|
الحرية في فكر زكي نجيب محمود
جوزف أيوب
الحوار المتمدن-العدد: 3669 - 2012 / 3 / 16 - 00:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
المقدمة: هل تنذر هذه الثورات العربية بعصر نهضة حديث؟ كيف ذلك وإننا نشهد تسلّم الأخوان في عدد من البلدان وخوض آخرون الحروب تحت رايتهم. هذا ما طرحه زكي نجيب محمود بأن الثورات لا تكون عسكرية بل فكرية!! كثيرون الذين نادوا بالتحديث أو التجديد، وآخرون ناقشوا سبب تقدم الغرب على الشرق، منهم عبدالله العروي، وحسن حنفي "التراث والتجديد"، محمد أركون "نقد العقل الإسلامي والمنهج الأركيولوجي"، وأيضاُ زكي نجيب محمود ومنهجه التوفيقي ما بين الأصالة والمعاصرة. تكمن الأهمية في تناول زكي نجيب محمود كونه المفكر العربي الأول الذي حاول التوفيق بين الأصالة والمعاصرة من حيث أن الإنسان العربي يتميز بملكة الجمع بين التراث والحداثة. كما أن زكي نجيب محمود عاصر صعود القومية العربية وتوليها السلطة في عدد من الأقطار العربية، كما كان شاهداً على انكسارتها العسكرية والسياسية والفكرية. سنتناول في المبحث الأول نبذة عن تطور فكر زكي نجيب محمود من تدينه الخالص إلى العقل الخالص حيث حمل مفاهيمه مع البعثة التي ذهب بها إلى بريطانيا، ومفهومه في تشريح المجتمع الغربي، ومن ثم محاولة التوفيق بينهما. أما في المبحث الثاني سوف نرى كاتبنا حامل هموم المجتمع العربي مشرحاً أسباب مشاكله من الحرية والحرية السياسية وعصرنة المرأة. وأخيراً الثنائية بين "الأصالة والمعاصرة" حيث حاول التوفيق بين الفكر والوجدان، بين العقل والإيمان. من جهة نرى زكي نجيب محمود متمسكاً بالقديم ومن جهة أخرى متأثراً بالغرب ومدى أهمية حرية الفرد وتقديس فردانيته. المبحث الأول: سيرة في حياة زكي نجيب محمود الإيمان كنت غلاماً تسري في أوصاله المشاعر الدينية إلى حد الخشوع الذي يتصدع له الجبل... ترعرع زكي نجيب محمود في كنف عائلة فقيرة متدينة في ريف مصر، حيث درس القرآن وحفظه، ولقد تحدث محمود عن هذا أنه لم ينسه وخاصة الوقع القرآني. وكان لهذا تأثيره في مرحلة الشباب. وحتى مال إلى التصوف، حيث يصف زكي نجيب محمود نفسه "صوفياً على الطريقة الهندية..." فبحسب رأيه أن للعزلة خاصية مهمة وهذا ما شرحه في مقالة "يونس في جوف الحوت". ويذهب بعدها بأطروحته "الجبر الذاتي" أي أن الإنسان حرّ الإرادة لكنه مقيد بماضيه أي أنه مجبر عن طريق ذاته، حيث أن الماضي يجبر عليه الإختيار بالرغم من أن هذا الماضي هو من صنعه هو. وبهذه الأطروحة يقدم نقده لهيوم والمدرسة السلوكية. تكمن أهمية هذه المرحلة في نقتطين مهمتين، أولهما: أن هذه المرحلة لم تستبعد النظرة العلمية بل كانت تحمل في طياتها بذور المرحلة الثانية "العقل الخالص"، حيث في ثلاثينياته يعلل وبشكل علمي كيف أن الأوروبي متمسك بحريته وفرديته. ثانيهما: أن هذه المرحلة لم تحمل بذور المرحبة الثانية فقط بل أيضاً المرحلة الثالثة حيث يروي عن نفسه: "عقلاً يبحث لنفسه عن طريق، وظلّ يبحث خلال أعولم الثلاثينيات... وينتظر الجواب: أليس من سبيل يجمع عدة أطراف في رقعة واحدة؟ يجمع العلم والدين، التصوف والحرية؟ أليس ثمة سبيل يجمع مادة إلى الروح؟ ويجمع عقلاً إلى غريزة...؟ العقل أهم ما تناول زكي نجيب محمود في هذه المرحلة نقطتين هما: نقد الحياة الإجتماعية، والنظرة العلمية. في المرحلة الأولى من تطوره الفكري كانت فكرة التقدم الأكثر ميلاً لها قلباً وعقلاً. وفسّرها: "...أن الحاضر قد هضم الماضي ثم أضاف جديداً تلو جديد مما أنتجته السنون. ومعنى ذلك ألّا يكون "العصر الذهبي" وراء ظهورنا، بل أن يكون موضوعه الصحيح هو المستقبل الذي يعمل الناس على بلوغه..." على أن لا الماضي مقياساً للحضارة بل التقدم يفرض علينا الخروج من النمطية نحو أفق أوضح وأرحب اطاراً. وهنا تم سفره إلى انكلترا في بعثة دراسية وهذه الأفكار تتخبط في ذهنه مدركاً بعض المفاهيم التي لا يتم تقدم الإنسان بدونها، كالحرية، العدالة، المساواة، والمسؤولية الخلقية للفرد. بذلك أخذ زكي نجيب محمود يقارن التقاليد في الحياة الإجتماعية بين الغرب الذي يقدّس حريته ويجلّها وبين الشرق الذي يقسّم الناس حسب النظم الإخلاقية إلى سادة وعبيد. وهذا ما يدلّ على نواقص في بنائنا الإجتماعي. "... أما أن ننتقل من دنيا الكلام إلى التنفيذ فذلك من أصعب الصعاب على من لم يتشرب روح الحضارة التي تعلّي من قيمة الإنسان فلما رأيت القيمة مجسدة (في انكلترا) في كل موقف بشري مما صادفته في تعامل الناس بعضهم من بعض، تنبهت بقوة إلى ركن ناقص في بنائنا الإجتماعي في مصر..." وهكذا قام مفكرنا بتشريح الحياة الإجتماعية تشريحاً عقلياً مما تحمله من "قيم" فاسدة وأوضاع "لا معقولة". في المرحلة الثانية كان الإيمان بالعقل هو السبيل للتقدم وكما شاهدنا في القيم الإجتماعية كان القياس للقيم الإجتماعية مبني على العقل، وكان هذا الجانب هو الغائب في ثقافتنا. من هنا كانت بشائر الوضعية المنطقية. فالوضعية المنطقية لم تكن مذهباً كما فهمه البعض بقدر ما كان منهجاً لضالح الفكر التنويري، أي اصلاح التسيب والإعوجاج. ذلك لأن الوضعية المنطقية إذا كانت قد صبت كل اهتمامها في مجال التفكير العلمي، فقد اعترفت في الوقت نفسه إن هذا التفكير ليس هو كل النشاط الذهني، فهناك أيضاً ضروب الوجدان بشتى صنوفها ومنها الديني، والفن، والشعر، ومنها الحياة الإجتماعية والإنفعالية التي يحياها الإنسان كل يوم، ويعبّر عنها قولاً وسلوكاً. ومن هنا جاءت أهمية فصل الوضعية المنطقية بين هذين المجالين والتميز بين العبارات اللغوية التي تعبّر عن "تفكير علمي" من ناحية، والعبارات التي تعبّر عن الوجدان والمشاعر من ناحية أخرى. الشرق الفنان لم يكن "الشرق الفنان" الذي صدر عام 1960، بحثاً علمياً بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، وإنما هو رسالة صغيرة أراد بها صاحبها أن يسمر مع القارئ. غير أن هذه الرسالة الصغيرة تتضمن الأرهاصات الأولى لمشروعه الفكري القادم. ففيها يطرح فكرة مفادها أن في العالم نظرتين إلى الوجود:نظرة الشرق الأقصى: الهند، والصين، واليابان.. الخ. التي تنظر إلى الوجود الخارجي ببصيرة تنفذ إلى الجوهر الباطن، وهذه نظرة الفنان الخالص، بالمعنى الواسع لكلمة "فن" بحيث تشمل المتصوف والمتدين- وهي نظرة يدرك بها صاحبها الوجود الكوني برةحه لا بعقله. ثم هناك، من ناحية أخرى، نظرة الغرب التي تنظر إلى العالم الخارجي بعقل المنطقي التحليلي الذي يقارن ويستدل، وهذه نظرة العالم الخالص. وبين الطرفين وسط يجمع بين الطابعين – ويتمثل في ثقافة الشرق الأوسط التي تجمع بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر، بين خفقة القلب وتحليل العقل، بين الدين والعلم، بين الفن والعمل. لا بد لنا أن نلفت النظر إلى التحول الذي أصاب زكي نجيب محمود في أوائل السبعينات. فالدكتور فؤاد وكريا يردّ هذا التحول إلى الأومة التي أصابت العقل العربي بعد هزيمة 1967 كما حصل للكثير من المفكرين. حيث اهتم زكي نجيب محمود بالفكر الغربي ظناً أنه لا فكر سواه إلى أن عمل في جامعة الكويت التي بحث فيها عن "تجديد الفكر العربي". أما الدكتور حسن حنفي يتبنى أن هناك ثلاث لفتراضات لهذا التحول: الأول: الإنتقال من جامعة القاهرة إلى جامعة الكويت عام 1968 حيث رأى في مكتبتها التراث مما أعاده إلى الأصالة. الثاني: كما أشرنا إلى هزيمة يوينيو 1967. الثالث: هو أن زكي نجيب محمود بعد أن تشبّع بالفكر الغربي عامة والفكر العلمي خاصة، شعر وكأنه معلق في الهواء. معزول عن الثقافة الشعبية والتراث الوطني وخاصة وأنه لم يكن مطّلعا عليه. في حين أن الدكتور إمام عبد الفتاح إمام لا يرى أن هناك أي تحول. ويستند بذلك إلى العامل التاريخي، بدليل أن "الشرق الفنان" قد نشر عام 1960 أي قبل سبع سنوات من النكسة وليس كل من زار جامعة الكويت أصبح لديه فكر زكي نجيب محمود. وأخيراً، القول أنه تشبع بالفكر الغربي فهو الغاء لفكرة التدين الخالص حيث أنه من المؤكد كان على معرفة واسعة بالتراث العربي والغربي معاً. . ويقول عن نفسه: "تستطيع أن تقول أنني كنت إلى ذلك الحين (أواخر الستينيات) قد خزّنت لنفسي أكداساً من حقائق عن الثقافة العربية أبان تلك القرون الحمسة التي أردت دراستها. لكن تلك الحقائق كانت عندي بغير "تاريخ" يربطها في سيرة متصلة المراحل لتصبح "حياة" لها دوافعها وأهدافها، فاستبدت بي الرغبة في أن انصرف بمعظم جهدي – بضع سنوات – نحو الدراسة المنشودة.." وهكذا في الكويت قدم زكي نجيب محمود الكثير من المحاضرات والبرامج الإذاعية والمهم في تلك المرحلة أنه قدم الكثير من النقد لتخلف المجتمع العربي وربما غال في قساوته لهذا النقد. وقدم زكي نجيب محمود أحد انتقاداته يهمنا أن نلفت النظر اليها. نحن متخلفون ويكفيك أن تنبش أي ظاهر في أي قطاع من قطاعات الحياة عندنا لترى ما وراءه من تخلف. خذ مثلاً الجامعات العربية من أولها إلى آخرها تجد أنه لا شيء ينقصها من الظاهر: فهناك الطلاب، وقاعات الدرس، ومكتباً وأساتذة... هناك ما تريد العين أن تراه، ومع ذلك انظر إلى الطالب بعد تخريجه، وقبل تخريجه، تجده يختلف عن الطالب في أوروبا وأميريكا، لأن المادة العلمية عندنا "تحفظ" فقط، حتى ولو كانت من الفيزياء أو الكيمياء.. ألخ فأنا أكسو الظاهر بلغو كيميائي، وأظن أنني أصبحت من الكيميائيين، على حين أنني من الداخل لا استطيع أن أحرك ساكناً بكل الكيمياء التي أعرفها. وعندما يجد الجد نستحضر الخبراء من الخارج لوضع المشروعات الكبرى، أو للتخطيط العلمي وما إلى ذلك. ومعنى ذلك أنني تعلمت في الظاهر ولم أتعلم في الباطن. ومنها أيضاً أن لكل عصر مشكلاته، وهنا أشار زكي نجيب محمود إلى مشكلة خلق القرآن، حيث نجد أنها نشأت لظروف سياسية واجتماعية لا علاقة لنا بها ومنها مشكلات اقتصادية واجتماعية وفي ميدان العلم الطبيعي وغير الطبيعي. نرى في هذه المرحلة تلك المواضيع التي لها من الأهمية في التصويب عليها لاحقاً: الحرية والحرية السياسية - مشكلة المرأة. المبحث الثاني: مشاكلنا لعلّ مشكلة التوفيق بين "العقل والوجدان" بين "العلم والدين" كان الهاجس لدى زكي نجيب محمود، وربما هذه الإشكالية تنبع من شخصيته حيث كان يحمل الفن والشعر في قلبه والتحليل العلمي في عقله. من هنا عمد زكي نجيب محمود إلى تطهير الأرض لأته يستحيل النهوض دون التحرر من القيود وهي "أغلال" تمنعنا من التقدم وجعل عقولنا نشطة. وتقوم على ثلاث مشكلات. أولها: احتكار الحاكم لحرية الرأي، ويسميها مفكرنا أنها "أس البلاء". وهو اجتماع السيف والسلطة والتسلط بالرأي، وربما تاريخنا العربي مليء بهذا المثال من: الحلاج المتصوف، أحمد بن حنبل، وابن المقفع وغيرهم. ثانيها: سلطان الماضي على الحاضر، إن أوهام الماضي تسيطر على الحاضر وهو ما شبّهه فرانسيس بيكون بــ "أوهام المسرح" وما لها من تأثير على الحاضر وعلى الأحياء. وهكذا تكون الأفكار الماضية عائق أما التقدم والتطور، وما قيل سابقاً هو صحيح ومعضوم عن الخطأ. فينتقد زكي نجيب محمود "ولم يكن على المفكر، عندئذٍ، إلّا أن ينكب على تلك الصحف انكباباً حتى يحللها لفظاً لفظاً.." "ولقد عنى القوم- وما نزال في أثرهم نعنى، بعمليتي التلقن والتلقين، لأنها هي عندنا سلفاً وخلفاً على حد سواء، التعلم والتعليم.." وهذا ما نشهده في عصرنا في التعليم والجامعات حيث لا يزال الحفظ والتلقين يسيطر على مناهج التعليم. ثالثها: تعطيل القوانين الطبيعية بالكرامات، إن الخطير في هذا الشق إيمان البعض بإمكانية أصحاب الكرامات بالتحكم بالطبيعة. ويكمن الخطر في المتديين من العلماء أنفسهم. ولقد اعترض الدكتور حسن حنفي: :أن تعطيل القوانين عن طريق الكرامات صحيح عند فريق خاصة الأشاعرة، لكنه غير صحيح عند فريق آخر وهم المعتزلة، فلماذا الإنتقاء حتى نبدو غير علميين لصالح التراث الغربي العلمي الذي يربط بين الأسباب والمسببات..؟ مشكلة الحرية والحرية السياسية يتساءل زكي نجيب محمود "ما المقصوط بالحرية؟" كانت الحرية بالبداية تعني المساواة بين المواطنين "بحيث يكون للمواطنين حق الشورى في أمور بلادهم، ثم إذا جاء المستعمر البريطاني تحول معنى "الحرية السياسية" ليصبح تحرراً من المستعمر، وظلت هذه القضية هي الشغل الشاغل إلى أن عبت بها النفوس فتفجرت ثورة 1919، فأخذ معنى الحرية يتعمق.. وأصبحنا نتحدث عم "حرية الاقتصاد الوطني"، "وحرية المرأة" .. غلى أن جاءت ثورة 1952، ففتحت أبواباً واسعة لحريات اجتماعية: تحرر الفلاح من تسلط صاحب الأرض، وتحرر العامل من تحكم صاحب العمل.. الخ" وهكذا يقسّم زكي نجيب محمود الحرية إلى حرية سلبية وحرية ايجابية. الحرية السلبية تعني التحرر من القيود والأغلال – كما أشرنا اليها. ولكن بعد أن تتم عملية التحرر تبدأ الحرية بالمعنى الإيجابي، وهي ربط الحرية بالقدرة على أداء عمل معين ومعرفة كيفية عمله وهكذا تكون الحرية مرتبطة بالمعرفة. وطالما أن الحرية قد ارتبطت بالمعرفة فقد ارتبطت بعمل العقل، فما هو العقل؟ مهما اختلفت تعريفات العقل، فمما لا شك فيه "أن العقل اسم يطلق على فعل من نمط ذي خصائص يمكن تحديدها وتمييزها، والفعل ضرب من النشاط يعالج به الإنسان الأشياء على وجه معين". وإذا كان العقل فعلاً فنستطيع تحديده: "العقل حركة انتقالية تبدأ سيراً من شواهد وبيانات ومقدمات، وينتهي عند نتيجة تتولد مما بدأ منه. فليس عقلاً ذلك الذي يدرك ما يدركه بلمحة مباشرة أو بلمعة (كما يقولون) لأن أمثال هذه الإدراكات المباشرة لها أسماء أخرى، وطبائع أخرى. أما العقل فادراكه غير مباشر لأنه قدرة استدلالية، ومعنى ذلك أنه يتضمن قيام طرفين: طرف نبدأ منه، وآخر هو النتيجة التي تنتهي اليها..". وإن كانت البدء في اللغة تعني أن نبدأ من نقطة معينة سواء كانت أخلاقية أو دينية فمنبعها القلب والإيمان فهذا دور "علوم الدين" لا الدين نفسه. يقصد زكي نجيب محمود بالحرية السياسية التي لم يكن هذا المصطلح متداول لدى أسلافنا، فالحرية كانت تعني أن الفرد حراً في الحقوق والواجبات، في المقابل الرقيق التي كانت تمنع هذا الحق. في حين أن الحرية السياسية في عصرنا تعني الحرية في اختيار الحكومة عبر انتخاب المواطنين. أيضاً نرى نقداً لدى الدكتور حسن حنفي: "معنى الحرية موجود في التوحيد.. في شعار "لا اله" ثم تأكيد شمولية القيم في فعل الإيجاب "إلّا الله". وهو موجود أيضاً في العدل". ويرد الدكتور إمام عبد الفتاح إمام فيراه قد خرج عن الموضوع، فهو يستخرج فكرة الحرية من مفهومي "التنوير والعدل" بمعنى أنه يقوم بتحليل الألفاظ وهي لا علاقة لها بالحرية السياسية. ولا يزال مفكرنا على حق في قوله: "أنه يندر- ان لم يكن يستحيل – أن تجد طوال التاريخ العربي – أن حكومة زالت لأن الشعب المحكوم لها لم يعد يريدها. فهناك فوق أريكة الحكم خليفة أو أمير: أخذ الحكم وراثة أو أخذه عنوة، وفي كلتا الحالتين لا يزحزحه عن أريكته إلّا غدر أو قتل أو سجن: فلا الشعب اختار، ولا الشعب يملك حق العزل". ولا بدّ الإشارة لأهمية كتاب "ثقافتنا في مواجهة العصر"، فيقول مفكرنا: "إن جميع الحضارات التي سلفت وزالت، إنما تحطمت على إحدى الصخرتين، أو على الصخرتين معا، وهما: الروح العسكرية التي تميل بأصحابها إلى شن حروب لا تنقطع حتى ينهد كيانهم من الداخل، ثم الروح العنصرية التي قد يشتط بها أصحابها إلى إيجاد ضروب من التفرقة بينهم وبين سواهم من البشر، بحيث يجعلون لأنفسهم المكانة العليا في تلك التفرقات، ولغيرهم المكانة الدنيا؛ فإذا ما طبقنا هذه القاعدة الحضارية على الوجود الإسرائيلي، أيقنا بمصيرها المحتوم، لأنها جمعت بين القبيحين اللذين يعملان على هدم الحضارات ومحوها، إذ جمعت في كيانها: العسكرية والعنصرية معا". وهنا عند إعادت نشر هذا الكتاب عبر مشروع "القراءة للجميع" كان مبتوراً إذ حذف منه ما ختمه مفكرنا: "إن الجوهر الأساسي في موقف الأمة العربية هو قوة الشعب وقوة الفكر عند هذا الشعب، وهو جوهر يتجانس مع الموقف التقدمي في أهم دعائمه، أي أن يكون الاعتماد الأساسي على الشعب وفكرته؛ وكذلك من الناحية الأخرى يتجانس الجوهر الأساسي في موقف إسرائيل ومثيله في موقف أميركا، فكلاهما يرتكز أساسا على إهمال الشعب وفكرته، مكتفيا بالسلاح وسطوته والمال وغوايته". مشكلة حرية المرأة والدخول في عصر العلم عند تناول زكي نجيب محمود موضوع المرأة وجد أن المرأة العربية الجديدة هي إنسانة أخرى أي أنها لم تعد كالماضي من سلفاتها كبنات الحريم والجواري والغانيات، بل المرأة اليوم أصبحت طبيبة ومحامية وعالمة نفس وما إلى هناك من وظائف تدل على مدى تحمل مسؤولية المرأة لوظائفها، كما أصبحت ممثلة للشعب ووزيرة. فهل يجوز أن يعاملها الرجل كما كان يعامل سالفاتها بالأمس؟ ومن هنا تجد المرأة العربية نفسها في أزمة حادة. أيضاً من المشكلات الدخول في عصر العلم، حيث أصبحت المعرفة قابلة للقياس وهكذا انتقل الإنسان من معرفة "اللفظ" إلى معرفة "الإداء". قيام البناء العربي ولمحة في الثنائية وهكذا بعد أن تم تطهير الأرض لا بدّ أن تقوم المجتمعات العربية، فمت هو الجانب الإيجابي لمشروع زكي نجيب محمود؟ تتمثل فلسفة زكي نجيب محمود في الجمع والتوفيق بين "الأصالة والمعاصرة"، بين "العقل والوجدان" وهي عبارة عن اظهار مكنونات الثقافة العربية من أفكار ومعتقدات وسلوك، وذلك من حالة الجمود إلى حالة العلن والإيضاح السهل. هذا ما حاول الكثير من المفكرين قبله أن يفعلوا، أمثال محمد عبده، طه حسين، العقاد والحكيم وغيرهم... تقوم هذه الفلسفة على الثنائية أي لو طرحنا الثنائية بلغة سهلة وواضحة لأتفق عليها الجميع: الخالق والمخلوق، الروح والمادة، العقل والجسم، المطلق والمتغير، الأزلي والحادث بمعنى آخر الأرض والسماء.. وهي ثنائية تختلف عن ثنائية افلاطون حيث أن ثنائية افلاطون ألغت الفرد الجزئي، وهذا ما يختلف مع العقيدة الاسلامية حيث أنها تحمل الفرد مسؤولية خلقية على حد تعبير زكي نجيب محمود. ويستند في ذلك إلى الكثير من الآيات القرآنية. هذه الثنائية التي تختص بالفبسفة العربية تتميز بربط القديم والحديث. فقد تميزت رؤية الإنسان العربي القديم بنظرته العقلية للفعل ومعالجة قضاياه، فإن كلن لا بدّ لنا التقدم وجب علينا أن نحافظ ونسير في هذه الرؤية. وعندما تم السؤال عن كيفية التوفيق بين صفة الشعر الغالبة والنظرة العقلية، أجاب مفكرنا: "ليس بين الأمرين تناقض يحول دون أن يجتمعا معاً، فكم وقع لنا في خبرتنا الشخصية المحدودة من أمثلة لرجال جمعوا بين العقل العلمي، إذا ما كان المجال مجال عقل وعلم، ووجدان الأديب كلما استثارت وجدانهم أحداث الحياة! وإذا صدق هذا على أفراد من الناس، فماذا تكون الأمم إلّا مجموعات من أفراد؟ وهو أصدق في الأمة العربية منه في أي أمة أخرى مما نعرف.." الأصالة والمعاصرة هكذا نجد إذاً أن المشكلة الأساسية للنهضة تكمن في الجمع بين الأصالة الثقافية والمعاصرة كونها "أم المشكلات" على حد تعبير زكي نجيب محمود. "فإذا كبن مةضع الإشكال عند أسلافنا هو طريقة اللقاء بين أحكام الشريعة ومنطق العقل، فقد أصبح موضع الإشكال عندنا اليوم هو طريقة اللقاء بين العلم والإنسان" . ويكمن الحل في الصيغة التي تجمع "العقل والوجدان" بحيث إن ادراك الظواهر الطبيعية والإجتماعية من اختصاص العقل التي تستلزم التفسير العلمي، أما مجال الوجدان فهو يختص بالفن والشعور ويتميز كونه "ذاتي" خاص بالإرادة الفردية. إن معالجة القضايا العامة يجب أن تحال إلى العقل وأدواته وما هو خاص فهو مركون للفرد. وإذا سألنا أنفسنا لماذا التأخير في النهضة، كان الجواب: نقص في تربية العقل واسراف في اشعال الوجدان. ومن ثم اصبحنا عقلانيين في الظاهر لا في المضمون والنتائج. يتبين أن المشكلة الحقيقية ليست بمفهومي "العقل والوجدان" بل بتبيان مجاليهما. فالعقل ليس عدو للوجدان والمشاعر وليس نقيضاً له ومشكلتنا في الخلط بين المجالين أو عدم وعينا بحدودهما الدقيقة. والخلاصة أنه ليس من المحتم أن يكون إما الحياة كلها للعلم ومنهجه الإستقرائي وأما الحياة كلها للإنضواء تحت مبادئ مقبولة سلفاً – فليس من المستحيا ـن نحيا في ساحة من قسمين لكل منهما المنهج الذي يلائمه: فقسم للعلوم وما يتفرع عنها من صناعات، ويكون له منهجه القائم على تقصي الوقائع قبل صياغة القوانين، وقسم آخر لحياة الوجدان والقيم الخلقية والجمالية وفيها يكون السير مهتدياً بمبادئ مسبقه. الخاتمة: لا بدّ من الإشارة أن في التقييم التاريخي كان زكي نجيب محمود السباق في طرحه لهذه الثنائية، حيث كان يريد إقامة أساس توفيقي بين "الإيمان والعقل" بين "العمل والفكر" بين الإرادة البشرية والإرادة الإلهية"، فتكون فلسفة لا تتجاهل العصر ولا تكون مبتورة عن الماضي. على أن تكون "الأصالة والمعاصرة" أو "العقل والوجدان" هي الحل لمشكلاتنا. إن فلسفة زكي نجيب محمود فيها نسق لأفكار تناولت الحرية والعدالة والمساواة والتقدم والتراث والمعاصرة والعلم والدين والوجدان والعقل.. إننا نجد أن للتغيير عاملان أساسيان: موضوعي وذاتي. فبالشكل الموضوعي، إننا في خضم مرحلة النهضة والتغيير وأن لكل خطوة في المرحلة الراهنة لها تأثيرها على كيفية رسم شكل المستقبل، ولكن على المستوى الذاتي، فإننا بشكل أو بآخر بحاجة لفهم الآخر وتقبل مفهوم الإختلاف، هذا بالإضافة إلى وضع نظم عقلية قادرة على حل مشكلاتنا على الصعيد الفردي والإجتماعي. ونستطيع أن ننهي كما بدأنا، إذا توجب على الثورات أن تكون فكرية لا عسكرية، فكيف يتم ذلك؟ كيف للأفكار أن تمارس في ظل هيمنة فكرية أخرى؟ وأيدولوجيات امبريالية بالتزامن مع وضع اقتصادي متأزم؟ وهل المجتمع على استعداد لمثل هذه التغيرات؟ المراجع: - محمود، زكي نجيب، "تجديد الفكر العربي"، دار الشروق، بيروت، 1971. - محمود، زكي نجيب "قصة عقل" دار الشروق 1993. - محمود، زكي نجيب "قيم من التراث" مكتبة الأسرة 1993. - مجلة "الشرق الأوسط" العدد 10782 يونيو 2008. - إمام عبد الفتاح إمام ترجمة "رحلة في فكر زكي نجيب محمود" المشروع القومي للترجمة العدد 261.
#جوزف_أيوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدخل إلى الأناركية
-
مقتطفات من بيان المجتمع الصناعي ومستقبله: ثيودور كازنسكي
-
الأناركية والسينديكالية: أريكو مالاتيستا
-
ما هي السلطة؟ ميخائيل باكونين
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|