|
رسالة يهوذا، الذي خان المسيح، إلى الحُكام العرب
حسن محسن رمضان
الحوار المتمدن-العدد: 3706 - 2012 / 4 / 23 - 17:39
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أنا يهوذا، تلميذ المسيح وتابعه. يهوذا، حواري المسيح الذي باعه لليهود وأسلمه مقابل ثلاثين شيكلاً من الفضة. هذا كان ثمن دم المسيح، ثلاثون قطعة من الفضة، لا غير. أعطانيها الفريسيون، كتبة اليهود والقائمون على ملتهم، لأعطيهم دم "نبي" كما تقولون أنتم، أو دم "إله" كما يقول غيركم. ثلاثون قطعة من الفضة في مقابل نبي أو إله. ما كان أرخصه في عيني. لو أنني طلبت أكثر، ما كانوا ليعارضون، أنا أجزم بذلك. ولكنني لم أرَ بعينيّ من قبل ثلاثين شيكلاً فضية مجتمعة معاً. سمعت عن المال الوافر عند غيري، وحسبت أنا أن ثلاثين شيكلاً كثير. كان ذلك ظني، يماثل ظن الصغار دائماً، يبيعون الثمين جهلاً بأبخس الأثمان.
ولكن كان الزمان زمان فقر وجوع. كان زمان خوف. كان الفريسيون والكتبة، وأبناء يهود من ورائهم، يكرهوننا، يؤلبون الناس علينا، يسعون لدى الرومان ليسجنوننا وليقتلوننا. كانوا يكرهوننا. أجل، يكرهوننا بسببه. بسببه هو. كنا مشردين في القرى والطرقات. كنا "نكرز" ونسعى ونصرخ في البرية. ولكن كان صراخنا يسقط على آذان صماء، وكان سعينا يتهاوى أمام قلوب من حجر. كان عشاؤنا الأخير معه خبز ونبيذ. ما شبعنا من الخبز ولا روينا من النبيذ. ولكنه كان يقول لنا أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. كنتُ خائفاً أكثر مني طامعاً، ولكن خوفي هذا مَهّد لي طريقٌ للغنى فيما حسبت يومئذ. وبثلاثين شيكل سرتُ أمامهم، أمام الجنود. خائنٌ، بائع دم، يمشي أمام سيوف العسكر. كرسول للشيطان يمشي أمام جيشه. كأنني سرتُ أمامهم لأحمي هؤلاء الجنود من وجه المسيح. كأنني أردت أن تسقط عيناه علي أولاً. كأنني أردت أن أقول له: "أنا من خانك وليس هم، أنا من قتلك، قبل أن يقتلوك هم". كأنني أردت أن أقول له: "كفى، اذهب، دعنا نعيش بعارنا ونموت فيه. لا فائدة فيما تفعله. المال والدين والسلطة، قلاعٌ لا تستطيع أنت بمعجزاتك ولا بكلماتك أن تهدمها. كفى، ولتذهب معذباً مصلوباً مقتولاً ولتبق لنا هذه القلاع لتحمي عارنا. اذهب".
أنا يهوذا، كنت أحسبني وحيداً لا شبيه لي في التاريخ. هذا التاريخ الذي أصبح يجلدني بكلماته في كل مناسبة، وأحياناً بدون مناسبة إلا للتشفي والاحتقار. كنت أحسبني وحيداً في الصلوات التي تلعنني في كل ترنيمة، في كل توسل، وفي كل دمعة تسقط حزناً وأسفاً عليه. كنت احسبني وحيداً في كل مثال يُضرب للخيانة، وفي كل قصة تُحكى عن الغدر. ولكن، حمداً للرب، أنا وأنتم أصبحنا "إخوة دم". جمعنا كلنا "الدم المقدس" المُراق على التلال، ولذلك سوف أدعوكم "إخواني".
لعلكم لا ترضون بذلك. فالفقر والجوع والتشرد وطرق الأبواب من أجل "الكلمة" شيءٌ لم تسمعوا به من قبل. ما أنا بجانبكم؟! فقير مشرد معذب. كنت أنام في العراء، بجانب المسيح، لا يُقلقُ نومي إلا سماع صلواته في ذلك الظلام الدامس، فيزداد الخوف في نفسي من أن يسمعه جندي أو فريسي قبل أن تصل صلواته للرب أو لأبيه الذي في السماء،لا فرق عندي إلا فرق من سوف يسمعه أولاً، إنسان أو إله. أما أنتم، فجبال من ذهب، وجبال من طعام، وبحار من شراب، وقصور وبساتين، وأفواج من شيوخ يلوون كلمة الرب لكم باسم الدين، وحولكم ومعهم جيوش من "المؤمنين" أو المنافقين، لا فرق. ولكن بيننا شيءٌ واحدٌ نتشابه به. به، وبه فقط، أدعوكم بـ "إخواني بالدم" حتى وإن اعترضتم وغضبتم وأزبدتم. هذا الشيء الذي نتشابه به هو أننا جميعاً من بعناه قد قتله "اليهود". قد أراقوا دمه، إما على الصليب أو في البيوت وعلى التلال. سخروا منه وبصقوا عليه. ولكني هربت أنا بعاري، وسكتم أنتم وربما ضحكتم ووضعتم أيديكم بأيديهم في الخفاء. وكانت مريم تبكي. طعنوه بالحربة في جنبه ليسيل دمه على جسده، كخيوط حمراء تجري على بطنه ورجليه، ثم لتغادرها من على أطراف قدميه. وسكتم أنتم عن الدماء التي تدفقت في الشوارع وعلى الطرقات تصرخ للسماء وتلعن القاتل والصامت وصاحب الهوى الخفي. وكانت مريم تبكي. ضحكوا عليه ثم سقوه الخل. ولما أراد أن يُسلمَ الروح على تل الجلجلة، صرخ. وصرخ أيضاً الآلاف الذين نزفت أرواحهم قبل أن تنزف دمائهم على طرقات فلسطين وتلالها. صرخ وصرخوا، ولم تسمعهم إلا مريم التي كانت تبكي.
أنا وأنتم سواءٌ بسواء. بل أنتم في الحقيقة أسوأ مني، هذا إذا قسناه بالعدد. فمن خنته أنا إنسانٌ واحدٌ أو إلهٌ واحد، اختاروا ما تشاؤون. ولكن أنتم قد خنتم الإله الذي تدَّعون أنكم تعبدوه، أنا لا أشكُ في هذا، وخنتم النبي الذي تدَّعون أنكم تتبعوه، لا أشكُ في هذا أيضاً، وخنتم من الناس ما لا يُحصى. إذن بماذا تفضلونني فيه؟!
(دمهُ علينا وعلى أولادنا) هذا ما صرخ به اليهود للحاكم الروماني ليقتلَ واحدٌ فقط، ولكن الآلاف من الأبرياء من الأطفال والشيوخ والنساء والأبرياء والآمنين دماءهم على مَنْ؟! أنا قد نقص فقري، بسبب الخيانة، ثلاثين شيكلاً من الفضة. وأنتم؟ كم زاد غناكم بالخيانة؟! لا شيء فيما أحسب. هذه إذن الفضيلة الثانية التي لدي وأفوقكم فيها.
وأيضاً يجب أن لا ننسى هذا. أنا، يهوذا الذي خان المسيح، قد قتلتُ نفسي ندماً على خيانتي له. لم أحتمل الخيانة أن تمشي كفاً بكف مع الحياة. لم أطق هذا. لم أتحمل أن أحلم بوجهه كلما أغمضت عينيّ في يقظة أو منام. لم أطق ذلك الصوت الخفي الذي كان يصرخ داخل نفسي مستنكراً ولا يسكت. لم يكن هذا الصوت يسكت. لم أستطع أن أجعله يصمت ولو برهة قليلة. أمد يدي في الهواء محاولاً أن أخنق هذا الصوت ليسكت، ولم أفلح. أترى هذا الذي يسميه الناس "الضمير"؟! لا أدري، ولكن قلب داود الذي ضربه بعد الخطيئة ليغفر له الرب ربما ضربني ليقتلني وأفلَح... وأنتم؟! لا، لا، لا... لا أظن، ما أسخفني عندما تطرأ على ذهني مثل هذه الأفكار. فالخونة أنواع وأصناف، وأنتم لستم من أجودهم صنفاً فيما أحسب. ماذا يُرجى ممن يخون رباً ونبياً وعباداً، كلهم معاً وفي وقت واحد، وبالجملة؟
ولكن، وفي النهاية، وبعد شرحي للأسباب التي أترفع بها عنكم، سوف أتفضل عليكم بأن أدعوكم "إخواني في الدم". وسوف تقبلون بتكرمي هذا في صمت.
حمداً للرب. لم أعد وحيداً.
يهوذا الإسخريوطي
أقــــــــول:
رفضت المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في الجرائم والمجازر التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غرة في نهاية سنة 2008 وبداية 2009. فعلى الرغم من استخدام هذا الكيان الصهيوني للأسلحة المحرمة دولياً في قتل المدنيين والأبرياء داخل القطاع، وعلى الرغم من تعمد استهداف التجمعات المدنية في هذا القطاع الفلسطيني المنكوب من محيطه الضيق المباشر ومن محيطه العربي الأوسع، رفضت هذه المحكمة أن تحقق في هذه الجرائم البشعة التي سالت بسببها دماء الأطفال والنساء والشيوخ والأبرياء تحت حجة أن فلسطين ليست دولة. وبقي العرب صامتون، وكأن الأمر لا يعنيهم لا من قريب ولا من بعيد. صامتون لأن بعضهم مشغول بمحادثات مع إسرائيل ذاتها، وبعضهم الآخر بمحادثات مع أمريكا وبريطانيا، وبعضهم مشغول بـ "المواجهة المقدسة" مع إيران خوفاً من مذهب الشيعي، وبعضهم مشغول بقمع وقتل شعبه تحت حجة أنهم "عملاء" لإيران، وبعضهم مشغول جداً بإدانة واستنكار زيارة أحمدي نجاد لجزيرة في الخليج العربي، ولكنهم جميعاً يصمتون، وبتعمد ووعي، عن الدم البريء الذي جرى نهراً دافقاً في شوارع فلسطين. يصمتون لأن الذين أراقوا هذا الدم هم أنفسهم الذين صرخوا يوماً في وجه الحاكم الروماني (ليُصلب ... دمه علينا وعلى أولادنا).
أيا يهوذا ... نم قرير العين ... فما أنت بوحيد.
حسن محسن رمضان
#حسن_محسن_رمضان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إشكالية اغتصاب المرأة في الفقه الإسلامي
-
مقالة في أن العلمانية تحمي الدين من احتمال الاستبداد
-
إلغاء ملتقى النهضة وزيف شعارات الحرية
-
مقالة في أن لا كهنوت في الإسلام مقولة خاطئة
-
خطورة التسويق للنموذج السعودي للحداثة … الاستقواء بالسلطة ضد
...
-
السذاجة الإسلامية كما تتجلى في قضية حمزة الكاشغري
-
أفضل هدية في عيدها أن نتصارح مع الكويت
-
في العلمانية ومفهوم الليبرالية والهدف منهما
-
ديموقراطية الشذوذ القَبَلي
-
أرى خلل الرماد وميض نار - الحالة الكويتية
-
عندما يقول الغرب لكم: إن قبائلكم ومذاهبكم يثيران الاشمئزاز ا
...
-
الكلمة التي ألقيتها في الحلقة النقاشية عن مواقع التواصل الاج
...
-
إنها قشور دولة
-
حقيقة التلبس الشيطاني - الفرق بين أوهام رجال الدين ومنطقية ا
...
-
إشكالية المجاميع الليبرالية الكويتية
-
السلطة المعنوية لقمة الهرم السياسي الكويتي كما هي عليها اليو
...
-
مقالة في الفرق بين التمدن والتحضر
-
المشكلة المذهبية في مجتمعات الخليج العربي
-
الذهنية السياسية الشعبية الكويتية المتناقضة … الموقف من معتق
...
-
في مشكلة الائتلاف والاختلاف ... الحالة الكويتية كنموذج
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|