|
سياحة ثقافية في فيينا وأمستردام
يوسف جزراوي
الحوار المتمدن-العدد: 3708 - 2012 / 4 / 25 - 20:21
المحور:
الادب والفن
من كتاب أفكار وتأمُّلات من تُراب ..... للأب يوسف جزراوي ..... قيد الطبع اهوى السفر والترحال إذ فيه مُتعة ثقافية وإكتشاف وخبرة ودراية، هكذا أنشأت ذاتي بأن أجعل من سياحتي الثقافية أدبًا للرحالات. وكنتُ قد عزمت في أسفاري أن أزور وأكتب عن كل ما هو جميل ومُفيد وإنساني وثقافي وعمراني، فاردت للقارئ أن يرحل معي دون أن يُسافر إلى البلدان التي زرتها في بلاد الغرب، فكتبتُ بعين الكاهن السائح، مُعتمدًا على دقة الملاحظة ورهافة الحس وما أتوجس منه في البلدان التي زرتها. وسيجد القارئ بأن الجمال الطبيعي والنباتات والحدائق والمتاحف والمكتبات والمطاعم والأماكن السياحية والآثرية والمعارض الفنية والأدبية قد أحتلت الجزء الأكبر من زياراتي في سفراتي. ذات يوم شددتُ الرحال إلى فيينا، فطلبت من بعض الأصدقاء بأن يكون أول مكان ازوره فيها هو تمثال الموسيقار (موزارد) الذي له تمثال شاهق يطل على الساحات وعشرات الفنادق والمطاعم وبعض الحدائق. وقفتُ مع حشد من الزوار لنلتقط الصور التذكارية؛ فقلت للحاضرين معي، عشرات السواح يتوافدون في الساعة الواحدة لرؤية هذا التمثال، ولكن أتعلمون أن موزارد عندما مات سنة 1791 لم يمشِ في جنازته ألا ثلاثة أشخاص!! وكأنه لص أو مجرم معدوم!! واليوم يقف في اليوم الواحد أمام تمثاله الجميل مئات الأشخاص! حقًا غريب هو أمر إنساننا! مضت الساعات وكأنها دقائق، ورحت أدور في حدائق فيينا العامة المُكرسة لفرح البسطاء، ومتاحفها ومكتباتها ومعارضها الفنية؛ أتأمّل آثارها واثار مُبدعيها، فقادتني قدماي إلى شقة (بيتهوفن) التي غدت متحفًا يؤمه الناس من كل فج عميق، ورويت للذين كانوا معي كيف كان بيتهوفن لا يقوى على تسديد ايجار هذه الشقة، وصاحب الشقة يصيح به:"بيتهوفن.. يا بيتهوفن... متى تدفع أجرة شقتك؟ متى؟؟ فمنذ شهر وأنت مُتأخر عن الدفع، ان لم تسدد الإيجار سوف أقذف بك إلى الشارع"! فيجيب بيتهوفن بصوت قد أتعبه السُعال:"أنا مشغول بكتابة السينفونية التاسعة". وإذا بمالك الشقة يقول له:" لا تهمني السينفونية التاسعة أو العاشرة، ويصرخ به مُجددًا: إذا لم تحضر غدًا المبلغ الذي عليك سوف أتصل بالبوليس ليرميك في الشارع". واليوم قد تحولت هذه الشقة إلى متحف رائع يُعد أحد أثار فيينا!! الا تتفقون معي أن ظاهرة تهميش وأضطهاد المُبدعين خلال حياتهم وأهمالهم وتمجيدهم بعد مماتهم غريبة جدًا؟! وأنقلكم الآن إلى أمستردام عاصمة هولندا؛ ذلك البلد الصغير والجميل الذي قدم للعالم الكثير من الفن بواسطة مُبدعيه فان غوخ ورامبرانت وفيرمير المدفون في إحدى كنائس مدينة دلفت. الشعب الهولندي عامة، شعب كثير اللطف والعفوية الأنيسة،مُنفتح على الغرباء ولاسيما مدينة أمستردام، سلوكهم لطيف بعيد عن التعقيد، لا يتطفلون عليك، ولا يهمك إذا كنت لا تتكلم اللغة الهولندية التي يغلب عليها حرف(الخاء)، فاللغة الأولى بين السواح في هذه المدينة الرائعة هي الانكليزية. امام محطة امستردام الكبيرة، تجد قنوات مائية لطيفة، فتستقل المركب المائي بـ 3 يورو ليجول بك في جولة سياحية مائية لتتأمل البيوت والكنائس القديمة وبعض المعالم الحضارية، وقد أنطربت نفسك بمعزوفاتهم الموسيقية وإبتسامة هذا الشعب ولطافته وبساطته وطيبته. عامة الشعب الهولندي يعملون بدقة ساعة سويسرية، لكنهم لا يفتقرون إلى حرارة القلب، يمنحوك العلاقات الإنسانية دونما إبتذال، وستجد قلوبًا تتدفق ببساطة وأُنسًا وتعاونًا إذا ألفوك أو إذا وقعت في ورطة مُضحكة أو إذا أحتجتَ للمساعدة! يعيش في امسترادام اليوم نحو مليون شخص، لكنك تجد تقريبًا 700 الف دراجة هوائية. وأمستردام هي عاصمة هولندا، ودنهاخ(لاهاي) هي العاصمة السياسية لهذا البلد الصغير. ولا أخفيكم سرًا بأن رئيس الوزراء في غالب الأحيان يذهب إلى مقر عمله بـ(دنهاخ) بواسطة دراجته الهوائية!! وتستمر أجازتك في امستردام لتقودك قدماك إلى زيارة الحدائق النباتية والحدائق العامة الشاسعة في عاصمة الورود؛ والورود هي الحاكم هناك، هي القانون وهي الملكة. الطبيعة خلابة، مناخ صحي، موسيقى مجانية في الساحات، وتستطيب ذاتك إلى موقف وحديقة (آن فرانك) تلك الفتاة اليهودية الصغيرة التي أضطرت للإختباء مع عائلتها في امستردام لمدة عامين وتحديدًا من صيف 1942 إلى عام 1944 خوفًا من القمع النازي لليهود. لم تكن (آن فرانك) أسيرة خوفها وظروفها، بل كانت تدون يومياتها المؤثرة في سجنها الأختياري مع أفراد عائلتها وبضع من اليهود الأصدقاء، ولما تم اعتقالها وقادوها إلى المعتقل وماتت عام 1945، لم يعتقلوا معها يومياتها فنشرها أحد الأشخاص سنة 1947، فأثارت هذه اليوميات ضجة كبرى، واليوم بيتها الواقع في مدينة أمستردام المبنى 263في شارع برينسغراخت في امستردام قد تحول إلى متحف تقرأ فيه جانبًا من يومياتها وتجد فيه بعض الصور وأحداث مسلسل القمع النازي لليهود. بقرب هذا البيت تقودك أنظارك إلى كنيسة قديمة أثرية دفن فيها الفنان الكبير رامبرانت الذي رسم لوحة عودة الأبن الضال ولوحات أخرى لا تقل روعة وجمالاً. ما ادهشني هو موقف الباص الذي سُمي باسم (آن فرانك) ولم يسجل باسم فنان هولندا الشهير رامبرانت!! ولا أبخل عليك عزيزي القارئ بأصطحابك إلى متحف (فان غوخ)، فترى مئات الناس يقفون أمام لوحاته ورسائله وقد أنبهروا من شدة الأعجاب برسومه، وكل واحد من الحضور يتفنن ويجتهد في شرح اللوحات والتعليق عليها. وتخرج من المتحف لتجد طابور الزوار يلتف حول مبنى المتحف بأنتظار الدخول، وتعود لتواصل التسكع في أزقة المدينة الجميلة امستردام، لترى بعض الجسور والمطاعم والفنادق والمحلات يعلوها أسم فان غوخ. فجلست مع بعض الأصدقاء الأسبان والهولنديين بالقرب من إحدى القنوات المائية تحيط بنا من اليمين المئات من الدراجات الهوائية ومن اليسار المياه والورود والشكل الحسن مُستنشقًا رائحة الورود العطرة. وقلت غريب هو أمر الإنسان لا يدرك قيمة المُبدعين ألا حين يفقدهم! قالوا لماذا؟! فأجبتهم: مات فان غوخ وحيدًا بعد أن أحتضر طويلا لوحده ولم يبال به أحد. ظنًا منهم إنه مجنون، مُصاب بالعقد النفسية والعقلية. واليوم الاف الناس ومن كل العالم يزورون هذا المتحف، ويصفون فان غوخ بالعبقري!! وأتساءل: أليس هؤلاء هم أحفاد ذلك الجيل الذي همش وحارب فان غوخ ووصفه بالمريض والمختل العقلي؟! حقًا لقد قالها فان غوخ:" لا فائدة لن تنتهي التعاسة في هذا العالم"!. وهذه هي تعاسة ظاهرة أضطهاد المُبدعين والعباقرة في حياتهم وتكريمهم وتخلديهم بعد مماتهم!! حقًا غريب هو أمر الإنسان في هذا المجال!! نعم: نحن لا ندرك قيمة المبدع إلا حين نخسره!!
#يوسف_جزراوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بطن متخم ......... وفكر جائع !!
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|