|
المفكر السيد الصدر حلّق في فضاءات شاسعة وسبح في بحور واسعة*(ج 1)
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3730 - 2012 / 5 / 17 - 22:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مرت الذكرى الثانية والثلاثين لاختفاء السيد الصدر، هذه المقالة محاولة استذكار حوارية بين التيار الاسلامي والماركسي
المفكر السيد الصدر حلّق في فضاءات شاسعة وسبح في بحور واسعة*(ج 1)
الدكتور عبد الحسين شعبان أكاديمي ومفكر
الأصل في هذه المادة، دراسة منشورة للباحث في صحيفة المنبر، التي تصدر في لندن، العدد الثاني والخمسون، أيار (مايو) 1999.
في أواخر الخمسينيات بدأت تظهر في مدينة النجف حلقات صغيرة من المتدينين السياسيين وقد برز نشاط هذه المجموعات كردّ فعل لهيمنة اليسار والشيوعيين على الشارع العراقي بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958. وإذا كان " التيار القومي" قد أخذ على عاتقه مهمة التصدي للتيار اليساري الماركسي، فإن " التيار الإسلامي" قد وجد في التحدّي الأيديولوجي ما يحقق أهدافه. الجماعات الإسلامية التي كانت تلتقي في إطار " الحوزات العلمية" وفي " الصحن الشريف" وفي المناسبات الاسلامية، وخصوصاً في المواكب الحسينية والليالي الرمضانية، أخذت أسماء منوّعة مثل "جماعة العلماء" " شباب العقيدة والإيمان" و" الشباب المسلم". وكان اسم "الدعوة" الأبرز بينها وأخذ مكانه تدريجيا يطغى على الكتل والجماعات الأخرى، التي اختفى قسم كبير منها أو ذاب، حتى وان كان في إطار الواجهات الحركية. * * * كان اسم السيد الصدر محمد باقر يتردّد كأحد أبرز الارهاصات الفكرية الجديدة والواعدة. وكنت قد سمعتُ عنه لأول مرة من الصديق محمد صالح الحسيني (جارنا الإسلامي، الذي كان ناشطاً يومها مع التيارات الجديدة في الحركة الإسلامية وتخرج من كلية العلوم في بغداد، وإلتحق لفترة في صفوف الثورة الفلسطينية، وعمل مع المجموعات المناهضة لحكم شاه ايران، وعيّن مستشاراً بعد الثورة الايرانية، واغتيل في بيروت العام 1981 بُعيد الحرب العراقية-الايرانية بأشهر واتهمت المخابرات العراقية في حينها باغتياله. وكان الحسيني قد لعب دوراً ايجابياً مهماً في تعزيز العلاقات الفلسطينية والعربية -الايرانية الشعبية والرسمية فيما بعد!). ويعكس هذا المثل التداخل الاجتماعي أواصر الجيرة والصداقة، فضلا عن التعايش بين التيارات السياسية على الرغم من التناقض الآيديولوجي، ففي المدينة ذات القباب الذهبية كان الفكر المنفتح ينبوع حياتها ورافد علاقتها مع الخارج منذ قرون، حيث شهدت جامعتها التي مضى على تأسيسها نحو ألف عام فترات ازدهار، مواصلة تقاليد البحث العلمي على الرغم من محاولات الإقصاء والعزل. كان الموزائيك العراقي يظهر أحياناً بألوانه المختلفة والمؤتلفة في تلك المدينة المميّزة، ليس في وحدة عبثية أو مصطنعة، بل بتداخل وتفاعل فسيفسائي جميل، حيث يُبرز المسافات المتّصلة والمنفصلة، المتقاربة والمتباعدة، بين الخطوط والحقول والألوان. فكنت تجد اليساري و الإسلامي والقومي على حد سواء في البيت والحي والشارع والمحلة والمدرسة. وإذا عدتُ إلى فترة أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات وجدت السيد الصدر محور الحركة الإسلامية ذات الأبعاد الفكرية الجديدة، خصوصاً وأنه حاول أن ينفض الغبار عن الواقع الفكري والثقافي الذي علق بها وجعلها أسيرة تكرار للماضي، وإنْ كانت هناك محاولات تجديدية وتحديثية، لكنها ظلّت محدودة قياساً بمحاولات السيد الصدر، حيث أكسبها طابعاً عصرياً وبعداً حضارياً ونفحة أكثر إنسانية، مولياً اهتماماً متعاظماً بالجوانب الاجتماعية، مقارناً ذلك بفلسفات معاصرة دون أن يعلن عن رفضها بصورة مسبقة! قرأ السيد الصدر الماركسية من مصادرها حسب قناعتي ولم يقرأ عنها. (أعني كتب ماركس ولينين بالطبعة العربية التي كانت متوفرة في حينها) وجاء إليها عبر فلسفة إسلامية عميقة الغور في التاريخ. وحاول " نقدها" حيث كان بناؤه الفكري والمعرفي ومنظومته العلمية تزداد عمقاً وشمولاً. وحين أقول أن السيد الصدر قرأ الماركسية من مصادرها، فإنني أعني فترة أواخر الخمسينيات، التي شهدت "انفتاحاً" نسبياً في سوق الكتاب وخاصة الماركسي بشقيه السوفييتي والصيني. وهذا التاريخ ابتدأ بعد ثورة 14 تموز (يوليو)1958، وحسب تقديري هو تاريخ تكوين وتأصيل المعرفة الماركسية في العراق، فقد كانت الماركسية قبل ذلك لا تزيد عن كتاب " البيان الشيوعي " الذي ترجمه خالد بكداش العام1937 وسجالات روادها الأوائل في العراق حسين الرحّال وزملائه وبعض الكراريس والكتيبات والمنشورات ذات الطابع العملي والتنظيمي بما فيها مؤلفات فهد وحسين الشبيبي وعبد الفتاح ابراهيم وعزيز شريف وبعض كتابات " الأهالي" و"الرأي العام"، وبالطبع كتابات صحافة الحزب الشيوعي السرّية ولاحقاً العلنية بعد ثورة العام 1958. ويمكنني القول لم يأتِ إلى الشيوعية قبل هذا التاريخ من قرأ ماركس أو تبحّر في نظرياته وأفكاره. وأظن أن ذلك لم يكن متاحاً للشبيبة استيعابه، وإنّما جاءوا إليها بحكم المبادئ العامة، التي ردّدتها تلك المنشورات ومواقف الحزب ضد الاستعمار ومن خلال أحداث محددة في العام 1948 ضد معاهدة بورتسموث وفي العام 1952 حيث حدثت انتفاضة تشرين وفي العام 1956 انتصاراً للشقيقة مصر ووقوفاً ضد حلف بغداد التي تأسس في العام1955، إضافة إلى قوة المثل الذي ضربها الشيوعيون آنذاك. حين قرأ السيد الصدر الماركسية، لم يقرأها من زاوية سياسية بل قرأها من زاوية فلسفية واجتماعية، وهو مسلّح بفكر آخر. وقرأها وكانت تدور في رأسه ثمة أفكار وآراء وارهاصات لمفكرين وفلاسفة وباحثين. وقد انعكس ذلك في كتاباته التي اتّخذت الطابع السجالي والسمات البحثية، في تقليب الفكرة ونقيضها بحثاً عن الحقيقة ووصولاً إليها. ولعل الروافد الفكرية والروحية التي غذّت السيد الصدر قد لعبت دوراً في تكوين شخصيته التي تميّزت بالثقة العالية بالنفس، خصوصاً باختزانه هذا الكم الهائل من المعرفة. * * * نشطت الحركة الإسلامية الشيعية على نحو ملحوظ ومتصاعد في أواسط الستينيات، حيث شهدت جامعة بغداد وغيرها بعض النشاطات الإسلامية، وفي مقدمتها المواكب الحسينية الحاشدة، وكانت تلك النشاطات تتميّز عن النشاطات التي سبقتها بالظهور بصورة مستقلة وجماهيرية، خارج نطاق العمل التعبوي الإسلامي التقليدي، الاّ أنه لم يظهر بعد كحركة منافسة للقوى السياسية التقليدية كالشيوعيين والبعثيين والقوميين العرب والأكراد. ويبرز ذلك واضحاً حيث تصارعت هذه القوى على الفوز في المقاعد المخصصة لإتحاد الطلبة، حيث نال الشيوعيون أغلبية ساحقة في (آذار/مارس 1967) ناهيكم عن النقابات والاتحادات المهنية الأخرى. ولعل النشاطات الإسلامية ذات الوجهة المستقلة قد أخذت تبرز مثل زيارة السيد محسن الحكيم إلى سامراء والكاظمية في العام 1963 وما بعدها، حيث كانت تشكّل عنصر ضغط على السلطات الحاكمة من جهة، وتعبّر في الوقت ذاته عن تحرّك جماهيري ذات طبيعة محددة من جهة أخرى. ومع تطور الحركة الإسلامية فإن قيادة السيد الصدر (الذي كان أحد أبرز الدعاة الأوائل) قد أخذت منحًى آخر، بعيداً عن العمل التنظيمي والممارسات اليومية، حيث توجّهت وتفرّغت للقضية الفكرية ولمسائل البحث. وكان ذلك كسباً كبيراً للحركة الإسلامية وللفكر الإسلامي المعاصر ليس في العراق وحده، بل في العالمين العربي و الإسلامي وعلى الصعيد الإنساني أيضاً، حيث فرز أحد أبرز مفكريه ليمثّل مكاناً كبيراً في قمّة الهرم الفكري للتيار الإسلامي المعاصر، شكل بآرائه التجديدية وبعمق فكره وشجاعته مرجعية مهمة، بل لعلي أقول من أهم المرجعيات المعاصرة في الفكر الإسلامي المعاصر. * * * وفي العام1977 أنهيت دراستي العليا وعدت إلى بغداد تنفيذاً لقرار سياسي (حزبي) بعد انقطاع دام بضعة سنوات. بعد أيام من عودتي قمت بزيارة لمدينة النجف (مسقط رأسي) لتصفية بعض المتعلّقات العائلية منها ما يتعلق بالنفوس وبعض الأملاك. وفي الطريق إلى النجف حدثت مفارقة مهمة. لم أرغب حينها في قيادة سيارتي بعد انقطاع لسنوات، بل فضّلت كراء سيارة أجرة من الكراج المخصص. وذهبنا أخي حيدر وأنا إلى هناك. ولم تكن السيارات متوفّرة وبعد انتظار حوالي نصف ساعة قرّرنا العودة إلى البيت وتأجيل فكرة الزيارة إلى يوم آخر، وقبل أن نترك المكان فإذا بأحد الأخوان يبادرنا بالسلام ويقدّم لنا نفسه باعتباره صديقاً للدكتور ناهض (من آل شعبان). وكنت في الواقع قد عرفته بعد لحظات وحاولت أن أتذكره جيداً.. إنه"... محي الدين" وهو من القوميين الناصريين (الحزب العربي الاشتراكي، الذي كان أبرز وجوهه عبد الرزاق شبيب والسيد أحمد الحبوبي وتوفيق المؤمن وآخرون). استأجر صاحبنا سيارة أجرة على نحو سريع واصطحبنا معه، وفي الطريق قام بضيافتنا في الحلة، وأصرّ بعد الوصول إلى النجف، المبيت في داره وأقسم على ذلك مع وعد بإيصالنا صباح اليوم التالي بسيارته إلى حيث نريد. وحاولنا الاعتذار والتملّص ولكن دون جدوى، وحلف أغلظ الايمان على أن نأكل "القيمر والعسل" صباح اليوم التالي لتكتمل "العزيمة" على حد تعبيره! بعد إلحاح شديد ورغبة انسانية في التواصل ولاعتبارات اجتماعية وعائلية اضطررنا إلى الرضوخ لمشيئته، وقبلنا بكل اعتزاز وممنونية ضيافته وكرمه. فاتّصلنا بأقاربنا لنخبرهم بوصولنا وقضاء الليلة عند مضيفنا وصديقنا. امتدّ الحديث مع مضيفنا إلى الكثير من نواحي الحياة والمجتمع، وكان يشاطرنا سخطه واستياءه من الأوضاع وسرعة تدهورها مع شيء من اللوم "لجبهتنا العتيدة"! وفي دار مضيفنا التقينا بشاب خجول.. قدّم لنا نفسه " أوس" وأردف المضيف ابن عبد الرزاق محيي الدين، وبعد أخذ ورد واستفسار عن الأحوال والأهل والصحة، سألني بكل أدب، بعد أن عرف اتجاهي الفكري حينها، إنْ كنتُ قد قرأت للسيد الصدر أو تعرفت عليه. فأجبته بكل أسف.. لكنني كنت قد سمعت عنه الكثير وتابعت منذ زمن بعض الكتابات التي وقعت بين يديّ، وأضفت بودي لو استطعت الإطلاع على كتاباته وكتبه تحديداً. وهنا شعرت بنقص ثقافتي الإسلامية المعاصرة أمام هذا الشاب، وخصوصاً ما استجدّ في ساحة الفكر وما يدور حوله الجدل والنقاش واسعاً. وقررت حينها أن أتفرّغ لقراءة القرآن بالكامل وبعض المراجع والكتب الاسلامية، وهو ما فعلته لاحقاً في العام 1978 في بغداد، وفي العام 1982 في كردستان (العراق) وقد دوّنت ذلك في أكثر من مناسبة. (وقد تمخّض عن قراءاتي تلك أربعة كتب هي: أمريكا والإسلام 1987 والإسلام وحقوق الانسان 2001 والإسلام والارهاب الدولي 2002 وفقه التسامح في الفقه العربي- الإسلامي، 2005.) وأخبرني الشاب بأن كتب السيد الصدر ممنوعة، فسألته إنْ كان هذا بعد حركة شباط (فبراير) 1977 المعروفة بانتفاضة خان النص (الطريق بين النجف وكربلاء) حيث تصدّت جماهير حاشدة في مسيرة متميزة لشعارات حكومية، منددة بالتمييز ومعلنة معارضتها علناً للنهج السياسي السائد، أم قبله؟ وعرفت في ما بعد أن نشاط السيد الصدر الفكري ومرجعيته قد تعرّضت للمضايقة قبل ذلك سواء من جانب السلطات الحاكمة أو من جانب المرجعية الدينية، التي ارتابت من العمل السياسي والحزبي، ولاحقاً في العام 1980 اعتقل الصدر وقيل أنه عذّب حتى فارق الحياة ومعه أخته بنت الهدى وظل مصيره مجهولاً بما يمكن إدراجه ضمن المختفين قسرياً حسب المصطلح القانوني الدولي الذي تستخدمه الأمم المتحدة. وقبل ذلك توفي تحت التعذيب ممثله في بغداد الشيخ عارف البصري(في النصف الأول من السبعينيات). لذلك تم حظر كتب السيد الصدر، بل انها أصبحت من أخطر المحظورات وفي القائمة السوداء للكتب الممنوعة. وعندما تم كبس داري في العام 1981(حين كنت قد غادرت العراق وأصدرت كتاباً في بيروت عن النزاع العراقي- الايراني) تم العثور على كتب السيد الصدر ضمن مجموعة كراريس وكتب إسلامية احتار بها "المكلفون" بالمهمة وتم مصادرة جميع كتبي ووثائقي ومقتنياتي الشخصية. (وقد اكتشفت في وقت لاحق أن هذه الكتب وفي فترة ما بعد انهيار الوضع في العراق، سواءً حقبة الحصار الدولي أو بعد الاحتلال، كانت قد وجدت طريقها إلى الأسواق وأكشاش المكتبات في شارع المتنبي، وقد أخبرني الصديق العتيق علي العاني أنه اشترى كتباً قديمة ووجد إسمي مكتوباً عليها ويعود قسمها الأكبر إلى فترة الستينيات ومازحني بأنه سيقوم بجمع مكتبتي بعد أن صادرها الجلاوزه.) أعود إلى الشاب الذي طلبت منه اعارتي ولو لتلك الليلة أحد مؤلفات السيد الصدر للاطلاع عليها. وبعد مماطلة وتردد كدت أنسى فيها طلبي، انسلّ إلى احدى الغرف، ثم عاد بعد دقائق حاملاً كتاب السيد الصدر " فلسفتنا" ليقدمه لي قائلاً "هذا جوهرة: عسى الله أن يهدينا سواء السبيل". بعد أن تصفّحت الكتاب وقرأت عناوينه وفهارسه ومصادره، حتى استلمني تلك الليلة، إلى الفجر، لكنني على الرغم من تعبي كنتُ مستمتعاً ومندهشاً مما اكتشفت، مأخوذاً باللغة الأنيقة والمفردة الجميلة والفكرة العميقة وخاصة منهج البحث وحيوية المادة وأسلوب مقارعة الحجّة بالحجّة، ولا يخفى على القارئ الكريم أنني حين قرأت السيد الصدر، إنما كنت أقرأ وأنا من رأي آخر وتيار فكري مختلف في حينها! أفاق الشاب مبكّراً، ليساعد في تحضير الفطور اللذيذ.. ولكن شيئاً ما كان في عينه وبالتأكيد في رأسه.. كان ثمة أسئلة يطرحها بحياء وتهذيب عن " لذة الفكر" قبل " لذة الطعام". كان الشاب قد استجمع فكره فبادرني بعد صباح الخير: هل نمت جيداً.. وهل أخذت فكرة عن السيد الصدر والكتاب!؟ قلت له لا زلت أدور في دواليبه وأستذكر بعض جمله وعباراته. ثم أردفت بالقول لكن طمعي ازداد أكثر، خصوصاً بعد معرفتي بوجود كتاب " اقتصادنا" حيث حاولت أن أسأل عنه بطريقة غير محرجة. وأخبرني الشاب بأن كتاب " فلسفتنا" لا يعود له وإنّما تركه أحد الاصدقاء لديه" أمانة" لأنه مسافر لمدة طويلة. وفوجئت بانفتاح أساريره بعد حين، فاقتادني إلى تلك الغرفة وسحب حقيبة كبيرة كان قد وضعها تحت السرير، وأخذ يفتش فيها حتى وجد كتاب " اقتصادنا" فناولني إياه منشرحاً. ربما يعود ذلك إلى توثّق معرفته بشخصي وثقته بي، خصوصاً وقد عرف اختصاصاتي وانشغالي الأكاديمي. طلب مني الشاب اعادة الكتابين بعد الفراغ منهما. ولكن عندما علم بأنني سآخذهما معي إلى بغداد، طلب مني الحذر الشديد وودّعني معتبراً تلك هديته لي، وإنْ كان قد أبلغني بأنه سيتنصّل عنهما، وربما عن معرفتي إنْ كانت السلطات قد ضبطتهما معي. أتذكّر ذلك الحادث دائماً ومن خلاله أستعرض دور الفكر وأهمية الكلمة. وانْ كنتُ أحياناً استغرب حين أرى حكومات تملك كل وسائل القوة والسلطان، لكنها تخاف من مفكر أعزل أو صاحب رأي لا يملك حتى وسيلة لتعميم ونشر أفكاره، فإني أدرك الآن على نحو أكبر دور الفكر في الصراع وفي المنازلة وهو ما ينبغي ايلاؤه باستمرار الاهتمام الذي يستحقه. * * * في أواسط السبعينيات بدأت مرجعية السيد الصدر الفكرية تفرض نفسها، خصوصاً بغياب المرجعية القيادية للسيد محسن الحكيم الذي توفى العام1970 على الرغم من انخراط السيد الصدر في النشاط الفكري والثقافي، الاّ أن الحركة الإسلامية اعتبرته مرجعيتها الفكرية وغذّت كتاباته وكتبه مفاصلها التنظيمية وحلقاتها الحزبية، وصاغت جزءًا مهماً من منظومتها وأطروحاتها السياسية. وبالقدر الذي كانت مرجعية السيد الصدر تشكّل نقطة جذب واستقطاب للحركة الاسلامية، كانت الحكومة تنظر إليها باعتبارها عنصر خطر وإخلال بالأمن وبتوجهات السلطات السياسية. وفي شباط (فبراير) 1977 اندلعت هبّة شعبية ذات طابع إسلامي " شيعي" بالضد من النهج السياسي الرسمي السائد وعُرفت بحركة أو انتفاضة "خان النص". وأثارت تلك الحركة اهتماماً جديداً بالتيار الإسلامي ولفتت النظر إلى دوره وقوته من جهة، وإلى قدرته على التعبئة السياسية والمعنوية من جهة أخرى. وللأسف فإن التيار الشيوعي والماركسي لم يدرك دور هذه الحركة ولم يتخذ الموقف السليم في تقييمها، فاعتبر هبّة شباط (فبراير) 1977 حركة رجعية وأعلنت القيادة عن وقوفها " بحزم مع السلطة الوطنية وحزب البعث العربي الاشتراكي الحليف" ضد " النشاطات التآمرية المعادية، تحت أية صورة ظهرت وبأي شعارات تسترت" وذهبت أكثر من ذلك حين اعتبرت " ان اتخاذ اجراءات الحزم ضد النشاط التآمري حق من حقوق الثورة ومبدأ يحدد واجبات القوى الثورية في صيانة منجزاتها..." ولم يكن توصيف تلك الهبّة والحركة التي اندلعت بمعزل عن التقييم الخاطئ للحكومة العراقية وإجراءاتها القمعية التعسفية، حيث اعتبرت القيادة الشيوعية في حينها أن العراق يعتبر "الركيزة الثورية الطليعية في العالم الثالث" في الوقت الذي كان الوضع فيه ينذر بالانحدار، بل يسير حثيثاً في دروبه الوعرة. إن عدم التمكّن من رؤية حقيقة التمييز الطائفي والقمع السياسي ضد الرأي الآخر وحجب الحريات، هو الأساس في هذه التقديرات الخاطئة، على الرغم من أن القاعدة الواسعة للتيار الماركسي- الشيوعي لم تكن مع هذا التوجه، فقد أدركت تلك بسليقتها الثورية أن مصدر القمع واحد، وأن اجراءات التنكيل ستطال الجميع وإن خط التراجع عما هو معلن لم يكن بحاجة إلى إيضاح، فحتى الهوامش الضيقة تم تصفيتها تباعاً، وفي إطار خطة مُحكمة وبارعة!!
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اشتراكي جديد في قصر الإليزيه
-
الهوّية وأدب المنفى !
-
الدولة البسيطة والدولة المركّبة
-
الربيع العربي والأقليّات
-
ليبيا: الفيدرالية المدنّسة والمركزية المقدّسة
-
مواقف خاطئة للحزب الشيوعي
-
القضاء الدولي والقضاء الوطني: علاقة تكامل أم تعارض؟
-
نقد قيادة الحزب الشيوعي
-
50 مادة في الدستور العراقي تحتاج الى إصدار قانوني
-
مواطنة -إسرائيل-
-
عن ثقافة التغيير
-
رسالة الى الحزب الشيوعي السوداني
-
نعمة النفط أو نقمته في الميزان الراهن
-
السياسة والطائفة
-
حقوق الإنسان والمواقف السياسية
-
الأحزاب العراقية بلا قانون
-
3 تريليونات دولار خسرتها أمريكا في العراق
-
لا تقديم للنظرية على حساب الوقائع الموضوعية
-
الشيوعيون والوحدة العربية
-
الحرب العراقية – الإيرانية عبثية ، خدمت القوى الإمبريالية وا
...
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|