|
تحولات و حيوات
سوزانا النوري
الحوار المتمدن-العدد: 3673 - 2012 / 3 / 20 - 08:25
المحور:
الادب والفن
رجل برائحة المطر ملك و مالك حواسها، يعرف كل تفاصيل روحها و يحفظها كأسماء الأنبياء . يشعل سيجارته ببرودة أعصاب البارون الانكليزي، يراقب احتراقها بشغف.... يستنشقها كما لو أنها المرة الأخيرة، تتغلغل فيه ، تعانق أعماقه لأنها تدري أنه الرجل الأول و الأخير، ينفثها فتصير دخاناً و دوائر رمادية تبتعد و تدور .... و تدور ينظر إليها بشوق و شهوة يعاود استنشاقها و نفخها بشغفه و إدمانه ، تتساقط رماداً و تتكوم هادئة مستسلمة كندف ثلج رمادي. هكذا كان يشعلها و يطفئها إلى أن تتخدر محترقة بالنار مرة و بالثلج مرات. سحب من الدخان هائمة في الفضاء و كومة رماد في منفضة هذا كل ما بقي من عشقهما النرجسي. في البدء كانت الكلمة و الكلمة كانت عند الله، و هما كانا روحين عاشقتين، هائمتين فوق أسطح المحيطات، يغوصان إلى الأعماق، يسبحان مع الحيتان، يسابقان الرياح، يحلقان إلى الفضاء، تغفو هي على نجمة، و يسكن هو ضوء القمر يحرسها حين تنام . لا أحد يعلم على وجه الدقة متى بدأت لعبة المطاردة و الاختفاء، كل ما يذكرانه أنهما استيقظا في صباح قديم و إذا بها جزيرة صغيرة نائمة في حضنه هو .... هو المحيط ، حالمة مسترخية، يداعبها بمده و جزره، ووصاله و صده، إلى أن قرر ابتلاعها ذات مساء و ضمها إلى مملكته و ممتلكاته . في إحدى تحولاتهما المجونة أصبحت هي ورق الشجر، وهو النسيم، تنتظره تتأرجح في أحضانه و تمتعه بموسيقى حفيفها حين يلامسها، فيزداد اضطراباً و نشوة، و تزداد حفيفاً ... لم يستطع صبراً بشدوها و أناتها، أصبح رياحاً هوجاء اقتلعت الأوراق، حملها و حلق بها للأعالي... تنين يدور و هي تدور في فلكه لا حول لها و لا قوة، خارت قواه، تساقطت الأوراق ،و تكدست فوق بعضها، عاد النسيم و عاودت غناءها بصوت أبح. في يوم خرافي أمست شعاعاً خجلاً، تتسلل كل صباح قبل سيدتها الشمس، تهمس بأذنه، تمررأصابعها فوق شعره دون أن تلامسه، تداعبه برفق، إلى أن يقرر النوم في مكان آخر. هو الليل و هي خيوط الشمس الواهية في أول النهار و آخره، ما إن يستيقظ من سباته و يدرك جمالها حتى يبدأ بمغازلتها و يعلن حرب حبه عليها، يلاحقها، يحتضنها، يقبلها من جبينها ، تضعف و تخجل، يبهت لونها، تهرب منه، تختفي خلف الشجيرات، يداهمها و يلتصق بها، يعاود تقبيلها.... تنطفئ أنثى على مهل. تهرب إلى ما وراء البحار، لا شيء يستفز الليل أكثر من تمنعها و هروبها، يزداد سواداً و يركض كالمجنون، يقبض عليها ، يحيط بها، يضمها بعنف إلى أن تختفي في مكان ما بين ذراعيه، و إذا به يحتضن الفراغ، يكتشف غيابها فيصهل كالخيل الجريح، يزداد شوقاً و اسوداداً....و تزداد هي هياماً و غياباً . الأسود الليلي، ملك الألوان و سيد الأكوان، كيف يمكن لليل أن يؤتمن على شعاع؟ في المرة ما قبل الأخيرة تبادلا الأدوار.... انبسطت ... تسطحت ....و امتدت صحراء سمراء عطشى... تبخر ... تصاعد ....تكثف غيماً و من ثم مطر.... أولئك الذين يدعون معرفتهم بتقلبات الجو و مزاجه و يعطوننا نسباً لاحتمال هطول المطر من عدمه، لا يفقهون في قوانين الطبيعة و الجغرافية شيئاً. هي ووحدها هي من يحفظ رائحته و تعرف وقت هطوله، تزداد رائحته حدة ، فتهتاج الصحراء و تغلي كثبانها، يشتاق لحرارة جوف صحرائه فيقرر التهاطل رويداً ....رويداً . لا يزيدها حضوره إلا عطشاً و حمى... يتسارع هطوله و صخبه ، يغوص بها و لا يرويها. هكذا صارت له رائحة المطر ....و صارت هي برائحة الرغيف الساخن. في أغبى لعب مطاردتهما أصبحت امرأة برائحة الرغيف ... و هو .....رجل بعطر المطر يوقظها بكلمة ، يعريها بصمته ، و يلبسها الغياب، يهمس باسمها ... ما إن تسمع صوته حتى تعلو قدماها عن الأرض و تختال في الهواء ..... يبتسم فتنبت لها أجنحة و تحلق بالفضاء . كلاهما يدرك و يتجاهل ذلك التواطؤ الروحي السرمدي .... هي الحروف ... ينتشلها من عبثية الأبجدية.. يعيد ترتيبها و صياغتها ليجعلها قصيدة ، تنظر إلى نفسها بانبهار و تتذكر حالتها الأولى ، كيف كانت فوضوية و عشوائية قبل أن يعيد خلقها من جديد، تصفق كدمية ... تحني له قبعتها... يبتسم و يتألم لسذاجة الأنثى بداخلها. هي تظن نفسها امرأة أقل من عادية... يتربص لها بالمرايا .... تقف بغنج أمام المرآة .... مرآتي يا مرآ...... يقاطعها ... أنت الأجمل و الأحلى .... يطول شعرها كشلال أزرق فوق كتفيها و تفيض عيناها بدموع تروي له آلاف الحكايا . هي ملهمته و سيدة أفكاره ... و هو ما لا تجرؤ هي على البوح من الكلام . هو تلك الحالة اللا وجودية التي تحلق بها بعيداً .... بعيداً عن الوجود ، تلك الكهرباء التي تضيء سراديب ذاتها ... تقف مذهولة حائرة مرتجفة في غمرة فوضى حواسها ، توقن بفطرة الأنثى أنه قد مر من هنا ... ذلك العبقري الإيطالي صورت ريشته قدرهما كآدم و خالقه يمدان يديهما كل إلى الآخر و لا يتلامسان في هذه الحياة. في مكان ما .... في زمان ما ... تستوقفه رائحة رغيف ، يمسكه بيديه ، يبتسم يضمه إلى قلبه كطفل صغير وجد ضالته. في زمان ما ... و في مدينة عاصفة رمادية ، ترفع نظرها إلى السماء فتراها متجهمة على وشك البكاء ، تقهقه و ترفع ذراعيها إلى الأعلى ... يتساقط المطر ليغسل روحها و يبدد وحدتها ... لا شيء إلا رائحة المطر يمكن أن ينسيها عذاب منفاها الجديد .....
#سوزانا_النوري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إنطلاق مهرجان فجر السينمائي بنسخته الـ43 + فيديو
-
مصر.. انتحار موظف في دار الأوبرا ورسالة غامضة عن -ظالمه- تثي
...
-
تمشريط تقليد معزز للتكافل يحافظ عليه الشباب في القرى الجزائر
...
-
تعقيدات الملكية الفكرية.. وريثا -تانتان- يحتجان على إتاحتها
...
-
مخرج فرنسي إيراني يُحرم من تصوير فيلم في فرنسا بسبب رفض تأشي
...
-
السعودية.. الحزن يعم الوسط الفني على رحيل الفنان القدير محم
...
-
إلغاء حفلة فنية للفنانين الراحلين الشاب عقيل والشاب حسني بال
...
-
اللغة الأم لا تضر بالاندماج، وفقا لتحقيق حكومي
-
عبد الله تايه: ما حدث في غزة أكبر من وصفه بأية لغة
-
موسكو تحتضن المهرجان الدولي الثالث للأفلام الوثائقية -RT زمن
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|