محمد العلمي الوهابي
الحوار المتمدن-العدد: 3702 - 2012 / 4 / 19 - 02:07
المحور:
الادب والفن
هذان فارسان متبطلان يعرضان رمحيهما، ينويان المبارزة تحت ظلال القصائد الذهبية، هنا فارسان، أسمع وقع حوافر حصانيهما في جوفي، يقذفان الشرر، يقذفان لعاب البلاغة، يتحاوران كنبيلين، وفي قلبهما ينمو صعلوكان، يقول الأول:
امنحه حلواناً.
يقول الثاني: لا، ولما هذا الحلوان الذي ستقتطعه من مرارة أيامك؟ لن يكون جسرك المعبد نحو القمة ولا إكسير حياتك.
يقول الأول: امنحه حلواناً، لقد منحك طاولة ومقعداً خاصين بك، لقد منحك جواً وعالماً خاصين بك، هل ستقوى على القفز فوق نظراته التي سينتصب فيها كل قضاة العالم ليحاكموك على دنائتك هذه؟
يقول الثاني: وما عسى هذه المحاكمة أن تكون؟ وكيف تكافؤه وقد اقتطع حلواناً لنفسه من خلال القهوة؟ انظر إلى الفاتورة، إنها لا تشبه فاتورة المرة الفائتة، وكيف يُعقل أن يكون الشاي أرخص من قهوتك المطعمة بنكهة النعناع؟ وإن كان البن أغلى من الشاي، فهل يتسع فرق القيمة إلى هذا القدر؟ كلا سيدي، كن حصيفاً في عالم قطاع الطرق هذا، لا أحد يستحق دراهمك الزائدة، هذا وأنت تعلم جيداً أن دراهمك ليست زائدة في الواقع.
ينبري الفارس الأول وقد بدأت شياطين الغضب تستبد به، يبصق عن يساره ويجفف عرقه بمنديله الحريري، ثم يقول في سمت الحكماء: اعطه حلواناً سيدي، إنها إكرامية، كن الكريم في زمن البخلاء، درهمك الزائد لن يمنحك الخلود، ولا جائزة العظماء، أنت ميال بطبعك للنبلاء، أنت ميال للكرم، لم أعهدك شحيحاً مثلهم، لم أعهدك بهذا الإبتذال، أنت أسمى من قطعهم المعدنية التافهة، امنحه قطعة إضافية وانظر حجم السرور والإمتنان على وجهه الخالي من الملامح، أثبت مدى جودك وعظمتك مرة أخرى فهذا الدرهم، لن يفقرك.
يرفع الفارس الثاني عقيرته صائحاً: كلا سيدي ! إنها ليست مسألة درهم، أو غنى وفقر، إنها مسألة مبدأ وحصافة، لن يفقرك درهم إضافي، لكنه لا يستحق حتى هذا الدرهم، انظر إليه كيف ينتقل متعجرفاً بين الطاولات، كأنه يمن على الجالسين بقهوته، أو كأنه يزرع في قلوبهم الحياة، لن تذكرك الجرائد بسوء إن أنت ضننت بدرهمك هذا عنه، ولن يسقط الأمر من هيبتك وعظمتك شيئاً، ومبدأ العظماء يقول: كن في عالم قطاع الطرق قائداً، وكن في عالم النبلاء الأنبل، كن بوجهين فالحياة، ثنائيات سرمدية، ولا تقابل الجميع بنفس الوجه، ولا تكن مرآتهم الصافية، فأنت من الشفافية سيدي، حيث يخال معشر القردة هذا أنفسهم أمراء وهم ينظرون إليك، وهم يبتسمون وينتشون بوسامتهم الفجائية، ثم يرحلون... دون أدنى شكر أو مبالاة، هذا النادل النذل لن يشكرك، فهو يفترض فيك هذا الدرهم الزائد، فهو يعده إتاوة إلزامية تدفعها له صاغراً، فإن فعلتَ فأنت في منجى من غيبته ونميمته وقدحه المبطن، وإن أنت لم تفعل، فأنت موضوعه الدسم في مساهراته مع رفقاء خيبته، أما الشكر والثناء والإمتنان، فكلمات لا توجد في معاجم هؤلاء البرابرة الذين لا يعرفون المدنية وإن كانوا في واقع الحال يعيشون في مدن، فهم لا يفقهون ما يعنيه النبل حتى لو قضوا أعمارهم ضعفين في محفل النبلاء، الطاولة التي خصصها لك، هي أقل ما يجب أن يفعله في مهنته الرتيبة هذه، ولو ساوى بين الشاي والقهوة في الفاتورة، لكان حرياً بك أن تساويه معك في النبل، لكنه لم يفعل، وأنت تعرف جيداً مدى اختلال ميزان الفواتير في هذا النادي، فتارة ينقصون وتارة أخرى يزيدون، ولو اطلعتَ على حقيقتهم لعرفتَ أنهم يتلاعبون، ثم انظر كيف ينقلون الكرة على الشاشة، في هذا النادي الذي يُفترض فيه أن يكون ثقافياً، وانظر كيف يحتقرون الثقافة هنا إذ يساوونها مع رياضة همجية، إن هذا لعمري سبب كاف لأن تحتفظ بدرهمك.
ينظر الفارس الأول في وجه الفارس الثاني نظرات ملؤها السخرية، ويقول بنفس لهجته السابقة مخاطباً صاحبه: أتدري، بقدر منطقيتك فأنت مهزوم في هذه المعركة لا محالة، فهذا السيد ليس بمزاج جيد للنذالة الآن، كل ما يحتاجه هو الإنعزال عن باقي الجالسين في النادي وقد تأتى له ذلك، كل ما يحتاجه في لحظات اضطرابه الآن هو التميز والإنعزال وأنت ترى الشحوب في وجهه وأمارات المرض بادية على محياه، أنا المنتصر، لا أقول هذا مفاخراً أو لكوني محق، ولكن لأن دراهم السيد كثيرة هذا اليوم، وهو يريد أن يخفف من ثقلها في جيبه، فتصور كم سيكون مضحكاً مظهره وهو يعد الدراهم بروية أمام النادل دون أن يضيف إليها درهم إكرامية، ليس لأن النادل يعني شيئاً له لكن لأنه يعني الكثير لنفسه، فهو يأبى أن يبدو مهرجاً أمام نفسه، في هذا الهندام، وبما حبته به الطبيعة من هيبة وطول فارع، قد تكون هذه الميزة لعنة تقتضي منه درهماً زائداً في هذا الموقف، لكنها في المجمل نعمة، نعمة في طيها نقمة، حين يعيش عملاق وحيد في عالم الأقزام، فهو مكلف بأن يكون عملاقاً في كل تصرفاته، وإلا فإنه سيصير مسخاً أمام نفسه وإن لم يعي الآخرون الأمر، سيصير عملاقاً بدماغ قزم وحركات مضحكة، وهذا ما لا يمكن أن يرضاه هذا السيد الأنيق أبداً، أتدري، هذا أكثر ما يجعله منزوياً عن الأقزام في أوقات فقره وحاجته وإفلاسه، وإن كانت الطبيعة قد فرضت عليه أن يعيش في هذا المكان، فإنها منحته على الأقل خيارين للحياة، أن يحيا عملاقاً عظيماً بفؤاد كسير وقلق مستمر، وسخط ينطفئ ويشتعل، أو عملاقاً وضيعاً بملامح مضحكة وابتسامة بلهاء تدل على الرضا والقناعة وضيق الأفق، والجوهرة المختبئة في جوفه المحترق لا تلمع إلا في طريق الألم، وقد اختار هذا السيد طريق الألم كما يختار الفرسان أمثالنا سبيل التضحية والموت من أجل الشرف والنخوة والقسم، قد تبدو مفاهيم غريبة لدرجة الطرافة هنا، لكنها بحق، تعني الكثير لي وللسيد، وهو يقدر على ترجمتها في لغة المنطق إلى مصطلحات أكثر قوة وإفحاماً، التميز، التمرد، التحدي، وهكذا سيلقي سيدي عظمة أخرى لكلب آخر، وإن لم يلعق هذا الكلب حذاءه فهذا لن يضير... لأن سيدي سيحسبه كلباً بلا لسان.
#محمد_العلمي_الوهابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟