علال البسيط
الحوار المتمدن-العدد: 3709 - 2012 / 4 / 26 - 09:37
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في الحقبة التي تزامنت وظهور محمد مبشرا بتعاليم جديدة, كانت البيئة اللغوية في الجزيرة تسودها اللهجات القبلية العربية من جهة، والسوريانية الآرامية كلغة تعبدية طقوسية من جهة أخرى بل يذهب بعض المؤرخين إلى أنها إحدى اللغات التي كانت في حقب من التاريخ تستخدم كلغة مشتركة بين سكان الجزيرة العربية وبذات الأهمية التي ستنالها اللاتينية في أوربا بعد ذلك ببضعة قرون; وليس فقط لغة للتعبد وآداء الطقوس الدينية.
أدمج محمد اللغتين وخرج قرآنه في صورته الأصلية من لغة عربية آرامية،هؤلاء الذين وضعوا علم الحديث والسنة بعد وفاة محمد بمدة طويلة جاءوا بعد عمل النحاة; ولم يتعرفوا على اللغة إلا بعد أن نضجت واختمرت وصارت ``فصحى``.
الوضع اللغوي تغير كثيرا مع السنين وتراكم الأعمال واحتلال القبائل العربية لمناطق شاسعة إبان حركة الغزو المحموم الذي قاده الخلفاء، تولد عن ذلك الشعور والوعي الهوياتي; وانصب الاهتمام على تأهيل اللغة بآليات وقوانين وحدود نحوية; وبناء نظام كتابي رسمي محكم يعود في قاعدته إلى أصول آرامية سوريانية دون الإشارة إلى ذلك, حتى اندثر أي ذكر للغة الآرامية القديمة لحساب لغة الإيمان الإسلامي الجديدة.تجدر الإشارة إلى أن من مجموع 28 حرفا من حروف الهجاء العربية 6 حروف فقط هي التي تستغني في تميزها عن حركات الشكل والتنقيط في حين 22 حرفا يخضع لمتغيرات معنوية وتفسيرية وفق الحالة الحركية التي تميزه عن غيره, كقولك ``بحور`` و``نحور`` يختلف المعنى كليا باختلاف الترقيم.
من هنا يتضح لنا جليا لماذا عانى اللاهوتيون المسلمون الذين جاءوا بعد القرن 10 للميلاد مع تلك الآيات التي تبدو لهم مشكلة وغامضة, وذلك عائد إلى جهلهم باللغة الآرامية, خلافا لأقرانهم من أهل القرن 7 للميلاد فقد كانوا على احتكاك مع تلك اللغة.
الشواهد التاريخية تميل إلى دعم الأطروحة التي قدمها كريستوف لوكسومبرغ حول اللغة العربية الآرامية( كان محمد قد أمر كتبة ``الوحي`` بما في ذلك حسان بن ثابت في مناسبات مختلفة بالتمكن والاطلاع على الآرامية والعبرية) بل القرآن نفسه يذكر أن محمدا كان يحسن اللغة الأعجمية، فقد نص القرآن على أعجمية لسان الرجل الذي قالت قريش أنه كان يعلم محمدا; ولم ينكر جلوسه إليه، وكان الرجل الأعجمي اسمه جبرا وكان مسيحيا كما ذكر القرطبي وغيره في تفسير : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ) 103 سورة النحل, وللشيخ ابن جعفر الكتاني كتاب سماه (المطالب العزيزة الوافية في تكلمه عليه السلام بغير اللغة العربية).لكن يبقى النص القرآني نفسه الشاهد الأول على ما تختزنه دفتي القرآن من آثار لا تمحى تتراقص فيها التعابير والمفردات السوريانية والآرامية بين السطور والآي.
في عهد محمد لم يكن للعرب مدارس للعلم والمعرفة, كانت ثقافتهم شفهية سطحية، غير أن العرب العراقيين الذين يسكنون المناطق الحضرية المسيحية في الأنبار والحيرة هؤلاء حضوا بحملات تبشيرية وتعليمية من لدن مسيحيي الشام وكانو أكثر تمدنا من سائر عرب الجزيرة, لغتهم التعبدية كانت السوريانية الآرامية; وكانت إلى ذلك وسيلة للثقافة و التواصل الكتابي.
يقدم كريستوف لوكسومبورغ- باعتباره لغويا متمكنا من اللغتين العربية والسوريانية وخبيرا بالتغيرات البنيوية التي تقلبت فيها اللغات السامية القديمة والحديثة ما أهله إلى خوض تحقيق لغوي فيلولوجي فريد ومنسجم- نماذج من النصوص الصعبة والمغلقة التي أسقط عليها نظريته وقرأها على ضوء اللغة الآرامية باعتبارها لغة القرآن الأصلية من جهة الرسم خاصة، والقالب اللذي أفرغت فيه مضامين الدوغما الاسلامية في صورتها الأولى, كما يشير أثناء ذلك إلى كثير من الآيات والقصص المقتبسات من التلمود والأناجيل التي كان يبشر بها مسيحيو الشام كما تقدم.
تلك النماذج الأولية التي استعرضها لوكسومبرغ في كتابه تخلص إلى التأكيد على أن القرآن لو قرأ بلغته الأصليه لشكل رؤية مختلفة (ليس بالضرورة إجابية) لكثير من المسلمات الدوغمائية التي ظلت تسيطر على وعي المسلمين لحقب طويلة. آية الحجاب على سبيل المثال التي يعتبرها حراس المبادئ الأخلاقوية في الإسلام دليلا محوريا على فرضانية الحجاب- هي نتيجة لسوء الترجمة وقلة اطلاع الذين ضبطوا النص القرآني على أصول العناصر المكونة للآية التي تحمل معان مختلفة إذا ما قرأناها بالآرامية.
هؤلاء الذين جاؤوا في القرن 10 وشكلوا مجموعة من القرآنيين مفسرين ولغويين; اضطلعت بتقديم القرآن على هيئة متطورة لغويا عن نسخها العثمانية الأصلية , غدا النص معرفا بعلامات الرسم; والحروف مشكولة مُعرّفة; والفواصل المميزة للمعاني.. لكن المشكل الأساس يكمن في كون القرآنيين في القرن 10 لم تكن لهم دراية باللغة الآرامية وألفاظها خلافا لأسلافهم في القرن 7; ما سبب تصحيفات لغوية طالت جوهر النص وأبعاده المعنوية; ولهذا السبب كثرت في القرآن ظاهرة النصوص المغلقة والغامضة التي استدعى تفسيرها تأويلات باردة ومتكلفة; فتحت الباب للمفسرين على اختلاف مشاربهم لتقديم شطحاتهم في فك ألغاز النصوص محملين النص ما لا يحتمله من معارف وعلوم لاحقة, ليضفوا عليه لمحة الاعجاز المتجددة.
في سورة النور نجد المقطوعة القرآنية تقول: ( ..وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ..) لقد ظلت هذه الآية تشكل عقبة تأويلية بين طبقة اللاهوتيين واللغويين; ولا زالت بعض عناصرها بلا وجه ولا معنى إذا قرأت على ضوء العربية الكلاسيكية; خذ القطعة الأخيرة من الآية : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) إنهم يجهلون كلمة (خمُر) كما أن قواميس اللغة التي فصلت على مقاس الخطاب القرآني ولأجله بالدرجة الأولى لا على واقع لغوي تاريخي, لا تدل على صلة منطقية ومعنوية بين عناصر أساسية في القطعة المذكورة.
لدينا (الضرب) و(الخمر) و(الجيوب), فمع اختلافهم المبدئي في تفاصيل التأويل(وجوب تغطية الوجه والكفين من عدمه) استطاعوا أن يتأقلموا مع النص ويصدروا عن موقف موحد في تفسير المعنى العام للمقطوعة ويمكن تلخيصه في قول ابن عطية: (ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة.(...) وأن النص يأمر بوضع الأوشحة (خمرهن) وقالوا هي جمع الخمار, وهو ما تغطي به رأسها؛ و الجيب فسروه : جمع الجيب, وهو موضع القطع من الدرع والقميص؛ وهو من الجوب وهو القطع..واستنتجوا من ذلك أن المقصود هو مواضع الجيوب أي الصدر, ونقل القرطبي في تفسيره عن مقاتل بن سليمان قال: "على جيوبهن" أي على صدورهن؛ يعني على مواضع جيوبهن, بحيث يغطي من أعلى فتحة الصدر إلى ما أسفل.
هكذا تم تتفسير هذه القطعة الغريبة معتمدين على المعاني الطارئة على العناصر الأساسية الثلاثة في النص: (الضرب) (خمُر) و(الجيب). لفظة خمُر (بضم الخاء) لم تكن متداولة بين النحويين والمفسرين في القرن العاشر لا نجدها في القواميس بالمعنى المعروف اليوم أي الستر والتغطية، لكنهم استعانوا بالجذر المكون للكلمة (خ م ر) لينسبوا كلمة خمُر إلى الخمر; التي سميت خمرا لأنها تغطي على العقل وتخمره, ومنه استنتجوا أن الخُمُر في الآية تعني التغطية.
بينما نجد لوكسومبورغ يطرح معنى مخالفا لكلمة (الخُمُر) ويثبت أن المعنى الأصيل والطبيعي للكلمة يجد نفسه في السوريانية الآرامية بمعنى الحزام أو الزنار الذي يتمنطق به. هذا التحليل اللغوي يؤيده كون لفظة ``الضرب/ الشد`` في النصوص السوريانية الآرامية دائم الصلة والذكر أينما ورد ذكر الخُمُر أو الأحزمة.
النص المبهم سيصبح معناه كالتالي: (وليضربن/يشددن أحزمتهن على جيوبهن). المتابعة اللغوية لكلمة (جيوب) في السوريانية الآرامية تكشفت عن معنى الخصر/الوسط و أحيانا يشار بها إلى المناطق الحساسة في الجزء السفلي للجسد, أو ما يعرف في الفقه الاسلامي بالعورة..فهي هنا بمعنى موضع الحزام لا موضع الصدر كما نقلناه عن مقاتل وتبعه عليه كافة المفسرين.
علاوة على ذلك تحيلنا هذه المعطيات إلى حقائق وظواهر سلوكية واجتماعية تاريخية كانت لها اعتبارات أخلاقية وقيمية في المجتمعات القديمة; بل إن كتب الأدب والتاريخ تحدثت كثيرا عن الزنار والحزام كرمز هندامي أساسي في المجتمعات العربية الإسلامية وإن اختص الزنار بالمسيحيين بعد أن فرضه عليهم عمر، قال في لسان العرب:..في الحديث: نهى أَن يصلي الرجل بغير حِزامٍ أَي من غير أَن يشُدَّ ثوبه عليه، وإنما أَمر بذلك لأَنهم قَلَّما يَتَسَرْوَلُونَ، ومن لم يكن عليه سَراويلُ، أَو كان عليه إزار، أَو كان جَيْبُه واسعاً ولم يَتَلَبَّبْ أَو لم يشد وسْطه فربما إنكشفت عورتُه وبطلت صلاته.
الرمزية الأخلاقية التي كان يحتلها الحزام أو الزنار لم تكن خصيصة في الثقافة العربية-الإسلامية بل كانت سائدة لدى آخرين; في أوربا المسيحية مثلا; حيث الرهبان كانوا ولا يزال كثير منهم يتحزمون بالزنانير ويشدون بها أوساطهم تأكيدا على ضرورة الزهد والتقشف; حيث يرمز الحزام في هذه الهيئة إلى الفصل ما بين الجزء العلوي للجسم والجزء السفلي الذي يعد شائنا ملعونا..بعد ذلك في أوربا العصور الوسطى نجدهم قد حضروا على المومسات و بائعات الهوى لبس الأحزمة باعتبار أن المومسات لا ينبغي أن يسمح لهن بارتداء رمز هندامي أخلاقي عالي خاص (بالعفيفات) في المجتمع ..أمر شبيه بثنائية (الإماء والحرائر) في الإسلام.
يتبع
#علال_البسيط (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟