فتحي المسكيني
الحوار المتمدن-العدد: 3686 - 2012 / 4 / 2 - 12:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كيف صارت التأويلية فلسفة ؟
مدخل إلى مسألة الفهم
تعود لفظة "هرمينوطيقا" إلى الفعل اليوناني έ / hermeneuein الذي يعني ثلاثة معان : أ) عبّر عن فكره بواسطة الكلام؛ ب) عرّف شيئا ما و أشار إليه و عرَضه ؛ ج) أوّل و ترجم. ومن ذلك έ / hermeneia التي تعني "العبارة" ، وهو عنوان أحد كتب أرسطو المنطقية Peri hermeneias وما عرفه العرب تحت عنوان في العبارة، ولكن أيضا "تأويل فكر ما" ومنه "الإيضاح" و "التفسير". و / hermeneus المؤوّل و المفسّر و المفهّم و الترجمان.
وهذا شرح تؤيّده أسطورة شاعت تقول إنّ اللفظة مشتقة من اسم هرمس ( ) ابن تزوس ( Zeus) و مايا ( Mæa)، رسول الآلهة، و حامي التجارة و الأسفار على الأرض و البحر، بحيث اقترن معنى الهرمينوطيقا من جهة بأصل مقدّس ( رسائل الآلهة إلى البشر ) و من جهة بحرية بشرية في العبارة ( من أجل فهم ما بُعث به على نحو ملغّز أو غامض لابدّ من تأويله).
بذلك يمكن إحصاء مصدرين سابقين لدلالة الجذر اليوناني للهرمينوطيقا : أ- اللغة العادية، حيث يرتبط اللفظ -كما نرى إلى ذلك لدى أفلاطون ( في محاورة إيون / Ion 543 e و النواميس 907 d) – بمسحة الكلم المقدس أو الفرائض ( كلام الملوك أو المبشرين أو المنذرين ..) ، وربما من هذه الناحية تمّ الربط الأسطوري مع اسم هرمس..؛ ب- كتاب أرسطو باري هرمينياس / في العبارة ، حيث أنّ أرسطو "لا يفكّر إلاّ في المعنى المنطقي للمنطوق /l’énoncé عندما درس logos apophantikos / القول الجازم" . وهو ما أدّى في الفترة الهلينية المتأخّرة إلى الاهتمام بالمعنى "المعرفي" ( cognitif) الدقيق للفظة "هرمينياس" للإشارة إلى "التفسير العالم" و اسم "هرمينوس" للإشارة إلى "المؤوّل" و "المترجم" .
وإنّ أوّل خطوة لاعتبار "الهرمينوطيقا" مصطلحا هو اعتبارها "صناعة" أو "فنّا" ( technè). وخاصية الفنّ هنا هو كونه مهارة وليس علما، ومن ثمّ فإنّ الهرمينوطيقا لا تعدو أن تكون في أوّل أمرها مهارة "معيارية" ( normative) من خلالها يزعم المؤوّل أنّه ليس فقط يسيطر على فنّه بل هو يمكّن نصّا غامضا أو غير مفهوم من أن يعبّر عن نفسه . لذلك فإنّ ما يجدر بنا الاحتفاظ به في تعريف المعنى النظري لمفهوم التأويلية ثلاثة أمور اتفق حولها التأويليون من شلايرماخر إلى ريكور وإنْ على أنحاء مختلفة :
أ- أنّ التأويلية "فنّ في الفهم"؛
ب- أنّ الفهم لا يتمّ من غير وظيفة "التأويل" ؛
ت- أنّ موضوع التأويلية هو "اللغة" بعامة.
غير أنّ مفهوم التأويلية ليس بسيطا من حيث الدلالة و لا ثابتا من حيث التاريخ. إنّه مركب من عناصر دلالية مختلفة، وإنّ تعريفه يتطوّر بتطوّر المهام التأويلية نفسها. وبرغم تباين معاني التأويلية منذ اليونان إلى المعاصرين فإنّ الدارسين يميلون إلى التمييز الكبير بين مرحلتين يبدو أنّ شلايرماخر هو همزة الفصل بينهما:
أ- مرحلة التأويليات الكلاسيكية أو الخاصة: وهي الممارسات التأويلية التقنية و المعيارية التي اتّخذت من تفسير النصوص التأسيسية القديمة، مثل الكتاب المقدس و التراجيديا اليونانية و المدونات القانونية، غرضا لها؛ ولذلك ساد الكلام على التأويلية اللاهوتية و التأويلية الفيلولوجية و التأويلية الحقوقية..
ب- مرحلة التأويلية العامة أو الكلية : وهي المحاولة المعاصرة التي دشّنها شلايرماخر الهادفة إلى إرساء "تأويلية عامة / أو كلية" ( allgemeine Hermeneutik) تتحرر من خدمة علوم اللاهوت و الفيلولوجيا و الحقوق، وتنصرف إلى بلورة صناعة نظرية قائمة بنفسها. وهو بالتحديد ما أدّى بالتأويلية إلى التحوّل إلى الفلسفة من حيث سعيها الخاص سواء إلى ضبط "تكنولوجيا" عامة للفهم ( شلايرماخر) أو استخراج منهجيات ( méthodologie) عامة للعلوم الإنسانية (دلتاي) أو تبيين فينومينولوجي للكائن الإنساني في أفق انطولوجيا أساسية ( هيدغر) أو الاهتداء باللغة بوصفها أفقا لانطولوجيا كلية ( غادمير) أو تحويل الفلسفة إلى ضرب من "تأويلية الذات" ( herméneutique du soi) ( ريكور) .
لكنّنا في هذه الدراسة نحن سوف نقف عند الفحص عن خطوتين فقط من خطوات التقليد التأويلي المعاصر لما لهما من طابع تأسيسي. وهما لحظتا اكتشاف قارة الفهم من قبل شلايرماخر، وتأصيل ما يُعرف بخصومة الفهم والتأويل. ولم يفعل التقليد اللاحق إلاّ إعطاء ملامح فلسفية أو نظرية لهاتين اللحظتين أو خوض غمار تطبيقات مختلفة لهما على شتى أنحاء تجارب المعنى الإنسانية.
1) شلايرماخر- اكتشاف قارة الفهم
لا تشير "التأويلية" لدى شلايرماخر إلى كتاب كتبه أو نشره تحت هكذا عنوان، بل إلى جملة من الدروس و الكتابات التي دارت حول مشاكل تأويلية، كان قد اهتمّ بها ما بين 1805 و 1833، والتي لم تر النور لأوّل مرة إلاّ سنة 1838 بفضل عناية أحد تلاميذه هو فريدريك لوكي . وعلى ذلك لا يختلف المعاصرون منذ دلتاي – وإن شاب نصوص شلايرماخر عن التأويلية بعض الإهمال - على الدور الحاسم الذي أدّاه شلايرماخر في دفع التأويلية نحو تشكيل حقول بحث مستقلة و خاصة بها بما هي كذلك.
فيم يتمثّل استقلال التأويلية ؟ - يبدو أنّه من الممكن أن نبني الافتراض التالي: إنّ شلايرماخر قد اكتشف مشكلا نظريا جديدا لم تعرفه لا العقلانيات الكبرى للقرن السابع عشر ( التي خرجت من مشروع ديكارت) و لا فلسفات التنوير ( التي وجدت اكتمالها لدى كانط)، نعني مشكل "الفهم" ( das Verstehen، la compréhension). بدلا من مشكل "التفكير" – الذي وجد نموذجه الحاد في عبارة ديكارت الشهيرة ( cogito ergo sum) " أنّا أفكّر إذن أنا موجود"، ولكن أيضا في ميلاد النموذج الغاليلي للفيزياء الرياضية ، حيث تُقرأ الطبيعة بوصفها كتابا مكتوبا بأحرف رياضية- بدأ المهتمون بالمشاكل التأويلية، سواء كانت فيلولوجية أو حقوقية أو لاهوتية، في بلورة مسألة نظرية لم تدخل إلى حدّ الآن في مشاغل فلاسفة الحداثة، ونعني مسألة فهم النصوص (القديمة أو الأجنبية) و تأويلها.
إنّ الأمر قد أخذ يتعلق بنمط متوار من الانزياح المعقد من تأسيس "الحقيقة" على "اليقين" المنهجي الذي تبنيه ذات مفكّرة عن موضوع تنشئه إنشاءً، على طريقة الفلاسفة من ديكارت إلى كانط، إلى البحث عن نمط جديد من تأسيس "المعنى" تؤدي فيه "اللغة"، بمختلف أشكالها، دورا حاسما .
فمنذ أوّل درس سنة 1805، طفق شلايرماخر يبرز خصوصية التأويلية بكونها "تحليلا لما يخصّ الفهم" وليس "طرح المشكل" التأويلي شيئا آخر. ولذلك فإنّ كلّ مقوّمات التأويلية إنّما تعود عنده إلى تخريج مسألة الفهم. كيف نفهم؟ هذا هو السؤال. يقول : " وحده الفهم هو مهمّة التأويلية" .
وبرغم أنّ شلايرماخر لا يبكّر بتعريف معنى الفهم، فهو يشير منذ البداية إلى أنّ "الفهم مهمّة لا متناهية" ؛ وهي لا متناهية من وجهين: "1- أنا أفهم كلّ شيء حتى أصطدم بتناقض أو بلا-معنى.2- أنا لا أفهم شيئا إذا لم أبْنه و لم أستطع أن أبنيه بوصفه ضروريا" . ومنذ أوّل درس أيضا يسارع شلايرماخر بضبط نوعيْ التأويل الذين سيبذل جهدا دؤوبا لتوضيحهما: "التأويل النحوي" للغة ، وهو ذو منحى "موضوعي" لا دخل للذات فيه، و "التأويل التقني"، وهو حسب رأيه ذو منحى ذاتي . ولذلك يحكم على الأول بأنّه "تأويل سالب" يكتفي بالكشف عن "الحدود"، أمّا الثاني فهو "تأويل موجب" يسعى إلى الفهم.
بذلك فإنّ السؤال "كيف نفهم؟" يمرّ بالضرورة بسؤال آخر هو "كيف نؤوّل ؟". ما معنى أن نؤوّل حسب شلايرماخر ؟ هو "أن نكون قادرين على الخروج من طريقتنا الخاصة في التفكير من أجل الدخول في طريقة الكاتب" . إنّ ما يقوله المؤلف ليس "دلالة" ( Bedeutung، signification) الألفاظ فقط، بل "المعنى" ( der Sinn، sens) الذي يأخذه اللفظ في "مجاله" داخل "اللغة الخاصة و اللغة الأجنبية" . إنّ المؤول هو الذي ينجح في أن يكون "قارئا مباشرا" للمؤلف. وذلك يعني أنّه ينجح في : " 1) فهم ما هو مشترك بين الكاتب و القارئ. 2) ما هو خاص بالكاتب، من خلال إعادة بنائه من جهة ما نحن القارئ. 3) ما هو خاص بالقارئ، الذي يهتمّ الكاتب به بوصفه شيئا جزئيا و خارجيا" .
إنّ القصد مزدوج: حصر التأويلية في مهمة الفهم و لكن "توسيع الميدان" بسحب مسألة الفهم على كلّ خطاب مهما كان، من دون إهمال أيّ معطى، فحتى " الأغاليط الخاصة بحقبة معيّنة تنتمي هي أيضا إلى ما هو مشترك" . إنّ لغة كلّ كاتب هي محددة سلفا مرتين: على نحو إيتيمولوجي ( étymologique) و على نحو تاريخي. فالمؤلف يكتب "إتيموس / - étymos" ( الدلالة الحقيقية) لغته و عصره معا . ولكن ما الحاجة إلى التأويلية ؟
يقول شلايرماخر:" لو أنّ كلّ كلام كان إعادة بناء حيّة، لما كان ثمّة حاجة إلى تأويلية، بل فقط إلى نقد للفن."
إنّ ما يعيبه شلايرماخر على أسلافه هو انطلاقهم من "تفاهة الفهم" ( la banalité de la compréhension) ، من جهة أنّ الفهم لا يحتاج إلى فنّ خاص. بذلك هم لم يروا إلى قواعد الفهم إلاّ بشكل عرضي عند الاصطدام بحالة "لا-معنى" أو "سوء تأويل" لفقرة معزولة تاهت عن غرض الكاتب.
لكنّ الفهم ليس مجرّد ضبط نحوي لدلالات الألفاظ، وذلك لسببين: من جهة، لأنّ كلّ ملفوظ إنّما يتضمّن أكثر أو أقلّ ممّا تقوله تلك الألفاظ، وبخاصة لدى " الفنان الأصيل في مادة اللغة، الذي يعطي فردية جديدة للغة" ؛ ومن جهة لأنّه " لا يمكن أن نتعلم كيف نعرف الذاتي إلاّ بواسطة الفهم ذاته" .
من أجل ذلك يزعم شلايرماخر أنّ " التأويلية هي عكسُ النحو و أكثر من ذلك"
هي عكس النحو لأنّها لا تفهم "الدلالة النحوية" إلاّ في ضوء استعمالات الألفاظ في مجال تاريخي و خطابي محدد، و هي أكثر من ذلك لكونها في تراوح مستمر بين "الدلالات التقنية الموجودة و مولد الدلالات الجديدة" . لكنّ المثير هو أنّ " الأكثر" الذي تكشف عنه التأويلية ليس شيئا غريبا عن الملفوظ بل هوهو:
" إنّ كلّ ما يجب أن يُفترض مسبقا ( présupposé) في التأويلية هو لغة فحسب و كلّ ما يجب أن نعثر عليه، والذي يتضمّن كجزء منه المسبقات الموضوعية و الذاتية الأخرى أيضا، يجب أن يكون مستمدّا من اللغة."
ليس الفرق بين التأويلية و النحو في العلاقة أو عدم العلاقة مع اللغة بل في نوعية تلك العلاقة. إنّها ليست علاقة "موضوعية" فقط، أي متعلقة لدلالات نحوية ثابتة للألفاظ، وإنما هي "ذاتية" أيضا، بل أكثر من ذلك : إنّها تشتغل على دلالات ذاتية "صارت" موضوعية . لذلك فالفعل التأويلي هو فنّ فهم "النحوي" (الموضوعي) من خلال "التقني" (الذاتي). ووجه الطرافة في هذا الفعل هو كونه ليس حكرا على العلماء أو الكهول، بل
" إنّ كلّ طفل لا يبلغ إلى معنى الكلمات إلاّ بواسطة التأويلية."
ولذلك يسجّل شلايرماخر ملاحظة طريفة أخرى تتعلق بمنزلة القضية المنطقية في ترتيب ماهية اللغة، وهو يقصد بالتأكيد المنطق التقليدي الذي يبني القضية على الثالوث موضوع + رابطة وجودية + محمول ( sujet + copule + prédicat) : إنّ النقاش سيظل قائما من جديد حول منزلة الرابطة الوجودية " هو" ( est)، وذلك أنّ هذه الرابطة مؤسسة على الدلالة "الموضوعية" و "المجردة" للألفاظ، ولذلك يكثر استعمالها في اللغات التي تحتوي أكثر من غيرها على عناصر لغوية "ميّتة" وخاصة الأفعال .
والحال أنّ التأويلية لا تقف عند ما هو موضوعي أو مجرد، أي عند ما هو نحوي، بل هي تبحث عمّا هو ذاتي و حي، ولذلك نحن " يمكن أن نفهم قليلا جدّا أو كثيرا جدّا من حيث المضمون أو من حيث الدرجة" . هذا الفائض في الفهم لا يظهر في نطاق التأويل النحوي لأيّ خطاب، لكنّه خاصية مقومة للعمل التأويلي. ولأنّ الأمر يتعلق دوما بمشكل فهم فإنّ شبح المؤلف يظل منتصبا وراء كل لغة أو خطاب أو ملفوظ، إلى حدّ أنّ " كتّابا عديدين يمكن أن يُنظر إليهم بوصفهم كاتبا واحدا" ، أي تحركهم فردية لغوية واحدة.
بذلك فإنّ الصعوبة النموذجية في العمل التأويلي هو الدور الذي يخترق كلّ عملية فهم للكاتب :
" يجب بعدُ أن نعرف الإنسانَ حتى نفهم الخطاب و على ذلك إنّما بواسطة الخطاب فقط يجب أن نتعلم كيف نعرفه."
هذه الصعوبة مقوّم تأويلي و ليس عائقا. إنّ التأويلية الأصيلة لا تكتفي بتسجيل ما هو "منتظر" من الكاتب، وذلك أنّ الكتّاب الذين لا يفاجئون القارئ حيث "نعثر على كلّ ما ننتظره و ليس أكثر إنّما هم الكتّاب المنطقيون و اللاّشخصيون بإطلاق ولكن أسوأهم " .
بيد أنّ ذلك لا يعني أنّ التأويلية تعمل على معنى يقع خارج إرادة المؤلف، بل فقط أنّ المؤلف هو بالأساس خلاّق معنى لأنّه خلاق لغة. إنّ الكاتب هو معا و دون فصل ابن لغته و عصره و لكن أيضا ابن فنه. فهو مطالب بمطلبين تأويليين متباينين: من جهة، أنّه " روح منتج يأتي دوما بشيء لم يكن بإمكاننا أن ننتظره" ؛ و من جهة، كل كاتب محكوم سلفا بهذا الاعتبار : " لا يمكن لأيّ شيء أن يعني ما كان من المستحيل على السامعين أن يفهموه" .
إنّ التلازم بين هذين الجانبين هو كاشف للتلازم المعقد بين النحو و التأويليية. ربّ تلازم هو تفاعل بين معطيين سابقين: من جهة، "أنّ كلّ فرد هو مكوِّن للغة" ، ولكن من جهة مقابلة، " أنّ كلّ فهم للخطاب الجزئي هو فهم مستمرّ للغة" أكانت لغة أمّا أم كانت لغة أجنبية . نحن بذلك أمام ازدواج أصلي في إشكالية الفهم: إنّ عرض الفهم للغير ليس تأويلية بل خطاب، أي موضوع للتأويلية . ولذلك علينا أن نعمل في مقامين متوازيين:
" الفهم داخل اللغة و الفهم ضمن من يتكلم. وليس التأويل ( l’interprétation) فنّا إلاّ بسبب هذا الفهم المزدوج. لا أحد من الفهميْن يمكن أن يتمّ لوحده. ."
هذان الفهْمان هما الفهم النحوي للغة و الفهم التقني للمؤلف. لكنّ الصعوبة هو أنّ علينا أن نراوح بين مقامين متقابلين لا يجتمعان: نسيان المؤلف شرط للتأويل النحوي للغة، ولكن نسيان اللغة هو شرط التأويل التقني للمؤلف . أمّا القاعدة التأويلية فهي هذه :
" يجب أن نفهم المؤلف تماما كما فهم نفسه بل و أفضل ممّا فهم نفسه."
كيف ذلك ؟
إنّ هذه القاعدة الرومانسية هي الترجمة التأويلية للكوجيطو الحديث خارج نظرية المعرفة. فليس"المؤلف" هنا سوى "الذات" التي اكتشفت فجأة أنّها المصدر الانطولوجي الوحيد لكلّ ما تعرف و ما تقول و ما تفعل بل و ما ترجو. الذات هي الزعم الحديث بأنّ الأنا أفكّر أو الأنا أفهم هو المصدر المطلق لكل "حقيقة" حول الطبيعة و لكل "معنى" حول الإنسان.
من هنا يستطيع شلايرماخر أن يعلن بلا تردد : " إنّ كلّ خطأ هو أمر خصب" .
ولكن حذار من أن نأخذ الخطأ مأخذا أخلاقيا محضا. إنّ الخطأ هو فعل لغوي لا غير. وذلك أنّ " كلّ ما علينا أن نفترضه و كلّ ما علينا أن نجده هو لغة [فحسب]" .
وليست الرومانسية سوى الاكتشاف الحديث للغة بوصفها نمطا من الفردية لا يمكن لأيّ عقل كوني أن يلغيه. هنا يتنزّل الحديث الرومانسي عن "فردية اللغات ( l’individualité des langues)" . لذلك ليس من الهيّن أبدا أن نجيب عن هكذا سؤال : " كيف نتعلم الفهم في الأصل ؟" وإذا كان هذا الأمر صعبا على الأفراد منذ الطفولة فهو صعب بنفس القدر على كلّ شعب .
ولأنّ الفهم مشكل تأويلي صعب من نفسه فإنّ فهم أيّ مؤلف يستوجب منّا حسب شلايرماخر أن نطمح إلى ضرب من "الفهم الأعلى الذي يتجاوز الكاتب نفسه" ، لأنّه بمثابة "صراع مع اللغة" علينا أن ننتصر فيه على مشكليْن: 1- تعيين "المجال اللغوي للمؤلف" ، و2- "تعيين الطرافة [التي له] بالانطلاق من المجال اللغوي"، وذلك بوصفها لا تعدو أن تكون "الذاتية الحقيقية" .
- لقد أصبح الطريق الآن مفتوحا نحو بلورة أطروحة تأويلية مبتكرة، عبّر عنها شلايرماخر سابقا ( في الصيغة الأولى للدرس عام 1809-1810) بعبارة برنامجية : " في ضرورة تأويلية عامة" ، لكنّه صار يتوفّر الآن (في العرض الموجز للتأويلية عام 1819) على صيغة مفصّلة عن كيفية إنجازها. ولذلك يفتتح هذا الدرس بالتنبيه إلى معطى منهجي أساسي قائلا:
"إنّ التأويلية، من حيث هي فنّ الفهم، لا توجد بعدُ في صورة عامة، ولكن يوجد فقط عدة تأويليات خاصة."
سوف لن نقدّم عرضا لكلّ مراحل هذه التأويلية العامة المنشودة، لكننا سنكتفي بإبراز واحد من المفاصل الخطيرة فيها، ونعني تحديدا مشكل العلاقة بين الفهم و الخطاب. هو مشكل لأنّ شلايرماخر يقرّ منذ البداية بأنّه " من الصعب جدّا أن نثبت المكان الخاص بتأويلية عامة" ، من حيث أنّ علينا أوّلا أن نحرر التأويلية من وضع "الملحق التابع للمنطق" و أن نطرح مشاكلها الخاصة.
ذلك يتطلب أن نوضح وجوه الارتباط بين هذه الفنون الثلاثة: 1- فنّ الكلام؛ 2- فنّ الفهم ؛ 3- فن التفكير. وإنّ مهمة التأويلية هي فنّ الفهم، ولكن مع هذه الصعوبة: من جهة، إنّ فن الفهم و فن الكلام مترابطان، و من جهة، أنّ الكلام هو مطية التفكير. ولذلك فالتأويلية لن تُتصوّر إلاّ على نحو "فلسفي" أي في تضايف مع فن التفكير .
هنا يبرز الخطاب بوصفه ظاهرة طريفة يتضايف فيها فنّ الكلام مع فن الفهم :
" حيثما يكون الخطاب بلا فنّ، فليس ينبغي لنا أن نفهمه"، لأنّ " التضايف يتمثل في أنّ كلّ فعل فهم هو عملية عكس لفعل الخطاب؛ أنّه يجب أن نخرج إلى الوعي نوع الفكر الذي يوجد في قاعدة الخطاب" . وأنّ " كلّ خطاب يملك علاقة مزدوجة مع جملة اللغة و جملة تفكير المؤلف، كما أنّ كلّ فهم يتمثل في لحظتيْن، فهم الخطاب بما هو مقتطف من اللغة، و فهمه بما هو واقعة ضمن حيّز المؤلف."
هذا الازدواج في الخطاب متأت من كونه يفترض في نفس الوقت "لغة معطاة"، فالخطاب لا يخترع لغة جديدة، ولكن أيضا "فكرا سابقا"، لأنّ الخطاب لا يخترع دلالة غير مسبوقة في اللغة. وبما أنّ الخطاب فعل إنساني فإنّ التأويلية الرومانسية تتأوّل دور الإنسان بما هو منتج للمعنى على نحو طريف: إنّ الإنسان هو في نفس الوقت "موضع" ( un lieu) لغوي، حيث تستطيع لغة ما أن تقول، ومن ثمّ أنّ خطابه لا يُفهم إلاّ في ضوء جملة تلك اللغة، لكنه من جهة أخرى "روح" ( un esprit) متطوّر منتج للخطاب بوصفه "واقعة" ( un fait) صنعها الإنسان بمعية الآخرين ؛ ولذلك فالفهم هو فنّ تدبير التواشج بين اللغة و الروح في الخطاب:
" لا يُفهم الخطاب بما هو واقعة الروح إذا لم يُفهم في علاقته مع اللغة، لأنّ فطرية الكلام تغيّر الروح." كذلك : " هو لا يُفهم أيضا بوصفه تغييرا للغة، إذا لم يُفهم بما هو واقعة الروح" .
وإنّ علينا أن نحتفظ بهذا الازدواج الأصلي في الفهم بوصفه "ثنائية" أو "مساواة مطلقة" لا يمكن التخلص منها: الإنسان "موضع" للغة، لكنّ اللغة لا تُتعلّم إلاّ من خلال فهم " الخطاب" بما هو فعل روح ما .
هنا يتخصص معنى "التأويل" : إنّه ليس "علما"، بل هو "فنّ" ، وذلك يعني أنّه معاناة لصعوبة أصلية ليس المطلوب هو التخلص منها بل المطلوب هو معاشرتها الموجبة كمشكل تأويلي يستوجب منا المراس فيه أن نتوفر على نوعين من "الموهبة": موهبة المعرفة باللغة و موهبة المعرفة بالإنسان.
" ومن حيث أنّ هذه المواهب هي هبات طبيعية كونية، فإنّ التأويلية هي أيضا قضية كونية."
لكنّ الكوني ليس غلبة أحد الطرفين على الآخر، النحو ضدّ المؤلف، أو المؤلف ضد اللغة؛ هذه الغلبة غير ممكنة حسب شلايرماخر لأنّه " من الطرفين هناك حدّ أقصى" : من جهة، الأقصى النحوي وهو ما نسميه "الكلاسيكي" ( le classique) الذي يحاكيه الخلف، ومن جهة، الأقصى النفسي (أو الذاتي أو التقني) وهو ما نسميه "الطريف" ( l’original)؛ لذلك فإنّ الكوني هو "وحدة الاثنين، أي العبقري ( le génial)" . غير أنّ معرفتنا بالعبقري محاطة دوما بسوء الفهم، ولذلك لابد للتأويلية من منهج "إعادة البناء التاريخي" الموضوعي حتى ننزّل الخطاب في لغته، و الذاتي حتى نعرف كيف تشكّل الخطاب كواقعة للروح .
إعادة البناء المزدوجة هذه هي المعوّل عليه في تلبية النداء التأويلي الرومانسي الداعي إلى "فهم الخطاب أوّلا كما فهمه مؤلفه ثمّ أفضل منه" . وذلك يعني فقط أن" نخرج إلى حيّز الوعي أشياء عدة يمكن أن تكون قد بقيت بالنسبة إليه غير واعية" .
ذلك يقتضي منّا أن "نصبح مماثلين للمؤلف" ، أن نحترف نمطا من "التماهي مع المؤلف" ، وأن نؤمن بأنّ " كلّ قراءة تضعنا في موقع يجعلنا نفهم على نحو أفضل"، أي في موقع نحقق فيه ما يسميه شلايرماخر تسمية كانطية " التأويل المستقل" ( l’interprétation autonome) . إنّ الاستقلال يعني أيضا المعرفة المستقلة لما نريد أن نؤوّله، ممّا يمكّن من تعيين "المعجم المحدد" الذي يظهر فيه أثر ما. ذلك المعجم هو "السياق" ( le contexte) الذي كتب فيه المؤلف، وهو وحده الذي يساعدنا على الحسم في الفرق بين "دلالة" لفظ ما و "المعنى" الذي يأخذه ضمن الجنس الأدبي الذي أنتجه . هناك نوع من "الكلّ" التاريخي الذي ينبغي أن نفهم داخله أثرا جزئيا ما. لذلك لا بد لكل تأويل أن تسبقه قراءة أي "فهم مؤقت"، ومن ثمّ أنّ ثمة ما يشبه ّالدور" ( le cercle) . لكنّ شلايرماخر لا يقف عند هذا الاكتشاف الهام.
وعلى الرغم من أنّه يقرّ بهذه الصعوبات الخطيرة التي تواجه التأويلية : أنّ كلّ لغة يمكن أن تملك تأويلية خاصة بها ، فهو سرعان ما ينصرف إلى إبراز عمومية "الإجراء التأويلي" إلى حدّ القول بأنّ لغة "العهد الجديد" ( la langue néo-testamentaire) ينبغي أن تُدرج في خانة اللغة اليونانية ومن ثم أن تُقرأ كما يُقرأ أيّ أثر يوناني، أي كما يُقرأ هوميروس . وكما أنّ المشكل التأويلي أعمّ من أيّ مشكل ديني، كذلك هو يختلف في طبيعته عن أيّ "قضية رأي" (une affaire d’opinion) .
2) دلتاي – خصومة الفهم و التفسير
إنّه لئن كان دلتاي لم يفرد مقالة خاصة بمسألة "التأويلية" إلاّ في نصّ 1900 الذي عنوانه " أصول التأويلية و تطورها"، فإنّ المشكل التأويلي يخترق كلّ ما كتبه قبل هذا التاريخ و بعده. وعلى ذلك نحن نسمّي اهتمام دلتاي بالتأويلية مشكلا للتنبيه على أنّه هو أيضا لم ينتج نظرية تأويلية مستقرة، بل ظلّ طيلة انشغاله بمسألة "الفهم" باحثا و منقّبا عن شروط مشروع فلسفي ضخم لم يأت إلاّ على شطر منه فحسب، يحمل عناونا مثيرا هو "نقد العقل التاريخي" في نحو من التقابل المقصود مع كتاب كانط المشهور. بل أكثر من ذلك إنّ القراءة شبه الطقوسية التي تداول عليها الشراح في عرضهم لإشكالية دلتاي على نحو يردّها أساسا إلى النقيضة الحادة بين "الفهم" و "التفسير" هي بوجه ما اختزال خطير لتلك الإشكالية، حرمها من جهدها الخفي إلى تطوير تأويلية عامة تكون قادرة على توفير قاعدة منهجية صارمة للعلوم الإنسانية (التي تسمّى في التقليد الألماني ’’العلوم الأخلاقية’’ و ’’العلوم التاريخية’’ و ’’علوم الروح’’). ولذلك نحن نتحدث عنة خصومة و ليس عن نظرية.
فما هي مقوّمات الخصومة بين الفهم و التفسير في كتابات دلتاي عن التأويلية ؟
- سوف نتدرّج في الإجابة عن هذا السؤال من خلال الخطوتين التاليتين : 1) ما هي وظيفة "الفهم" في بلورة إشكالية التأويلية ؟ 2) أيّ دور تؤدّيه الخصومة بين الفهم و التفسير في تخريج التأويلية بوصفها الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية ؟
1) الفهم و التأويل
أ- وضع منهجي جديد
منذ الفقرة الأولى من مقالة "أصول التأويلية" حدّد دلتاي غرضه على النحو التالي:
"يتعلق الأمر الآن بحلّ مسألة المعرفة العلمية للأفراد ( individus) بل حتى للأشكال الكبرى للكيان الإنساني الخاص، بعامة. هل أنّ هكذا معرفة هي ممكنة، و أيّة وسائل نحن نملك للبلوغ إليها ؟"
هو بذلك قد عيّن "موضوع" المعرفة الجديدة، أي "الأفراد"، و رهانها النظري ، ينبغي أن تكون "علمية"، و سؤالها الهادي ، هل هي ممكنة ؟ ، وأخيرا المهمّة الرئيسة لها، أي البحث عن "الوسائل" الكفيلة بإنجازها.
بيد أنّ دلتاي لم يرسم ملامح التأويلية إلاّ بقدر ما بنى إشكالية وجه الطرافة فيها هو أنّها تخرج عن المقوّمات الايبستيمولوجية الخاصة بعلوم الطبيعة. إنّ خطورة التأويلية مع دلتاي هو كونها تقود على إرادة معرفة جديدة عنوانها فكّ الارتباط المنهجي مع النموذج الميكانيكي الذي انبنت عليه مغامرة العلوم الحديثة منذ غاليلي. وذلك ليس فقط من جهة "الموضوع"، بالانصراف عن ظواهر "الطبيعة" إلى كيان "الإنسان"، بل بخاصة من حيث "المنهج"، بالانخراط في بلورة ميدان للبحث متميّز تماما عن ميدان علوم الطبيعة.
بقي علينا أن نبدأ بتسجيل الصعوبات و الرهانات التي تعترض للتوّ إرادة المعرفة الجديدة التي تسعى إلى الاستعاضة عن النموذج الميكانيكي بالنموذج التأويلي. وأكبر صعوبة هي : " السؤال ما إذا كان تعقّل [الموجود] المفرد (singulier) يمكن أن يكتسب صلاحية كلية ( une validité universelle) ."
إنّ بيت القصيد قد توضّح: إنّ العلوم الإنسانية، مثلا التاريخ و الفيلولوجيا، لا تتميّز عن علوم الطبيعة إلاّ بقدر ما تريد بناء معرفة كلية عن ظواهر لا يمكن أن نبني حولها معرفة موضوعية. ولكن ما الذي يمنع من ذلك ؟ - رغم أنّ دلتاي يفترض أنّ "الحسّ التاريخي يسمح للإنسان الحديث بأن يستحضر كلّ ماضي الإنسانية" ، فهو سرعان ما يقرّ بأنّ وسيلة البحث الوحيدة التي نملكها عندئذ هي ضرب من "التجربة الباطنية" التي تستعين هي بدورها بمقارنة نفسي مع " الآخرين" ، الذين هم أنفسهم لا نعرفهم إلاّ من "خارج"؛ وهو ما يعني أنّنا لا أعرف الماضي مثلا إلاّ بقدر ما "أعيد تشكيل" ( reconstitution) عناصره . وهكذا يبقى علينا أن نجيب عن هذا السؤال:
" كيف يمكن لوعي ذي مسحة فردية أن يسمح بمعرفة موضوعية لفردية غريبة مختلفة تماما ؟ ما هي هذه العملية التي تكاد لا تشبه المقاربات الأخرى للمعرفة؟ "
ب- "الفهم" و "التأويل"
لم يفعل دلتاي من خلال الإشارات السابقة إلاّ تهيئة المجال لتعريف المفاهيم الأساسية للتأويلية.
ب.1- الفهم :
يقول :" نحن نسمّي فهماً العملية التي بواسطتها نحن نعرف ’’باطنا’’ ما بالاستعانة بالعلامات المدرَكة من خارج عبر الحواس. [..] ونسمّي فهما العملية التي بواسطتها نحن نعرف شيئا نفسيا ما بالاستعانة بالعلامات المحسوسة التي هي بمثابة تجلٍّ له.
إنّ هذا الفهم إنّما يذهب في التعقّل من تمتمة الأطفال إلى هاملت أو إلى نقد العقل المحض. [..] وأينما كان يجب على الفهم أن يكشف عن خصائص مشتركة."
إنّ الفهم هو نمط المعرفة الوحيد الذي يمكن أن يمكّن العلوم الإنسانية من التميّز عن علوم الطبيعة موضوعا و منهجا و مهمّة و نتائج. وذلك أنّه يقوم على نظرة إلى أشكال الكيان الإنساني بوصفها "علامات" ( signes) كاشفة عن "باطن" يقع في حقل لا يمكن لعلوم الطبيعة أن تفسّره. ولذلك ينبّهنا دلتاي إلى " أنّ فهم الطبيعة ( interpretatio naturae) هو تعبير مجازي."
ب.2- الشرح (Auslegung) أو التأويل ( Interpretation)
إنّه من أجل أنّنا لا نفهم دفعة واحدة بل أنّ " للفهم درجات مختلفة" ، ولا أيّ شيء اتفق، فالفهم هو " أوّلا رهن المصلحة " ، - فإنّ الفهم لا يعدو أن يكون ضربا خاصا من التأويل.
يقول دلتاي :" نحن نسمّي شرحا أو تأويلا هذا النمط من الفهم للتجليات الحية المثبتة على نحو دائم."
ما معنى "مثبتة على نحو دائم" ؟- أنّها مثبتة في نصّ مأثور ومن خلال لغة مستقرة لدى أهلها. هنا يكشف دلتاي عن انتمائه إلى الفلسفة المعاصرة من حيث أنّه يفكّر في نطاق المنعرج اللغوي من تقليد فهم خطاب الإنسان من خلال نمط وعيه بنفسه إلى فهم ذلك الإنسان نفسه و نمط وعيه بنفسه من خلال ما يقوله عن نفسه.
يقول :" إنّما في نطاق اللغة فحسب تجد حميمية الإنسان عبارتها التامة، المستقصاة و القابلة للفهم على نحو موضوعي. ولذلك يدور فن الفهم حول تأويل الشهادات الإنسانية المحفوظة بواسطة الكتابة."
2) خصومة الفهم و التفسير ( Erklärung) أو التأويلية بوصفها الأساس المنهجي للعلوم الإنسانية
يبدو أنّ التحفّظ الأساسي الذي سجّله دلتاي إزاء شلايرماخر هو أنّ تأويليته قد ظلّت رهينة الإنتاج الأدبي و طبيعته. ولذلك لم يستطع أن يطرح مسألة الفهم إلاّ في علاقته بالأثر الأدبي .
" بيد أنّه، بالإضافة إلى هذه الفائدة العملية للتأويل نفسه، يبدو أنّ للتأويلية دورا ثانيا، هو دورها الجوهري: أن تُرسي على نحو نظري، وذلك ضدّ التدخّل المستمرّ للتعسّف الرومانسي و الذاتانية الريبية في ميدان التاريخ، الصلاحية الكونية للتأويل، التي هي قاعدة لكلّ يقين تاريخي. ومتى ما أُدمِجت في المجموع الذي تكوّنه نظرية المعرفة و المنطق و مناهج العلوم الأخلاقية، فإنّ التأويلية تشكّل وسيطا مهمّا بين الفلسفة و العلوم التاريخية و قاعدة جوهرية لعلوم الروح."
إنّ أصالة دلتاي تكمن في هذا النقل الصريح لمهمّة التأويلية من الفهم الفيلولوجي الرومانسي للآثار الأدبية إلى الفهم التاريخي للظواهر الإنسانية.
ولذلك فقصده إنّما يبدأ في الانكشاف حين نجده يريد الانخراط في ما انخرط فيه بعض معاصريه في ميادين مختلفة حين دعوا إلى إقامة " تأويلية للمنحوتات أو اللوحات" أو "تأويلية أركيولوجية"، وذلك من فرط الحاجة في هذه الميادين إلى "تفسيرات أدبية" حتى تفي بغرضها. لكنّ التطبيقات المحبذة لدى دلتاي هي بلا ريب الفيلولوجيا (حيث اشتغلت تأويلية شلارماخر قبله) وبخاصة التاريخ، العنوان الجامع لكل العلوم الإنسانية. فهو قد ذكر منذ البداية أنّ " الفيلولوجيا و التاريخ جميعا يقومان على فرضية أنّ تعقّل المفرد يمكن أن يكتسب قيمة موضوعية" . وإنّه هنا تحديدا تأتي الحاجة إلى التأويلية: فهي وحدها يمكن أن توفّر إيضاحا نظريا لتلك الفرضية التي لا يقف عندها الفيلولوجي أو المؤرخ.
كيف يمكن أن نمنح "قيمة موضوعية" للحس الفيلولوجي أو الحس التاريخي ؟ - ما الحاجة إلى التأويلية ؟
يفترض دلتاي أنّ ما لا يهتم به العلم الوضعي هو أنّ " أثر كاتب عظيم و مخترع عظيم و نابغة دينية أو فيلسوف حقيقي، لا يمكن أبدا أن يكون سوى التعبير الأصيل عن حياته الباطنية" . ولذلك فإنّ "القيمة الموضوعية" لذلك الأثر لا يمكن أن تنكشف إلاّ متى توفّرنا على فن الفهم المناسب لطبيعتها.
وذلك يعني عندما نفلح في بلورة فنّ للتأويل ينجح في اختراع "قواعد" تمكّننا من "فهم" أصيل للآثار المدروسة.
يقول :" إنّ فنّ التأويل قد تطوّر بنفس التدرّج و الانتظام و البطء الذي حصل مثلا مع ذاك الذي يتعلق بمساءلة الطبيعة بواسطة التجربة. إنّه نشأ مع المهارة الشخصية للفيلولوجي. [..] لكنّ كلّ فنّ إنّما يعمل وفقا لقواعد. وهذه تعلّم كيف يتمّ تخطّي صعوبات معيّنة. إنّها تحتفظ بنتائج الفن الشخصي. لذلك فإنّ فن التأويل قد أنتج منذ وقت مبكّر عرضا خاصا لهذه القواعد. وإنّ التأويلية قد تولّدت عن النزاع بين مثل هذه القواعد، ومن الصراع بين الطرق المختلفة لتأويل آثار رئيسية ومن ضرورة تأسيس تلك القواعد. إنّها فنّ تأويل الآثار المكتوبة. "
إنّ إخضاع فنّ الفهم لقواعد تأويلية هو البديل الايبستيمولوجي الذي ترفعه التأويلية في مقابل احتكام علوم الطبيعة إلى المنهج التجريبي. وبدلا من العمل على التجربة الخارجية على الظواهر يدعونا دلتاي إلى العمل على "تجربة باطنية" لمعاني أشكال التعبير الذي يعتمدها البشر في إنجاز كيانهم. لكن في حين أنّ موضوع علوم الطبيعة هو الأجسام فإنّ موضوع التأويلية هو النصوص. وفهم النصوص يتطلب فنّا، أي مهارة تترجم نفسها في جملة من القواعد، وليست التأويلية سوى تدبير قواعد التأويل بوصفه سيرورات فهم مستقلة بذاتها عن كل ناقد أو كاتب.
بذلك تطمح التأويلية إلى إنتاج نمط جديد من القيمة الموضوعية لم يعد يستمد صلاحيته من المبرهنة الرياضية أو من التجريب المخبري ، بل من نزاع إيجابي بين إمكانيات الفهم من خلال نزاع منهجي بين قواعد التأويل. – إنّه في هذا المقام بالذات يطرح دلتاي نفس المشكل الذي اعترض شلايرماخر من قبلُ، ألا وهو مشكل الصلاحية الكلية للتأويل.
يقول:" حين تقرّ، من خلال تحليل الفهم، إمكانيةَ تأويلٍ ذي صلاحية كونية، فإنّ التأويلية تنزع، في آخر المطاف، إلى حلّ المشكل الأعمّ الذي بدأنا به؛ فإلى تحليل التجربة الباطنية ينضاف تحليلُ الفهم و هما معا يوفّران الحجة على أنّ علوم الروح قادرة على معرفة تملك في حدود معيّنة صلاحية كونية بقدر ما تكون معيَّنة بالطريقة التي تكون بها الوقائع النفسية معطاة لنا في بدأتها."
من جهة نظر التأويلية، يعني "الكوني" ما يمكن أن يصدق على كلّ المؤلفين و الآثار: ما يمكّن من فهم أيّ مؤلف أفضل ممّا فهم نفسه، و ما يمكّن من أن نؤوّل الوجه الظاهر من أثر ما حتى نلج إلى وجهه الباطن. فالقصد هو رسم سيرورة فهم كونية و ضبط قواعد تأويل كونية للفهم.
إنّ أخطر قرار نظري هنا هو اعتبار الفهم " حالة جزئية من مبحث المعرفة" وتعريف هذه المعرفة بكونها " كلّ سيرورة نسعى بواسطتها إلى اكتساب علم ( un savoir) له قيمة عامة" . ووجه الخطر أنّ دلتاي يريد أن يجعل من الفهم نمط المعرفة النوعي الخاص بمجموعة كاملة من العلوم، هي علوم الروح، وليس مجرّد مشكل أدبي. من أجل بيان ذلك هو قد أفرد ستّ قضايا علينا عرضها تواليا:
أ- "نحنّ نسمّي فهما السيرورة التي من خلالها تكشف تجليات حسية معطاة عن الحياة النفسية ذاتها" (قضية 1)
ب- "مهما كانت التجليات الحسية للحياة النفسية مختلفة، فإنّ فهمها يجب أن يُبدِي خصائص مشتركة تتعلق بالشروط المذكورة لهذا النمط من المعرفة" (قضية2)؛
ت- " نحن نسمّي شرحا و تأويلا، فنّ فهم التجليات المكتوبة للحياة" (قضية 3)؛
ث- "أنّ فنّ الشرّاح العباقرة يجب أن يُحدّد بالقواعد التي يمكن استنباطها من منهجهم أو التي كانوا قد وعوا بها هم أنفسهم [..] ولذلك ينبغي أن نحاول حلّ النزاع بين الفنّانين العباقرة في الشرح بالرجوع إلى قواعد كونية. [..] ونحن نسمي تأويلية هذه التقنية في تأويل التجليات الحيوية المثبتة بالكتابة" (قضية 4) ؛
ج- " أنّ الفهم، بالمعنى الواسع الذي ينبغي أن ندقّقه الآن، هو المقاربة الأساسية لكلّ العمليات الأخرى للعلوم الأخلاقية" ( قضية 5)؛
ح- "إذا كان الفهم هو أرضية علوم الروح، فإنّ تحليله من الزوايا الثلاثة لنظرية المعرفة و المنطق و المناهج هو واحدة من المهام الرئيسة التي تتوجّب على كلّ من يريد أن يضع هذه العلوم على أساس صلب." (قضية 6)
كيف يظهر الدور المنهجي للتأويلية في دراسة الظواهر الإنسانية من خلال هذه القضايا ؟
إنّ أوّل إجراء منهجي هو نقل الظواهر الإنسانية من نطاق التفسير الميكانيكي السائد في علوم الطبيعة إلى أفق الفهم التأويلي الذي يدعو دلتاي إلى اعتماده في علوم التاريخ. وبذلا من أن نعلّل كلّ ظاهرة على أساس الربط الضروري بين الأسباب و النتائج، يفترض دلتاي أنّ فهم أيّ ظاهرة معيشة يقوم على إرساء سيرورة مرور من التجليات الحسية الخارجية إلى الحياة الباطنية التي تشكّل معنى التاريخية الخاصة بشعب أو عصر أو أيّ أثر إنساني. الفهم هو الذهاب من ظاهر إلى باطن، أي هو تأويل، وليس تفسيرا، أي ذهابا من سبب إلى نتيجة.
أمّا المظهر المنهجي الثاني فهو الافتراض بأنّ الفهم ليس عملا اعتباطيا بل هو فنّ أو سيرورة دقيقة في التأويل تستند إلى جملة محدّدة من القواعد العامة التي يمكن ضبطها. ولذلك فالتأويلية لا تؤدي دورا منهجيا إلاّ بقدر ما تفلح في بلورة تقنيات فهم أو قواعد تأويل صريحة و فعالة.
وأخيرا فإنّ الفهم ليس ملكة عادية من ملكات الإنسان بل هو نمط المعرفة الخاص بأيّ علم يزعم أنّه يدرس الظواهر الإنسانية دراسة تريد أن ترتقي إلى رتبة الصلاحية الكونية للعلوم بعامة.
لكنّ هذا الدور المنهجي تعترضه تحديات أو معضلات لابدّ له من التغلب عليها. ويحصي دلتاي ثلاث معضلات:
معضلة 1: " كيف تستطيع فردية ما أن تحوّل إلى معرفة موضوعية ذات قيمة عامة، المعطى الحسّي الذي هو عندها تجلٍّ حيويّ لفردية أخرى ؟" ؛
معضلة 2: " أنّ الفهم ينتج عن الكلّ، الذي ينتج هو نفسه عن التفاصيل" ؛
معضلة 3: "أنّ الوسط ضروري للفهم، ومن ثمّ أنّ الفهم لا يختلف عن التفسير، بقدر ما يكون ممكنا في هذا الميدان. وأنّ التفسير يفترض بدوره فهما تاما" .
نلاحظ أنّ المعضلات الثلاث تعود في آخر المطاف إلى طبيعة واحدة: إنّها طبيعة "الدور". ربّ صعوبة كان شلايرماخر قد عاينها من قبلُ، ويصفها دلتاي هنا بأنّها "الصعوبة المركزية لكلّ تأويلية [..] أنّ الفهم التامّ للتفاصيل يفترض بعدُ فهمَ الكلّ." . وبرغم أنّه ينعت هذا الدور بأنّه "دور فاسد" ( cercle vicieux) فهو قد عمل على تحويله إلى دور قابل للتجاوز، وذلك بأن ترجمه في سؤال قديم كان غورجياس السفسطائي اليوناني قد صاغه بكلّ صلافة : " حتى ولو كان ثمّة علم ما، فإنّ صاحبه لا يستطيع أن ينقله إلى أيّ شخص آخر" . إنّ طرافة دلتاي هو كونه بقدر ما يقرّ بأنّ المعيش الإنساني يطرح مشكلا – "إذْ أنّ إمكانية إدراك شيء غريب هو واحد من المشاكل الأكثر عمقا التي تطرح نفسها على نظرية المعرفة" – فهو يفترض في المقابل بأنّ المعيش ليس مجرّد معطى حسي، بل هو يصدر عن فردية حيّة، عن "ملكة ملازمة للحياة" . إنّها ملكة الفهم.
ولكن من أجل أنّ ملكة الفهم هذه لا تعمل في فراغ بل في وسط إنساني عيني، أي في عالم معيش ، فإنّ الفهم لا يتمّ من غير تفسير للأسباب و العلاقات التي تشكّل ذلك العالم المعيش و تحكمه.
"إنّ المشكل المعرفي هو نفسه دوما: كيف نستخرج من التجربة علما له قيمة عامة ؟ لكنّه يمثُل هنا ضمن الشروط الخاصة الملازمة لطبيعة التجارب المعيشة الخاصة بالعلوم الأخلاقية، ألا وهي أنّ البنية ، في الحياة النفسية، هي المجموع الحيّ و المعروف الذي يفسّر ما هو جزئي.
بذلك فإنّ المشكل المعرفي الجوهري الذي يطرح نفسه على عتبة العلوم الأخلاقية هو تحليل الفهم. بالانطلاق من هذا المشكل المعرفي و اعتناق حلّه بوصفه غاية قصوى، تدخل التأويلية في علاقة حميمة مع المسائل الكبرى التي تحرّك الفكر المعاصر، نعني تكوّن العلوم الأخلاقية و مشروعيتها."
نلاحظ أنّه لا وجود إذن لخصومة قارة بين الفهم و التفسير، بل ثمّة فقط أوّلية الفهم على التفسير في ميدان العلوم الإنسانية، مثلما أنّه توجد أوّلية التفسير على الفهم في حقل علوم الطبيعة. والفهم أوّليّ لأنّ الظواهر الإنسانية هي ظواهر معيشة و رمزية، وهو ما تخلو منه ظواهر الطبيعة. إنّ الإنسان يعيش كيانه حين يقوله في نفس الآن، ولذلك فإنّ العمليات المنطقية التي يعتمدها في ميدان علوم الروح هي مطبوعة باللغة كخصوصية كبرى.
ذلك يؤدي إلى تلازم قوي بين اللغة و المنهج في أيّ فنّ للفهم. فإنّ دلتاي يفترض أنّ كلّ ظاهرة روحية هي مجموع متواشج بين "حياة حميمة" علينا أن نفهمها، و "صورة باطنية للأثر" علينا أن نؤرّخ لها من خلال تأويلها. فالحياة عند الشاعر هي "ملكة الإبداع"، وهي عند الفيلسوف "رؤية العالم"، و هي عند السياسي "أعماله". والمطلوب هو فهم المؤلف أفضل ممّا فهم نفسه ، أي الكشف عن "المجموع اللاواعي" ( ensemble inconscient) الذي يحكم تشكّل الأثر الذي نؤوّله، والذي يعجز المؤلف نفسه عن البصر به. وحسب دلتاي هذا هو "الانتصار الأعلى للتأويلية" .
عند هذا المستوى يعلن دلتاي :
" بين التأويل ( Auslegung) و التفسير ( Erklärung) ليس ههنا من حدّ ثابت، بل فقط تفريق متدرّج. وذلك أنّ الفهم مهمّة لا متناهية.[..] إنّ السؤال يطرح نفسه عمّا إذا كان يمكن للغة أن تميّز بين الفهم و التفسير. [..] إنّ مصطلح التفسير يصلح للإشارة إلى نمط معرفة المفرد عندما تُستخدَم رؤى عامة على نحو واع و منهجي لإنتاج معرفة تامة عن المفرد. لكنّه لا يكون مبرّرا إلاّ بقدر ما نبقى على وعي بأنّه لا يمكن أن يتعلق الأمر بالنسبة إلى المفرد بأنْ يتحلّل تماما في العام."
بذلك فإنّ الرهان النظري في علوم الروح هو أن نفهم لكنّنا لا نفهم إلاّ بقدر ما نؤوّل، والحال أنّ التأويل هو المراوحة الموجبة بين الأثر المفرد و الكلّ الذي تشكّل داخل فضائه المعيش و الرمزي، وذلك يعني أنّنا لا نؤول إلاّ بقدر ما نفسّر، أي بقدر ما نربط المفرد الذي نريد أن نفهمه برؤى عامة تتخطاه.
مصادر ومراجع عامة :
1) Dilthey, W., "Origine et développement de l’herméneutique“, in: Le Monde de l’esprit, tome 1, Paris, Aubier, 1942, 1947, pp. 319-340.
2) Gadamer, H.-G. , Vérité et Méthode , tr. Fr. , Paris, Seuil, 1976 et 1996.
3) ----------, L’Art de comprendre. Ecrits 1 : Herméneutique et tradition philosophique, Paris, Aubier-Montaigne, 1982.
4) ----------, L’Art de comprendre. Ecrits 2 : Herméneutique et champ de l’expérience humaine, Paris, Aubier, 1991.
5) Heidegger, M., Être et Temps, tr. Fr. de F. Vezin, Paris, Gallimard, 1986.
6) Jauss, H. R., Pour une herméneutique littéraire, tr. Fr. de M. Jacob, Paris, Gallimard, 1988.
7) Ricœur, P., Le conflit des interprétations. Essais d’herméneutique , Paris, Seuil, 1969.
8) ---------, Du texte à l’action. Essais d’herméneutique II, Paris, Seuil, 1986.
9) -------, Temps et récit, 3 tomes , Paris, Seuil, 1983, 1984, 1985.
10) --------, Soi-même comme un autre, Paris, Seuil, 1990.
11) Schleiermacher, Fr., Herméneutique, tr. Fr. de C. Berner, Paris, Cerf, 1987.
2) المراجع :
1) Exégèse et herméneutique , Paris, Seuil, 1971 ( Textes de R. Barthes, P. Ricoeur, …).
2) Greisch, J., L’âge herméneutique de la raison, Paris, 1985.
3) ------------, Présentation de : Comprendre et interpréter. Le paradigme herméneutique de la raison . Institut catholique de Paris, Faculté de Philosophie, n° 15, Paris, Beauchesne, 1993.
4) Grondin, J., L’universalité de l’herméneutique, Paris, P.U.F., 1993.
5) ----------, L’horizon herméneutique de la pensée contemporaine, Paris, Vrin, 1993.
6) Gusdorf, G., Les origines de l’herméneutique, Paris, Payot, 1988.
7) Habermas, J, La logique des sciences sociales, tr. Fr. , Paris, P.U.F., 1987.
8) Hottois, D., L’inflation du langage dans la philosophie contemporaine. Causes, formes et limites, Bruxelles, Éditions de l’Université libre de Bruxelles, 1979.
9) Les métamorphoses de la raison herméneutique. (Actes du colloque de Cerisy-la-Salle 1er-11 août 1988 sous la direction de Jean Greisch et Richard Kearney), Paris, Cerf, 1991.
10) Resweber, J.-P., Qu’est-ce qu’interpréter? Essais sur les fondements de l’herméneutique, Paris, 1988.
11) Rorty, R. , L’homme spéculaire, tr. Fr. , Paris, Seuil, 1990.
12) Vattimo, G., Éthique et interprétation, tr. Fr. , Paris, Ed. La Découverte, 1991.
13) --------, La fin de la modernité. Nihilisme et herméneutique dans la culture post-moderne, tr. Fr., Paris, Seuil, 1987.
14) Warnke, G., Gadamer. Herméneutique, tradition et raison, tr. Fr. , Paris, Editions universitaires de Boeck, 1991.
انتهى
#فتحي_المسكيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟