نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 3690 - 2012 / 4 / 6 - 22:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قراءة في كتاب محمد شرارة من الإيمان إلى الفكر الحر لكاتبة بلقيس شرارة
نبيل عبد الأمير الربيعي
من خلال قراءتي لكتاب (محمد شرارة من الإيمان إلى حرية الفكر) تأليف ابنتهُ بلقيس شرارة الصادر عن دار المدى للثقافة والنشر عام2009 الذي احتوى على 460 ورقة من الحجم الكبير, شعرت بأني قريب من هذا المناضل والشخصية الوطنية الفذة , الجريئة والمدافعة عن حقوق الإنسان بسبب انتماءه للفكر الماركسي وتبنى مفاهيمها النظرية , يبقى محمد شرارة ذلك المناضل المتميز بمواقفهُ والذي أصبح قريب الأحاسيس منا , علماً إن الفترة التي عاشها كانت بعيدة عن مرحلتنا العمرية وعالمنا الآن, فهو المؤمن بالمساواة ويرفض الفروق الطبقية التي لها دور في تصنيف الناس في المجتمع , ويعود سبب ذلك لاطلاع محمد شرارة على حركة التنوير في القرن الثامن عشر وكذلك اطلاعه على النظرية الماركسية التي سندت موقفهُ في هذا الاتجاه , لذا فقد علمّ أبناءه على احترام الإنسان كإنسان بغض النظر عن الطبقة والعرق والدين واللون كما ذكرت الكاتبة بلقيس شرارة.
ويعتبر هذا الكتاب مصدر ومرجعاً لتحليل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التي مر بها العراق منذ منتصف العشرينات ولغاية رحيل محمد شرارة الذي حلل واقع العراق في جميع مجالاته من خلال مقالاته الغزيرة التي عرضت بعضها الكاتبة في هذا الكتاب وبعض الأشعار التي توصف الحياة النضالية للقوى الوطنية واليسارية في انتفاضاتها ومسيراتها أبان الحكم الملكي , وبعض المشاهد العاطفية التي تخللت رحلة العمر للمناضل محمد شرارة .
تطرق الكتاب إلى وصف مدينة النجف التي تتصف بالجو الديني والجانب الثقافي والاجتماعي , إذ صدرت فيها الصحف والمجلات الأدبية والثقافية التي تدعوا بعضها إلى لإصلاح الاجتماعي ومن هذه المجلات "الهاتف والحضارة والغرّي والبيان" وقد كتب بهذه المجلات الراحل محمد شرارة ومحمد مهدي الجواهري وعلي الشرقي وجعفر الخليلي وسعد صالح وحسين مروة.
كان الراحل محمد شرارة من طلبة المدارس الدينية في هذه المدينة والمولود عام1906 في ضيعة بنت جبيل في لبنان ,وقد أشارة الكاتبة إن والدها قد ترعرع في بيت ذات مناخ أدبي و ديني وقد تشرب بالشعر منذ الطفولة وأصبح جزءاً مهماً من حياته , وعند بلوغه سن الرابعة عشر عام1920 ترك لبنان متجهاً إلى مدينة النجف حسب رغبة والدهُ علي شرارة ,في تلك الفترة كانت النجف تضم نحو أربعين مدرسة تستخدم لدراسة العلوم الدينية ومبيت الطلبة الوافدين , كانت الدروس تلقى في الجوامع والمساجد منها" مسجد الخضراء وجامع الطوسي ومسجد الترك وجامع الهندي إضافة إلى الصحن الشريف " , و من أشهر المدارس وقتذاك مدرسة كاشف الغطاء ومدرسة الجواهري ومدرسة الشيرازي ومدرسة الآخوند ومدرسة اليزدي .
حيث أشارة الكاتبة إن محمد شرارة كان متزوداً بالعلوم الدينية والثقافة العامة وكان يرغب بتعلم اللغة الانكليزية للإطلاع على الثقافات الأجنبية أسوةً بزملائه حسين مروة وأحمد مغنية ومحمد حسن الصوري, ويؤكد زميلهُ الأديب إبراهيم الوائلي إن محمد شرارة"كان مزوداً بثقافة رصينة فإذا ناقش وجادل كان يناقش عن فهم ودراية , وكان لامعاً بين زملاءه من الطلاب.. كان يحب التجديد ويحب التطور , لا يؤمن بالرجعية بكل أشكالها وأبعادها ,كان شعرهُ لا يقل عن نثره تأثيراً في النفوس وربما كانت قصائدهُ التي ينشرها في الهاتف أشد تأثيراً في نفوس القراء , لما فيها من عذوبة وجمال وتصوير وانسياب ".
كما أشارة الكاتبة إلى الجمعية التي تشكلت أواخر عام1929 داخل الوسط النجفي والتي ضمت الطلبة اللبنانيين والعراقيين وقد أطلق عليها "جمعية الشبيبة العالمية النجفية" كان محمد شرارة من أبرز هذه المجموعة إضافة إلى الشيخ محمد حسين الزين والشيخ علي الزين والسيد هاشم الأمين وحسين مروة , أما من العراقيين الشعراء كان د.عبد الرزاق محيي الدين وصالح جعفر آل كاشف الغطاء ومحمد صالح بحر العلوم وآخرون , الجمعية أدبية فكرية تهدف إلى "مناهضة الأسلوب القديم في الأدب وترفض كل ما يعيق التطور للأدب ويمنعهُ من مواكبة الحركة التجديدية والتطورية " , كما دعت إلى الإقدام على خرق جدار التزمت والتطلع إلى التخطي العملي للأفق الثقافي الضيق السائد في مدارس النجف , ولتلك الرؤية الشحيحة القاصرة البائسة لمعنى العلم والمعرفة , وقد دعا محمد شرارة إلى إصلاح نظم الدراسة في مدارس النجف وتغيير المناهج نحو الأفضل , كان سبب هذه الدعوة الإصلاحية لاطلاعه على التطور الحاصل في الغرب والذي يدعوا إلى تحليل الظواهر وليس الاطلاع على النصوص القديمة للتوضيح أو التأويل والتجديد لها.
وتصف الكاتبة بلقيس شرارة في كتابها أسباب الانفتاح على ظاهرة العلوم المتطورة في الغرب فقد اطلع بعض طلبة المدارس الدينية في النجف على هذه العلوم بسبب القراءات المتنوعة ومنهم الراحل محمد شرارة , فمدينة النجف هي القارئة ولها اتصال بالعالم الخارجي عن طريق الكتب والصحف والمجلات التي تصلها بانتظام من مختلف البلدان , إضافة إلى صحفها ومجلاتها التي تصدر في هذه المدينة المتحفظة منها" مجلة النجف والفجر والراعي والهاتف والاعتدال والغري والرابطة " , إضافة إلى التفاعل الحاصل بين أبناء النجف مع الطلبة الوافدين إليها ذات الثقافات المتنوعة , فيتم عبرهم التفاعل والاختلاط والحوار وهم من شتى أرجاء العالم الإسلامي.
كان الراحل محمد شرارة يدرس العلوم الدينية وهو على تواصل للإطلاع على العلوم الأخرى والتغلب على تعلم اللغة الانكليزية من خلال الاتصال بأساتذة اللغة والمتابعة , لكن عام 1930 زار الأهل في ضيعة بنت وقد تزوج ابنة الشيخ كريم الزين ثم العودة إلى النجف للدراسة والاستقرار وقد بدأ حياة جديدة بعيدة عن العيش مع الطلبة , كان شرارة مرهف الحس الوطني وقد حصل على الجنسية العراقية بعد أن منحت لكل العرب المتواجدين في العراق أبان منحها للملك فيصل الأول ملك العراق بعد تنصيبهُ على العرش ,بدأ شرارة كتابة المقالات وطرح أفكاره بصراحة وجدية في مجلة الهاتف الصادرة في النجف وصاحب امتيازها جعفر الخليل الذي أسسها عام1935, فكانت مقالاته ثورة على المفاهيم البالية ,بسبب خلافاته الفكرية فقد ترك الدراسة في مدارس النجف وتوجه للتعليم في المدارس الحكومية , حيث بدأ الاطلاع على مختلف التيارات الفكرية والإيديولوجية والعلوم الإنسانية , وقد اصطف معهُ زميلهً حسين مروة الذي رغب في العمل في المدارس الحكومية و تم تعيينهم في ثانوية الناصرية بتدريس اللغة العربية , و من حسن حظه إن وزير المعارف آنذاك محمد رضا الشبيبي الذي رغب بتعيين خريجي المدارس الدينية في النجف وقد فضلهم على الأساتذة المصريين ,الذين كانوا يشغلون المناصب في وزارة المعارف , ثم التحق بهم عام1936 صدر الدين شرف الدين وهاشم محسن الأمين .
وتشير الكاتبة إلى مقالات والدها محمد شرارة الوطنية والإصلاحية في مجلة الهاتف , وبسبب هذه المقالات اللاذعة لوزارة المعارف والحكومة الملكية , أخذت العقوبات بحقه منها نقله من لواء الناصرية إلى الديوانية ثم الحلة ثم اربيل وبعدها الاستقرار في بغداد , في مدينة الحلة بين عام 1942-1944 انسجم مع أهلها وكان زميلهُ في التعليم الوطني جاسم الرجب ذو التوجه الماركسي , مما أصبح محمد شرارة متهيئاً فكرياً لاعتناق الفكر اليساري والاطلاع على الكتب الماركسية وبسبب فتح السفارة السوفيتية في بغداد وأصبحت الكتب اليسارية متداولة بين الطبقة المثقفة , وقد انغمر بمطالعة الأدب اليساري وبدأ بترجمة قصائد شاعر الهند طاغور وقصص للروائي مكسيم غوركي وبرناردشو , وبعد تأسيس حركة أنصار السلام فقد انظم إليها عام1954 وكان المدافعين عنها بمقالاته اللاذعة منها" غارة جديدة على أنصار السلام" التي نشرت في مجلة الوادي عام1954 رداً على هجوم رئيس وزراء العراق فاضل الجمالي الذي وصف أعضاء الحركة بأعداء السلام, كما نشر الكثير من المقالات التي يدافع بها عن المرأة ودورها في المجتمع ودعوتها للتعلم وقيادة المجتمع , بعد انتماءه للحزب الشيوعي العراقي في نهاية الأربعينات من القرن الماضي فقد اتجه مع رفيقهُ حسين مروة إلى التحليل الماركسي في الكتابة وفي أغلب مقالاته المنشورة وقد اعترف بأن المجتمع العربي لا يزال متخلف وخاصة المرأة العربية فقد ذكر في مقالة " المرأة أيضاُ " المنشورة في جريدة الساعة : إن المرأة في الشرق لا يختلف رأيها في قيمتها عن رأي الجمهور اللهم إلا النادرات من النساء" , وقد نشر محمد شرارة مقالتين في مجلة الثقافة الجديدة في عدد نيسان 1954 وهو العدد الثالث والأخير عن الروائي العراقي شاكر خصباك والثاني عن الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف ثم أغلقت المجلة وسحبت إجازتها في العهد الملكي.
بعدَ اطلاعه على الأدب الواقعي والنظرية الماركسية حيث بدأ بالتفسير المادي للظواهر الاجتماعية والتاريخية ,و يبحث عن رؤى جديدة لتسخير قدراته خدمة للمفاهيم الإنسانية , كما انظم زملاءه لهذا الحزب من الذين كانوا يرغبون في التغيير نحو الأفضل , فقد ظهرت فكرة تقسيم فلسطين عام1947 وبسبب تجديد معاهدة بورتسموث أيام رئيس الوزراء صالح جبر ودعوة القوى الوطنية والطلابية للتظاهر عام1948 التي سميت وثبة كانون شارك شرارة في التظاهرات ودعوة الشعب للانتفاضة وإلغاء المعاهدة مما دعا الحكومة الملكية إلى إعلان قانون الأحكام العرفية , مما أدى إلى زج الكثير من الوطنيين واستشهاد بعض الطلبة منهم جعفر الجواهري واعتقال أعداد كبيرة من الحزب الشيوعي العراقي , ثم إعدام قادته في 15-شباط-1949 بعد المحاكمة الصورية , وقد اعتقل محمد شرارة في كانون الأول 1949 والشاعر محمد مهدي الجواهر وبدر شاكر السياب ومدحت عبد الله وآخرين وتم فصلهم من الوظيفة مع طرد 150 طالباً من مدرسة دار المعلمين الريفية .
لكن تعقب الكاتبة عن المعاناة التي مر بها والدها بعد خروجه ُ من السجن بدون عمل وقد اضطر للعمل كمدرس في المدارس الأهلية منها مدرسة شماش للطائفة اليهودية صباحاً ومساءاً يلقي محاضرات في المدرسة الجعفرية , وهذا العمل المتواصل قد أرهق محمد شرارة ,مع هذا كانت علاقتهُ الحميميه مع رفيقيه حسين مروة وصدر الدين شرف الدين , لكن محمد شرارة قد تأثر نفسياً بسبب إسقاط الجنسية العراقية عن رفيقيه حسين مروة وصدر الدين شرف الدين بسبب توجهاتهم الماركسية , فغادروا البلاد وأصبحوا قياديين في الحزب الشيوعي اللبناني.
ثم تشير الكاتبة إلى الحالات النفسية التي مرت بها العائلة بسبب ما تعرض محمد شرارة إلى الكثير من التهديد ومحاولات الاغتيال والفصل من الوظيفة والمطاردة من قبل رجال الأمن ,وقد عانى الكثير بسبب حملهُ الفكر الماركسي , فهو الإنسان ذات الشعور الوطني وفي مقابلة مع زوج الكاتبة رفعت الجادرجي يؤكد " فقد فصل في العهد الملكي وسجن في العهد الجمهوري بسبب مقالاته الوطنية وأسقطت عنهُ الجنسية في العهد البعثي وعاش بعيداً عن عائلته لعقد ونصف , ولكن عاد إلى بغداد بعد أن أعيدت لهُ الجنسية العراقية " .
عاش محمد شرارة سيرة مناضل من عشرينيات القرن الماضي ولغاية السبعينيات , فهي مسيرة رجل مستقيم يسعى لإصلاح المجتمع , و"لم يرغب بالمساومة مقابل المبادئ التي حملها, لقد آمن بالحركة التقدمية وهي الهدف الذي وضعهُ نصب عينية , فقد مرّ في مسالك وعرة مملوءة بالمحن والمصاعب بسبب جرأته في نقد الأوضاع التي كانت سائدة في العراق على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ,وتؤكد الكاتبة إن والدها محمد شرارة في ص 338 "كان يعرف جيداً إن الطريق الذي سلكهُ وعرّ و يتطلب منهٌ بذل التضحية في سبيل مفاهيمهُ الفكرية , فقد عرف السجن والمعتقلات والمطاردة والنفي و لكنهُ رغم كل ذلك اختار هذا الطريق المملوء بالصعوبات والمحن" , على الرغم من كل هذه الصعاب كانت دارهُ منتدى للشعراء والأدباء والثوريين و كانت تحضر لهذا المنتدى نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري و كانت سيرة محمد شرارة هي سيرة مناضل ومكافح وأديب , تضيء لمرحلة كاملة وتفضح أساليب وممارسات النظام المعادي للفكر اليساري التقدميوقد أشار حسن مروة في مقالة (محمد شرارة سيرة عبر تأريخ حقبة وتحولات إن " سياق هذه السيرة تغلب فيه صور المناضل على صورة المفكر ... إلى اعتبار أدبهُ نثراً وشعراً إنما يجيء وليد مكابدة .. إن كتاباته تتسم على الدوام بالواقعية وآراءهُ في الأدب تدافع على الالتزام بقضايا الشعب , وقصائدهُ تنم بشاعرية غنائية مهمومة بتطلعات الإنسان وحاجتهُ إلى الحرية والعدالة ".
فقد دفع محمد شرارة بمواقفه الوطنية والمبدئية الثمن باهظاً وتكبد الكثير من المتاعب والحرمان والآلام من الاستقرار ودفء الحياة العائلية حتى وافتهُ المنية في بغداد عام 1979 .
يؤكد الأستاذ محمد سعيد الصكار في مقالة بعنوان ( محمد شرارة الشجرة الوارفة)على موقع الحوار المتمدن العدد (2816) الذي واكب المسيرة النضالية مع الراحل محمد شرارة " يستحق(محمد شرارة) منا أن نتملى نجازه الفكري والأدبي بوجه خاص , في مدار أوسع مما في الكتاب . فهو ساحر الأسلوب , دقيق المعاني , أنيق العبارة, بارع التحليل , سواء في مساجلاته الفكرية والسياسية , أم في كتاباته الإبداعية , وفي كتابه( نظرات في تراثنا القومي) و ( المتنبي بين البطولة والاغتراب ) الذين جمعتهما الفقيدة حياة شرارة الكثير من تلك النصوص الثمينة الجديرة بالمراجعة والتقييم"
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟