الزوجية لمحمد، فإن الشيح الغراب يجهل أو يتجاهل أن محمداً نكح زوجته الأخيرة في "عام الحج" أي بعد نزول هذه الآية بأعوام. فإن "قضاء محمد سنين شبابه مع الأرملة خديجة بجانب كون زوجاته ما عدا عائشة ثيبات من أقوى الحجج عند المسلمين المعاصرين على أن النساء لم يكنّ همّ الرسول الشاغل". ويتحدث الصابوني عن نقطتين هامتين لعبتا الدور الأساسي في زواج محمد من نسائه "تدفعان الشبهة عن النبي الكريم، وتلقمان الحجر لكل مفتر أثيم" وهما:
"أولاً: لم يعدد الرسول الكريم زوجاته إلا بعد بلوغه سن الشيخوخة، أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين.
ثانياً: جميع زوجاته الطاهرات ثيبات أرامل، ما عدا السيدة عائشة فهي بكر، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها وهي في حالة الصبا والبكارة. ومن هاتين النقطيتن ندرك - بكل بساطة - تفاهة هذه التهمة وبطلان ذلك الادعاء الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون".
فرغم أن العلماء المسلمين فخورون بأن "رسول الله" بشر حقيقي كما يظهر ذلك من حياته الزوجية فإنهم يقدمون لدى ذكرهم قصص زواجه من نسائه صورة لا تتوافق والواقع ولا طبيعة محمد البشرية؟ فإن سلمنا بما يكتبون في هذا السياق، وصدقنا الأسباب التي يسردونها تفسيراً لتعدد الزوجات في بيت النبوة، فإن زواجه من خديجة هو الوحيد الذي تم من نتيجة دوافع إنسانية. يدعون أنه لم يكن ليتزوج عائشة لو لم يكن أبوها أبو بكر عرضها عليه الأمر الذي يعني تحريف ما وصل إلينا من أقدم الروايات بهذا الشأن. ويعتقد الآخرون أن محمداً سعى من وراء زواجه بعائشة عقد علاقة قرابة بينه وبين أبي بكر: "لقد كانت مصاهرة الرسول للصدّيق أبي بكر أعظم منة ومكافأة له في هذه الحياة الدنيا، كما كانت خير وسيلة لنشر سننه المطهرة وفضائله الزوجية وأحكام شريعته، ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء". تأسيس المصاهرة كان أيضاً سبب زواجه من حفصة بنت عمر حيث أراد أن يكافئ وزيره الآخر" (عمر).
أما ما يتعلق بزواجه بحفصة فقد أقدم عليه شفقة وخوفاً عليها من قومها. وأما تزوجه من زينب بنت خزيمة فكان مكافأة لخدماتها الخيرية للفقراء. لقد اتخذ محمد أم سلمة - في زعم الكتّاب المعاصرين - زوجة تقديراً لتفانيها من أجل أولادها ورأيها الحسن يوم الحديبية الخ. أما السر الكامن في زواجه بجويرية فكان رَغْبَتَه في إعتاق قومها حيث وقعوا في الأسر بعد فتح المسلمين حصونهم. فتزوجها لكي يكون مهرها إطلاق سراحهم، فكانت أعظم امرأة بركة على قومها. تنتمي صفية بنت حيي أيضاً إلى هذا الصنف من النساء اللاتي تم زواجه بهن لأسباب استراتيجية. يقول محمد رشيد رضا إنه تزوجها إشفاقاً من إذلالها وهي سيدة قومها: "فقال أهل الرأي من الصحابة: يا رسول الله إنها سيدة بني قريظة والنضير لا تصلح إلا لك. فاستحسن رأيهم وأبى أن تذل هذه السيدة بالرق عند من تراه دونها، فاصطفاها وأعتقها وتزوجها، كراهة لرق مثلها في نسبها وقومها، ووصل سببه ببني إسرائيل، لعله يخفف مما كان من عداوتهم له.
أما أم حبيبة فتزوجها لكي يكافئ إيمانها.
يعترف محمد رشيد رضا أنه لم يعثر على أية حكمة تزوج محمد من أجلها بميمونة: "ولم أقف على سبب ولا حكمة لتزوجه بها، ولكن ورد أن عمه العباس رغَّبه فيها، وهي أخت زوجة لبابة الكبرى أم الفضل، وهو الذي عقد له عليها بإذنها". ولكن الحكمة في زواج محمد بميمونة التي لم يقف عليها محمد رشيد رضا لم تفت الصابوني: "ولا يخفَى ما في زواجه بها من البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروا الرسول ونصروه".
وأما ما يتعلق بالأَمَتين ماريا وريحانة فلا يخبرنا الكتّاب المسلمون بالأسباب ولا بالحِكَم التي أدَّت بزواج الرسول بهما.
إن ما يسميه الكتاب المسلمون في العصر الحاضر حِكَماً أو أسباباً في زواج محمد بنسائه، لخصها الصابوني في أربعة أبواب وهي:
أولاً: الحكمة التعليمية
لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول ص هي تخريج بضع معلمات للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية، فالنساء نصف المجتمع، وقد فُرض عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال.
وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي ص عن بعض الأمور الشرعية، وخاصة المتعلقة بهن. كأحكام الحيض، والنفاس، والجنابة، والأمور الزوجية، وغيرها من الأحكام، وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل. ولقد صار من هؤلاء الزوجات معلمات ومحدثات، نقلن هديه عليه السلام واشتهرن بقوة الحفظ والنبوغ والذكاء.
ثانياً: الحكمة التشريعية
ونتحدث الآن عن (الحكمة التشريعية) التي هي جزء من حكمة تعدد زوجات الرسول ص، وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة، وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة، ونضرب لذلك مثلاً (بدعة التبني).
وقد كان زيد (ابنه بالتبني) زوجه عليه السلام بابنة عمته زينب بنت جحش الأسدية، وقد عاشت معه مدة من الزمن، ولكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما، فكانت تغلظ له القول، وترى أنها أشرف منه، لأنه كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول، وهي ذات حسب ونسب.
ولحكمة يريدها الله تعالى طلق زيد زينب، فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل (بدعة التبني) ويقيم أسس الإسلام، ويأتي على الجاهلية من قواعدها. ولكنه عليه السلام كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجار، أن يتكلموا فيه ويقولوا: تزوج محمد امرأة ابنه، فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله عليه السلام، في قوله جل وعلا: "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه، فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً، وكان أمر الله مفعولاً" (الأحزاب 33: 73).
وهكذا كان هذا الزواج للتشريع، وكان بأمر الحكيم العليم، فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله روما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".
ثالثاً: الحكمة الاجتماعية
أما الحكمة الثالثة فهي (الحكمة الاجتماعية) وهذه تظهر بوضوح في تزوج النبي ص بابنة الصديق الأكبر (أبي بكر) رضي الله عنه وزيره الأول، ثم بابنة وزيره الثاني الفاروق (عمر) رضي الله عنه وأرضاه، ثم باتصاله عليه السلام بقريش اتصال مصاهرة ونسب، وتزوجه العديد منهن، مما ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق، وجعل القلوب تلتف حوله، وتلتقي حول دعوته في إيمان وإكبار وإجلال.
ورابعاً: الحكمة السياسية
لقد تزوج النبي ببعض النسوة من أجل تأليف القلوب عليه وجمع القبائل حوله، فمن المعلوم أن الإنسان إذا تزوج من قبيلة أو عشيرة تصبح بينه وبينهم قرابة ومصاهرة، وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته. مثل زواجه بجويرية وصفية.
يمكن أن نقول في ختام هذا الباب أنه لا يوجد خلاف كبير بين الأصوليين والمسلمين المعتدلين ممن اشتهروا بالإصلاح والانفتاح أو العداء للتعصب، مثل محمد عبده ومحمد رشيد رضا، إذا تعلق الأمر بالحياة الزوجية لمحمد، فهم مجمعون على أن محمداً لم يتزوج واحدة من نسائه - ربما ما عدا خديجة - لدوافع أو نوازع إنسانية بل كان غرضه إما مكافأتهن أو حمايتهن من الأخطاء، أو لأسباب سياسية وتشريعية كما مرَّ عند الصابوني. ونلاحظ في محاولات الجانبين أن الرغبة في تصوير الأمور بشكل مثالي أقوى بكثير من الاهتمام بالموضوعية التاريخية.
الفصل الثامن والعشرون
الحجاب
رغم أن الحجاب في العالم الإسلامي وفي أوروبا صار مشكلة من مشكلات الساعة، فلا يمكن تاريخياً اعتباره واجباً فرضه القرآن أو محمد على النساء. ولكن مما لا شك فيه أن الحجاب وضع في البداية علامة للمرأة الحرة لكي لا يتعرض لها الرجال ظناً منهم بأنها أَمَة. أما في اللغة فيفيد الستر وكل ما حال بين شيئين أو كل شيء منع شيئاً.
يذكر المسلمون آيتين من القرآن دلالة على وجوب الحجاب. أما الآية الأكثر شيوعاً فهي: "وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخُمُرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن وآباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون" (النور 42: 13). ويُروى عن سبب نزول هذه الآية أن أسماء بنت مرشد كانت في محل لها في بني حارثة، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: "ما أقبح هذا" فأنزل الله "قل للمؤمنات". عن سبب نزول الآية. يُروى أيضاً عن علي بن أبي طالب قوله: "مرَّ رجل على عهد رسول الله (ص) في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه. فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبيما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط (صُدم به) فشقَّ أنفه. فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله (ص) فأُعلمه أمري؟ فأتاه فقصَّ عليه قصته. فقال النبي (ص) هذا عقوبة ذنبك. وأنزل الله: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم".
من الألفاظ الهامة في هذه الآية (42: 13) "العورة" وهي سوأة الإنسان كناية، وأصلها العار، وذلك لما يلحق في ظهوره من العار أي المذمة، ولذلك سمى النساء عورة ومن ذلك "العوراء" الكلمة القبيحة". قال محمد: "لا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ولا ينظر الرجل إلى عورة، الرجل" وعن مولى عائشة، عن عائشة قالت: "ما نظرت أو ما رأيت فرج رسول الله قط". يتحدث العلماء بالنسبة لعورة الجنسين عن أربعة أصناف:
أما عورة الرجل مع الرجل
فهي من (السرة إلى الركبة) فلا يحل للرجل أن ينظر إلى عورة الرجل فيما بين السرة والركبة وما عدا ذلك فيجوز له النظر إليه. وقد قال (ص): "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة". وأجمع جمهور الفقهاء على أن عورة الرجل ما بين السرة إلى الركبة كما صح في الأحاديث الكثيرة، وقال مالك رحمه الله: "الفخذ ليس بعورة". ومما يدل لقول الجمهور ما روي عن (جرهد الأسلمي) وهو من أصحاب الصفة أنه قال: "جلس رسول الله ص عندنا وفخذي منكشفة فقال: أما علمت أن الفخذ عورة".
وفي رواية: "لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت
". وأما عورة المرأة مع المرأة: فهي كعورة الرجل مع الرجل أي من (السرة إلى الركبة) ويجوز النظر إلى ما سوى ذلك، ما عدا المرأة الذمية أو الكافرة فلها حكم خاص سنبينه فيما بعد.
وأما عورة الرجل بالنسبة للمرأة
ففيه تفصيل، فإن كان من (المحارم) كـ(الأب والأخ والعم والخال) فعورته من السرة إلى الركبة وإن كان (أجنبياً) فكذلك عورته من السرة إلى الركبة، وقيل جميع بدن الرجل عورة، فلا يجوز أن تنظر إليه المرأة. وكما يحرم نظره إليها يحرم نظرها إليه، والأول أصح. وأما إذا كان (زوجاً) فليس هناك عورة مطلقاً لقوله تعالى "إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين".
وأما عورة المرأة بالنسبة للرجل
فجميع بدنها عورة على الصحيح، وهو مذهب (الشافعية والحنابلة) وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على ذلك فقال: "وكل شيء من المرأة عورة حتى الظفر".
وذهب (مالك وأبو حنيفة) إلى أن بدن المرأة كله عورة ما عدا (الوجه والكفين) ولكلٍ أدلة سنوضحها بإيجاز.
بينما يقول الأحناف والمالكية بأن الوجه والكفين ليسا بعورة. يستدل الشافعية والحنابلة على كونها عورة بالكتاب والسنة والمعمول والخلاف يدور هذه المرة حول كلمة "الزينة" التي تفسر بين المذاهب الفقهية على وجوه مختلفة.
فهم يقسمون الزينة إلى خَلْقية ومكتسبة، والوجه من الزينة الخلقية بل هو أصل الجمال ومصدر الفتنة والإغراء. وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها كالثياب والحلي والخضاب. وهم يستدلون على صحة ذلك من القرآن والحديث، ويسمونه بـ"المعقول" وهو أن المرأة لا يجوز النظر إليها خشية الفتنة، والفتنة في الوجه تكون أعظم من الفتنة بالقدم والشعر والساق. فإذا كانت حرمة النظر إلى الشعر والساق بالاتفاق، فحرمة النظر إلى الوجه تكون من باب أولى، باعتبار أنه أصل الجمال ومصدر الفتنة ومكمن الخطر.
والآن كيف يجب أن يكون هذا الحجاب في نظر العلماء والفقهاء؟ يذكر الطبري في تفسيره رواية عن ابن سيرين أنه قال: "سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى (يدنين عليهن من جلابيبهن) فرفع ملحفة كانت عليه فتقنَّع بها وغطى رأسه كله حتى بلغ الحاجبين وغطى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر". ورُوي مثل ذلك عن ابن عباس. أما الشروط التي يجب توفرها لحصول الحجاب الشرعي فقد سردها الصابوني في تسعة أحكام كما يلي:
أولاً: أن يكون الحجاب ساتراً لجميع البدن لقوله تعالى (يدنين عليهن من جلابيبهن). ومعنى الجلباب الثوب السابغ الذي يستر جميع البدن، ومعنى الإدناء الإرضاء والسدل فيكون الحجاب الشرعي ما ستر جميع البدن.
ثانياً: أن يكون كثيفاً غير رقيق، لأن الغرض من الحجاب الستر، فإذا لم يكن ساتراً لا يسمى حجاباً، لانه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر. وفي حديث عائشة أن (أسماء بنت أبي بكر) دخلت على رسول الله ص وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ص.
ثالثاً: ألا يكون زينة في نفسه، أو مبهرجاً ذا ألوان جذابة يلفت الأنظار لقوله تعالى: "ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها". ومعنى "ما ظهر منها" أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى "حجاباً" لأن الحجاب هو ما يمنع ظهور الزينة للأجانب.
رابعاً: أن يكون فضفاضاً غير ضيق، لا يشف عن البدن، ولا يجسم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم، وفي صحيح مسلم عن رسول الله ص أنه قال: "صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس. ونساء كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت (الإبل) المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا" وفي رواية أخرى: "وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام".
ومعنى قوله عليه السلام "كاسيات عاريات" أي كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة، لأنهن يلبسن ملابس لا تستر جسداً، ولا تُخفي عورة، والغرض من اللباس الستر، فإذا لم يستر اللباس كان صاحبه عارياً.
ومعنى قوله "مميلات مائلات" أي مميلات لقلوب الرجال مائلات في مشيتهن، يتبخترن بقصد الفتنة والإغراء، ومعنى قوله "كأسنمة البخت" أي يصففن شعورهن فوق رؤوسهن، حتى تصبح مثل سنام الجمل، وهذا من معجزاته عليه السلام.
خامساً: ألا يكون الثوب معطراً فيه إثارة للرجال لقوله عليه الصلاة والسلام: "كل عين نظرت زانية، وإن المرأة إذا استعطرت فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية".
وفي رواية أخرى "إن المرأة إذا استعطرت فمرَّت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية".
وعن موسى بن يسار قال: "مرَّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف، فقال لها: أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت: إلى المسجد، قال: وتطيَّبتِ؟ قالت: نعم، قال: فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله (ص) يقول: "لا يقبل الله من امرأة صلاة، خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل".
سادساً: ألا يكون الثوب فيه تشبه بالرجال، أو مما يلبسه الرجال لحديث أبي هريرة "لعن النبي (ص) الرجل يلبس لبسة المرأة، والمرأة تلبس لبسة الرجل". وفي الحديث "لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء" أي المتشبهات بالرجال في أزيائهن وأشكالهن كبعض نساء هذا الزمان، نسأله تعالى السلامة والحفظ.
إن ما شيد من حول الحجاب من صرح شرعي مهيب لم يفقد من هيبته شيئاً في عصرنا. بل نرى أن الفقهاء والعلماء المعاصرين ازدادوا في التفنن في اختلاق الحجج دفاعاً عن الحجاب. كما نرى ازدياد التعصب في هذا المجال في بعض البلدان، وبالتحديد لدى بعض الجماعات الأصولية، فالمفكر الإسلامي مقتنع بأن الحجاب لا مناص منه إذا أُريد تأسيس مجتمع نظيف والحفاظ عليه، لأن الحجاب يصد الرجل من الوقوع في الفتنة. وهذا المنطق مبني على تصور المرأة مصدراً للفتنة والشر، بينما يلعب "الرجل المسكين" دور الضحية. فإذاً يجب صد هذا الشر الذي ينشأ حالما يلتقي الرجل مع المرأة. فيرى مصطفى غلياتي، أحد أعداء حقوق المرأة رفي الزمن الذي لم يزدَدْ إلا شراً وفساداًذ ما يؤيد دعوته إلى الحجاب الإسلامي فيدعي "أن الحجاب ضروري إذ لا تجد بين مائة شخص عشرين قد تخاطبهم كبني البشر". إن المرأة فرض عليها الحجاب صداً لوجود الفتنة، وحفاظاً على سلامة المجتمع، فهي المسؤولة عن الأزمات التي تحدث في العائلات. يقول الصابوني: "ولا يشك عاقل أن تهتك النساء وخلاعتهن هو الذي أحدث ما يسمونه "أزمة الزواج" لأن كثيراً من الشباب أحجموا عن الزواج لأنهم أصبحوا يجدون الطريق معبَّداً لإشباع غرائزهم من غير تعب ولا نصب، فهم في غنى عن الزواج، وهذا بلا شك يعرض البلاد إلى الخراب والدمار، وينذر بكارثة لا تبقي ولا تذر، وليس انتشار الخيانات الزوجية وخراب البيوت إلا أثراً من آثار هذا التبرج الذميم".
هنا يحق لنا أن نسأل المسلم الذي قد يقبل ما كتبه الصابوني: هل من المنطق في شيء أن يصفالمرء المرأة مصدراً للفتن، ومسؤولة عن الأزمات العائلية، فيدَّعي في الوقت نفسه أن الإسلام لم يفرض عليها الحجاب إلا لحماية عفتها وفضيلتها وكرامتها وصوناً لشرفها من ضعفاء القلوب ومرضى الضمائر ممن يتربصون بالمرأة السوء؟!.
الخاتمة
حاولنا في الأبواب السابقة تبيان مكانة المرأة في الإسلام وما لها من حقوق وواجبات تجاه زوجها وفي المجتمع، وما على الرجل من حقوق لها، في ضوء مصادر الإسلام أي القرآن والحديث وأعمال الفقهاء وسقنا من حين إلى آخر آراء الكتاب والعلماء المسلمين المعاصرين، ليكون القارئ على معرفة بحججهم وأدلتهم وتفسيرهم "الحديث" لهذا الموضوع أو ذاك.
والآن وقد وصلنا إلى ختام كتابنا نستطيع القول إن المرأة في الإسلام لا تحظى بمكانة "ترجوها الأوروبية لنفسها". فمع أن محمداً أتى بإصلاحات عديدة لوضع المرأة العربية في شبه الجزيرة، ومع أن الإسلام لم ينكر أبداً أن الأنثى ذات نفس وعقل، فإنها ظلت في القرآن والحديث والمصادر الفقهية، وحتى في أعمال المعاصرين في العالم الإسلامي، نصف إنسان. والحكمة من وجودها هي أن تخدم زوجها وتطيع أوامره بلا قيد وشرط، وأن تلد له صبياناً وتخبئ نفسها عن العيون، وكأن وجودها عيب في حد ذاته. وبما أن التعليم الإسلامي يعتبر القرآن كتاباً أملاه الله على محمد، وأحكامه أفضل ما يمكن المرء تصوره، وشاملة لكل زمان ومكان، فإنه ليس من السهل تفسير القرآن تفسيراً عقلانياً كما حاول ذلك محمد عبده. ومن شبه المستحيل توفيقه وإدماجه مع متطلبات العصر، سيما أن جزءاً كبيراً من الآيات صريحة في التعبير، لا تعطي العالِم المنفتح أي تأويل. فإذاً ليس للمسلم المؤمن والذي يشعر نفسه مكلفاً بتبليغ كتابه الكريم في المجتمع الحديث من خيار سوى تبرير وتعليل كل الأحكام والأقوال في القرآن، إذا كانت تلك تتعارض مع الواقع المعاش. كذلك الأمر بالنسبة للآيات القرآنية التي تحط من شأن المرأة، مقارناً مع الفهم الحديث، مما يضطر العالِم أو الكاتب المسلم في يومنا إلى التحري عن حكمة مخفية تحت هذه الأقوال وأعظمها: "لا يريد الله بالمرأة إلا خيراً". فإن تعلق الأمر بأن شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل، فلأن الله عرف أن ليس لها خبرة في ميادين الحياة، فأراد أن يجنبها التجارب والأخطار. وإن كان الموضوع ضرب الناشزة فهذا ليس بحلال مباشر، وإلا لما ذكره الله في القرآن كالوسيلة الأخيرة لإصلاحها. وأما بالنسبة لتعدد الزوجات، فقد كان في سابق علمه تعالى أن الغرب نفسه يجعل من تعدد الزوجات مؤسسة مشروعة بالقوانين، الأمر الذي حدث فعلاً في ألمانيا كما يزعم الصابوني. إن مؤلفات الأصوليين والمسلمين المنفتحين على السواء في العصر الحاضر مليئة بمثل هذه الحجج المختلفة والأمثلة المضحكة.
وفي الختام يجب أن نضيف أنه لا يجوز أن يفكر القارئ في وجود تناسق بين نصوص وأحكام الشريعة بشأن المرأة والواقع المعاش في الدول الإسلامية. وبعبارة أخرى: من الظلم أن ندعي أن كل مسلم يعامل زوجته أو بناته أو الجنس الأنثوي عامة طبقاً لما قرره الفقهاء وما يزالون يقررون! وإن كانت المرأة تعيش في ظل رواسب الشريعة وتحت هيمنة الرجال. ولكن نشاهد في الوقت نفسه كيف يضعف أثر الشريعة بل يختفي هنا وهناك في خضم معركة لا هوادة فيها بينها وبين الحركات التحررية. إنه ليس الإسلام المتزمت وحده الذي يحاول صياغة المجتمع حسب تصوراته ومثُله ويترك طابعه في هذا المجتمع أو ذاك، بل يوجد تطرف آخر يؤدي بالمرأة إلى العداء للرجال والمجتمع قاطبة، كما هو الحال بين أتباع الحركات النسائية في مصر ودول شمال أفريقيا.