|
الموت على طريقة الكوبوي! نرجسية الأمريكي بين ولاء الآخر وتحديه الجزء 1
التجاني بولعوالي
مفكر وباحث
(Tijani Boulaouali)
الحوار المتمدن-العدد: 1085 - 2005 / 1 / 21 - 12:09
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
حقيقة مصطلح الكوبوي من منا لا يعرف ولو نزرا يسيرا عن كلمة الكوبوي (cowboy)، وعن الأفلام التي ترتبط بصلة وثيقة بهذه الكلمة، التي تقابل أو تترجم في العربية برعاة البقر، ومن منا لا يعلم أصل هذه الكلمة الإنجليزي، وأين ظهرت أول ما ظهرت هذه الأفلام ذات المنبت والجو الأمريكي، ومن منا لم يشاهد ولو لقطات معدودة من هذه الأفلام الجميلة التي أتقنتها الصناعة الهوليودية، وبصمتها بطابع الجودة والمتعة والتشويق، ومن منا لا يتذكر أسماء أو وجوه أولئك الممثلين الساطع نجمهم، الذين انشدت إليهم أنظار الملايين المتعطشين والمشغوفين بالسينما والصورة والحركة... عبر سائر أرجاء المعمورة. كلنا، إذن، أو أغلبنا يعرف ولو جانبا معينا مما توحي به كلمة الكوبوي، وإن لم يعرف أو خانته الذاكرة فما عليه إلا أن يستحضر صورة ذلك الرجل الأمريكي، الذي طالما نراه في إشهار خاص بسجائر المارلبورو، وهو يشعل لفافته بعود يابس يأخذه من حوض النار.
لكن، من منا يستطيع استكناه الدلالات العميقة لهذه الكلمة الإنجليزية المشهورة، التي تتداول على كل الألسنة، ولو أنها لا تفقه شيئا من هذه اللغة التي تنتمي إليها هذه الكلمة، بل ولا تدري أنها أصلا كلمة إنجليزية! ومن منا يملك إمكانية استنباط الجانب الوظيفي لذلك الرجل أو الإنسان الذي يطلق عليه اسم الكوبوي؛ هل هو مجرد راعي بقر مثل أقرانه من رعاة الماعز بجبال الأطلس، أو الإبل بالجزيرة العربية وما يتاخمها من بلدان، أو الأغنام بسهول أستراليا الخضراء وهضاب ايرلندا الخلابة، أو اللاما بأراضي البيرو؟ أم أن وظيفته تتعدى الرعي إلى ما هو أبعد من ذلك، وهذا ما يمكن أن تلاحظه في تلك الأفلام، التي تصور لك الكوبوي كراعي بقر، ليس كأمثاله من رعاة الحيوانات الأخرى في البلدان الأخرى، فهو يتميز بصفات جذابة وخارقة، تجعلك تتعاطف معه في محنته مع الحيوان (البقر، الخيل، الأفاعي، الطيور...) والطبيعة (الجبال الوعرة، الوديان، المغارات، الصحاري...) والإنسان (الهنود الحمر)، ومن منا بإمكانه تأويل ذلك الصلف والغرور الذي يتحلى به هذا الرجل، وهو في حقيقة الأمر، إنما استمده من هويته الأمريكية المجبولة على الاستعلاء والكبر والتفرد المصطنع.
إن مصطلح الكوبوي يتعدى دلالته الحرفية أو اللغوية التي تعني راعي البقر، إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يحيل على ذلك الإنسان الأمريكي المسكون بهاجس الحركة، بحثا عن مغنم ما أو مورد ما أو ثروة ما، مما يجعله يقع باستمرار في التنازع مع الآخر، وهذا الآخر يتعدد حسب السياق الذي يتموقع فيه الكوبوي، باعتباره صانعا للحدث إن حقيقة أو زعما، ومن ثمة يستحق ـ وفق السرد الفيلمي والأسطوري ـ أن يكون رمزا للقوة والتفرد والشخصية المتميزة والخارقة. هذه الخصائص المستملحة التي ينبهر بها متلقو أفلام الكوبوي، لا تكون أو تنشأ إلا في مقابل خصائص أخرى مستكرهة أو مستهجنة منسوبة، سواء للخصم التاريخي الذي هو الإنسان الهندي الأحمر، أم للخصم المستقبلي الذي سوف يحاول الكوبوي تكرار نفس السيناريو القديم معه، ليضمن بذلك الاستمرارية والديمومة لأسطورة الإنسان الأمريكي المتميز!
صمود الهنود الحمر التاريخي في وجه الكوبوي
عندما نتصفح التاريخ الأمريكي، الذي هو في الحقيقة تاريخ الرجل الأوروبي الأبيض الذي دخل القارة الأمريكية مستعمرا، فأصبح مُعمّرا، نكتشف مدى حجم التزييف والطمس الذي مس هذا التاريخ، عندما غُيّب السكان الأصليون الذين هم الهنود الحمر، ليس فقط من متون الأسفار، بل كذلك من تقاسيم الجغرافيا، كما غيب الأمازيغ والأكراد والأهواز وغيرهم من التاريخ الرسمي للدول العربية والإسلامية، لكن الأفلام التي تقدمها معامل هوليود للصناعة السنيمائية، لا تحكي التاريخ بهذا الضمير الحي الذي يشير إلى أن أسطورة الكوبوي، إنما شيدت على أنقاض أسطورة الهنود الحمر، بقدرما تسرد أقاصيصها بلسان الإنسان الأمريكي الذي يواجه الخطر الهندي من كل حدب وصوب، حيث الموت المحمول على رأس رمح أو المودع في رأس سهم قد يداهمه في كل مكان أو آن، لذلك فهو يعيش في حذر دائم وحيطة مستمرة وحركة دءوبة، مما يجعل الفيلم أكثر إثارة وتشويقا، وهذا هو الهدف الهام الذي يخطط له مخرجو ومنتجو ومشكلو هذه الأفلام، لكن في لب هذا الهدف الهام ينطوي ما هو أهم؛ إنه ذلك الخطاب الأيديولوجي الذي ينسج هالة من الروعة والتفرد حول الكوبوي، الذي يرمز إلى كل أمريكي مسكون بقيم الهوية الأمريكية، التي تنزع إلى السمو على باقي الأجناس والثقافات والألوان والديانات، وهو بذلك يُسَوِّق المفاهيم والأفكار (الديموقراطية، حقوق الإنسان، النظام العالمي الجديد، العولمة...) والسلع والبضائع (الماكدونالدز، الكوكاكولا، الجينز...) وغير ذلك من المنتوجات الرأسمالية.
على هذا الأساس يبدو أن ما تقدمه أفلام الكوبوي يناقض حقيقة الواقع أو واقع الحقيقة، ويزور تاريخ العالم الجديد الذي اكتشفه الرجل الأوروبي (كريستوف كولومبوس)، ويحرق ذلك التاريخ الأصلي الذي تبدأ منه أمريكا الحقيقية، ألا وهو تاريخ الهنود الحمر، وفي هذا دلالة عميقة على أن الرجل الأمريكي الأبيض إنما هو أمريكي ليس بالتاريخ والأصل والجذور، بل بالاستعمار والاستحواذ واسترقاق الناس، فتاريخه يبدأ من يوم سطا على أرض الغير وراح يعيث فيها فسادا، بقتل أشدائها، وسبي نسائها، وتعذيب شيوخها، ونهب خيراتها، وهو بهذا ـ أي التاريخ الأمريكي ـ يبدأ بصفحة سوداء، موشومة بجرائم الأوروبيين الذين داهموا بقضهم وقضيضهم عالما كان ينعم بالهدوء والسلام والطمأنينة، فقلبوا حقيقة التاريخ رأسا على عقب عندما اعتبروا استعمارهم لأمريكا اكتشافا، وسرقتهم لتراث الهنود الحمر دفاعا عن النفس، ومسخهم لهوية السكان الأصليين تحريرا.
وهذا السيناريو نفسه نشاهده مرارا وتكرارا في أفلام الكوبوي. هذه الأفلام التي تكرس مفهوم أو فكرة الصراع المستمر الدائرة رحاه بين الإنسان الأبيض (الأوروبي القديم/الأمريكي الجديد) والإنسان الأحمر (الهندي/الأصلي)، وهذا الصراع يكون حول الأرض، والأرض هنا لا تدل على تلك البقاع المحدودة التي تصورها الأفلام، وإنما تحيل على أمريكا برمتها التي هي تاريخيا ملك سكانها الأصليين، والصراع هنا ينسجه طرفان؛ أولهما المستعمِر الذي يؤدي دوره الكوبوي/الدخيل/الجلاد، وثانيهما المستعمَر الذي يتمثل في الهندي الأحمر/الأصيل/الضحية. ويحاول الكوبوي السينمائي بشكل أو بآخر تبرير ذمة الأمريكي الأبيض، وجعله رمزا للتحرر والعدالة والأمن، وتحت هذه المفاهيم المزيفة التي اكتسبت شرعية قانونية، كما اكتسب كذلك مفهوم محاربة الإرهاب طابعا شرعيا، يتم قهر الهنود الحمر وإقصائهم وطردهم من المجتمع المدني بإبعادهم عن المدن أو عزلهم في محميات، والقهر هنا، يتخذ أشكالا متنوعة، كأن يكون معنويا يحطم نفسية الهندي الأحمر بالإساءة إلى مقومات هويته وثقافته، أو اقتصاديا بتجويعه وفصله عن موارد العيش الكريم، أو سياسيا بإقصائه عن المشاركة السياسية، أو غير ذلك.
تشير بعض التقارير إلى أن عدد السكان الأصليين الذين هم الهنود الحمر، يصل إلى حوالي 4,1 مليون نسمة، وهذا الرقم يشكل 1,5% من العدد الإجمالي لسكان الولايات المتحدة الأمريكية، الذي سوف يتجاوز السنة الحالية 295 مليون نسمة، كما توقع مكتب الإحصاء الأمريكي، ثم إن ذلك العدد المتبقي من الهنود الحمر في الولايات المتحدة الأمريكية مشتت بين 556 قبيلة، ومن بين كل أربع قبائل تعاني قبيلة واحدة فقرا مدقعا، هذا بغض النظر عن أن أزيد من نصف مليون منهم يعيش في محميات مستقلة، حيث تتفشى مختلف السلوكات المنحرفة كإدمان الخمور والمخدرات والانتحار ونحو ذلك.
استنادا إذن، إلى هذه المعطيات الواقعية يمكن أن نسجل ملاحظتين؛ أولهما هي أننا عندما نقابل عدد الهنود الحمر الرسمي بالبقية الباقية من سكان الولايات المتحدة الأمريكية، نرى أن ثمة بونا شاسعا، حيث لا قياس مع وجود هذا الفارق الضخم، وهذا يعني في حد ذاته مدى شراسة سياسة الإبادة التي سنها الاستعمار الأوروبي لأراضي العالم الجديد، هذه السياسة التي ما تنفك الدولة الأمريكية الحديثة تمارسها، عن طريق عزل الهنود عن واقع الحياة المدنية وإلقائهم في المحميات وعلى هوامش المجال الحضري. وهذه الملاحظة العلمية تقودنا إلى استخلاص ملاحظة ثانية حول تناقض خطاب السياسة الأمريكية، التي تُنَصِّب نفسها باعتبارها راع للأمن العالمي وحام لحقوق الإنسان، لكنها تغمط حقوق فئة مهمة من الشعب الأمريكي، والأفظع من ذلك أن ذلك الغمط والتهميش يطال ما هو حضاري في التاريخ الأمريكي، فطمس هوية الهندي، ومسخ مقومات ثقافته، والحد من امتداده الواقعي والتاريخي يعني بشكل أو بآخر حرق جذور الحضارة الأمريكية، التي ما هي إلا استنساخ للحضارة الاستعمارية الأوروبية، وجعلها حضارة لقيطة بلا بداية أو أصل حقيقي يتجذر في التربة الأمريكية. من خلال هاتين الملاحظتين، يبدو جليا السلوك الطاغي على عقلية الإنسان الأمريكي الأبيض، وهو سلوك ينزع إلى عدم الاعتراف بالآخر، بل والتضحية بهذا الآخر من أجل المصلحة الذاتية، وهذا ما يحيلنا على ممارسات الاستعمار التقليدي الذي راح يرتكب أبشع المجازر، قصد تعبيد الطريق نحو تحقيق أهدافه ومقاصده الكولونيالية، وهذا يعني أن هذا الأمريكي إنما ورث سلوكه التسلطي هذا المسكون بالعجرفة والاستبداد والأنانية عن أجداده الأوروبيين، الذين بلغ جشعهم إلى حد المتاجرة في الإنسان الأفريقي عبر أسواق النخاسة والاسترقاق، التي كان قد تصدى لها الإسلام، فتلاشى مفهوم تجارة العبيد من قاموس الإنسانية أثناء المد الإسلامي، لكن الأوروبيين أحيوا هذا المفهوم من جديد، فصارت أمريكا آنذاك أكبر مستورد ومستقبل للرقيق الأسود المستجلب من أفريقيا. في المقابل كان السكان الأصليون يتعرضون للموت على طريقة الكوبوي، حيث يتخذ الموت طابعا إباديا، يستهدف التنحية الكاملة للهنود الحمر من ذاكرة التاريخ الأمريكي، لكن رغم وحشية هذا الموت، ولا شفقة الكوبوي، فإن السكان الأصليين للولايات المتحدة الأمريكية لم يتنحوا، وأن الهوية التي يحملونها لم تتلاش معالمها، بل وأن الثقافة التي يمثلونها استطاعت أن تتجاوز الحدود، وتجد من يتجاوب معها من غير الهنود الحمر، فيستفيد من إمكاناتها الإبداعية المتميزة، ويتقمص بعض جوانبها الإنسانية وهكذا.
#التجاني_بولعوالي (هاشتاغ)
Tijani_Boulaouali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نشيد الغضب
-
أزمة الإعلام البصري الوطني وتحديات المستقبل
-
حوار مع المفكر العربي د. حسن حنفي
-
بنية الثقافة الهولندية والحضور الأجنبي
-
أيها الأفاضل؛ هنيئا لكم ولو كنتم حزانى!
-
رغيف الأسى - شعر
-
ثقافة الحوار أساس التعايش الإيجابي بين كل مكونات المجتمع
-
مقاربة موضوعية لكتاب انهيار الصنم للكاتب العربي د. خالد شوكا
...
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|