أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - الطبيعة تنحت وترسم الآلهة - لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (21)















المزيد.....


الطبيعة تنحت وترسم الآلهة - لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (21)


سامى لبيب

الحوار المتمدن-العدد: 3679 - 2012 / 3 / 26 - 17:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الإنسان يعيش الحياة وسط وجود مادى صرف يتمثل فى طبيعة حاضنة يتلمس ويتحسس وجودها منذ ميلاده وحتى موته..هذه الطبيعة ليست بذات وعى , وينحصر وجودها ما بين الحى والجماد .. فهل الطبيعة الغير واعية لها تأثير على الإنسان .؟
بالطبع سيعتبر البعض ان ثمة تأثير للطبيعة على الإنسان كالمناخ مثلا , ولكن الحقيقة أن الطبيعة تتفرد بالتأثير ونحت الشخصية الإنسانية ورسم كل ملامحها , فلا تكون مشهداً خارجياً نراه ونتحسسه بل هى المحتوى الحاضن والخالق والمُشكل لتكويننا النفسى والمزاجى والفكرى , بل تمد يدها لترسم صورة الآلهة فى ذهننا وتحدد ملامحها .

أستنزف وقتى اثناء جلوسى على جهاز الكمبيوتر والإنترنت ما بين القراءة والكتابة ليتساوى مع مشاهدات لفن تشكيلى وصور من الطبيعة الرائعة من خلال مكتبتى الخاصة التى إقتربت من 10 آلاف فيديو وعشرات الآلاف من الصور .. فرائع ان نداعب عيوننا بالجمال ونحلق فى آفاق عالم الألوان والخطوط .

عند إنتهاء إستمتاعى بمشاهدة فيديو رائع يصور مشاهد من الطبيعة وجدت الشاشة بيضاء كعلامة إنتهاء العرض , تأملت هذه الصفحة لأحس بتوقف وإنزعاج ما بالرغم أنه لون أبيض ناصع البياض , ويأتى التوقف بأن اللون الأبيض جاء صادماً بعد ثراء وحفلة ألوان وخطوط غمرت عيونى , فاللون الأبيض رغم نصاعته ليس له جماليات فى حد ذاته بل بالمعنى الذى نسقطه عليه , ليجول فى خاطرى فكرة غريبة ماذا لو كان العالم كله ذو لون واحد فهل نتصور أنه يمكن أن توجد حياة أم هو الموت بعينه .؟!
هل لنا أن نتخيل مشهداً إفتراضياً يمكن تجربته لو وضعنا إنسان منفرداً عارياً داخل حجرة فارغة على شكل مكعب كل جوانبها وسقفها وأرضيتها من لون واحد فكيف سيكون حاله لو تركناه هكذا , وماذا سيعتريه ؟! .. من المؤكد انه سيصاب بحالة من الإكتئاب فى البداية لتتدهور حالته ويصل للجنون كلما زادت إقامته فى الغرفة ذات اللون الواحد , بل سيقدم على الإنتحار لو توفر له السبل ليتحرر من معاناته هذه .!!

هذه الفكرة قريبة إلى حد ما من الإنسان المحبوس فى زنزانة منفرداً فهو يعانى الأسر ولكن معاناته ليست لقيد حريته الجسدية من الإنطلاق والحركة كما نعتقد ولكن لأسر الصور والألوان التى تستوعبها عيونه ليكون سلواه الساعة التى يخرج من زنزانته للتجول فى فناء السجن , أو التطلع من نافذة الزنزانة لرؤية ألوان وصور بالخارج تجعل للحياة معنى وحضور ... إستمتاعنا بإرتياد الشواطئ والأماكن الطبيعية الساحرة ليست أكثر من الرغبة فى الإنغماس داخل فضاء هائل وثرى من الألوان والخطوط تداعب عيوننا وتثرى الدماغ بالحيوية وتجعل للحياة معنى .

الوعى والإحساس الإنسانى يتشكل من الخط واللون فلا توجد أى مفردة صغيرة فى الذهن إلا تعتمد على صورة من خط ولون فهكذا تتعامل شفرة الدماغ .. فمعنى أن نعيش فى لون واحد أن تنعدم الصور والخطوط فيصبح الوجود مساحة لونية , فهنا تُشل قدرة الدماغ على التفاعل مع الخارج لتصل لحالة من الجمود والموات لأننا ببساطة شديدة أمام قطع التواصل , فانعكاس اللون على الدماغ لن يخلق رد فعل داخله بتكوين صور تخلق الفكر فتكون النتيجة شلل وانقطاع أسلاك الإتصال .. وهذا ما حدث عندما أسرنا إنسان داخل مكعب فقد نزعنا عنه معطيات الفكر بتجميد المشهد .

اللون ليس له معنى بدون وجود لونى بجواره فنحن لم نعرف اللون الأبيض إلا من وجود اللون الأسود لتشكل لنا معرفة وإحساس وكلما تناثرت الألوان بغزارة كلما زاد فاعلية الدماغ فى التعامل مع الوجود فأصبح اكثر حيوية ونشاط .
الفكرة تتكون من مجموعة صور تحوى خطوط وألوان وكلما تزاحمت الصور وتشابكت كلما حظينا على فكرة قوية بغض النظر عن كونها منطقية أو خيالية , فالفكرة المنطقية العقلانية هى محاولة لتجميع عدة صور بطريقة منظمة تخضع لما هو معتاد ومألوف ومستمد من الطبيعة المادية , بينما الفكرة الفنتازية هى لصق مجموعة من الصور اللونية بطريقة خيالية عشوائية غير معتادة , ففكرة عروس البحر هى تجميع لصورتى رأس وصدر إمرأة مع جذع وأطراف سمكة , وفكرة الملاك هى صورة إنسان جعلنا لونه ابيض ولصقنا فى جوانبه جناحى طائر .

من هنا يمكن ان ندرك أثر الطبيعة الخطير على الإنسان بل للدقة هو الأثر الوحيد والمتفرد فى تشكيل الفكر والوعى وتفعيله فهى تقدم له كل المفردات الوجودية التى يتشكل منه صوره الفكرية .. لذا كلما منحت الطبيعة الإنسان ثراء لونى هائل فهى ترتقى به إلى مرتبة متقدمة من الوعى وبناء الأفكار وإبداعها , وهذا ما نتلمسه فى الحضارات القديمة والحديثة على السواء فهى نشأت فى الوديان والأنهار والمناطق الخصيبة حيث الثراء اللونى بينما لم تمنح القفور والصحارى إمكانيات وآفاق أعلى لتطوير الوعى .

الطبيعة الثرية بألوانها وصورها منحت الإنسان آفاق هائلة من المفردات ليتعامل معها وهذا يشبه أن تُدرب طفل على التعاطى مع مفردات ذهنية كثيرة لتجد منه إستجابة وذكاء وقدرة على الإبداع مقارنة بطفل حرمته من هذه المفردات لتجعل ذهنه مقتصراً تعاملاته على عدة مفردات بسيطة , لذا لن تجنى منه على قدرات متقدمة من التفكير والإبداع وهذا حال قاطنى المناطق المجدبة والقفارى والبوادى فالصور التى تصل للذهن صور نمطية ليست بذات ثراء لونى , فالمعطيات التى دخلت الذهن جدباء فقيرة وشحيحة ليمارس العقل التعاطى مع ما هو متوفر لديه من معطيات .. بينما طفلنا الذى عاش فى بيئة وفرت له التعاطى مع مفردات كثيرة نال عقله درجة أعلى من الكفاءة بالرغم ان الطفلين من حيث التركيب البيولوجى واحد , لكن أحدهما تم منحه آفاق وتدريب رائع للذهن والآخر تم تحجيمه فى مفردات شحيحة , وهذا يفسر لنا لماذا لا تبدع شعوبنا فقد حجمت قدرات وإبداع أطفالنا فى صور ساذجة نمطية .

الحضارات جاءت فى مجتمعات زراعية ذات ثراء الصور والمشهد اللونى فنشط الذهن بإستيعاب المزيد كمثال الطفل الذى توفر له المزيد من اللعب لتكون كم المدخلات فى سبورة الوعى غزيرة لترفع من منسوب التقدم والرقى الإنسانى .
عبقرية الطبيعة الزراعية أنها لم تقتصر على إمداد الإنسان بمشاهد لونية ثرية وعديدة تغذى مدخلاته بل منحت الإنسان الحيوية من خلال حركة وحيوية الألوان , فالحركة هى طبيعة الوجود وكلما كانت المشاهد الحركية ذات ثراء وحيوية كلما منحت الإنسان آفاق أعلى فالمزارع يرى المنتج الزراعى أمام عيونه فى حالة نماء مسجلا دوما حركة لونية جديدة وليس مشهداً ثابتاً مما يمنح ذهنه حيوية أكثر بتسجيل العديد من المشاهد .
يفتقد الإنسان المقيم فى الصحارى والقفارى هذا الأمر فعلاوة أن الألوان والصور بائسة ومحدودة ومحددة فيضاف إلى ذلك شبه إنعدام وجود فعل حيوى للألوان والصور , فعملية التغيير بطيئة غير محسوس فعلها بل تقترب من الإنعدام فمشهد الصحراء ذو المساحة اللونية واحد وتغيره البطئ الذى يقتصر على بعض الخطوط مع حركة الرياح وتبقى المساحة اللونية لا يعتريها التغيير لذا نجد أن حياة البادية رتيبة غير مُبدعة فالسكون هو المشهد العام .

يمكن إيجاز الفكرة بأن المشهد الوجودى عندما يكون ثرياً متدفقاً بصوره وألوانه فقد منح الدماغ مدخلات كثيرة يتعامل معها , ولو لم تكن هذه المدخلات من باب حثه على الإبداع فيكفى فقط أن تكون بمثابة التنشيط والتدريب والمرونة الذهنية للتعامل مع أى صور فكرية .

المشاهد والصور والألوان لا تكتفى بحيوية الدماغ فى التعاطى مع مفردات ومدخلات كثيرة لتهيؤ للعقل المناخ الملائم والخصب للعملية الفكرية الإبداعية , ولكن الطبيعة بألوانها وصورها لها تأثير خطير فى خلق الحالة النفسية والمزاجية للإنسان , فبالرجوع لمثال الإنسان المحبوس فى مكعب ذو اللون الواحد والذى سيؤدى به الحال إلى الإكتئاب والجنون نستطيع تلمس الحالة النفسية وعلاقة الطبيعة واللون فيها , فالمناظر والصور والألوان الشحيحة لن تكون كمثل الطبيعة السخية بألوانها وحركتها , فالأخيرة ستوفر أجواء نفسية أفضل فهناك زخم من المشاهد الذى يتعاطى معها الذهن .. لذا نجد الصفة الغالبة على المجتمعات الزراعية والساحلية البساطة واللين والهدوء وحب الحياة بينما نجد المجتمعات الصحراوية والقفرية والسجون كتجمعات يسودها التوتر والعصبية والجفاء , فالطبيعة لم تمنحهم إلا مشاهد جافة فقيرة غير مُشبعة شحيحة الحيوية.

الطبيعة تشكل الأخلاق والقيم وترسم السلوكيات للإنسان الحى .! .. بالطبع ليست الطبيعة بفاعل شاخص يقوم بعملية التعليم والإيعاز بل هى تمنح المناخ والتأثير الإيحائى الذى يجد مردوده فى الإنسان لتمنحه مزاج نفسى محدد .. أى هى قدرة الظرف الموضوعى المادى على التأثير والتشكيل ونحت التركيبة النفسية كما تنحت مياه البحر الصخور .. ليمكن القول أن سلوك وذوق ومزاج الإنسان هو حظه من الجغرافيا .

الإنسان يتأثر بالطبيعة الحاضنة له فهو إما ينسجم ويتناغم معها أو يستهجنها لتصل به لحالة لبلادة .. وإنسجامه مع الطبيعة وإمتنانه لها لكونها مانحة الخير والإشباع والأمان لتؤثر على نفسيته فتمنحه حالة من الإرتياحية والسلام , بينما حالة الإستهجان فهى نتاج حالة ضيق من الطبيعة بما تجلبه من قلق وحرمان وضيق وعدم إشباع فيتكون لديه حالة من النفور والتوجس والقلق تغمر نفسيته فيتشكل انسان متوتر متحفز دوماً .

علاقة الإنسان مع الألوان علاقة ترتبط باللون وما يجلبه له أى هو إسقاط إنطباع ومعنى للون بقدر ما يمنحه من اشباع أو حرمان وشقاء , فكما ذكرنا سابقاً لا يوجد لون جميل أو قبيح فى حد ذاته أى لا توجد جزيئات فى كينونة الشئ تدعى جمال أو قبح بل هى إسقاط انطباع ومعنى على الشئ وفق انسجامه وإشباعه لحاجات أساسية أو إستقباح تأثيره .. فاللون الأخضر يحظى بعشق أهل الوديان لإرتباطه بالزرع والنماء والإشباع لذا يعشقون المساحات الخضراء ويرونها جميلة .. اللون الأصفر فى الصحارى لا يمنح الإنسان إشباعه بل على العكس هو يرتبط بالجفاف والبوار وعدم الإشباع , فالصحارى لا تنتج شئ لذا يتكون نفور داخلى من الطبيعة يعتاد الإنسان عليه بحكم دوام معيشته فيتولد فى داخله بلادة مع إستياء ونفور, يظل كامناً فيه تحت جلده لينتج شخصية مُتحفزة عدوانية فحياتها غير مُتصالحة ولا مُحبة لطبيعة يعيشها.

أخلاقيات المجتمعات الزراعية تتباين عن أخلاقيات وسلوكيات المجتمعات البدوية وهذا يرجع إلى تباين الطبيعة وعلاقات الإنتاج معا فهما الأزاميل التى تنحت وتكون الشخصية الإنسانية بسلوكها ونهجها ومزاجها ومذاقها فى التعامل والتعاطى ,فأن تغمرك طبيعة رحيمة مترفقة بل تصل بك إلى حالة من الدلال سترسمك إنسان غير مُتحفز أو مُستنفر أو قلق .. فالحياة تسير فى إتجاه مانح غير مُتصادم ودورتها لا يشوبها الصراع الشرس مع الطبيعة , فالماء كعنصر أساسى للحياة متوفر ليس للشرب فقط بل لإنتاج المزروعات والإشباع .. فطبيعة مانحة بسخاء وبنظام لن تجعل الإنسان متوتراً على غده ليصبح الهدوء والصفاء هو نهجه .. ستتيح هذه الطبيعة السخية أن يجلس بعد إنتهاء عمله تحت ظل شجرة وارفة يناجى هذه الطبيعة منتجاً فكراً وأدباً وفناً وتأملاً لن تخرج صورها عن مفردات طبيعته ... هنا السلوك يأتى متلحفاً بمفردات الطبيعة السخية الوديعة .. فالألوان تُعطى تنوع بصرى هائل تمارس فعلها فى خلق لغة تواصل مع الطبيعة وحالة من التفاعل القوى بين المادة والإنسان .. فالمادة غير صادمة متصادمة مع إحتياجاته بل مانحة بسخاء فيحدث شعور بالإستئناس والألفة والإستحسان لنصل لمفهوم الرقىّ .
الطبيعة وقوى الإنتاج تفرض منهجها الأخلاقى والسلوكى على قاطنى المجتمعات الزراعية .. فالأرض واسعة وتحتاج للكثير من الجهد والخبرات المتنوعة ولن يتأتى الحصول على خيرها بالعمل فرادى عكس المجتمعات الرعوية التى لا تطلب حضور جماعى للأفراد فيكفى فرد أو فردان لقيادة مجموعة من الأغنام وبالطبع ستكون السلوكيات ونمط الحياة المصاحب هنا غير المصاحبة هناك .

هذه الرغبة فى المشاركة بالعمل الإنتاجى للمجتمع الزراعى يتطلب إقرار مجموعة من السلوكيات تضمن إستمرارية العمل الجماعى ليصبح التناحر والصراع غير مُجدى , فالأرض واهبة بسخاء فليس أى داعى للصراع الشرس , فهناك حالة توافق وإنسجام فى الجماعة البشرية , فالصراع بين الإنسان والطبيعة فى أقل مستوياته والأرض واهبة بسخاء فما الداعى للصراع الشرس , ولكن يتبقى بالفعل صراعات ولكن فى أقل مستوياتها تنحصر فى الإستحواذ فقط ... من هنا تكتسى السلوكيات بشكل ودى طيب غير مُتحفز أو مُستنفر فلا وجود للقلق الشديد من الطبيعة ومن هنا يأتى المناخ المهيئ للإبداع .
يظهر إنسان المجتمعات الزراعية حفنة من السلوكيات تنم عن تأثره البالغ بالطبيعة الواهبة لتتكون علاقة عاطفية بالمكان لنجد عاطفة تتولد بإرتباط الإنسان بأرضه ونهره ..عاطفة منشأها طبيعة منحته الأرض والماء اللازم لحياته ليستحسن هذا الأمر ويَمتن للطبيعة الواهبة فى صورة الإله , وتغدو هناك علاقة عاطفية قوية مع الأرض كما نرى فى سلوكيات أهل القرى .. لذا لا يكون غريباً أن تتكون لقاطنى المجتمعات الزراعية فى مصر القديمة مجموعة من السلوكيات التى يبجلونها مثل إحترام النهر والزرع والأرض مع إعلاء قيم التعاون وتحريم الممارسات المُغتصبة لحق الآخر .

نلاحظ شيئا لافتاً للإنتباه نجده فى المجتمعات الزراعية وهو هذا الميل الشديد للتقارب الإنسانى لينعكس هذا الأمر على نمط معيشتهم فنجد المساكن متقاربة متلاصقة تخلق حميمية بالضرورة بينما لا نجد هذا الأمر فى مجتمعات البادية حيث المنازل والخيام متناثرة .. بالطبع تأتى أهمية الأرض وإستثمارها كعامل مهم فى خلق هذه الحالة فالأرض بالنسبة للصحراوى ليست بذات معنى , ومن هنا تولدت الحميمية هنا والبلادة هناك , وقد يرجع هذا أيضا إلى وحدة العمل الإنتاجى فالفلاح يعمل مع النسمات الأولى من الصباح فيخرج لعمله مع صحبة تمنحه الحافز والمعاونة والتكافل ليتحرك الفلاحون فى قافلة واحدة .. وهذا يثبت تأثيرالطبيعة على نحت السلوك الإنسانى و تشكيله .

يمكن تفهم لماذا المجتمعات أنتجت ثقافات وميثولوجيات متباينة , فشعوب عاشت على الأودية كالمصريين والصينين والهنود حيث الثراء اللونى أنتجت آلهة وأساطير ذات تنوع إكتست بالكثير من اللين بينما شعوب عاشت فى البرية والبادية أنتجت ميثولوجيات وسلوكيات لآلهة عنيفة قاسية كما فى التراث العبرانى والإسلامى حيث تظهر الآلهة حادة سريعة الغضب والإنتقام فهى إنعكاس لنفسية الإنسان على الإله والتى إكتسب الإنسان القسوة من الطبيعة .

المشهد العنصرى للإله هو نتاج طبيعة إكتست بالقسوة فإنعكست على الداخل الإنسانى فأنتج آلهة قاسية , ولكن يمكن تعزية عامل نفسى آخر وهو رفض وغضب وكراهية وغيرة المجتمع الصحراوى من المجتمعات الزراعية ... هذا القول قد يراه البعض عاطفياً بلا مدلول منطقى يفسره , ولكننا لو تأملنا نشأة المجتمعات الصحراوية سنعلم لماذا توجد كراهية وغيرة من مجتمعات الزراعة ... فهل لأحد يمكن ان يعطينا تفسير لإنسان يجد أمامه الزرع والخير والنماء وكل مقومات الراحة والإشباع والمناخ ليتركه متوجهاً للصحراء الجرداء يعيش في كنف قسوة الطبيعة بجفافها وبؤسها وشقائها .؟!!
أرى بأن نشأة المجتمعات الصحراوية جاء من لفظ مجتمعات الزراعة لأفراد وجماعات متمردة رافضة الخضوع للسلطة الحاكمة أو تحمل إيمان مخالف لما هو سائد ومطلوب , أو فلنقل لتخفيف حدة المشهد بأنها ذات نزعات ثورية فكان طردها للصحراء من باب العقاب والعزل والإقصاء حتى لا تمارس تأثيرها فى المجتمع ,, والتاريخ يدعم هذه الرؤية لنحظى على مشاهد عديدة من إستخدام الصحراء كمنفى وطرد لأفراد وجماعات منشقة أو ثورية ... لنجد مثال جزيرة العرب يؤكد هذا فنجد إبراهيم قد أطلق هاجر واسماعيل فى الصحراء وفقاً للتاريخ الميثولوجى , كما ضمت جزيرة العرب الكثير من المعتقدات والمذاهب المغضوب عليها من بلدانها والتى وصفت بالهرطقات كالغنوصية والأبيونية ليتم طردها فى الصحراء , ولو أردنا أن نخفف من وطأة هذا المشهد سنقول بأن هذه الجماعات والفرق المضطهدة وجدت أمانها فى الصحراء للبعد عن بطش السلطات والمنظومات السائدة .. فى كل الأحوال لن يكون ذهاب الإنسان للقفارى والصحراء من باب عشق العيش فى طبيعة جرداء قاحلة .
الميثولوجيا الدينية تعطى لنا مشهد آخر من غيرة وحقد مجتمع البداوة لمجتمع الزراعة فى قصة هابيل وقابيل فالذبيحة كقربان للآلهة أفضل حالاً من قربان منتوجات الأرض فى إشارة إلى تميز وتعالى البداوة على مجتمع الزرع .

العلاقة مع الطبيعة تكون حميمية قوية وذات ارتباط قوى حين يتوفر نمط من الحياة يحظى فيها الإنسان على الإشباع والأمان لتتكون علاقة ترتبط بالأرض الطيبة المانحة لنجد هذا الامر حاضراً فى الشعوب التى تعيش بالوديان والسهول ليصبح ارتباط الفلاح بالأرض ذو علاقة خاصة فلا يستطيع هجرها والرحيل عنها ... بينما الإرتباط بالمكان غير متوفر بالنسبة لقاطنى القفور والصحراء فالأرض جدباء غير سخية , بل تمنح الجفاف والبوار لتفتر العلاقة بين الإنسان والأرض آملاً فى الترحال لعل الطبيعة تمنح فرصة أفضل .. لذا نجد قدرة الإسلام على التمدد والإنطلاق والهجرة , فالمقاتلين ليست لهم علاقة جذرية وقوية وحنونة بالمكان , ولعل هذا ما ساهم فى قوة الدولة الوليدة وسرعة انتشارها وتمددها .

لو نظرنا لميثولوجيا الجنه الإسلامية سنجدها تعبير عن حلم صحراوى فى مشهد الجنات التى تجرى من تحتها الأنهار وفاكهة ولحم طير , فهو أمل الصحراوى المنفى للرجوع الى الوادى حيث النهر والزرع كأقصى مشهد جمالى يستحسنه ويحلم به للخروج من إنعتاق الصحراء .

نلاحظ ان مجتمعات الصحارى لم تنتج فن تشكيلى من رسومات ونحت فلا نجدها شعوب ترسم كما أبدعت الحضارة المصرية والصينية والرومانية القديمة ويأتى هذا كنتيجة منطقية لعدم وجود الإلهام والمفردات التى يستقى منها الفنان القدرة على التعبير , فالفن يجد حضوره عندما يكون هناك صور وثراء لونى وتشكيلى متنوع وحيوى يسقط على مرآة وعيه ليبدأ الفنان بإعادة صياغته بما تم إكتسابه فى عمل فنى , فإذا كانت المشاهد قليلة وشاحبة وباهتة فمن اين يأتى المعين .؟!

هذا يستدعى ان نعرف الفن والفنان .. الفنان إنسان شديد الحساسية والتفاعل مع الطبيعة وله القدرة العصبية والذهنية أن يصيغها مرة ثانية .. وأرجو أن لا يتصور أحد أن الأحاسيس تعنى المشاعر والعواطف الإنسانية فهو فهم مغلوط ومحدود لمعنى أحاسيس الفنان فالحس الفنى هو الإحساس بالخط واللون وقدرة الفنان الرائعة على إختزان خطوط وصور وألوان الطبيعة وهضمها وإعادة صياغتها بإحساسه من خلال الخط واللون .
الخطوة الحيوية والأساسية للفن هى وجود صور والوان وخطوط ثرية تسقط على عين الفنان ليبدأ منها الإبداع فبدون مجال طبيعى ثرى فلن يتكون الإبداع .. لذا نجد المجتمعات الثرية بطبيعتها أنتجت فنانون بينما المناطق المُجدبة لم تمنح فن ولا فنانون فمن يأتى !!.. فى داخل كل منا فنان بسيط متواضع ساذج فى إمكانياته فالفن هو احساسنا العاشق للطبيعة والفنان ليس كائن قادم من المريخ بل هو إنسان قادر على صياغة عشقه وتفاعله مع الطبيعة من خلال حالة عصبية رائعة .. لذا عندما نجد من يُحرم الفنون فهو نتاج أن الفن لا يشكل له أى معنى فى داخله و مفاهيم الجمال التى هى الإحساس بالطبيعة غير متواجدة فتصبح نظرته للعمل الفنى قاصرة وتنم عن عدم الإحساس وإفتقاد الوعى فقد ماتت فى داخله روح الفنان الذى هو العلاقة الحميمية مع الطبيعة .

هل من هنا نستطيع تفسير نهج ونكهة الشعوب والجماعات المختلفة التى تصيغ ثقافاتها من خلال المعتقدات والأديان المختلفة .. ولماذا هناك آلهة وشرائع قاسية كما فى النهج اليهودى والإسلامى .. ولماذا هناك نهج لين ومترفق فى أديان مصر القديمة وبوذا والمسيح والهند .
هل هى طبيعة آلهة ..أم أن طبيعة الإله الحق فى أن يكون قوياً عنيفاً .. أم الإله المحب المتسامح هو الجدير بالألوهية .. بالطبع لا هذا ولا ذاك فالآلهة هى فكر وخيال الإنسان وإنعكاس لعلاقته مع الطبيعة .. فكلما تناغم مع الطبيعة وتنفس صورها وألوانها الثرية الدافئة المُشبعة أنتج آلهة حنونة مترفقة , وكلما عانى من قسوة وجدب الطبيعة وفقرها تولد فى داخله الجفاء لينتج آلهة قاسية .

دمتم بخير .
"من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .



#سامى_لبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيهما الإسلام أفيدونا ؟!- الدين عندما ينتهك إنسانيتنا (34)
- الإيمان إيجاد معنى لوجود بلا معنى -لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون ...
- ثقافة التشرنق والتحفز - لماذا نحن متخلفون ( 4 )
- المنطق الدينى بين الهشاشة والسذاجة والهراء - خربشة عقل على ج ...
- البحث عن قضية إهتمام - الله مهتماً - لماذا يؤمنون وكيف يعتقد ...
- المرأة العربية بين جمود الثقافة والتراث وهيمنة مجتمع ذكورى
- الأديان بشرية الهوى والهوية -خيالات إنسان قديم (3)
- ثقافتنا ومعارفنا البائسة بين التلقين والقولبة - لماذا نحن مت ...
- حكمت المحكمة - يُقتل المسلم بكافر ! (4)
- عذراً لا أريد أن أكون إلهاً - خربشة عقل على جدران الخرافة وا ...
- مَخدعون و مُخادعون - كيف يؤمنون ولماذا يعتقدون (18)
- حصاد عام على إنتفاضة المصريين فى 25 يناير
- زيف الفكر وإزدواجية السلوك وإختلال المعايير - لماذا نحن متخل ...
- ثقافة وروح العبودية - لماذا نحن متخلفون (1)
- الأديان بشرية الهوى والهوية -نحن نتجاوز الآلهة وتشريعاتها (2 ...
- قطرة الماء تتساقط فتسقط معها أوهامنا الكبيرة - خربشة عقل على ...
- الأخلاق والسلوك ما بين الغاية ووهم المقدس - لماذا يؤمنون وكي ...
- نحن نخلق آلهتنا ونمنحها صفاتنا -خربشة عقل على جدران الخرافة ...
- الحجاب بين الوهم والزيف والخداع والقهر - الدين عندما ينتهك إ ...
- هل هو شعب باع ثورته ويبحث عن جلاديه أم هو اليُتم السياسى .. ...


المزيد.....




- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
- نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله ...
- الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
- إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
- “ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سامى لبيب - الطبيعة تنحت وترسم الآلهة - لماذا يؤمنون وكيف يعتقدون (21)