|
سيكولوجية الانتخاب لدى الفرد العراقي
فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)
الحوار المتمدن-العدد: 1086 - 2005 / 1 / 22 - 08:15
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في علم النفس،يصنف سلوك الأفراد أثناء الانتخابات ضمن سيكولوجيتي ((الاتجاهات النفسية)) و((اتخاذ القرار))،إذ تتداخل عوامل كثيرة،ومن مستويات مختلفة،بعض معوق وبعضها الآخر ميسر لعملية اتخاذ الفرد للقرار الذي يتطابق حقاً مع توجهاته الفكرية وأهدافه الاجتماعية.لكن توظيف المجهر السيكولوجي في رصد وتقويم تجربة الانتخابات التشريعية المقرر اجراؤها بعد أيام،قد لا يروق للكثير من السياسيين الذين لا يستطيعون أن يجدوا في هذه الانتخابات إلا بعداً واحداً مباشراً يهيمن على كل الأبعاد الأخرى غير المباشرة،وأعني به البعد السياسي الذي يرى فيها حلاً (سحرياً) لمآسي مجتمع تعلم العجز والعدمية والتهرب من مسؤولية اتخاذ القرارات بشأن شؤونه المصيرية،طوال عقود من التحنيط المبرمج لعنصري العقل والإرادة في الإنسان.ومع ذلك تستطيع الرؤية النفسية الهادئة أن تشق لنفسها طريقاً واضحاً وثابتاً وسط صخب الخطابات السياسية المتناحرة حول مدى شرعية هذه الانتخابات وجدواها وأحقيتها،لتؤشر عدداً من الملاحظات ذات الطابع التحليلي لشخصية الفرد العراقي وهو يتعامل مع هذا الخيار الحضاري المتقدم،أي الانتخابات،في هذه المرحلة العاصفة والغامضة من تأريخ هويته النفسية والاجتماعية والإنسانية.ولنتخيل هذه الملاحظات على هيأة (حوار) مباشر يجري بين تساؤلات يومية ما برح الفرد العراقي يطرحها منذ أن أصبحت إشكالية الانتخابات واحدة من بين أولويات اهتماماته اليومية،وبين إجاباتٍ يجتهد المراقب النفساني للمشهد العراقي في تقديمها،مهما بدت مترفة أو أكاديمية وسط واقع مستقطب بين نصير ومعادٍ لهذه التجربة المخاضية التي تتحدى وعي مجتمع برمته: * هل يعد المناخ النفسي السائد حالياً في العراق،عاملاً مساعداً أم معرقلاً لتحقيق الهدف البعيد المرتجى من الانتخابات،أي تحقيق حكم الشعب لنفسه طبقاً لخياراته الواعية؟ - ما دامت المناخات النفسية في مناطق غير قليلة من العراق،ما تزال ملبدة بمختلف أنواع العنف والضغوط والتهديدات نتيجة تدهور مفهوم الأمن الاجتماعي والنفسي إلى أدنى درجاته،فإن من العسير أن نتصور إنساناً كالفرد العراقي،مهدد بالتصفية الجسدية،ومشوش التفكير،ومشتت الانتباه،ومضطرب الوجدان،يلهث وراء إشباع حاجاته اليومية للغذاء والدواء والماء والكهرباء والوقود،ثم يكون قادراً بعد ذلك على اتخاذ قرار دقيق ومستقر من الناحيتين الإدراكية والانفعالية بالتصويت لهذه القائمة أو تلك،أو بالاشتراك أصلاً في عملية التصويت أم مقاطعتها.يضاف الى ذلك،الغموض الإدراكي والمعلوماتي الذي يلف أذهان العراقيين تجاه العملية الانتخابية بأكملها،ابتداءاً من اسلوب الانتخاب والغايات منه،وانتهاءاً بالبرامج الاجتماعية والسياسية والفكرية للجماعات المشاركة والسير الذاتية لمرشحيها. * إذن،ما هو البديل الواقعي للانتخابات؟أو كيف يمكن استعادة المناخ النفسي المناسب لإجرائها؟ - لا بديل واقعي أو شرعي عن الانتخابات بوصفها ثقافة أولاً،تنمي التسامح والتشارك والقبول النفسي بالآخر مهما كان مغايراً.لكن كل ثقافة تحتاج الى بناء تربوي متدرج،إذ كيف يمكن الانتقال من النزعة الاستبدادية الى النزعة التشاورية على مستوى دولة ومجتمع بأكملهما بين ليلة وضحاها؟إن المراقب للتراجيديا العراقية،لا يجد صعوبة في اكتشاف الجهود الضخمة التي بذلتها وتبذلها الدبابةالأمريكية لسحب الشخصية العراقية من سيكولوجية التصالح والتعايش والتعددية المسالمة ضمن وحدة الهوية المجتمعية،الى سيكولوجية الشك والأنانية والطائفية العدائية ضمن اللاهوية المجتمعية،بتوظيف بارع لكل تكنيكات استثارة الاتجاهات التعصبية،ومنها السماح باستـنسال (الإرهاب) في مختبرات المخابرات الاقليمية،واعادة زرعه في التربة العراقية بوصفه (قدراً) يقتضي اقتلاعه بقصف مدن مأهولة وتخريب بناها البشرية والتحتية،وإهانة سكانها بمسميات طائفية،ومن ثم اقصائهم عن المشروع السياسي الموحد للبلاد،الذي اتفق كل العقلاء منذ البدء،ومنهم سكان تلك المدن والمحافظات،على أنه ينبغي أن يبدأ بالانتخابات.هذه هي اللعبة السيكو–دموية التي أغرق العراق بها،والتي جعلت من الانتخابات خياراً مشكوكاً بأحقيته لدى فئات سكانية وسياسية ونخبوية غير قليلة على الرغم من الجوهر النبيل المجرد الذي تستند اليه فكرة الانتخاب.ومع ذلك فإن استعادة المناخ النفسي الملائم نسبياً لإجراء الانتخابات ليس بالمستحيل (من الناحية النظرية على الأقل)،إذا ما تم التوصل أولاً وقبل كل شيء الى ابرام ميثاق وطني يضمن حداً أدنى من الوعي بمشتركية المكان والزمان،وبمعنى عقلاني للحياة بين كل الأطراف الفاعلة التي يتشكل منها النسيج المجتمعي في العراق.هذا هو البديل المرحلي الذي سيجعل من (صندوق الاقتراع) بالتدريج خياراً دائماً في العقل الجمعي العراقي. * هذا يجعلنا نستحضر الرأي المتشائم القائل أن الشخصية العراقية غير مستعدة نفسياً بعد لاستيعاب العملية الديمقراطية المنشودة.ما مدى صحة هذا الرأي؟ - إذا افترضنا أن الشخصية العراقية تعاني بنسبة معينة من جملة أعراض متزامنة،منها:قوالب التفكير النمطي،وضعف التسامح الفكري والاجتماعي،وإسباغ الخارقية على شخصيات سياسية أو دينية معينة،والقلق المرضي من الحاضر والمستقبل،والتلذذ بالألم والفشل بوصفهما عقاب لـ(آثامها)؛عندها لن يكون أمامنا إلا الاستنتاج بأن مسافة تاريخية غير قصيرة ما تزال تفصل الفرد العراقي عن لحظة امتلاك الوعي بضرورة الديمقراطية ببعديها الاجتماعي والسياسي،بوصفها منهج حياة يحفظ حقوق الأكثرية والأقلية في معادلة واحدة.ومع ذلك،فإن العمق الثقافي الذي تتمتع به هذه الشخصية نتيجة التراكمات الحضارية التي ترسبت فيها عبر التأريخ،جعلها أقل تصلباً أو تعنتاً مما تبدو عليه في الظاهر،بمعنى أن هذا التراكم الثقافي منحها مرونة إدراكية ومعتقدية وحتى انفعالية كامنة،يمكن استثمارها إيجاباً لإعادة تأهيلها ديمقراطياً ضمن إطار وعي اجتماعي جديد،جذره النفسي هو استبدال صورة (الآخر الخصم) بصورة (الآخر الشريك).إلا أن هذا التحول يظل مرهوناً بتوافر ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية أقل ظلماً،يقف في صدارتها انعاش الطبقة الوسطى المغيبة وتفعيل دورعا العقلاني والحيوي في استعادة التوازن النفسي لعموم المجتمع،وهو أمر لم يعد يتوقف على الداخل العراقي بقدر تعلقه بالمحيط الإقليمي والعالمي.وتلك هي تراجيديا الشخصية العراقية،بأنها لم تترك لشأنها الداخلي الخاص طوال تأريخها. * فلنكن مواكبين للحدث،ونناقش ما سيجري في المراكز الانتخابية بعد أيام.هناك اعتقاد شائع بأن الفرد العراقي يمجد لاشعورياً القوة،لأسباب تاريخية و سياسية واجتماعية؟هل سينعكس ذلك في اختياره للمرشحين والقوائم التي سيصوت لها؟ - فلنذهب أبعد قليلاً كي نوضح كل أبعاد هذا الاعتقاد الشائع.هل الفرد العراقي يمجد القوة،ولا يفهم إلا لغة القوة لأنه يعشق العنف ويجد فيه قيمة تستحق التمجيد؟أم أن تمجيده للقوة وخضوعه لها ما هو إلا آلية دفاعية جمعية يطلق عليها ((الماسوشية الاجتماعية))،وظيفتها الظاهرية هي التلذذ بالألم وطاعة السلطة القاسية،أما دينامياتها النفسية فهي تبرير سادية المآسي والنكبات (ما دامت غير قابلة للرد أو المنع)بوصفها عقاباً عادلاً وضرورياً عن (الآثام) التي ارتكبها المجتمع؟!يبدو أن التفسير الثاني له الأرجحية،لأن القرائن الدالة على صوابه كثيرة في الحياة العراقية.فمشاعر الذنب ولوم الذات والانتقاص منها أصبحت جزءاً من الحياة اليومية لشريحة واسعة من العراقيين،بل إنها توغلت إلى أبسط مفرداتهم اللغوية المتداولة،والتي يحاولون بها تفسير ما يحل بهم من محن وآلام،أمثال:((نستاهل ..حيل بينا))،و((إحنا مو خوش اوادم))،و(( الله غاضب علينا ..))،وغيرها كثير.ولذلك لا يجوز موضوعياً أن نقول ((إن الفرد العراقي يمجد القوة))،بل يجب أن نستطرد في التوضيح،ونقول ((الفرد العراقي مضطر لتبرير معاناته –التي لا سبيل لتجنبها –،بإعلانه أنها تكفير عن ذنوبه،مخففاً بهذا التفسير الماسوشي من قلقه تجاه مظالم لا منطق فيها ولا مبرر معقول لها.إلا أن هذا التبرير الدفاعي الداخلي يتخذ له مظهراً سلوكياً خارجياً متمثلاً بتمجيد القوة)).ولذلك ليس من المتوقع أن العملية الانتخابية القادمة – داخل العراق لا في المهجر– ستخرج عن هذا المناخ النفسي أثناء التصويت،باستثناء نسب قليلة متفرقة هنا أو هناك.غير إن مفهوم القوة هذه المرة لن يكون البطش والعسف المباشرين،بل هو السلطة المعنوية (المقدسة) التي تتمتع بها بعض القوائم الانتخابية في نفوس أنصارها،على أسس إثنية أو طائفية أو عشائرية أو حتى ايدولوجية رومانسية. * كثيراً ما يوصف الفرد العراقي – حتى من العراقيين أنفسهم– بأن (الازدواجية) هي من أهم سمات شخصيته.فهل سنتلمس هذه السمة في اختيارات هذا الفرد لمرشحيه في الانتخابات القادمة؟أم إنه سيستطيع التعبير بشكل متسق عن اختياراته؟ - هناك جدال غير محسوم حول هذا الافتراض الذي بدأه الدكتور علي الوردي،إذ يبدو أن فكرة (الازدواجية) تلاقي هوىً جمعياً لدى العراقيين،يمكن أن يصنف في باب الانتقاص المَرَضي من الذات.ففي الغرب،توصلت بعض دراسات علم النفس الاجتماعي المتخصصة بسيكولوجية الانتخابات،إلى أن فئات من مجتمعات تلك البلدان تعاني أثناء توجهها إلى صناديق الاقتراع مما يسمى بـ((التـنافر المعرفي))Cognitive Dissonance،أي أن الفرد تتنازعه فكرتان متناقضتان في آن واحد،فيجد في نفسه ميلاً إلى فكرة معينة والى نقيضها معاً بسبب عوامل الجذب والإقناع التي تتضمنهما كلا الفكرتين.ولذلك نجد العامل الأمريكي مثلاً يصوت في الانتخابات النقابية لصالح مرشحين شيوعيين،ثم يعود ليصوت في العام نفسه إلى مرشح الحزب الجمهوري أو الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية.ولهذا السلوك (المزدوج) جذوره الاقتصادية التي لا مجال للحديث عنها الآن.فما بالنا بالناخب العراقي،وهو يخطو خطوته قبل الأولى نحو صناديق الاقتراع؟ والى جانب معضلة ازدواج السلوك هذه،فإن تحليلاً فلسفياً وسوسيولوجياً وسيكولوجياً أبعد لمفهوم الانتخابات،يجعلنا نوغل في احتمالات فكرية ذات طابع إشكالي عميق،إذ كيف نستطيع أن نصدق أن فرداً فاقداَ لجزء أساسي من حريته الانسانية (بمعناها الاجتماعي والنفسي والاقتصادي)،بمقدوره أن يمارس (حريته) السياسية من خلال التصويت لشخص أو لجهة سياسية لا يمكن ضمان اخلاصها لمبادئها المعلنة على الدوام؟وهل أن شخصية (الناخب) هي ذاتها شخصيته الاجتماعية،أم انه يجنح الى تحريف العديد من اتجاهاته ومعتقداته الذاتية (متقصداً أو مضطراً بتأثير الترغيب والتهديد وغسل الدماغ)،أثناء رحلته الى صندوق الاقتراع؟هذه الاحتمالات والتساؤلات ذات المضمون الفلسفي–النفسي،تقف في مقدمة التحديات التي تواجه التطور السياسي لدولة العراق،وما إذا كانت الانتخابات القادمة ستكون خطوة ثابتة على طريق استعادة الفرد العراقي لثقته بأن المجتمع هو إطاره الحيوي لتعميق معنى وجوده في هذا العالم،أم إنها ليست أكثر من كلمة (حق) يراد بها ترسيخ ثقافة (الباطل) والاغتراب واللامعيارية في اللاشعور الجمعي للعراقيين؟!
#فارس_كمال_نظمي (هاشتاغ)
Faris_Kamal_Nadhmi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سيكولوجية البطالة لدى حملة الشهادات الأكاديمية في العراق
-
المنظور الماركسي للحب بين الجنسين
-
رؤية نفسية في صور تعـذيب السجناء العـراقيين في أبو غريب : سا
...
-
العنف الجنسي ضد المرأة العراقية
-
سيكولوجيا الفوضى المرورية في المدينة العراقية
-
التحليل النفسي لشخصية العسكري الأمريكي في العراق
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|