|
الكوجيطو المكسور...في عيادة ريكور
فتحي المسكيني
الحوار المتمدن-العدد: 3699 - 2012 / 4 / 15 - 23:05
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقديم: ينبّهنا ريكور في كتابه نزاع التأويلات بشكل طريف إلى أنّ فرويد ليس كاتبا عاديا، بل هو، إلى جانب نيتشه وماركس، من "أبطال الشك" الذين نجحوا في إحداث "هزة هائلة" في شخصية الفيلسوف المعاصر، شكّكته في إنجازات تمتد من ديكارت إلى فلسفة اللغة مرورا بالظاهراتية والوجودية؛ ذلك أنّ أبطال الشك هؤلاء لم يهاجموا هذا الموضوع أو ذاك من مواضيع الفلسفة، بل هم هاجموا عرين الفيلسوف الحديث: "الوعي" (ص137).أليس الوعي قد شكّل للفلاسفة المحدثين "الحقل والأساس وحتى أصل كل معنى"( نفسه) ؟ لذلك فإنّ النتيجة الحاسمة والخطيرة لما أشار إليه فرويد باسم "اللاّوعي" هو "أزمة مفهوم الوعي"(ص139) في الفلسفة. وهي أزمة تدفع إلى هذا التساؤلات الثلاثة التالية: كيف يمكن إعادة التفكير في الوعي في ضوء ظاهرة اللاوعي ؟ كيف يمكن نقد "النماذج" التي رسمها فرويد للكشف عن اللاوعي ؟ وأخيرا ضمن أيّ تصوّر للإنسان يمكن للفيلسوف أن ينهض بجدل موجب بين الوعي واللاوعي ؟ 1) الفلسفة وأزمة الوعي بعد فرويد ربما تعود أزمة الوعي إلى أمرين: أنّ وعينا المباشر بأنفسنا ليس يقينا حقيقيا، وأنّ ما هو غير مفكّر فيه ضمن تفكيرنا هو أيضا ليس المعنى الحقيقي للاّوعي. هذا ما تعرفه الفلسفة من ديكارت إلى هوسرل (ص140). ولذلك فإنّ علينا أن نقرّ بأنّ فلسفة الوعي تنطوي هي نفسها على "فشل" ما: أنّ وعينا بذاتنا ليس معطى في البداية بل في النهاية، أي بعد تفكّر كبير في أنفسنا. بل لقد وصل هيغل إلى حدّ التنبيه إلى أنّ إقامة "فلسفة وعي" هو أمر غير ممكن، لأنّ "الوعي هو هذا الذي لا يستطيع أن يجمع نفسه" (نفسه) ضمن تفكّر يتّخذ من الوعي نفسه مقياسا. إنّ تفكّر الوعي في نفسه ليس هو الطريق الملائم لمعرفته. وهو يتفق في ذلك، دون قصد، مع أطروحة فرويد (نفسه). بيد أنّ ظاهرة اللاوعي التي يشير إليها فرويد هي جدُّ مقلقة لأسباب أخرى: إنّ نقد فرويد لا يمكن أن يتمّ على أساس ظاهراتي (ص141). ويعني ذلك أنّ الوعي ليس أرضية مناسبة لنقد اللاّوعي. فما يقوله الوعي عن نفسه ليس سوى تمثيل عن واقع خفي لا يعرفه وإن كان يقع تحت سيطرته. كذلك ليس اللاّوعي مجرد انفعال غريزي، يمكن أن نعي به، بل هو جملة من التمثّلات والأعراض التي تسري في كلامنا عن أنفسنا. من أجل ذلك يقترح ريكور أن ننقد فرويد نقدا من نوع كانطي ولكن من دون ذات متعالية (ص141-143). ومعنى التعالي هنا هو أنّ اللاّوعي يعمل كما تعمل تجربة لا تسيطر على شروط إمكانها، وهي تقوم على جمع معقّد بين ما هو مثالي وما هو واقعي. ولذلك نحن لا نعثر على اللاّوعي بل نبنيه بوصفه واقعة "تشخيصية" (ص144) تؤدي إلى جملة من "المعاني التي أنشأها آخر عني ومن أجلي" (ص145). وهو يتكوّن في "التأويل وبوساطته" (نفسه)، في التأويل بوصفه تشخيصا، أي نمطا من "البحث عن المعنى" في "منطقة نفسية نسميها اللاّوعي" (نفسه)، وهي لا تعدو أن تكون "مجموع الإجراءات التأويلية التي تقرأه" (ص147). إنّ نقد اللاّوعي الفرويدي لا يمكن أن يكون إلاّ نقدا متعاليا: "أن نمارس تبريرا لفحوى المعنى، وإقصاء لكلّ ادعاء يزعم أنه يدرك المفهوم خارج حدود صحته" (ص145). لكنّ قصد ريكور ليس تأسيسيا، بل هو من طبيعة منهجية: إنّه يسعى إلى الكشف عن "نسبية مفهوم اللاّوعي" بالتنبيه إلى هذا الأمر الخطير: "إنّ اللاّوعي لا يفكّر" ولذلك فأفضل تسمية له هي الإشارة له بضمير الغائب "هو" (das Es) (ص146). إنّ هدف ريكور هو التنبيه إلى أنّ الوعي لا يقلّ غموضا عن غموض اللاّوعي نفسه، ومن ثمّ أنّه ما يزال ممكنا القول رغم فرويد أنّ "الوعي ليس أصلا، ولكنه مهمة" (ص147) ما تزال قائمة. إنّ المطلوب ليس أن نصف كيف أنّ الإنسان سيبقى دوما فريسة لطفولته بل أن نبيّن كيف تحدث "ولادة الذات" أي "الانتقال من الرغبة، بوصفها رغبة في الآخر، إلى الاعتراف بالذات [..] إنّ المقصود هو ولادة الذات في ازدواجية الوعي" (ص148). فليس يمكن اختزال الإنسان في ما هو بيولوجي لأنّ ما يحرّك الإنسان فعلا هو أن يصبح "معترَفا به بوصفه شخصا"(ص151). من أجل ذلك ينبّهنا ريكور إلى أنّ فرويد قد ينجح في إلقاء ضوء صحيح على الأصول الشبقية للسلطة، من حيث أنّ الرابط السياسي إنّما يتكوّن انطلاقا من مشاعر وانفعالات أوّلية مكبوتة وغير واعية، يردّها فرويد إلى أسطورة قتل الأب وجريمة ارتكاب المحارم،- "ولكنّه لن يستطيع أبدا أن ينجح في صنع تكوين متكامل للعلاقة السياسية انطلاقا من منطقة الغرائز الجنسية"(ص153). فإنّ وعي الإنسان لا يكفّ عن تجديد نفسه خارج منطقة الغرائز. وتلك هي الثقافة. "فإنّ الثقافة ليست حلما: إنّ الحلم يخفي، وأما الثقافة فتظهر وتكشف"(ص157). هنا يدعونا ريكور إلى مرجعة علاقتنا بطفولتنا: صحيح أنّ "الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعدّ فريسة لطفولته"(ص152) ولكن علينا الإقرار أيضا بأنّ الإنسان "مسئول عن الخروج من طفولته"(ص158). وبعبارة لامعة: إنّ وعي الإنسان هو "تاريخه" الذي يصنعه بنفسه أمّا اللاوعي فهو نمط من "القدر" الذي يجب عليه أن يتحرر منه (ص157،159). - لذلك فإنّ أهمية التحليل النفسي لا تكمن في صلاحية ما يقول بل في نوعية القضايا التي أثارها في وجه الثقافة المعاصرة. إنّ ما كتبه فرويد ينبغي أن يُعامَل بوصفه "حدثا في ثقافتنا" (ص161) علينا التفكّر فيه. ورأس الصعوبة في هذا الحدث هو أنّه كلّي ومحدود في نفس الوقت: هو كلي لأنّه ينطبق على كل الإنسانية، لكنّه محدود لأنّه لا يمتد أبعد من "النماذج" التحليلية التي بناها (ص162). 2) الوعي والثقافة أو إلى أيّ حدّ يمكن لنا أن نغيّر بنية أنفسنا ؟ إنّ أفضل مثال على ما تقدّم هو التفسير الفرويدي للثقافة. إنّه تفسير يفجّر العلاقة العلاجية بين المحلّل والمريض (ص161) ويقترح نموذجا "اقتصاديا" للأساس الغريزي للثقافة. وبعامة "فإنّ الثقافة قد بدأت مع منع الرغبات القديمة، ومنع ارتكاب المحارم، وأكل لحم الإنسان، والقتل."(ص164-165). لكنّ أصل الثقافة ليس المنع فقط، بل إنّ الهدف الطريف لأبحاث فرويد الأخيرة (مستقبل وهم، 1920، وقلق في الحضارة، 1930، وموسى والتوحيد، 1937-1939) هو بلورة تصوّر موجب وبنّاء لماهية الثقافة ولدورها في تدبير مصير الإنسان. إنّ فرويد يطرح ثلاثة أسئلة خطيرة: "إلى أي حد نستطيع أن نخفّف حمولة التضحيات الغريزية المفروضة على البشر؟ وكيف يمكن أن يعاد تصالحها مع تضحيات التخلي المحتومة ؟ وكيف يُقدَّم للأفراد، بالإضافة إلى هذا، تعويضات مرضية عن هذه التضحيات؟"(ص165) إنّ لب الثقافة هو تدبير "الصراع بين المحرم والغريزة"(نفسه). لكنّ المثير حقا هو أنّ فرويد قد انتهى إلى التوكيد منذ 1930 على أنّ الإنسان فريسة ليس فقط لشبقيّته، أي لغريزة اللذة أو الحب، بل هو فريسة لعدوانيته الغامضة على غيره، وهو ما لم يتردد فرويد في تسميته غريزة الموت، وذلك كمكوّن ثقافي جوهري، وليس كمعطى بيولوجي. "إنّ الإنسان ذئب للإنسان" (ص167). إنّ الثقافة هي ميدان صراع بين غريزة الحب وغريزة الموت، وبين غريزة الحياة وغريزة التدمير . وإنّه من الطريف أن نعلم أنّ الثقافة تستعمل "الشعور بعقدة الذنب" أداة للحد من العدوانية الثاوية في لاوعي الإنسان، وهو شعور يؤدي في الآخر إلى بناء الحضارة على أساس عقد الذنب (ص169). وهو ما جعل فرويد يستشهد بكلمة مشهورة لهاملت شكسبير:" كذا يجعلنا الوعي جبناء جميعا" (نفسه). في نفس هذا الإطار يضع فرويد وظيفة الأديان والآلهة. إنّ مستقبل الدين هو رهين "وظيفته الاقتصادية في ميزان التخلي عن الغرائز الجنسية "(ص172). ولذلك لا يسميه فرويد "وهما" إلاّ لتمييزه عن مجرّد "الخطأ" الناتج عن الجهل. إنّ الوهم يتميّز بأنّه يتولد في قرارته عن "رغبات" الإنسان اللاواعية، وليس عن أخطائه. إنّ الوهم هو "اللغز الذي يقترحه تمثيل من غير موضوع"(نفسه). وغياب الموضوع، موضوع الرغبة، هو مصدر الوهم. لكنّ طرافة فرويد في شأن المعتقدات هو كونه لا يدعو إلى إزالة بعدها الأسطوري، بل هو "يركز على النواة التاريخية التي تكوّن أصل المبحث الوراثي للدين" (ص173). ولذلك فإنّ فائدة التحليل النفسي للثقافة لا تكمن في دورها النقدي، فإنّ "نقد الأسس" ليس من شأنه (ص185)، بل في كونه يقدم كشفا لتلك "التمثيلات التي تجعل الألم محمولا، والتي تواسي" (ص186). كذلك فإنّ فرويد لا يجزم بأنّ الدين وهم، فهو "لا يتكلم عن الله، ولكنه يتكلم عن إله البشر" (ص187)، الذي صنعوه بأيديهم من معين رغباتهم وغرائزهم المكبوتة واللاواعية. وهكذا فإنّ المحلل النفساني ليس "لاهوتيا، ولا هو مضاد للاّهوتي" وعلى ذلك فإنّ دوره العلاجي هو كونه "يستطيع أن يساعد مريضه كي يتجاوز الأشكال الطفلية والعصابية للاعتقاد" (نفسه). إنّ فرويد رجل "تنويري" وبحوثه لا تغوص إلى حدّ "قضايا الأصل الجذري، وذلك لأن وجهة نظره اقتصادية واقتصادية فقط"(ص188). وإذا كان يسمّي الدين "وهما" فهو لا يشير بذلك إلاّ إلى "تمثيل لا يقابله واقع" (نفسه). إنّ تعريفه "وضعي" ؛ ولذلك علينا أن ننقل المشكل إلى سؤال آخر: بدلا من تشخيص "الوهم"، يقترح ريكور أن نقحم هنا وظيفة "الخيال". فالخيال يسخر من التعارض العقيم بين "الواقعي" و "الوهمي". إنّ الخيال ليس وهما، وليس واقعا. بل هو ميدان تؤلفه "الرموز" بوصفها "تحمل معنى يخرج عن إطار هذا الخيار بين أمرين" (نفسه). إنّ ما قدّمه فرويد هو "تفسير وراثي" للرغبات اللاواعية للبشر، ولذلك هو لا يستطيع أن يذهب إلى حدّ "الفكر الجذري" في ماهية الدين (ص190). لماذا نسائل الدين في ضوء معركة التخلي عن الغرائز الجنسية وليس من جهة بناء أخوّة حقوقية بين البشر ؟ (ص190، الهامش 15). إنّ أهمية فرويد مثل أهمية ماركس ونيتشه تكمن في كونه ناقدا للوعي المزيف (ص191). فبعد شك ديكارت في "الشيء" الخارجي، جاء الشك في "الوعي" الداخلي (ص192). ولذلك هناك طريقة للاستفادة الموجبة من هذا النوع من النقد الذي طوره كل من فرويد وماركس ونيتشه : المساهمة في "اختراع فن التأويل" (نفسه) ومن ثمة معاودة "فهم أنفسنا تماما عن طريق التأويل الذي يقدمونه لنا عن أنفسنا" (ص194). إنّ دور الفلسفة هو تكوين "بنية استقبال" (نفسه) قادرة على استيعاب انثروبولوجي لتأويليات دعاة الشك الثلاثة والاستفادة منها في فهم أنفسنا على نحو أكثر أصالة. وذلك يعني أن نتعلم كيف نتحمل نوع "الإهانة" التي ألحقها التحليل النفسي بنرجسيتنا (ص195) بعد إهانتيْ كوبرنيك وداروين. وأوّل خطوة في ذلك هو أن نجرّد عمل فرويد من أيّ استعمال "أخلاقي"؛ فهو لم يبشّر بأيّ أخلاق جديدة: قال في نهاية مستقبل وهم : "إنني لا أحمل عزاء" (ص198). وعلى ذلك فما علّمَناه فرويد هو شيء هائل. إنّه غيّر "فحوى كلام الإنسان عن نفسه" حين بيّن صعوبة "أن يكون الواحد إنسانا" (ص199). ومعنى الإنسان هنا هو ذاك الذي استطاع أن يخرج من طفولته على نحو موجب. ألاّ يكرّر طفولته وكأنّها قدر، وذلك يعني أن يفلح في احتمال "صعوبة عمل الحداد" (ص200) على جزء من إنسانيته، و"أن يعرف المرء نفسه وأن يتوقّف عن لعن ذاته" وأنّه "كائن متهم بطريقة خاطئة"، ومن ثمّ فلا تعني إنسانيته سوى أن يتعلم كيف "يغفر" لنفسه في شكل من "التصالح" مع الجانب "اللاّواعي" من حياته (ص201). –هذا الطريق هو ما أشار إليه فرويد بمصطلح "التسامي" أو "التصعيد". لكنّ فرويد يعترف بأنّ ذلك غير ممكن إلاّ في ميدان الفن، إذ الفن هو الظاهرة الوحيدة التي لم يشملها فرويد بشكّه (ص203). إنّ طرافة فرويد تكمن في تنبيهنا إلى "تعدّدية التجارب" التي تصنع الإنسان، ومن ثمّ هو فتح الباب واسعا أمام "تعددية التأويلات" (ص211) بوصفها جزء لا يتجزّأ من جدل الرغبة والثقافة والنزاع بين عالم القوة وعالم المعنى (ص212) في تكوين الوعي الإنساني. وإنّ في ذلك آية على أنّ قوانين المعنى في وعينا لا يمكن اختزالها في قوانين لسانية (ص213) بلا ذات. فإنّ فهم المرء للغة لا ينفصل عن فهمه لنفسه (ص215). ورغم ذلك فإنّ ريكور قد حرص على قراءة فرويد من غير أن يجعله بديلا عن فلسفة الذات، بل هو يعتبر أنّ قراءة فرويد تُعدّ "أزمة" في فلسفة الذات نفسها (ص205). وبدلا من "إنتاج كوجيطو" (ص216) من قراءة اللاّوعي الفرويدي، يحرص ريكور على "تثقيف" فلسفة الوعي بالتحليل النفسي بغية التنبيه إلى ضرورة الفصل بين "التفكّر" الفلسفي في أنفسنا وبين نموذج "الوعي" الذي قامت عليه فلسفات الكوجيطو الحديثة (ص217). يقول بعبارة مثيرة : " يجب إضاعة الوعي من أجل العثور على الذات"(ص217-218). ذلك هو مغزى "نزاع التأويلات" (ص222): أنه لا وجود لمعنى واحد نعود إليه، بل ثمة تعدد أصلي في ما نبحث عنه. ولذلك فإنّ فرويد يقارن فنّ التأويل بنمط من "فن المقاومة" أو "فن الترجمة" (ص225) الذي يهدف إلى "إنتاج المعقولية" ولكن وراء ظهر الوعي. وهو ما يميّز التحليل النفسي عن كل "ظاهراتية تتعلق بالوعي والحوار والبيذاتية" (ص226). ليس الوعي قصدية بل "حيلة"و "تقانة قناع" (ص230). ولذلك فالتحليل النفسي ليس "تقانة للهيمنة" بل "تقانة للصدق" (ص231). ومعنى الصدق أنّه "ينتشر كلية في حقل الكلام" (ص232) وليس تسجيلا لوقائع. إذ في وعينا ليس ثمة وقائع وإنما "لا معنى" علينا تأويله بوصفه تاريخنا الخاص (ص233). وطرافة الفلسفة حسب ريكور تكمن في كونها تكشف عن التواشج والتراكب بين "حيوية الرغبة" التي يحلّلها فرويد وبين "دلاليات الرغبة" التي تقع في بوتقة الكلام (ص234)، ولا يعوقنا لفهمها والمسك بها غير "نرجسيتنا" (ص235). إنّ المطلوب هو الشفاء، الشفاء من كلّ ما تمّت أسطرته وتأليهه باسم الرغبات المكبوتة في وعينا. ولذلك لا يقدم فرويد طريقة للسيطرة على الإنسان بقدر ما يقترح "مشروع معرفة النفس بصورة أفضل" (ص236). ولا يمكن أن يوضع هذا النوع من "التنوير الفرويدي" إلاّ في باب التحرر. إنّه يحرر الإنسان من لا وعيه من أجل مشروع إنساني أكثر إنسانية. وليس ذلك حسب ريكور سوى "القدرة على الكلام والقدرة على الحب" (ص239). لكنّ القدرة لا تعني هنا السلطة. بل فقط قدرة الإنسان على إعادة "توجيه رغبته توجيها جديدا" في شكل نوع طريف من "إعادة تربية اللذة" (ص241). يقول ريكور: " إن الرغبة التي قبلت موتها الخاص، هي التي تستطيع وحدها أن تتصرف بحرية في الأشياء" (نفسه). 3) أنا أكون" ضدّ "أنا أفكّر" أو الفلسفة كوجيطو مكسور ينطلق ريكور هنا من معطى أصبح ممكنا بعد هيدغر: تجديد "العزم الأنطولوجي الذي يسكن الكوجيطو والذي كان قد نسي في صياغة ديكارت" (ص269). وهو تجديد لئن كان يقبل "هدم الكوجيطو" المعرفي فهو يريد "إعادته إلى المخطط الأنطولوجي باسم أنا أكون" (ص270). إنّ قصد ريكور ليس سالبا، نعني هو لا يشارك هيدغر في نقد فلسفة الكوجيطو. بل غرضه موجب، وهو يتمثل خاصة في "سبر التفسير الإيجابي لـ’’أنا أكون’’ الذي يحل محل الكوجيطو" (نفسه). إنّ الهدف الأسنى هو بذلك الدفاع عن "إمكانية وجود فلسفة جديدة للأنا" (ص272). وأهمّية هيدغر هو أنّه استطاع أن يؤرّخ لفكرة الكوجيطو على نحو حوّله من "مطلق" إلى شيء ينتمي إلى عصر من العصور هو "عصر العالم بوصفه تمثيلا وبوصفه لوحة" (ص275). إنّه قد ارتبط بمولد النزعة الإنسانية التي تقوم على "ادعاء الهيمنة" على الطبيعة بوصفها موضوعا، وهو حسب ريكور من "أكثر النتائج إثارة للهول" بل هو "الحدث التحتي لثقافتنا" (نفسه). في هذا السياق عينه علينا أن نفهم دوعة هيدغر إلى استئناف السؤال عن معنى الكينونة في العالم. إنّه يفترض أنّ الكوجيطو الحديث لم يفعل سوى "طمس" انتماء الكائن إلى كينونته (ص276). والحل الفلسفي هو إعادة طرح السؤال عن الكائن الإنساني ليس السؤال "ما هو؟" هذا الإنسان –فالكوجيطو إجابة عن هذا النمط من السؤال- بل السؤال "من ؟" هو هذا الكائن الإنساني بالنظر إلى كينونته. وفرضية ريكور هي هذه: إنّ هدم الكوجيطو هو موقف منهجي لا "يستنفذ" كل "العلاقة الممكنة" التي يقيمها "الكائن هنا" (Dasein) الهيدغري مع "تقاليد الكوجيطو" (ص276). وذلك يعني أنّ "الأنا تبقى سمة جوهرية للكائن هنا، وإنه لمن أجل هذا، يجب عليه أن يؤول تأويلا وجوديا" (ص278). إنّ حياتنا اليومية تقع تحت هيمنة "الهُمْ" الذين ليسوا نحن، ومن ثمّ أنّ "منْ" ليست موجودة بعد في الحياة اليومية. نحن لا نصبح أنفسنا إلاّ عن حين نبدأ في السؤال عن موتنا، أي حين تصبح كينونتنا "كلاّ" واحدا. إنّ تأويلية أنا أكون هي تأويلية وجودنا نحو الموت (نفسه). وهو ما سيحاول هيدغر الأخير أن يبحث عنه في الحوار مع الشعراء بحثا عن "السكينة التي هي عطاء الحياة الشعرية" (ص281). إنّ طرافة ريكور هي كونه غير مقتنع بنهاية فلسفات الذات، وكونه لا يكف عن البحث عن تجارب أنا جديدة لم يستنفذها هدم فكرة الكوجيطو. وهو يقترح أن نتعامل مع الأمر ليس بوصفه نهاية ولكن بوصفه نوعا من "التحدّي". وهو يفترض أنّ أكبر التحديات التي واجهت فلسفة الذات هو "التحدّي العلاماتي" (ص281) الذي هو اعتراض يصرّفه كلّ من التحليل النفسي والبنيوية، من حيث أنّ المشترك بينهما هو "العلامة" (ص282). ومن اللافت للنظر أنّ ريكور يردّ فلسفة الذات هنا إلى "الظاهراتية" وخاصة كما تبلورت في أعمال هوسرل الأخير ومرلوبنتي، نعني تلك التي أخذت تنحو نحو اعتبار مسألة "اللغة" محورا حاسما لتأسيس المعنى الذي يجدر بكلّ "ذات متكلمة" أن تضطلع به (ص294). - ولذلك فالمشكل الخطير هو: كيف نتخلص من فلسفة الذات إذا هي نجحت في التحوّل إلى ظاهراتية معمّمة في اللغة ؟ لابدّ أن نعترف حسب ريكور أنّ فرويد قد حقق خطوة كبيرة في تحويل الوعي إلى مجرد "عرض" نفسي ، بحيث لم يعد "قياسا لكل الأشياء" (ص284) كما ظنّ الفلاسفة . بيد أنّه علينا الانتباه إلى أنّ هدف فرويد الحقيقي ليس تدمير الذات: "هو لم يستغن عن الذات، ولكنه أزاحها" ،بل إنّ الأمر الأخطر هو أنّ فرويد قد نبّهنا إلى أنّ وعينا أو أنانا ليس "أصلا" جامدا لأنفسنا، بل هو "مهمّة" علينا أن نضطلع بها (ص287). ولذلك يعلّمنا التحليل النفسي أنّ بناء معرفة "نظرية" حول أنفسنا هو أمر بلا فائدة كبيرة، طالما أنّ "اقتصاد الرغبات التحتية لم يُعالَج" (ص288). وهكذا فما يصدر عن فلسفة الذات التي تردّ وجودنا إلى تفكير بحت هو "الكوجيطو الكاذب" أو "وثن الكوجيطو"،الذي عنوانه الكبير هو "النرجسية" (نفسه). وفي سعيه إلى تفكيك وثن الكوجيطو الكاذب يتحول التحليل النفسي إلى ضرب من "الظاهراتية المضادة"، التي تنتج لنا نوعا من "الكوجيطو المجروح، كوجيطو يطرح نفسه، ولكنه لا يملك نفسه" (ص289)، لأنّه يقوم على "أفضلية أنا أكون على أنا أفكر"(ص290). - للإيفاء بهذا النوع من الاكتشاف اللغوي لوعينا، حاولت ظاهراتية هوسرل الأخير وميرلوبنتي أن تنقل اللغة من حيّز المشاكل اللسانية إلى الممارسة المعيشة للكلام. ههنا انقلبت اللغة من نسق من العلامات إلى "شبكة فوق حقل إدراكنا وعملنا وحياتنا" (ص293). ومن حدث منجز متجه إلى الماضي، تحوّلت اللغة إلى كلام "متجه نحو الحاضر أو المستقبل" (ص294). وهكذا صارت "مهمة ظاهراتية الكلام أن تبين اندماج هذا الماضي للغة في حاضر الكلام" (ص295). بيد أنّ ذلك يعني أنّ ما تقوله الذات المتكلمة في الحاضر هو مشروط بإعادة "تنشيط معان مترسبة وجاهزة" ومن ثمة "فإن الكلام لا يكون على الإطلاق شفافا لنفسه" (ص296). خاتمة : الفلسفة والتحدّي اللساني إنّه هنا تحديدا يأتي التحدي اللساني ضدّ فلسفة الذات: أنّ المعنى يوجد في مكان آخر غير قصدية الوعي، كما أنّ اللسان "بنية" مستقلة عن كلّ تفكير داخلي (ص297). ومن ثمّ فإنّ "اللغة تكفي نفسها بنفسها" (ص298). إنّ التفسير اللساني للمعنى بواسطة نسق العلامات، على أنّه بنية، هو تحدّ يضع المفهوم الظاهراتي للمعنى، بما هو نشاط قصدي للذات ، في خطر محدق. لكنّ طرافة ريكور ما تلبث أن تظهر من حيث أنّه قد بحث عن وسيلة موجبة لرفع هذا التحدّي العلاماتي ضدّ فلسفة الذات من خلال الدفاع عن نوع أصيل من التلاقي بين العلاماتي والدلالي، بين اللغة والكلام، بين الجملة والخطاب (ص299)،بين اللسانيات ومنطق المعنى لدى هوسرل أو ظاهراتية الكلام على طريقة ميرلوبنتي(ص300)، بين "النسق والحدث" (ص301). وهذا التلاقي هو في واقع الأمر تمفصل مفاجئ وآني ليس أبين مثلا عنه مثل قولنا "أنا": "فالمعنى ’’أنا’’ هو معنى فريد في كل مرة" (ص302). وقد يظنّ اللساني أنّ "أنا" هو مجرّد "إبداع لساني" ، وقد يعترض الظاهراتي أنّ الأنا "ذات متكلمة" تقع في فلك سابق على اللغة (ص303). لكنّ ما ينبغي على الفيلسوف أن يقرّ به هو أنّ معنى الذات قد صار من الآن فصاعدا يتقرر "في اللسان، وليس بعيدا عنه" (ص304). وفي المقابل على اللساني أن يعترف بأنّ "نظام العلاماتية هو تحديدا نظام لنسق من غير ذات فاعلة"، وأنّ "النظام العلاماتي على وجه الدقة لا يشكل الكل اللساني" (ص307). إنّ ما لا يراه اللساني من خلال علاماته هو الوظيفة "الرمزية" للغة، أي القدرة الاجتماعية على وضع قانون أو "مبدأ غفل يعلو على الذوات"، ولكنه يقوم على "وجود قاعدة للمعرفة بين الذوات" (ص309). وهذا هو المعني الفلسفي لخطة "العودة إلى الذات بعد التحدي العلاماتي" (نفسه). ذلك ما حاول ريكور الإشارة إليه تحت عنوان برنامجي هو "نحو تأويلية أنا أكون" (نفسه). ومهمّتها هي إقامة "بنية جديدة للاستقبال" (ص310) لا تقع تحت طائلة النقد الفرويدي واللساني. وحسب ريكور فإنّ تلك البنية ربما تجد في "الوظيفة الرمزية" للغة وجها من وجوه تحققها. وليس التحليل النفسي لظاهرة "الليبيدو" وتأويله "الرمزي" غير خطوة على هذه الطريق (ص312). يقول ريكور: " هذه هي فرضيتي في العمل الفلسفي: إني أسميها ’’التفكير المجسّد’’، أي الكوجيطو الذي مرّ عبر توسّط كل عالم العلامات" (ص313). وذلك أنّ "الأنا أفكّر" إنّما يكون قد تجسّد بعد في كل مرة ضمن "أنا أكون"، هي في ظاهرها أنا مطمئنّة، لكنّها في باطنها، تحمل "الشك المؤلم : من أكون؟" (ص315).
#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لعنة الثورة أم جنون الشعوب ؟
-
الشهداء...يحتفلون بموتنا
-
الغيمات الأخيرة تستقيل...من المساء -
-
ترجمة الفلسفة...هل تسيء إلى لغتنا ؟
-
الفلسفة لحماً ودماً...في مرآة مرلوبونتي
-
اعتذارات مجردة...للأقحوان- قيامتين بعد الطوفان
-
كيف صارت التأويلية فلسفة ؟
-
جيل دولوز: ثورة كوبرنيكية في فهم الهوية
-
حذار من النائمين على حافة اللهِ...
-
أحمد فؤاد نجم... عذرا أيّها الطفل...في بلاد الأهرام
-
اقتصاد الهوية أو كيف تكون البنى الثقافية علاقات إنتاج جديدة
...
-
السلفي والمسرح: معركة رُعاة ؟ أسئلة للتفكير
-
مفهوم الضمير...أو كيف صار للإنسان ذاكرة ؟
-
الفلسفة -سؤال موجَّه لما لا يتكلّم-
-
ما هذا الذي هو نحن ؟ ...في السؤال عن لحم الكينونة
-
تعليقات مؤقتة على مستقبل -العقل العربي-. في ذكرى الجابري
-
في براءة الفلسفة وصلاح منتحليها
-
كل أغنيات الوطن جميلة...ولكن أين الدولة ؟
-
حواسّ جديدة لعشتار - قصيد
-
نيتشه وتأويلية الاقتدار ...تمارين في الثورة
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|