أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - جماليات التلقّي















المزيد.....



جماليات التلقّي


أم الزين بنشيخة المسكيني

الحوار المتمدن-العدد: 3688 - 2012 / 4 / 4 - 01:38
المحور: الادب والفن
    


بقلم: هانس روبارت ياوس
ترجمة : د. أم الزين بنشيخة المسكيني

تاريخ الأدب : ضرب من التحدّي للنظرية الأدبية
لقد سقط تاريخ الأدب في هذا الزمان في حطّة شأن ما فتئت في تزايد مستمرّ ، وهي حطّة شأن ليست البتّة من قبيل ما هو غير جدير بالاهتمام. إنّ الدرب الذي آتّبعه هذا المجال الجليل منذ مائة وخمسين عاما ، هو، مثلما ينبغي أن يُعترف بذلك جيّدا ، دربُ الانحطاط المتواصل. فإنّ أعظم نجاحاته كلّها ترجع وبلا استثناء إلى القرن التاسع عشر. فكتابة تاريخ أدب أمّة بعينها في زمن جرفينوس Gervinus ، وشرر Scherer ولنسون Lanson ودسنكتيس Desanctis كانت بمثابة عمل يستغرق ويتوّج حياة فقيه لغة ودربه معا. إنّ الغاية السامية لهؤلاء البطاركة من خلال منتوجات الأدب هي تمثيل كيان قومي بصدد البحث عن ماهيته. (لكن) هذا الدرب الملكي ليس يكون اليوم أبدا سوى ذكرى بعيدة. [..]
ومن أجل محاولة سدّ الهوّة التي تفصل بين المعرفة التاريخية والمعرفة الاستطيقية، أي بين التاريخ والأدب ، بوسعي الانطلاق من جديد من الحدّ الذي وقفت عنده المدرستان (الماركسية والشكلانية).
إنّ مناهج هاتين المدرستيْن تدرك الواقعة الأدبية داخل الدائرة المغلقة لاستطيقا الإنتاج والتمثيـل ، وهما في ذلك إنّما تسلبان الأدب من بُعدٍ هو على ذلك ملازم ضرورة لطبيعة الأدب نفسها، من حيث هو ظاهرة استطيقية كما هو ملازم أيضا لدوره الاجتماعي : إنّه بُعدُ الفعل الذي ينتجه الأثر والمعنى الذي يمنحه له الجمهور ، أي بُعدُ «التلقي». إنّ القارئ والسامع والمتفرّج وفي كلمة واحدة الجمهور بوصفه عاملا مخصوصا لا يلعب في هذه النظرية أو تلك إلا دورا ضئيلا تماما. وحتّى الإستطيقا الماركسية الأرثوذكسية، حين لا تتجاهل تماما وببساطة القارئ هي لا تعامله بطريقة تخالف معاملتها للكاتب : إنّها تتحرّى عن وضعه الاجتماعي أو تبحث في كيفية تنزيله داخل النظام التراتبي للمجتمع الذي تمثله الآثار (الأدبية).
والمدرسة الشكلانية لا تحتاج إلى القارئ إلاّ بوصفه ذاتا مدركة ينبغي عليها ، ووفق ما يمليه النص (نفسه)، أن تتبيّن الشكل أو أن تكتشف الإجراء التقني له. إنّها تنسب إلى القارئ الذكاء النظري الذي لفقيه اللغة، والذي بمعرفته لإجراءات الفنّ يقدر على التفكّر فيها. وبالمثل تطابق المدرسة الماركسية بكلّ بساطة التجربة التلقائية للقارئ مع الأهمية العلمية للمادية التاريخية التي تسعى إلى الكشف داخل الأثر الأدبي عن العلاقات بين البنية الفوقية والبنية التحتية. ولكن – ووفق صياغة فلتر بولست (Walther Bulst )- « أبدا لم يُكتب أيّ نصّ ليُقرأ وليؤول على طريقة فقه اللغة أو من طرف فقهاء لغة » - أو، سأضيف، من طرف مؤرخين وبنظرة مؤرخ (1) .
إنّ المنهجين قد أغفلا القارئ ودوره الخاص الذي ينبغي بالكلّية على المعرفة الإستطيقية كما على المعرفة التاريخية أن تأخذه بعين الاعتبار ، إذ إليه أوّلا وأساسا يتوجّه الأثرُ الأدبي. ولأنّه حتّى الناقد الذي يقوّم منشورات جديدة ، أو الكاتب الذي يصمّم أثره بالنظر إلى النموذج الموجب أو السالب لأثر سابق، أو مؤرّخ الأدب الذي يعيد تنزيل الأثر في الزمان والتقليد الذي ينتمي إليه والذي يؤوّله تاريخيا : كلّ هؤلاء جميعا هم أيضا وقبل كلّ شيء قرّاء ، وذلك قبل أن يقيموا مع الأدب علاقة تفكّر تصير هي بدورها علاقة منتجة. فداخل الثالوث المكوّن من الكاتب والأثر والجمهور ليس يكون هذا الأخير محض عنصر انفعالي ليس له من الفعل غير ردّ فعل متسلسل. إنّ الجمهور بدوره يطوّر طاقة تساهم في بناء التاريخ. فحياة الأثر الأدبي في التاريخ لا يمكن تصوّرها من دون المشاركة النشيطة لأولئك الذين يُوجّه لهم هذا الأثر. إنّ تدخّل الجمهور هو الذي يدخل الأثر إذن ضمن الاستمرارية المتحرّكة للتجربة الأدبية، حيث لا يكفّ الأفق عن التغيّر وحيث يحدث باستمرار المرور من التلقي السالب إلى التلقي النشيط، ومن القراءة البسيطة إلى الفهم النقدي، ومن القاعدة الاستطيقية المقبولة إلى مجاوزتها بواسطة إنتاج جديد. إنّ الطابع التاريخي للأدب وطابعه التواصلي يفرض بين الأثر القديم والجمهور والأثر الجديد علاقة تبادل ونموّ ، وهي علاقة يمكننا إدراكها بواسطة مقولات من قبيل الرسالة والمرسل إليه والسؤال والإجابة والمسألة وحلّها. هذه الدائرة المغلقة لاستطيقا الإنتاج والتمثيل، حيث بقيت مناهج البحث الأدبي إلى حدّ الآن في جوهرها مناهج محدودة ، ينبغي إذن أن تفتح وأن تصبّ في استطيقا التلقّي والأثر المنتوج ، متى أردنا أن ندرك جيّدا كيف تنتظم متوالية الآثار في تاريخ أدبي متّسق.
إنّ هذا المنظور لاستطيقا التلقي لا يسمح فحسب برفع التناقض بين استهلاك سلبي وفهم نشيط وبالمرور من التجربة المكوّنة لقواعد أدبية إلى انتاج آثار جديدة. فإذا اعتبرنا بهذه الطريقة تاريخ الأدب من زاوية هذه الاستمرارية التي يخلقها الحوار بين الأثر والجمهور ، نتجاوز حينها أيضا الانفصام بين الطابع الإستطيقي والطابع التاريخي ، ونعيد بذلك الصلة التي قطعتها المدرسة التاريخانية بين آثار الماضي والتجربة الأدبية الحالية. وبالفعل فإنّ العلاقة بين الأثر والقارئ هي علاقة ذات طابع مزدوج ، استطيقي وتاريخي ،فالاستقبال الذي يُخصّ به الأثر من طرف أوّل قرّائه يتضمّن سلفا حكم قيمة استطيقي يُسند بالرجوع إلى آثار قُرأت سابقا. (2) وهذا الفهم الأوّل للأثر يمكنه فيما بعد أن يتسع وأن ينمو من جيل إلى جيل وأن يكوّن عبر التاريخ « سلسلة من التلقّيات » هي التي تحسم في الأهمية التاريخية للأثر وتعيّن مقامه ضمن التراتبية الاستطيقية.
إنّ هذا التاريخ للتلقّيات المتتالية ، والذي لا يمكن لمؤرخ الأدب أن يُعفي نفسه منه إلاّ بإمساكه عن الاشتغال على الفرضيات التي تؤسس فهمه للآثار وللحكم الذي يسنده لها ، قد يسمح لنا (وفي نفس الوقت) بإعادة تملّك آثار الماضي وإقامة اتّصالية لا تصدّع فيها بين فنّ الأمس وفنّ اليوم وبين القيم التي كرّسها التقليد وتجربتنا الأدبية الحالية.
إنّ تاريخا أدبيا مؤسَّسا على استطيقا التلقّي سيفلح في فرض نفسه بقدر ما يصير قادرا على المساهمة النشيطة في التجميع المستمرّ للماضي بواسطة التجربة الأستطيقية. إنّ الشروط اللازمة لمثل هذا الأمر هي من جهة –وذلك في مقابل الموضوعانية التي تنتهجها المدرسة الوضعية- البحث الواعي عن قوانين فنيّة جديدة ، وهي من جهة ثانية، إعادة الفحص النقدي ، وإن لم نقل تحطيم القوانين الأدبية الموروثة عن الماضي ، وذلك في مقابل الكلاسيكية الجديدة التي أفرزها الاشتغال على التقليد. وتحدّد استطيقا التلقّي وبشكل واضح المقياسَ الذي ينبغي أن يوجّه الإعداد لقوانين جديدة وكذلك لبناء لن يكتمل أبدا لتاريخ أدبي آخر. وهكذا حينما نمرّ من الأثر المفرد عبر التاريخ إلى تاريخ الأدب ينبغي أن ندرك وأن نبيّن كيف يبيّن ويوضّح التعاقبُ التاريخي للآثار هذا النظامَ الداخلي للأدب في الماضي وهو (أمر) يهمّنا لأنّه مصدر تجربتنا الأدبية اليوم(3). إنّه انطلاقا من هذه المقدّمات يتعلق الأمر الآن بالإجابة عن السؤال العالق بالكيفية التي ينبغي وفقها اليوم إعادة كتابة تاريخ الأدب والأسس المنهجية التي يقوم عليها ، وذلك عبر السبع أطروحات التالية (...) :
أطروحة 1
من أجل تجديد التاريخ الأدبي ، من الضروري اقصاءُ أحكام الموضوعانية التاريخية وتأسيسُ استطيقا الإنتاج والتمثيل التقليدية على استطيقا الأثر والتلقي. إنّ تاريخية الأدب لا تكمن في علاقة التناسق القائم بصفة ما بعدية بين « الوقائع الأدبية»، بل تقوم على التجربة التي يقيمها القرّاء الأوائل مع الآثار (الأدبية). إنّ هذه العلاقة الجدلية هي أيضا بالنسبة إلى التاريخ الأدبي المعطى الأوّل. ذلك أنّ مؤرّخ الأدب عليه أن يصير هو نفسه دائما ومن جديد ومنذ أوّل الأمر قارئا وذلك قبل التمكّن من فهم وتنزيل أثر ما، أي تأسيس حكمه الخاص على الوعي بمنزلته ضمن السلسلة التاريخية للقراء المتعاقبين. [..]
إنّ تاريخ الأدب هو سيرورة لتلقٍّ و انتاجٍ استيطيقيٍّ يتمّ ضمن تحيين النصوص الأدبية من طرف القارئ الذي يقرأ والناقد الذي يفكّر والكاتب نفسه المدفوع هو بدوره إلى الإنتاج . إنّ هذا الكم المتزايد بصفة لا متناهية للوقائع مثلما تجمعها التواريخ التقليدية للأدب ، ليست شيئا أكثر من حثالة هذا المسار ، ليس أكثر من ماضي جُمّع ونُظّم- أو شبه تاريخ ومن ثمّة ليس [53] تاريخا أصيلا. فاعتبار تعاقب مثل هذه « الوقائع الأدبية» بوصفه يمثّل وحده قسما من التاريخ الأدبي هو خلط الطابع الحدثي للأثر الفنّي مع طابع الواقعة التاريخية الموضوعية [...].
إنّ الحدث الأدبي لا يتضمّن وذلك خلافا للحدث السياسي نتائج حتمية منتجة لاحقا لوجود خاصّ ينبغي على الأجيال اللاحقة تحمّل تبعاته. فالحدث الأدبي لا يمكنه أن يواصل القيام بفعل ما إلاّ بقدر ما يعاد تلقيه من جديد من طرف الجيل اللاحق ، أو إذا ما وجد قرّاء من أجل إعادة تملّكه أو كتّاب من أجل إرادة محاكاته أو تجاوزه أو دحضه. إنّ الأدب بوصفه استمرارية حدثية متناسقة لا يتكوّن إلاّ في لحظة يصير فيها موضوع التجربة الأدبية للمعاصرين واللاّحقين قرّاء ونقّادا وكتّابا بحسب أفق الانتظار الخاص بهم. لن يكون إذن ممكنا فهمُ ووصفُ تاريخ الأدب في فرادته التي له إلاّ إذا أمكن أيضا الارتقاءُ بأفق الانتظار هذا إلى (مستوى) الموضوعية.
أطروحة 2
إنّ تحليل التجربة الأدبية للقارئ سيفلت من النزعة النفسانية التي تهدّده ، إذا ما أعاد ، وذلك من أجل وصف تلقّي الأثر (الأدبي) والأثر الناجم عنه ، تشكيل أفق انتظار جمهوره الأوّل، أي نسق المرجعيات التي يمكن صياغتها بصفة موضوعية ، والذي ينتج، وبالنسبة لكلّ أثر وفي اللحظة التاريخية التي يظهر فيها ، عن ثلاثة عوامل أساسية : التجربة السابقة التي للجمهور عن الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه ، شكلُ و موضوعُ الأعمال السابقة التي تفترض معرفتها مسبقا ، والتناقض بين اللغة الشعرية واللغة المستعملة أي بين العالم الخيالي والواقع اليومي.[..]
لكنّ إمكانية إعادة تكوين أفق الانتظار بصفة موضوعية أمر يعطى أيضا بالنسبة إلى آثار أقلّ عرضة للتشكيك في أصالتها التاريخية. ذلك أنّ هيئة القارئ قبالة أثر ما مثلما ينتظره الكاتب من جمهوره ، يمكنه أيضا وفي غياب أية إشارة صريحة ، إعادة بنائها انطلاقا من ثلاثة عوامل يفترضها كلّ أثر : القواعد المشهورة أو الإنشائية الخاصة بالجنس (الأدبي) ،و العلاقات الضمنية التي تربط النص بآثار معروفة حاضرة في سياقه التاريخي، وأخيرا التناقض ما بين الخيال والواقع أو ما بين الدور الإنشائي والدور العملي للغة، وهو تناقض يسمح دائما للقارئ المتأمّل لقراءته أن يقوم بمقارنات في الوقت نفسه الذي يقرأ فيه. وإنّ هذا العامل الثالث يوفّر للقارئ إمكانية إدراك أثر جديد سواء بالنظر إلى الأفق الضيّق لانتظاره الأدبي أم بالنسبة إلى الأفق الأكثر اتّساعا الذي توفّره تجربته المعيشة [...].
أطروحة 3
وهكذا فإنّ القدرة على إعادة بناء أفق انتظار أثر ما هي أيضا القدرة على تعريف الأثر بوصفه أثرا فنيّا بحسب طبيعة وحدّة مفعوله على جمهور ما. وإذا سمّينا « فرقا استطيقيا» المسافة الفاصلة بين أفق الانتظار الموجود سلفا والأثر الجديد الذي يمكن لتلقّيه أن ينتج « تغيّرا في الأفق» وذلك في الاتجاه المعاكس لتجارب مألوفة ، أو بجعلها تجارب أخرى وقع التعبير عنها لأوّل مرّة وبلغت بذلك وعي الناس بها ، هذا الفرق الاستطيقي ، الذي يقاس بسلّم ردود أفعال الجمهور وأحكام النقد (نجاح مباشر ، رفض ، فضيحة ، استحسان أفراد منعزلين ، فهم متدرّج أو متأخر) و جميعها يمكن أن يكون معيارا للتحليل التاريخي.
إنّ الطريقة التي يستجيب وفقها أثر أدبي ما ، وفي اللحظة التي يظهر فيها لانتظار جمهوره الأوّل ، فيتجاوزه أو يخيّب آماله أو يناقضه ، تقدّم لنا وبصفة بديهية معيارا للحكم على قيمته الأستطيقية. إن الفرق بين أفق الانتظار والأثر ، بين ما توفره التجربة الاستطيقية السابقة ممّا هو مألوف و« التغيّر في الأفق» (4) اللازم لاستقبال الأثر الجديد ، يعيـّن ، لاستطيقا التلقي ، الطابع الفني المخصوص لأثر أدبي . وحينما تنقص المسافة ولن يكــون الوعي المتلقّي مجبرا على إعادة التوجّه نحو أفق تجربة غير معروفة بعد ، يقترب الأثــر حينها من مجال الفنّ « المطبخي»،أي من مجال اللهو البسيط. وهو ما يعرّف بحسب استطيقا التلقي على وجه الدقة بكونه لا يتطلّب أيّ تغيّر في الأفق ، لكنّه وعلى العكس من ذلك يتلاءم تماما مع الانتظار الذي تثيره توجهات الذوق السائد : إنّه يلبّي الرغبة في النظر إلى الجميــل وقد أعيد انتاجه في قالب أشكال مألوفة ، يشهد على الحساسية في عاداته ، يستجيب لأمنيات الجمهور ويقوم منه مقام « الأمر المثير» (وذلك) في صورة تجارب غريبة عن الحياة اليومية ، وبلياقة متكلّفة ، أو أيضا يثير مشاكل أخلاقية - و لكن فقط من أجل "حلّها" بالمعنى الأكثر تقويّة كما حال الكثير من الأسئلة التي نعرف الإجابة عنها مسبقا (1) . وعلى العكس من ذلك إذا كان الطابع الفنّي المخصوص لأثر ما يقاس بالنسبة إلى الفرق الأستطيقي الذي يفصله ، حين ظهوره ، عن انتظار جمهوره الأوّل، فإنه ينتج عن ذلك أنّ هذا الفرق الذي بتضمّنه لطريقة جديدة في النظر يختبر أوّلا بوصفه مصدرا للذة أو للدهشة أو للحيرة ، (هو فرق) يمكن أن يزول بالنسبة إلى القراء اللاحقين – (وذلك) بقدر ما تكون السلبية الأصلية للأثر قد تحوّلت إلى أمر بديهي ، وأصبحت موضوعا مألوفا للانتظار وأدمجت بدورها في أفق التجربة الأستطيقية القادمة [...].
إنّنا لا نستنفد العلاقة ما بين الأدب والجمهور بقولنا أنّ لكلّ أثر جمهوره المخصوص الذي يمكن تعريفه بواسطة التاريخ وعلم الاجتماع ، وأنّ كلّ كاتب يرتبط بوسط و تصوّرات وايديولوجيا جمهوره ، وأنّ شرط النجاح الأدبي هو كتاب « يعبّر عمّا تنتظره المجموعة، ويكشف للمجموعة عن نفسها ». (5) إنّ هذه الموضوعانية المختزلة التي تربط النجاح الأدبي بالتلازم بين مشروع الأثر وانتظار المجموعة الاجتماعية هي دوما مصدر احراج للسوسيولوجيا الأدبية حين ينبغي عليها أن تفسّر مفعولا متأخرا أو دائما للآثار (الفنية) [...].
إنّ سوسيولوجيا الأدب لا تدرك موضوعها بالطريقة الجدلية الأتمّ حينما تقيم هذه العلاقة الأحادية بين الكاتب والأثر والجمهور. إن الحتمية (ههنا) هي حتمية ذات وجهين : توجد آثار ليست لها بعد علاقة مع أي جمهور محدّد لحظة ظهورها-لكنّها تقلب كلّية رأسا على عقب الأفق المألوف للانتظار إلى درجة أنّ جمهورها لا يمكن أن يظهر إلاّ بصفة تدريجية. (6) وفيما بعد عندما يكون أفق الانتظار الجديد قد فرض نفسه بشكل واسع ، فإنّ قوّة القاعدة الإستطيقية التي تكون عندئذ قد تغيّرت يمكنها أن تتجلّى حينما يشعر الجمهور بأنّ تلك الآثار التي خصّت إلى حدّ الآن بحظوة لديه هي آثار بالية فينزع عنها حينئذ تلك الحظوة. وإنّه حينما ندخل في الحسبان هذه التغيرات في أفق الانتظار ، حينها ، وحينها فحسب يدرك تحليل الواقعة الأدبية مستوى تاريخ أدبي للقارئ. (7) وإنّ البيانات الإحصائية المتعلّقة بالكتب الأكثر رواجا. إنّما تقوم مقام المعرفة التاريخية نفسها.
أطروحة 4
إنّ إعادة بناء أفق الانتظار مثلما كان يتجلّى في اللحظة التي وقع فيها قديما خلق الأثر وتلقيه تسمح علاوة على ذلك بوضع الأسئلة التي كان يجيب عنها الأثر ، (وتسمح) هكذا باكتشاف كيف تمكّن القارئ من النظر إليها وفهمها. وباعتماد هذا المسعى نقصي التأثير الذي يكاد يكون دوما لا واعيا (و) الذي تمارسه على الحكم الإستطيقي قواعد التصوّر الكلاسيكي أو الحداثوي للفنّ ، ونجتنب (بذلك) المنهج الدائري الذي يتمثّل في اللجوء إلى « روح العصر » فنظهر بوضوح الفرق التأويلي بين الحاضر والماضي في النفاذ إلى الأثر ونكون (حينئذ) على وعي بتاريخ التلقّي الذي يربط ما بين الأفقين. وهكذا نضع من جديد موضع سؤال وبوصفها عقيدة ميتافيزيقية لفقه لغة بقيت أو تكاد أفلاطونية ، البديهية المغلوطة لماهية شعرية لازمنية ، راهنة دوما يكشف عنها النص الأدبي ، ولمعنى موضوعي مثبت بصفة نهائية قابل للإدراك مباشرة وفي كلّ زمن من طرف المؤوّل. [..]
إلاّ أنّ محاولتي هذه بسعيها إلى تأسيس إمكانية تاريخ أدبي على استطيقا التلقي تكفّ عن التطابق مع مبدأ «مفعول التاريخ» وهو من وضع غادامير ، حيث يدّعي هذا الأخير تحويل مفهوم الكلاسيكية إلى نموذج لكلّ توسّط تاريخي بين الماضي والحاضر.
« إنّ الأثر الذي نسميّه كلاسيكيا لا يحتاج أوّلا من أجل فهمه إلى تجاوز المسافة التاريخيـة ، لأنّ هذه المسافة تقوم هي بدورها ودوما بفعل التوسّط الذي يقع بواسطة تذليل هذه المسافة نفسها». (8) إنّ هذا التعريف لغادامير يفلت من حدود العلاقة بين السؤال والجواب الذي يتكوّن انطلاقا منه كلّ تقليد تاريخي. وبالنسبة إلى النصّ الكلاسيكي لن يكون ممكنا البتة البحث بادئ الأمر عن السؤال الذي يجيب عنه ، إذا كان كلاسيكيا «من يتكلّم في كلّ عصر وكأنه يخاطب خصّيصا ذلك السؤال». (9) أليس الطابع الكلاسيكي للأثر الذي «يدلّ بنفسه على نفسه ويتأوّل ذاته بذاته» (10) هكذا، هو بكل بساطة نتاج ما سمّيته «التغيّر الثاني في الأفق» ؟ البديهية التي لا شكّ فيها لما يجدر تسميته «الأثر الفنّي الرائع» الذي قنّعت سلبيّته الأولى لأنّه يظهر مرتدا في أفق تقليد نموذجي والذي يرغمنا أوّل الأمر ، وذلك ضدّ سلطة الكلاسيكية المضمونة ، على ترميم « حقيقة السؤال » الذي يجيب لنا عنه ؟ إنّ الوعي المتلقّي وحتى أمام الأثر الكلاسيكي ، ليس معفى من اكتشاف « علاقة التوتّر بين النص وزماننا الحاضر ». (11) إنّ هذا المفهوم للكلاسيكية ، الموروث عن هيغل ، الذي هو لذاته تأويلـه الخـاص إنّما يـؤدّي ضرورة إلى قلب العلاقة التاريخيـة ما بين السـؤال والإجابـة ، (12) ويناقض مبدأ « مفعول التاريخ » الذي يعتبر أنّ الفهم « ليس محض نشاط استنساخي لكنّه أيضا فعالية انتاجية ». (13)
إنّ هذا التناقض يمكن تفسيره وبشكل بديهي من خلال تمسّك غادامير بتصوّر للنزعة الكلاسيكية هو من الضيق بحيث لا يمكن استخدامه - فيما وراء عصرها الأصلي، الانسانوية- بمثابة الأساس العام لاستطيقا للتلقي. يتعلّق الأمر بمفهوم المحاكاة من جهة ما هي « اعتراف »، وذلك مثلما يعرضه غادامير بتقديم تأويله الانطولوجي للتجربة الفنية : « أنّ ما نجده في أثر فنّي ما، وما نبحث عنه فيه انما هو في الواقع وبالأحرى ، درجة الحقيقة التي له : فبقدر ما نتعّرف على شيء ما ، بقدر ما نكون على معرفة به وبقدر ما نعترف بذواتنا فيه ». (14) إنّ هذا التصوّر للفنّ يمكن أن نطبّقه بكل صلاحية على الفترة الانسانوية ، لكن ليس يمكن ذلك على العصور الوسطى التي تسبقها ، وبأقلّ درجة أيضا على العصر الذي يلحق، أي حداثتنا التي لا تكون فيها استطيقا المحاكاة والميتافيزيقا الجوهرانية التي تؤسسها ملزمة بالضرورة. وبالرغم من ذلك فإنّ القيمة المعرفية للفنّ لم تندثر انطلاقا من هذا المنعرج التاريخي ، (15) وبالتالي ينبغي علينا أن نستنتج أنها لم تكن أبدا مرتبطة بوظيفة الاعتراف التي تسندها المدرسة الكلاسيكية للفنّ. إنّ الأثر الفنّي بإمكانه أن يبلّغ معرفة أفلتت من الرسم الأفلاطوني إذا ما شكّلت سلفا الطرق إلى تجربة قادمة، وإذا ما تخيّلت نماذج تفكير وفعل لم تطبّق بعد ، أو إذا ما تضمّنت إجابة عن أسئلة طرحت بشكل جديد. وهذا هو بدقة ذلك البعد الافتراضي للمعنى، وذلك هو الدور المنتج للفهم الذي يغيب من « مفعول التاريخ »، إذا ما شئنا تأويل مفهوم « النزعة الكلاسيكية » بالفهم الذي يسوقه الحاضر لفنّ الماضي. أن نسلّم مع غادامير أنّ الفنّ الكلاسيكي يقوم هو بنفسه دوما بالتوسّط مذلّلا المسافة التاريخية ، هو أنّ نحوّل التقليد إلى أقنوم وأن نضطر إلى ألاّ نرى سوى أنّ هذا الفهم لا يظهر بعدُ بوصفه « كلاسيكيا» إلاّ لحظة إنتاجه ، إنّما وعلى النقيض من ذلك كان بوسع هذا الفنّ أن يفتح أفاقا في زمانه و أن يحضّر لتجارب جديدة ، وإنّه إذن وحدها المسافة التاريخية –(أي) الاعتراف بما أصبح في الآن نفسه مألوفا- قادرة على إعطاء ذلك الفنّ مظهر التعبير عن حقيقة لازمنية.
إنّه حتى الآثار الأدبية الكبرى للماضي لا يقع تلقيها وفهمها عن طريق فعل التوسط المحايث لها والمفعول الذي تنتجه لا يمكن أن يقارن مع ضرب من الانبعاث : إنّه أيضا، أي التقليد الفنّي، يفترض علاقة جدلية بين الحاضر والماضي ، وإنّ أثرا ما من الماضي لا يستطيع إذن أن يجيبنا وأن « يقول لنا شيئا ما » اليوم إلاّ متى طرحنا أوّلا السؤال الذي سيدمّر ابتعاده (عنّا). وعندما يقع تعريف فعل الفهم لدى غادامير قياسا على «إنجاز الوجود » عند هيدجر- بوصفه « مدرجا ضمن سيرورة التقليد حيث يكون الحاضر والماضي في علاقة توسّط متبادلة ودائمة » (16)، فمن الضروري أن يُختزل « عامل الإبداع المحايث لفعل الفهم » (17) إلى حدّ درجة الصفر. إنّه على أساس هذا الدور المبدع للفهم التطوّري الذي يتضمّن بالضرورة نقد التقليد والنسيان معا ، إنّما ينبغي الآن أن نضع مخطّطا إجماليا لتاريخ أدبي تجدّده استطيقا التلقي. ينبغي أن نفهم تاريخية الأدب من خلال ثلاثة اعتبارات : التعاقب - أي تلقّي الآثار الأدبية من خلال عامل الزمن (قارن.الأطروحة 5 )- و التزامن- أي نسق الأدب في نقطة معيّنة من الزمن وتعاقب الأنساق المتزامنة (الأطروحة 6) ، وأخيرا، العلاقة بين التطوّر الداخلي للأدب وتطور التاريخ بعامّة (الأطروحة 7).
أطروحة 5
إنّ استطيقا التلقّي لا تسمح فحسب بإدراك معنى وشكل الأثر الأدبي مثلما وقع فهمها بطريقة تطوّرية عبر التاريخ. إنّها تتطلّب أيضا أن تقع إعادة تنزيل كلّ أثر في « السلسلة الأدبية » التي ينتمي إليها ، (وذلك) من أجل أن يصير بوسعنا تعيين منزلتها التاريخية ، دورها وأهميتها في السياق العام للتجربة الأدبية. وهكذا نكتشف بمرورنا من تاريخ تلقّي الآثار إلى التاريخ ، الحدثي للأدب ، هذا الأخير بوصفه مسارا يفتح فيه التلقي السلبي للقارئ وللناقد على التلقي الإيجابي للكاتب وعلى إنتاج جديد ، وبعبارة أخرى حيث يكون بوسع الأثر حلّ المسائل - الاتيقية والحوارية - المتروكة معلّقة من طرف الأثر السابق ، وبطرحه بدوره مسائل جديدة.
كيف يمكن لأثر ما، ينزّله التاريخ الأدبي الوضعي بشكل حتمي ضمن سلسلة زمنية ، ويختزله بالتالي في الطابع الخارجي المحض « لواقعة أدبية »، أن يعاد تنزيله ضمن التعاقب التاريخي الذي ينتمي إليه وبالتالي استعادة خاصيّته بوصفه « حدثا »؟. إنّ نظرية المدرسة الشكلانية تدعي - مثلما أسلفنا الذكر - حلّ هذه المسألة بوضع مبدئها « للتطوّر الأدبي » ، وهو مبدأ يظهر وفقه الأثر الجديد في تناقض مع آثار أخرى سابقة أو متزامنة ومزاحمة له ، وهو (مبدأ) يعرّف « خطّ الذرى » لعصر أدبي ما بواسطة نجاح شكل الأثر الفني ، وسرعان ما يؤدي إلى ولادة ضروب من المحاكاة التي تفتقر شيئا فشيئا إلى الأصالة ، أي إلى جنس أدبي بال، وأخيرا حينما يفرض الشكل الجديد نفسه فإنّه لا يستمرّ إلاّ ضمن تفاهة أدب الاستهلاك. إذا استعملنا هذا الرسم ، الذي لم يقع تطبيقه (18) إلى حدّ هذا اليوم (وذلك) من أجل تحليل ووصف فترة أدبية ما ، يمكننا انتظارُ وصفٍ أحسن (وذلك) على أصعدة عدّة من ضروب وصف التاريخ الأدبي التقليدي. إنّه وصف يسمح بإقامة علاقة بين سلاسل متعدّدة يكتفي التاريخ التقليدي بتكديسها مدمجا إيّاها في أحسن الأحوال في إطار مخطّط تاريخي عام : سلسلة آثار كاتب أو مدرسة ما ، تطوّر ظاهرة أسلوبية أو سلاسل مختلف الأجناس الأدبية ، إنّه إذن وصف سيكتشف « علاقة التطور الجدلي بين الوظائف والأشكال ». (19) إنّ الآثار الأكثر أهمية في توافقها وفي علاقات تعاقبها تظهر وكأنّها أطوار من سيرورة ليس من الضروري أبدا إعادة بنائها بالنسبة إلى نقطة وصول محدّدة سلفا ، لأنّها قد تكون نقطة « إنتاج جدلي للأشكال الجديدة بنفسها » ولن تكون بالتالي في حاجة لأيّ تصوّر غائي. وعلاوة على ذلك فإنّ الدينامية الخاصة للتطوّر الأدبي ، وفق هذا التصور ، تمحو مسألة مقاييس الانتقاء : ولن يؤخذ بعين الاعتبار ضمن هذا التوجّه غير الأثر الذي يجدّد في سلسلة الأشكال الأدبية ، وليس ذلك الذي يعاد فيه وحسب إنتاج الشكل والأسلوب والجنس المنحطّ سلفا، وهي التي وقع نبذها إلى حين طور جديد من التطور الذي يجعلها « قابلة للإدراك » من جديد. وأخيرا ، في تاريخ أدبي منظورا إليه من جهة شكلانية ، يُقصي المفهوم الأساسي للتطور- وذلك على عكس المعنى المألوف- كلّ مقولة للغائية ، وتتطابق تاريخانية الأثر مع طابعه الفني المخصوص : إنّ الطابع « التطوّري » والأهمية التاريخية لظاهرة أدبية يتحدّد أساسا بدرجة التجديد الذي يتضمّنه- وهي طريقة أخرى للقول بأن الأثر الفنّي يدرَك عبر تناقضه مع آثار أخرى. (20) [..]
أطروحة 6
إنّ النتائج الحاصلة في الألسنية بفضل التمييز والتدبير المنهجي للتحليل التعاقبي وللتحليل التزامني تحث أيضا في مجال التاريخ الأدبي على تجاوز مجرّد البحث التعاقبي السائد إلى حدّ الآن. وإذا كنّا ، بتعاملنا عن طريق تاريخ التلقي مع التحوّلات التي تحدث فجأة في التجربة الإستطيقية ، نكتشف في كلّ لحظة تلازمات بنيوية ما بين فهم الآثار الجديدة ومعنى الآثار الأكثر قدما ، فإنه ينبغي أن يكون أيضا جدّ ممكنا أن ندرس عن طريق التقطيع التزامني فترة من فترات التطوّر الأدبي ، وأن نمفصل في بني متكافئة ، متضادّة ومتراتبة ، الكثرةَ المتنافرة للآثار المتزامنة ، وأن نكتشف هكذا في أدب لحظة ما من التاريخ نسقا شاملا. ويمكننا (حينئذ) أن نجني من ذلك منهجا جديدا لاستعراض التاريخ الأدبي ، وذلك بتكثير التقطيعات التزامنية في نقاط مختلفة من التعاقب بطريقة تظهر ضمن صيرورة البنى الأدبية ، التمفصلات التاريخية والتحوّلات من عصر إلى آخر.[..]
وبما أنّ المستقبل والماضي لنسق ألسنية تزامنية مهما كانت ، هي عناصر لا فصل بينها وهي ضرورية لبنيته (21)، فإنّ التقطيع التزامني عبر الإنتاج الأدبي في لحظة معينة من التاريخ يتضمّن أيضا بالضرورة أنّ تقطيعات أخرى يمكن تطبيقها في نقاط أخرى سابقة ولاحقة ، لألسنية تعاقبية. كذلك نرى في تاريخ لغة ما كيف تظهر الوظائف الدائمة والمتغيرة ، لاعبة دورا معيّنا في النسق الأدبي. وذلك لأنّ الأدب أيضا يملك ضربا من قواعد اللغة ومن النحو المستقر نسبيّا : نسق من العناصر المقنّنة أو غير المقنّنة : أجناس أنماط تعبير ، أساليب وأشكال خطابية ، ويناقض هذا المجال المستقرّ مجالا أكثر عرضة للتبدّل من علم الدلالة : مباحث أدبية ، نماذج ، رموز و مجازات [...].
انطلاقا من هذه المقدّمات يمكننا استخراج مبدأ تاريخ أدبي لا يكون مرغما لا على اتّباع خطّ الذري الأكثر من معلوم الذي ترسم معالمه الآثار الرائعة التي صارت مثالا يحتذى ، ولا على الضياع في المناطق السفلى حيث يكون المجموع الجملي لكلّ النصوص كلاّ لم يعد بوسع المؤرخ أن يعيد بناءه ولا أن يصفه (...) لكنّ البعد التاريخي للأدب ، أي استمراريته الحدثية الحيّة التي تفلت سواء من نزعة التقليد أم من النزعة الوضعية الأدبيـة ، لا يمكن استعادتها إلاّ إذا ما اكتشف المؤرخ نقاط التقطيع وأبرز الآثار التي تسمح بتمفصل مجرى «التطور الأدبي » على نحو ثاقب وبإبراز لحظات قوّته وانكساراته الحاسمة. غير أنّ هذا التمفصل للتاريخ الأدبي لا يمكن تثبيته لا بواسطة علم الإحصاء ولا بواسطة الإعتباطية الذاتية للمؤرّخ : إن المفعول التاريخي للآثار هو الحاسم في ذلك ، أي تاريخ تلقّيهم : « ما ينتج عن الحدث » والذي يكوّن ، في نظر الملاحظ الحالي ، الإستمرارية العضوية للأدب في الماضي الذي تنجم عنه هيئته اليوم».
أطروحة 7
إنّ تاريخ الأدب لا يمكنه أن يستكمل مهمّته إلاّ متى صار الإنتاج الأدبي ليس متمثّلا فحسب عبر التزامن والتعاقب في تتالي الأنساق التي تكوّنه ، ولكن أيضا مدركا بوصفه تاريخا خاصّا في علاقته النوعية مع التاريخ العام.إنّ هذه العلاقة لا تقتصر على الأمر الذي يمكّن من الاكتشاف في أدب كلّ زمن ، صورة نموذجية مثالية هجائية أو طوباوية للوجود الاجتماعي. إنّ الدور الاجتماعي للأدب لا يتجلّى في كلّ مدى الإمكانات الأصيلة إلاّ حيث تتدخل التجربة الأدبية للقارئ في أفق انتظار حياته اليومية ، توجّه أو تبدّل رؤيته للعالم وتؤثّر بالتالي على سلوكه الاجتماعي. [..]
إنّه على هذا النحو إنّما يمكن لأثر أدبي ما أن يقطع مع انتظار قرّائه وذلك باستعمال شكل استطيقي غير مسبوق ، وجعله يواجه أسئلة لم تجب عليها الأخلاق المتكفّلة بها الدولة أو الدين. وبدلا عن التكثير من الأمثلة ، فلنذكّر بأنّه ليس براشت وإنّما سبقه إلى ذلك عصر الأنوار الذي أعلن على وجود علاقة تنافر بين الأدب والأخلاق السائدة ، وليس أقلّ شهادة على ذلك تلك التي أدلى بها شيلر مصرّحا بالدور الأخلاقي للمأساة البرجوازية : « إنّ قوانين المسرح تبدأ حيثما ينتهي مجال قوانين المجتمع ».(22) لكن الأثر الأدبي بوسعه أيضا-وهو امكان يميّز ، في تاريخ الأدب ، الفترة الأخيرة من حداثتنا- أن يقلب العلاقة بين السؤال والجواب ويجعل القارئ يواجه ، ضمن دائرة الفنّ، واقعا جديدا معتما لم يعد من الممكن فهمه وفق أفق انتظار معين. وهو حال « الرواية الجديدة » التي هي شكل من الفنّ الحديث الذي احتدّ حوله النقاش والذي يمثل –وفق صياغة ادغار وايند ( Edgar Wind ) – موضع مفارقة « حيث يكون فيه الحلّ معطى في حين ينبغي البحث عن المشكل بغية أن يكون الحلّ أمرا مفهوما بوصفه كذلك » (23) . لم يعد القارئ إذن في وضع المتقبّل الأوّل للأثر إنّما صار إلى وضع المستبعد الذي لم يعد يتوفّر فيه على مفتاح الفهم والذي بمواجهته لواقع ما يزال فيه المعنى بالنسبة إليه غريبا ، ينبغي عليه أن يجد بنفسه الأسئلة التي تلهمه أيّ إدراك للعالم وأيّ مشكل يقصده الجواب المعطى من طرف الأدب.
من كلّ ما سبق نختم القول بأنّ الدور والمكسب المخصوصين من الأدب في سياق الحياة الاجتماعية ينبغي البحث عنهما بدقّة حيث لا يُختزل الأدب في وظيفة فنّ التمثيل. وإذا ما بحثنا عن لحظات التاريخ التي قامت فيها آثار أدبية ما بتحطيم محرّمات الأخلاق السائدة أو وفّرت للقارئ سلّم قيم مفصّلا لسلوكه اليومي، و حلولا أخلاقية جديدة تستطيع فيما بعد أن تنال رضا كلّ القراء وإقرار المجتمع لها بوصفها عرفا ، فإنّنا نفتح حينها أمام التاريخ الأدبي حقل بحث مازال بكرا. إنّ القطيعة بين الأدب والتاريخ ، بين المعرفة الإستطيقية والمعرفة التاريخية يمكن إبطالها حينما لم يعد تاريخ الأدب يقتصر على تكرار تسلسل التاريخ العام مثلما ينعكس في الآثار الأدبية ، ولكن إذا تجلّى (التاريخ الأدبي) عبر مجرى « التطور الأدبي » ، فإنّ هذه الوظيفة المخصوصة للإبداع الاجتماعي التي يحتملها الأدب ، منافسةً للفنون وللقوى الاجتماعية الأخرى ، تحرّر الإنسان من الروابط التي تفرضها عليه الطبيعة والدين والمجتمع. ولعلّ هذه المهمّة تستحق أن يكف أخيرا الباحث في الأدب ، ذلك الذي يقفز من فوق ظلّه ، عن التفلّت عن التاريخ ، وهي مهمّة تجيب بلا شك أيضا عن السؤال المتعلّق بالغايات والمبررات التي مازال يثيرها اليوم-واليوم مجدّدا- البحث التاريخي للأدب.

انتهى



#أم_الزين_بنشيخة_المسكيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجاعيد ...
- أنت الأبد الضاحك من الآيات...
- جرحى الثورة ...تُعنفهم وزارة حقوق الانسان ؟؟؟
- هل سيظلّ الماضي يُحاصرنا ؟؟..
- مدينة بلا أسئلة
- الصفر أشدّ بأسا من كلّ الأعداد الزوجية
- كي يقاوم ..
- دقيقة صوت ..ترحّما على الديمقراطية
- شهداء مزيّفون ..؟
- ناس الغيوان ..شطحات شيوعية في القبة
- سجينة سياسية سابقة تدخل في اضراب جوع
- هل يلتقيان ؟
- حمقاء هذي المدينة
- حديث الأمواج.
- وادي مجردة ..شيوعي أم حنبلي ؟؟
- أنتِ دهر من الاستثناء و العبث ...
- لماذا الخلط بين الجامع و الجامعة ؟
- و تشرّد الاعراب..
- منطقة سلفية حرّة لبيع الجياع ..
- القُمامةُ تعتصم جوعا ..


المزيد.....




- -البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
- مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
- أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش ...
- الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة ...
- المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
- بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
- من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي ...
- مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب ...
- بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
- تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا ...


المزيد.....

- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أم الزين بنشيخة المسكيني - جماليات التلقّي