|
هجرة الريف الى المدينه .. وما آلت اليه من خراب
حامد حمودي عباس
الحوار المتمدن-العدد: 3706 - 2012 / 4 / 23 - 12:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفلاحون ، هم الطبقة الحليفة للعمال خلال نضالهم من اجل تحقيق التحول الى الاشتراكية بمضامينها العلمية ، وكانوا كذلك عند أهم حدث ثوري اشتراكي عام 1917 ابان ثورة اكتوبر العظيمه ، حيث أبدت طبقة الفلاحين وفائها منقطع النظير لمباديء الثورة وقادتها ممن شحذت الهمم فيهم آلات الورش ومطارق العمل .. لقد كان الفلاح الروسي صافي النوايا ، تؤطر مسيرته وحركته اليومية أخلاق الريف النظيفة والنزيهة من كل شوائب المدينه ، انه المارد ذو الشوارب الطويله ، وقبعة الرأس المصنوعة من الفرو ، وبساطته المتناهية الى الحد الذي جعلته يهاجم وبيدين اعزلتين من السلاح دبابة الالمان ، لا لأنهم غزو بلاده فحسب ، وانما لكونهم بعثروا أشجار العنب في مزرعة لا تعود له اصلا .. الفلاح الروسي ذاك ، عزف عن الانتقال الى الحضر ، رغم ما في الحضر من مغريات .. ولم يحدث ان تعرض الفلاحين الروس ، ومن بعدهم السوفييت ، الى أية هجرة جماعية تاركين زراعتهم وقراهم وطبيعتهم الخلابه ، ساعدهم على ذلك نظام حفظ لهم حقوقهم وهم في محيطهم بين اقرانهم وذويهم . ولذا فان التركيبة الاجتماعية للشعب السوفييتي ، شأنه شأن الشعوب المتمدنة الاخرى ، لم يحدث لها أي شرخ منظور ، وبقيت هذه التركيبة مؤسسة على مباديء ثابته ، تحكمها قناعات راسخة ، لم تدع لمعوقات البناء المجتمعي ان يتزحزح أو يصاب بالعفن .. وحيث ان الفلاح يبقى فلاحا وابن المدينة يبقى كذلك ، كل في حيزه واعرافه واخلاقه وقوانين حياته ، فان الحصيلة النهائية لابد وان تكون ، استقرارا وأمنا وتقدما وعلى كل الصعد . وتحضرني بهذا الصدد ، قصة صديق بلغاري ، كنا ولفترة طويلة زملاء عمل مشترك ، كان يشكو من مشكلة وصفها بانها كبيرة ، وقد عجز عن وضع حل لها .. المشكلة تتعلق بابيه القروي البالغ من العمر ثمانين عام ، فقد شكى له سكان القرية من المجاورين بان أباه كثيرا ما ينسى صنبور الماء مفتوحا بعد ان يغسل وجهه في الصباح ، او يترك عبوة غاز الطبخ تعمل بعد ان يعد الفطور ، فهو وحيد توفيت زوجته ولم يبقى معه أحد سوى داجاجاته وأرانبه وكلبه المسن .. وكان كلما يقنعه ابنه بالعيش معه في شقته بالعاصمه ، يجده بعد يومين او ثلاثه فارا يحمل كيس ملابسه ليعود الى منزله في القريه .. انه التشبث بالارض ، والالتصاق بنواميس الريف ، وعدم القابلية على امتهان غير الزراعة وتربية الحيوان .. فبدت الارض وعلى امتدادها ناصعة الخضرة ، تخترقها قطارات الخير وحافلات النقل البري لشحن اطنان من حبات البطاطا والفواكه وقناني النبيذ الاحمر ، مرسلة الى اسواق المدن المتباعدة من الريف العامر بالعطاء . حتى جاء الغول الامريكي ، ليقلب كل شيء على عقبيه ، ويحول الاخلاق النقية الى مافيات وتجار مخدرات وعملة ، ويبعثر المرأة السوفيتية المكافحة بين غرف الدعارة المسكونة من قبل امعات الخليج ، لتختلط الموازين ، ويضيع كل شيء في لحظات من انكسار ، غير ان القرية لم تستجيب لسوط الكاوبوي ، وضلت أمينة لواقعها السرمدي بكل نقائه واعتباراته ، تصدر للمدينة الموبوءة غذائها وكسائها وما تطلبه من الضروريات الأولية للحياة . أما في العراق ، فقد ماتت طبقة الفلاحين تحت مطارق الحصار وعبث الحروب ، بعد ان كانت ولادة سخية لخيرة مناضلي البلاد والمضحين من أجل تحقيق مكاسب الفقراء ، وانزوى الفلاح العراقي في صومعته لحين من الزمن ، يقاوم ويأنف من احتمالات النكوص ، وهو يرى ارضه يغلفها السبخ بفعل الخاصية الشعرية للمياه الجوفيه ، وتفقد صلاحيتها لتربية الزرع ، وتبتعد عنها الحكومات المتعاقبة وكأنها لا تريد للشعب ان يأكل من خيرات وطنه وعطاء ريفه .. وبدأت الكارثه .. كارثة عظمى سوف لن يغفرها التاريخ لاولئك الذين أسسوا لأول منزل من طين سكنه فلاح مهاجر . ابتداء من عام 1959ظهرت اولى بواكير الهجرة السوداء للفلاحين العراقيين ، مخلفين ورائهم اخلاق القرية ليركبوا عنوة اخلاق المدينة .. وازاحوا عن ايديهم واجسادهم معاول الحرث ليمسكوا بعربات بيع عبوات غاز الطبخ وجمع العلب الفارغة بهدف بيعها في اسواق الخرده .. وبنوا لانفسهم عششا تجاوزوا بها على أموال الدولة ، معطلين البرامج المعدة للتخطيط العمراني ، واثقلوا كاهل دوائر البلدية والكهرباء عندما عجزت تلك الدوائر عن توفير الخدمات الضرورية لسكان المدن ، فاثقلوا بذلك كاهل الميزانيات العامه ، وانقلبوا مع مرور الزمن الى سائقي تاكسي أجراء ، وباعة يعتدون على الارصفة بلا رادع ، وانطلقوا ضمن جموع هوجاء لنصرة أي نظام تعاقب على حكم العراق ، وشكلوا مادة دسمة لسد حاجة الجيوش واجهزة الشرطة ورجال الامن العام ، واصبحوا ركيزة اساسية لنجاح المرتشين والسراق داخل صناديق الاقتراع .. ناهيكم عن ممارستهم لطقوس الشعوذة والركون الى شرائع متخلفة لا شأن لها بنصوص أي دين من الأديان . وبذلك فقد تعرض الريف الى اسوء عملية اخلاء من السكان ، لتظهر وبمرور السنوات المتعاقبة ، هيكلية اجتماعية هجينه ، تختفي عندها ملامح المدينة والريف معا ، واختفت بالضرورة معالم الزراعة المحلية ، لتزحف بدلا عنها زراعة من خارج الحدود ، تطرح منتجاتها كيف ما اتفق ، وبحرية ضريبية لم يشهد لها بلد ما حتى في الوسط العربي القريب . لقد سيطر الوافدون الجدد على كل المهن والورش ، و اصبحوا متنفذين في هيكل الدولة بشكل عام ، فضاعت مراسم التخطيط العلمي ، وتعرض كل شيء للتغيير السلبي ليشمل حتى اسماء المدن والشوارع ، وكأن عداء مستفحلا قد حل بين الحاضر والماضي ، طالت نتائجه الحجر والشجر وما بينهما من معالم .. وكنتيجة حتمية لهذا الشرخ المتين ، فقد زحفت الجموع الوافدة من العربان ، لتزيح من امامها طبقة العمال الحقيقيين ، محتلة معاقلها لتحيلها الى صوامع تنشر التخلف وتشجع على الاستهلاك غير المنظم بين السكان .. وكثرت تبعا لذلك ظواهر الطلاق ، وتفشت الجريمة وبوتيرة عالية جدا ، وانتشرت مظاهر الرشوة والمحسوبية بين المكلفين بادارة الشأن العام .. سيواجهني حتما من يضن بان الأمر يعنيه ، بشتيمة او حوار غير مهذب ، غير ان ذلك لا يلغي بتاتا حقيقة ما أصاب مجتمعنا من ضرر فادح جراء الهجرة القسرية للفلاحين وابنائهم الى المدن ، ومن يتطلع اليوم الى الحياة العامة في أية مدينة عراقية ، سيرى وبوضوح كيف قام الفلاح بنقل عاداته واعرافه دون تغيير الى المدينة التي حل بها مهاجرا ، فاحال البيئة الى خراب مدمر حينما مارس رعي ماشيته في الشوارع والازقة ، وحينما التزم بعادات تربية الدجاج في البيوت ، وحينما أحال الجو المحيط الى حيز تعمه الاتربة وتنتشر فيه أكوام القمامه .. ان الحليف الطبقي للعمال أضحى الان عدوا لهم بامتياز .. وسيطول أمر الاصلاح على ما اعتقد ردحا من الزمن قد لا نراه نحن الجيل الحالي ولا الاجيال الثلاثة القادمه على اقل تقدير .. والى ان يحين الفرج ، سوف تبقى بلادنا مرهونة لمقدرات الاضطراب والعبثية واللانظام ، وستبقى بلاد الرافدين ، أهم مستورد ، دون تصدير ، في المنطقة برمتها .
#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الطبقة العاملة العراقية ، وتراجع دورها التاريخي
-
زمني توقف هنا في ليلة واحده
-
قول في الماء العربي
-
حال المرأة العربية .. بين الوهم والواقع
-
صهوة الشر
-
ألشعوب العربية لا تحسن الثوره
-
عصارة من خيال
-
مشروع اتفاق مع حكومة الصين
-
ألغرز في اللحم الميت
-
ثورات الربيع العربي ، ودور القوى اليسارية التقدميه .
-
مرافعة لا حضور للمحامين فيها
-
نعم .. نحن فعلا نتعرض لمؤامرة غربيه .
-
من وحي الحبة الزرقاء
-
حنطاوي
-
أسماك الزينة وصوت كوكب الشرق .. حينما يأتلفان .
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. النهايه
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
-
ملك الملوك والمربع القادم على رقعة الشطرنج .. صور قريبة من و
...
المزيد.....
-
تحقيق CNN يكشف ما وجد داخل صواريخ روسية استهدفت أوكرانيا
-
ثعبان سافر مئات الأميال يُفاجئ عمال متجر في هاواي.. شاهد ما
...
-
الصحة اللبنانية تكشف عدد قتلى الغارات الإسرائيلية على وسط بي
...
-
غارة إسرائيلية -ضخمة- وسط بيروت، ووسائل إعلام تشير إلى أن ال
...
-
مصادر لبنانية: غارات إسرائيلية جديدة استهدفت وسط وجنوب بيروت
...
-
بالفيديو.. الغارة الإسرائيلية على البسطة الفوقا خلفت حفرة بع
...
-
مشاهد جديدة توثق الدمار الهائل الذي لحق بمنطقة البسطة الفوقا
...
-
كندا.. مظاهرات حاشدة تزامنا مع انعقاد الدروة الـ70 للجمعية ا
...
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
مصر.. ضبط شبكة دولية للاختراق الإلكتروني والاحتيال
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|