أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الفتاح المطلبي - وادي السلام















المزيد.....

وادي السلام


عبد الفتاح المطلبي

الحوار المتمدن-العدد: 3697 - 2012 / 4 / 13 - 09:25
المحور: الادب والفن
    



المدينة ُ الغارقة ُ في صمتِها الذي يشبهُ صمتَ ساعةِ جامعِ عبد المجيد باشا القديم المتوقفةِ منذ زمنٍ بعيد، مضى زمنٌ وجاء زمنٌ ولا زالَ بندولها المتوقف يحملُ ذاتَ النقوشِ الفسيفسائية السلطانية التي استحال لونها إلى لون نحاسي مخضرّ لم يعبث أحد بعقاربها الكبيرةِ ولا امتدت يدٌ لتنظيفها من الداخل منذ أيام الباشا الذي أشرف بنفسه على وضعها في جهات منارة الجامع الأربعة كانوا يكتفون بتلميع زجاجها فقط ، هذه المدينة لم تكن شغلت قاطنيها و أرّقتهم على هذا القدر فقد كانت فيما مضى مثل كثير من المدن تستمد أنفاسها من النهر قبل أن يموت بفعل فاعل لم يعرفه أحد هكذا أشاعوا فيما بينهم، لكنهم عندما يختلون بأنفسهم في مهاجعهم حيث لا يُتوقع أن يقتحم دواخلهم أحد يهمس لهم هامس من داخلهم بحقيقة الأمر ، موت النهر، هه ،موت النهر من لا يدري ، أولئك القتلة وأكفهم الغليظة وضعوا إنتيكة صدئة في بلعوم النهر من زمن بعيد، من أيام المكس و الوكس السلطاني ، هه عندما كانت سفنهم وحرّاقياتهم1 تمخر مياه النهر رائحة غادية تنحدر صوب الجنوب ثم تصعد عائدة ً إلى مخازن السلطان محملة بحليب الجاموس وتمر البرحي وعنبر الشامية و أولادنا خدام السلطان يأخذهم (الإنكشاري)2 من تحت عباءات أمهاتهم مع ركلة سلطانية يتباهين بها على خواصرهنّ، هه ، منذ ذلك الزمن و الأمور لم تتبدل،الأفذاذ الوكلاء ذوي العيون الزرق والخضر والوجه الأحمر المنور بنور النبي( صلوات) لا يزالون ينعمون في بحبوحة الرسم السلطاني الذي لم يتبدل فالمتصرف بمال الشعب صار محافظا على أموال تُجبى للطغاة ، لا شيء تبدل منذ ذلك الحين ،الذي تبدل أن السلطان خلع الطربوش ولبس ربطة العنق، أبدل السفن والحراقيات بحاملات الطائرات والقطارات ، لا فرق إن جاء من الشمال أم من الغرب من أين يأتينا فهو سلطان مادام بيده السوط والسلسلة نحن نعرف السلطان من سوطه وسلاسله إلا أن الذين يضعون على رؤوسهم العلامات هم ُ هم لم يتغيروا ، نضب الحليب والعنبر وعانى الناس من ألعقم الآتي من الركل تحت الحزام فلا ينجبون خدما للسلطان ولا ماسحي أحذية لسلطان بربطة عنق إذن ما نفع النهر فليمت سوف لن يحيا إلا بسلطان والسلطان غيّر طباعه فلم يعد يريد غير الزيت الأسود والزيت في الأعماق و ها أنت ترى الناس يحفرون يمينا وشمالا تسمع لاصطفاق معاولهم ومجارفهم ضجيجا ، قالت أمي العجوز التي أخلصت لله وحجت إلى بيته الحرام ، وجلبت كفنها من دكاكين المدينة التي ينادي فيها باعة الأكفان هلموا إلى أفخرها المصنوع في البلاد المدورة والمضمخة برائحة العتبة ألمنوّره ، قالت وهذا كيسٌ لعظام أبيك جلبته من هناك أوصيك بالرفق بها حين نبشه وتأكد من عد عظامه ( مائتا عظمة ً وست )، كل ذلك لتشاغل الظمأ الذي أحسته فقد بات موت النهر حديثنا جميعا، كلهم يقولون موته معناه موتنا الأكيد وعندما راودهم شبح الظمأ حتى قبل أن يظمئوا بقليل و أرادوا رفع عقيرتهم بالصراخ وهم يعلمون عدم جدواه ، قبلوا بما دُسّ لهم من معاول ومجارف فراحوا يحفرون تحتهم بحثا عن ماء ، منذ ذلك اليوم انشغلت المدينة ، بالحفر ولا ماء ، لكنهم جميعا سكتوا عن ذكر الماء دون أن يتوقفوا عن الحفر ، لم يموتوا من عطش فقد كان الجميع يحصل عليه في المهاجع ، القليل مما يحفظ لهم الحياة بالكاد يرتوون ولكن بقدر ما يمكنهم من المجالدة ببركة الوكلاء أولي الوجوه الصبيحة والعيون الملونة وتلك الجلود التي لم توغل بسفعها شمس تموز العراقي ، ولما جرب بعضهم أولئك الذين يفكرون بالماء وحده بأن يحجموا عن الحفر والبقاء في البيوت بعيدا عن المعاول والمجارف ، نفذ ماءهم بسرعة فالجوُ حارٌ والشمس لا تعير لعطشهم بالاً ، لذلك لم يستمروا طويلا وعادوا مسرعين إلى معاولهم ومجارفهم الغريب في الأمر أنهم يحفرون ولا ماء ، علموا بعد حين أن مائهم الذي يحصلون عليه متعلق بالمجارف والمعاول و إن الذي يدس لهم الماء هو الذي يدس لهم المعاول والمجارف من لا يحفر من أجل السلطان المربوط العنق ولا يدفن بمجرفته ما حفر لا ماء له ، و هكذا كانت المدينة كلها عن بكرة أبيها تحارب من أجل السلطان الجديد وزيّهِ الغريب بماءٍ كفاف، يُثخنون الأرض وتثخنهم بالجراح ، حرب ضروس ، وككل مدينة يموت فيها الناس في حرب كهذه وككل الأحياء يكرهون الموتى بينهم فيرقدونهم هناك خلف الهضبة ويعودون لمعاولهم ومجارفهم ليواصلوا حربَ الحفر والنبش ويسقط آخرون كانت أمي تنبش بوهن بادٍ فماتت بعد حجّها للبيت المعمور بقليل قالت عندما وصلت، الآن فقط يمكنني أن أموت ولم تكد تكمل جملتها فتذكرت ما عنّ لها و عما سيؤول إليه وضعها خلف الهضبة فقالت: و أنت أيها الولد خذ مني كيس عظام أبيك الذي جلبته من البيت المعمور مع فص المسك ولا تنسى أن تضع فيه عظامه ، ستجده هناك في مرابع أيامنا الجميلة قرب الذكرى التي لم تمت في قرية صباه ومجده الذي عرفته إبانهُ أيام كان النهر مخيفا لا خائفا أيام كان حياً لا ميتاً أيام الموت السعيد هناك بين أهلهِ مات ، دفنوه في سفح النهر( نهر الملفود)3 كان معهم طوال الوقت يحدثونه عن كل ما فاته من ليالٍ مقمرة حجب قمرها عنه التراب ، وها أنت ترى لم يعد مهتما بما يجري فقد مضى وقت طويل ، طويل يا ولدي ، النهرُ مات والأهل ماتوا و أنا وأنت هنا في مدن الحرب القائمة ، ورغم أن لاحرب هناك خلف الهضبة يا ولدي ورغم أن الهضبة أكلت أرض المدينة و توسعت ورغم أن المجارف والمعاول باتت تحفر قبورنا هناك خلف الهضبة إلا إنني سأشعر بالغربة والوحشة فاذهب يا ولدي ولا تهتم بوقت ساعة الجامع العتيق وبندولها الذي توقف منذ الباشا ذات الوقفة منذ القدم ، إذهب واجلب عظام أبيك وأضجعها قريبا من مثواي لعله يدفع عني وحشة تلك الليالي التي ستأتي ، واعلم إن لي معه كلاماً كثيراً كنت قد أجّلت الحديث فيه منذ كان حيا ، كان لا يحب الكلامَ كثيرا لذلك كنت لا أكلمه لكنني صرت مهووسةً بمناجاته بعد موته وها أنت ترى لابد لي من الحديث معه ، هذا ما كانت تقوله أمي التي اضطجعت هناك خلف الهضبة ، تركتني حائراً وماتت ولا زال كيس عظام أبي فارغاً فقد اندثرت القبور وضاعت العظام بين الحصى والإسفلت على طريق النفط فمن أين سآتي بعظامه يا أمي وأعلم أنك تنتظرين وإن بك رغبة للحديث معه و إسماعه ما لم يسمعه منك قبل موته ، الحرب قائمة يا أمي هذه المرة يحفرون من أجل ماء أسود ، وعما قليل سيكون لي مجرفتي ومعولي وستواصل الهضبة زحفها على المدينة التي لا تعرف غير حرب تنجب حرب وسيزدهر الموت مرة أخرى فانتظريني و اصمدي بمكانك ، الله يعينك على الاحتفاظ بمثواك فزحام الموتى شديد ،وهذا أنا وبيدي كيس عظام أبي المعطر بالمسك ذهبت هناك حيث تنام عظامه على سفح ( الملفود)3 الملفود لم يعد كما كان ما من شيء ملفود إلا الصدور ملفودة برياح الحزن ، لم أجد قبر أبي حيث وصفت أمي ، كان يقف هناك رجل حائرٌ لا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يبدأ بالحديث وكأنه ينتظرني حين سألته سارع بالإجابة، قال:
ـ أوه كأنك من أهل الكهف ، لم يعد هناك من عظام كلها رحلت أدركها غوث أهلها ولم يعد هنا تحت أسفلت طريق النفط غير عظام لا يدعيها أحد ، أين كنت طوال هذا الوقت؟
ـ هذه مشيئة أمي ياعم أمي الميتة في وادي السلام!
ـ هنا يا ولدي خيم الإنكليز ثقبوا قبر أبيك بحثا عن النفط ، ردموا ثقوبهم واتجهوا إلى( الجكة)4 وتل (عزيزة)4، فوق قبر أبيك استقرت وحدة راجمة الصواريخ بأمر وكيل السلطان الجديد، أحرقت ذيول لهبها العشب القليل المتبقي فوق قبر أبيك و الآن يا ولدي فوق قبر أبيك يخيم هواة الصيد الخليجيون يتصيدون( الحبارى ) 5 المتبقيات اللواتي لايردن المغادرة ربما كانت تلك الحبارى (هامة أرواح)6 الذين لم يتذكرهم أحد مثل أبيك ههه أين كنت قبل ذلك؟ والآن ماذا أنت فاعل؟
ـ سأرجع إلى هناك إلى وادي السلام قبل أن يأكل باقي المدينة أنت تدري عندما يموت السلام تتوسع رقعة واديه لدرجة ضياع الفوارق بين بيت وقبر ، الحرب قائمة معاولها تحفر و مجارفها تدفن !
ـ ربما لن تجد قبر أمك هناك ، ربما احتل قبرها ميت ذو عزّ فالموتى يزدحمون والأرض لم تعد واسعة تحت أجنحة الطائرات ومديات القنابل في هذه الحالة إذن أقترح عليك أن تحرز الكيس لعظامك و أوصي به لأولادك في حال لم يعثروا لك على أثر من عظام حين انفجار سيارة مفخخة أو حين لا يهتدي إليك المشيعون في مقابر الغرباء في المدن الغريبة وقل لأمك أن تقنعَ بما عندها من عظام وواصل كلاما كأنه يأتي من بعيد،لازال وادي السلام يشن حربا على المدينة ، المدينة تندحر وستجلس راضية بين فكي وادي السلام ماداموا يحفرون ويردمون ولا شيء غير قرقعة المجارف والمعاول، كنت مطرقا إلى الأرض حين كان يتحدث ولما رفعت رأسي لم أجده ،يا ألهي ربما كان هو أبي جاء ليحسم الأمر معي بشأن رغبة أمي وهوسها المتأخر بالحديث معه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ حراقيات : نوع من السفن النهرية الصغيرة كانت تسير بالبخار في نهر دجلة أيام العهد العثماني
2ـ انكشاري : جندي عثماني
3ـنهر الملفود: أحد فروع نهر المشرح في العمارة وسمي ملفود التي تعني الممتلئ بلغة الجنوب الدارجة وكان خطا ملاحيا مهما يربط الريف بالمدن الكبرى
4ـ الجكة بالجيم المعجمة وتل عزيزة منطقتان في هور الحلفاية مسكونتان بالأساطير والحكايات.
5ـ الحبارى نوع من الطيور يبحث عنها الصيادون للحمها الطيب وتتواجد في الجنوب 6ـ الهامة طير يقف على القبور كان العرب يعتقدون أن روح الميت تسكنها



#عبد_الفتاح_المطلبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شجرةٌ في البرية
- حدث ذات يوم-قصة قصيرة
- قطط و أحلام
- نظرةٌ إنطباعيةٌ
- رجع قريب
- الشبيه
- يوم إستثنائي-قصة قصبرة
- طفوّ قصة قصيرة
- غنِّ يا حمام النخل
- يوميات طفل الحلم
- درب قصيدة
- سلاماً أيها الوطنُ المباحُ
- أيام صائد الفئران
- ربيع الكونكريت
- رياح الوجد-قصيدة
- رنين بعيد
- سمت الرؤى-قصيدة
- صيدالأرانب-قصة قصيرة
- عللاني بما مضى -قصيدة
- نزيهة ُ حبيبتي - قصة قصيرة


المزيد.....




- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الفتاح المطلبي - وادي السلام