|
قطار البصرة
وديع العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 3707 - 2012 / 4 / 24 - 19:48
المحور:
الادب والفن
ذهبت إلى الجامعة مجرجرا خطواتي على مضض.. شيء ما كان يجعلني أمتعض .. ولكن الأربعين يوما قربت أن تنقضي.. وعندها تكون دائرة التجنيد هي الجامعة التي تنتظرني رغما عني.. كنت حزينا على غاية من الحزن.. وكان الحزن يتفطر ألما يدعوني للمضي بعيدا.. نحو المجهول.. عندما ذهبت إلى الجامعة.. كانت البصرة هي أبعد نقطة قد بلغتها قدماي.. ولكنني عندما بلغتها وذلك الحزن الغريب يحاصرني.. وددت الانطلاق أبعد وأبعد.. نقطة أبعد من البصرة.. ومسافة أكثر من ستمائة ميل.. وجدت الطلبة متحلقين أمام لوحة الاعلانات قرب دائرة التسجيل.. قبل نهاية الدوام.. وجدت لوحة الاعلانات لوحدها مع طالبين أو ثلاثة.. اقتربت منها على استحياء وأجلت ناظري على مساحتها.. كان ثمة اعلان من جامعة البحرين .. تعلن عن حاجتها إلى كوادر تدريسية .. وطلاب للمراحل الأربعة لتدشين افتتاحها.. أمامه فتاتان تتهامسان .. قبل أن أستدير كانت ثمة ورقة ملصقة في الزاوية تحمل اسم الأكادمية العربية للملاحة البحرية تدعو الراغبين في الدراسات البحرية للتسجيل في موعد أقصاه كذا وذلك في التخصصات التالية.. تتكون مدة الدراسة من خمس سنوات، يقضي الطالب أول سنتين منها في ميناء الاسكندرية والثلاث سنوات الأخيرة في ميناء ليفربول في المملكة المتحدة. سرحت بين الاعلانين ثم قارنت بين المسافتين، وطبيعة ظروف كل منهما.. الأولى منها ليست بعيدة ولكنها بدل البحر بحران.. لكن الذهاب إليها يكون عبر الصحراء.. والثانية أبعد.. تتضمن أكثر من بحر وأكثر من صحراء.. تنقلني من قارة إلى قارة.. الثانية كانت مغرية جدا.. وبدأت أفكر بجدية لطلب الاستمارة الخاصة بها.. المشكلة أن مدة التقديم كانت مفتوحة فمنحت لنفسي فرصة الاسترخاء لاتخاذ القرار.. تكون الدراسة على متن ناقلات الاسطول البحري التابع للجامعة العربية.. وعلى الطالب أن يقضي مدة لا تقل عن ستة أشهر قبل أن يرى اليابسة مرة.. ستة أشهر بدون يابسة.. ستة أشهر مع نفس الوجوه ونفس الطاقم.. كيف يمكن للمرء أن يعيش ستة أشهر مع جماعة دون أن يشعر باستياء أو ملل.. هل أسلم نفسي للبحر وأخرج من طور البشر.. خمس سنوات دراسة وبعدها كل العمر.. تتزوج البحر وتخلف جنيات من كل نوع.. انتظمت الدراسة في قسم الاقتصاد وبدأت طلبات البحوث وتعليمات استخدام المراجع والمصادر.. تعرفت إلى طالبين في البدء ثم اتسعت دائرة العلاقات والانشغالات.. عندما عدت من أول زيارة للبيت.. أخبرتهم فيها عن فكرة الاكاديمية البحرية في مصر.. وسط احتجاجات ومعارضات وتهديدات بالقطيعة.. بدأت أستذكر الأغاني المتعلقة بالبحر والبحرية.. وأحاول جمع القصائد التي تدور حول البحر.. نحن صحراويون فمن أين يأتي البحر إلى قصائدنا.. وقعت على بيت امرئ القيس.. وليل كموج البحر أرخى سدوله.. عليّ بأنواع الهموم ليبتلي.. بداية غير مشجعة.. البحر يرتبط بالليل والحزن وأنواع الهموم.. هذا يجعل لأهلي المعذرة في التشاؤم من فكرة البحر.. دراسة في البحر.. ومعيشة في البحر.. مهندس بحري.. قبطان بحري.. في القطار كان المحل بجانبي خاليا.. في محطة ما صعد أحد وجلس بقربي.. وديع شمخي.. طالب هندسة بحرية.. كلمني عن ستة أشهر البحر والدراسة وشهر اليابسة.. أنت إذن في شهر اليابسة الآن؟.. أنا الآن في شهر اليابسة، وفي يومي الأخير على الأرض.. غدا سأنطلق.. تنطلق إلى السماء.. قلت أمازحه.. السماء كما رآها السومريون نعم.. في البحر.. لماذا تعتقد أهتم السومريون بالبحر بدل السماء.. لا أعرف بالضبط.. هذا ليس اختصاصي في الدراسة.. ولكن ربما لأن معيشتهم وبيئتهم كانت وسط المياه.. دفعوا الغرين وصنعوا لهم وطنا.. وعاشوا فيه.. كان القطار يمرّ متأرجحا وسط أهوار الناصرية.. هل بقي أحد منهم في هذه الأهوار.. الشعب لا ينقرض ولكن ملامح حياتهم تبدلت.. الأهوار اليوم لا تستخدم للزراعة وأهلها يعيشون على صيد السمك وتجارة القصب.. في أي سنة أنت الآن من الدراسة.. في السنة الرابعة.. تبقى لك سنة أخرى.. سنة وتصير حياتي جزء من البحر.. تقصد يصير البحر جزء من حياتك.. هل تعتقد أن حياتي أكبر أم البحر.. طبعا البحر.. فكيف تريد أن يدخل الكل في الجزء؟.. حياتي وحياتك هي جزء من البحر الكبير.. عندما توقف القطار في محطة المعقل التي يسمونها كذلك ميناء المعقل.. كنت كمن يصحو من حلم.. في الجامعة.. لم أجد إعلان الأكاديمية قرب دائرة التسجيل.. ولا إعلان جامعة البحرين.. في الصف كان طالب من الموصل أبيض البشرة أشقر الشعر.. طويل معتدل القوام يتكرر اسمه في قائمة الحضور وهو غير موجود.. كان اسمه سنحاريب.. وعندما سألت عنه زميلي خالد.. قال أنه قدم للأكاديمية البحرية وقبلوه!.. شعرت بامتعاض لأني تهاونت في الموضوع.. كنا سنكون سوية الآن.. وخلال الفترة المتبقية كنت أبحث عن وجه وديع شمخي وأحاول أن استذكره وأستعيد كلماته تلك الليلة.. ويجيبني خاطر أنه ما يزال في فترة الأشهر الستة في البحر. * الثالث من يوليو 2010
#وديع_العبيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل الدين علم؟!..
-
رسالة من شهيد
-
فردتا حذاء
-
من عذابات حرف السين
-
الأديب الكردي حافظ القاضي.. وشيء من كتاباته
-
موسوعة الوطن الأثيريّ..
-
اليسار والتعددية.. والابداع واللامركزية
-
مع الفنان منير الله ويردي في فيننا..
-
نظرة في الحاضر..
-
في دارة الأستاذ عبد الهادي الفكيكي..
-
في دارة المنولوجست عزيز علي
-
في دارة الاستاذ خضر الولي*..
-
حامد البازي.. في مقهى الزهاوي
-
عبد المحسن عقراوي.. في مقهى الزهاوي
-
يعقوب شعبان.. في مقهى الزهاوي
-
عبد الرزاق السيد أحمد السامرائي.. في مقهى الزهاوي
-
صاحب ياسين.. في مقهى الزهاوي
-
سليم طه التكريتي*.. في مقهى الزهاوي
-
أنور عبد الحميد السامرائي المحامي.. في مقهى الزهاوي
-
د. محمد عزة العبيدي.. في مقهى الزهاوي
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|